Site icon Orthodox Online Network

صلاة التوبة – تأمّل في المزمور الخمسين

هل تستطيع الحكمة أن تختار المواقف الصحيحة للحياة دائماً؟ نعم ولكن في الأحرار! كم من الناس امتلكوا الحكمة، فسليمان “الحكيم” ذاته وأبوه داوود الملك والمرنّم امتلكا من الحكمة الكثير، لكنّهما أخطأا. مهما كان الإنسان حكيماً إذا سقط تحت عبوديّة الأهواء عفواً أم عمداً عن معرفة أو عن غير معرفة يَصِرْ عبداً لها ويسقط من مرتبة السيّد إلى مصافّ العبيد ومن علوّ الحكماء إلى بقعة الجهلاء.

“الجهل” هو السبب الأوّل لارتكاب الخطيئة لأنّه عندما نجهل سبب سعادتنا ننقل مركز غبطتنا من الله إلى الشهوات. وهذا هو عدم الحكمة بعينه. لكن الحكمة غالباً ما تستيقظ. ولا يترك اللهُ عبيدَه الذين أحبوه، مهما ابتعدوا عنه “بجهل” أن تقودهم الأهواء والميول، وإنّما “يشاء عودة الخاطئ فيحيا”.

هذا ما يحصل مع كلّ إنسان وهذا ما حصل مع النبيّ داوود، ذاك الرجل الهائم بمحبّة الله، فقد تملَّكتْه الشهوة يوماً، من مشهد مفاجئ، فعطّلت فيه حكمتَه. وانقلب الملك الحكيم المحبّ لله إلى عبد خاضع “لشهوته” ونسي، بسكرى هواه، ناموس الربّ الذي كان لذّته وبه كان يلهج ليل نهار.

When passion takes possession of a man's heart, it blinds his insight and drives him to fulfill his desire without any restraint from conscience, law, or brotherly love. Thus lust also caused David to fall into the sin of murder. While this heart was chaste in love for God, it turned into a pasture for desires when it did not control its external senses and was not vigilant in its path once. Passion, in David's heart, obliterated every sense of justice and compassion and covered up everything that happened. The just king forgot his crime and his action.

إلى أن أرسل الله نبيَّه “ناثان”، الذي طرح على الملك في “مثلٍ” قصة ظلمٍ؛ (كانت قصَّتَه عينها). فحكم داوود فيها بغضب إلهيّ وعدل، وللوقت قال له ناثان النبيّ: أنت هو الظالم أيّها الملك.

Then anger awakened David's sleeping wisdom and stripped him of the control of passion and blindness. The Prophet rose up like a wounded man and hastened to please God, and his words were among the strongest words of repentance known to humanity.

إنّ “المزمور الخمسين” هو “صلاة التوبة”. كلّ الصلوات تحمل في طيّاتها “توبة”، لكن بعض الصلوات وخاصّة بعض المزامير تسمّى “مزامير التوبة”، لما تتحلّى به من عبارات حارّة وتنهّدات عميقة. صلاة النوم الكبرى، مثلها الصغرى تقريباً، تحتوي على أجمل هذه المزامير، أمّا المزمور الخمسون فهو قمّة هذه المزامير. لهذا ندرك سبب استخدامه المتواتر في الكنيسة بشكل مميّز عن سائر المزامير الأخرى. فبه تبدأ صلاةُ منصف الليل ويُعاد في السحر أيضاً وفي صلوات الساعات نكرّره، أضفْ إلى ذلك صلاة النوم، وهذا يوميّاً. ولعلّه المزمور الأوّل الذي يحفظه أغلب المؤمنين غيباً ويردّدونه.

Pausing and meditating on this wonderful psalm is essential for the prayer to pass from the lips to the mind and then to the heart. When we pray, we must first open our lips, set aside time and, if possible, find a place for it. Then we are required to understand with our mind what we read and what we say, to pray with our mind, to be present in prayer, and then the prayer must descend to the heart and nourish it.

(Title) In the end, a psalm of David, when Nathan the prophet entered upon him, after he had entered upon Bathsheba, the wife of Uri.

يبدأ هذا العنوان بكلمة في “النهاية” أي يتكلّم عن الأخرويّات. فالمزمور ينتهي بتلك الدعوة أو النبوءة: “ولِتُبْنَ أسوار أورشليم”، فداوود النبيّ رغم خطيئته، كما سنرى في مجرى المزمور، لم يخسر روح الله كليّاً وبقيتْ لديه موهبة النبوءة. لهذا يقول في المزمور “وروحُك القدوس لا تنزعْه منّي”.

والآية (2) توجز تاريخ قصّة داوود مع خطيئته. الواضح أنّ داوود لم يتبْ بالبداية، بعد خطيئته على الفور، ولكن “بعدما” أي بعد زمن وفترة فاصلة. دخل عليه النبيّ ناثان، بل أرسله له اللهُ إليه بوقَ توبة، ليعود هذا القلبُ إلى يقظته وإلى هواه الحقيقيّ الصحيح، ليعود قلب داوود إلى محبّة الله وعشق إرادته فقط.

يقول فمّ الذهب، إنّ هذا المزمور “مفيد للخاطئ فعلاً، الذي أهمل خطيئته زمناً طويلاً ونام عليها”، فهذه كانت حالة داوود. إن هذا المزمور قادر، عندما نعرف جيّداً قصّته، أن يوقظ كلّ نائم أو مستسلم لخطايا قديمة أيضاً. التوبة لا تعرف حواجز زمنيّة. يكفي استيقاظ الضمير وأن نتطهَّر، ونُدخِل السلامَ الحقيقيّ إلى قلوبنا، وأن نتصالح مع الله. كما أنّ هذا المزمور مفيد أيضاً للمبتدئين في الإيمان، فهو “يعلّمهم ألاّ يسهوا وأن يتيقّظوا، وألاّ يتكاسلوا”، فهو يفيد الخاطئ لكي لا ييأس، والبارّ لكي يتيقظ دوماً ويسهر على خلاصه.

(1) Have mercy on me, O God, according to your great mercy; according to the multitude of your compassions blot out my transgressions.

This is true prayer, it is a moment of humility before God and a request for His mercy, it is the true feeling that I am a sinner, it is self-knowledge and the acknowledgment of weaknesses. But the beautiful thing here in David’s prayer is that he beseeches God to have great mercy on him, not according to the fervor of his request, for his prayer appears to him cold and undeserved in his eyes, but he beseeches Him by the abundance of His mercy. I have sinned as a human being, so have mercy on me as God. This is how the blessed Augustine explains: He who truly feels that his sin is great asks for great mercy. That is why he who sins unintentionally feels in some way that he is asking for, for example, a small mercy from God. But he who feels that his sin is his crime and his responsibility before God asks for great mercy, in other words: he asks fervently.

وهنا على غير عادته، ينادي داوود الله قائلاً “يا الله”؛ وهو الذي اعتاد دائماً أن يقول “يا الله إلهي”، وأن يكلّم اللهَ كأب وربّ شخصيّ. هنا يبدو أنّ ليس لداوود جرأة تنظر إلى السماء وتسمّي الربّ إلهها، رغم إيمانه ويقينه بذلك، لكن الخطيئة سرقت منه “دالّة” مناداة الله مضافاً إليه ياء المتكلّم. مَن اعتاد أن يقول “يا الله إلهي إليك أبكّر”، و”هم سقطوا أمّا نحن فباسم الربّ إلهنا نهضنا”، كانت له الدّالة والآن ها قد فقدها.

It is usual in the poems of the Psalms, when the heart of the psalmist feels that the words do not express, to expand in the explanation. Therefore, in the verse, the second half explains the first in two ways: either by elaboration, that is, it continues the same meaning with other images and parallel words that explain the first half; or it explains it in reverse, that is, it rejects the opposite of the first half.

هنا في الآية (3) يسهب الشطر الثاني بشرح الأوّل، فيقول ارحمْني كعظيم رحمتك، ثمّ وكمثل رأفاتك امحُ مآثمي. وهذا ما يتبعه غالباً في هذا المزمور، فهناك يستحلف الله بعظيم رحمته وهنا ب “كثرة الرأفات”، هناك يطلب رحمته وهنا يطلب الغفران. أمّا في المزمور مثلاً ال 39، نراه يميل إلى الشرح بشكل معاكس. فيقول مثلاً: “بشّرتُ ببرّك في الجماعة العظيمة”، “هوذا شفتيَّ لم أغلقْهما”، “لم أكتمْ عدلك في وسط قلبي…”. فمعنى الشطر اللاحق يوضح السابق ولكنّه يستخدم المعنى المعاكس.

هنا إذن يطلب المرنّمُ رحمةَ الله كعظيم رحمته، ثمّ يسهب ويتابع: وكمثل رأفاتك امحُ مآثمي. “فالله رحوم ورأوف وطويل الأناة، ليس إلى الدهر يسخط ولا إلى الأبد يحقد”. تسمح رأفةُ الله لداوود بالتغنّي أكثر برحمته، فكما أنّ الله عظيم الرحمة هو كثير الرأفات.

هنا يستخدم داوود كلمة مآثمي. كلمات مثل: خطيئة وإثم وذنب، يتبدّل استخدامُها بالكتاب بشكل عفويّ. بشكل عامّ خطيئة هي كلّ خطأ،كان بمعرفة أو غير معرفة، طوعاً أو كرهاً. أمّا مسؤوليّة خطيئة عن أخرى فتختلف. فالإثم فهو ما يتمّ من الخطايا بمعرفة. الإثم هو التعدّي، أي أن يكسر الإنسان الوصايا التي يعرفها. وداوود هنا أَثِمَ مرّتَين إلى الله وناموسه؛ وهو يعترف هنا بإثمه وليس فقط يشكو خطأه، إنّه يقرّ بكامل ذنبه ومسؤوليّته “ولا يتعلّل بعلل الخطايا”.

(2) Wash me thoroughly from my iniquity, and cleanse me from my sin.

لا أطلب أن تمحو فقط مآثمي من سفر حكمك الأخير والرهيب، لستُ أرجو صفحاً عن ذنب اقترفته فقط، وإنّما أطلب أن تخلِّصني من خطيئتي التي كرهتها، امحُها ليس من سجلاّتك لكن من قلبي، انزعْها ليس من حسابك لكن من حياتي. لهذا يشرح النبيّ ذلك بصورة أوضح ويقول: “ومن خطيئتي طهِّرْني”، طهِّرْني من قروحي التي تؤلمني. هذه هي التوبة، كما يقول القدّيس اسحق السريانيّ، هي أن نكره خطيئتنا. جاء المسيح لينزع الشرَّ من جذوره، وليس ليمحو مجرّد سهوات. لنتطهَّر لأنّ أنقياء القلوب فقط سوف يعاينون الله. وكلمة “طهِّرْني” أقوى من “اغسلْني”. أي اغسلْني حتّى أطهُر. لا تُبْقِ فيَّ ولا أثر لحبّ خطاياي.

(3) For I know my transgression, and my sin is ever before me.

كان داوود ملكاً، ورغم كثرة المشاغل ورفعة المجد وزهوة المركز وعنفوان السلطة، فإنّ كلّ ذلك لم يجعلْه يسهو وينسى خطيئته. “إنّي عارف بإثمي”، أَيوجد اعتراف أعظم من هذا؟

ولستُ فقط أقرّ وأعترف بأني أثمتُ فعلاً، بل إنّني أتذكّر خطيئتي على الدوام، ليل نهار أتذكّر جسامة خطيئتي. هذه هي “التوبة الدائمة”. إنّ المسيحيّ ينسى أتعابه من أجل المسيح ويتذكّر خطاياه. عندما يقول بولس: “أنسى ما خلفي وأمتدّ إلى ما هو أمامي”(13)، لم يقصد أنّه ينسى خطاياه، وبالأخصّ اضطهاده السابق للمسيحيّين، وإنّما أنّه ينسى أتعابه فهو بقي دائماً يسمّي ذاته “سقطاً” وآخِرَ الرسل وليس أهلاً ليُدعى رسولاً “لأنّي اضطهدتُ كنيسة المسيح”(14)، هذه كلُّها يتذكّرها دائماً، وهي أمامه في كلّ حين، لكنّه ينسى “ميتاته”: أنّه جُلد من اليهود خمس مرّات، أنّه ضُرب بالعصي، أنّه رُجم وانكسرت به السفينة ثلاث مرّات. ينسى اتعاب أسفاره والأخطار التي أحدقت به واللصوص، ينسى التعب والكدّ والأسهار والجوع والعطش والأصوام والبرد والعري وعدا ذلك أيضاً تعب الاهتمام بالكنائس واحتراقه عندما كان يسقط البعض أو يضعف آخرون، ينسى ما مضى، ولو أنّه بات – كما يقول لأهل فيلبّي- يشتهي أن ينتقل إلى المسيح(15)And he stretches forward as if he had not yet grown tired for Christ. In this letter to the Philippians, the Apostle Paul begins by reminding his loved ones of his chains and the envy of others who have added to his straits the tightness of his bonds.(16)But he rejoices in the Lord and in the labors that were done for him. These labors are his joy and his treasure. He forgets what is beyond that and extends forward.(17)، لأنّه “يسعى” ولن توقفه قيود ولا عذابات. “كونوا متمثّلين بي” يتابع بولس الرسول(18).

هذا ما يعلّمه القدّيس سلوان الآثوسيّ: “اجعلْ ذهنَك في الجحيم ولا تيأس”. خطيئتي أمامي في كلّ حين ولكن لا أيأس وإنّما أُسرِع في السعي. تذكُّر الخطايا لا يعني استسلاماً لها أو يأساً بسببها، ولكن يقظةً دائمة وتواضعاً أمام الله مستمرّاً. وهذا هو معيار التوبة الدائمة ومقياسها. إنّ الله على لسان نبيِّه أشعياء يوضح لنا أن الاعتراف بالخطيئة هو سبب غفرانها “أنا الماحي ذنوبك… وخطاياك لا أذكرها، ذكِّرْني (بخطاياك) فتتحاكم. حدّثْ أنتَ لكي أبرّرَك أنا”(19).

(4) Against you, you only, have I sinned and done what is evil in your sight.

Thus the prophet Nathan rebuked David: Why have you done evil in the eyes of the Lord and corrupted his words?(20)A person’s sin towards his neighbor is also towards God first and foremost. It is, above all, a transgression against the Lord’s commandment: Love your neighbor as yourself.

وحّد المسيحُ ذاته دائماً مع الفقراء والضعفاء: “ما فعلتموه بأحد هؤلاء الصغار فبي قد فعلتموه”. إنّ مَن يسيء إلى الابن بالفعل يخطئ إلى أبيه. لقد أخطأتُ بالفعل إلى الناس، يقول النبيّ داوود، إلى أوريّا وإلى امرأته، لكنّهم عبيدي! أمّا إليك فقد أخطأتُ قبل الجميع. الخطأ مع القريب هو تحدٍّ لك يا ربّ وتعدٍّ لوصيّتك وإساءة إليك قبل الجميع.

I hid evil from the eyes of men and committed sin in secret using various traps, but all of it was before Your eyes that watch everything and examine the reins and hearts. Before Your face I have sinned against You and I am not ashamed.

يسمّي داوود النبيّ شروره وخطاياه بالمفرد “شرّاً” وذلك لأنّ الخطيئة الأولى تجلب الثانية وهكذا. عندما يميل الإنسان إلى “الشرّ”، ويبدأ بتجاوز الوصايا الإلهيّة فإنّ الشرّ يلد مضاعفاته، يكفي فقط أن نترك له الزمن الكافي. كلّ ما هو مخالف للوصيّة الإلهيّة ولا يخدمها هو “شرّ”. ومَن تَعَدَّى إحدى الوصايا صار متعدّياً لها كلّها.

§ So that you may be truthful in your words and prevail in your trial.

تشرح هذه الكلماتِ كلماتُ المزمور (142): “لا تدخلْ في المحاكمة مع عبدك، فإنّه لن يتزكّى أمامك أيّ حيّ”. لقد غلب اللهُ داوودَ بالمحبّة. أقام اللهُ داوودَ ملكاً عندما كان الأخير راعياً، وأعطاه وعوداً لا يستحقّها إنسان، ومجّده بأمجاد لا يحلم بها آخر. أمّا أنا، يقول النبيّ داوود، فلقد أظهرتُ عدم عرفاني للجميل. أنتَ صدقتَ بوعودك، أمّا أنا فقابلتُك بما لا يليق، لذا سوف تتغلّب في محاكمتك. في المحاكمة سوف تتبرّر أنت وسوف أُدان أنا. وأيّة مداينة تكون مداينتي أنا المضبوط بالخطايا! عندما ستحاكمني سأكون مستحقّاً عدلك. فأنا علّةُ محاكمتي وسببُها، أمّا أنت فمبرَّر وعادل بكلّ ما تصنع بنا.

(5) Behold, I was conceived in iniquities, and in sins did my mother bear me.

هنا يغوص داوود النبيّ إلى أعماق ذاته ويرى مقدارَ عتمة الأهواء الداخليّة وصعوبة المحيط الخارجيّ. فبعد أن “يعترف” بخطيئته ينظر إلى ذاته المجبولة بالشهوات وإلى عالمه الممزوج بالشرور. يتكلّم عن هذه الحالة “اللاطبيعيّة” السائدة اليوم. الحياة الطبيعيّة للإنسان هي تلك التي كانت بالفردوس. والحياة اللاطبيعيّة أو ما دون الطبيعيّة هي التي نحياها على أرضنا، هذه تتّصف بالآلام والموت والتعب وغدا عالمُها ملآناً شروراً. هذه لم تكن من قبل لكنّها دخيلة على حياة البشر. إنّها حالة ما بعد الخطيئة، لا بل يمكن تسميتها حالة الخطيئة لأنّها جاءت من الخطيئة ونتجت عنها. حتّى الولادة بالمخاض والآلام، كما هي الآن هي من حالة الخطيئة. يولد الإنسان من مولده في “عالم الخطيئة”. “بالخطايا ولدتني أمّي”. هنا يتكلّم داوود عن حياته كلّها الميّالة إلى الخطيئة والمحاطة بعالم يجرّ إليها. فداوود لا يستغرب كثيراً أنّه سقط ويعترف بأنّه خاطئ في دنيا خاطئة!

هنا لا يقصد النبيّ أنّ الحبلَ والزواجَ هما إثم وخطيئة، فإنّ الزواج مبارك؛ لكن يتكلّم عن اختلاط العالم بعناصر ما بعد الخطيئة. وكما يقول فمّ الذهب: “إنّ ما نتعلّمه من هنا ليس أنّ الجسد هو سبب الخطيئة أو أنّ الطبيعة هي دافع حتميّ إليها (وإلاّ لكنّا لا نستحقّ عقوبات)، وإنّما أنّ طبيعتنا والمحيط قابلان وميّالان للخطيئة بعد السقوط، وذلك بسبب أهوائنا وفساد العالم، لكنّنا نغلبها بحكمتنا وبأتعابنا، عندما تتّحد الحكمة مع الجدّ والتعب”.

(6) Because you loved the truth, and you made clear to me the hidden and obscure things of your wisdom.

Here indeed appears the true repentance of David: I confess all this and my sin and I set it before me at all times, because you love the truth and before you there is no benefit in twisting or turning or denying, nor does false self-justification please you. I am a sinner and I have sinned. And when I come to reconcile with you I cannot also provoke you with deceit and justification. I have sinned, yes, so have mercy on me and I will tell the truth because you love so. Moreover, I also reproach and rebuke myself, because I did evil knowingly and not unwittingly. For you have already revealed to everyone and to me in particular the secrets and hidden aspects of your wisdom. I did not commit my sin in ignorance, as one who does not know the law, but deliberately and knowingly, for I know the principles of the law and even its secrets and mysteries, and despite all that I have sinned.

(7) You sprinkle me with hyssop, and I shall be clean; you wash me, and I shall be whiter than snow.

After all that confession of sin and witnessing the inner darkness, filth and ugliness resulting from the works of darkness, David looks with confidence and hope to the hands of the Lord, which will inevitably wash him of his sin.

“الزوفى” ترجمة لكلمة (υσσόπο) وهو نبات ذو قوّة تطهيريّة عاليّة ينظّف جدّاً. لذا يقول داوود، رغم كلّ ما وصلتُ إليه، لا بدّ أنّك سوف تطهّرني كما لو بالزوفى وسوف تعيدني أبيضَ كالثلج. كثيرٌ من الآباء مثل كيرلّلس الاسكندريّ وثيوذوريتوس وأثناسيوس الكبير، يرون بذلك نبوءة عن سرّ المعمودية المقدّس. والقدّيس إسيخيوس يراه رمزاً لعمل الروح القدس (الزوفى والتطهير).

(8) You make me hear joy and gladness, so that my weak bones rejoice.

You, O Lord, will forgive me, and I will be sure of that when, inevitably, You will pour into my soul instead of these tears joy and happiness. You will transform the sorrow poured into me into joy and gladness from You.

My sin has made me weary, and even my bones have become humble and humbled and are weary under the weight of my iniquity. Make me glad, restore joy not only to my afflicted soul but also to my aching bones, instill the joy of your forgiveness. And soothe the wounds of my soul with the ointment of your love and forgiveness, so that my flesh and bones may also rejoice. Of course, the transfer of psychological feelings to the body is a natural thing, because it indicates the depth of those feelings.

بعض الآباء يرون بهذه الكلمات نبوءة أيضاً عن المسيح. وكأنّ داوود يطلب من الله أن ينقذ الإنسان ليس فقط من الذنوب المقترفة بحقّ الناموس، وإنّما أن يشفي حتّى العظم واللحم، وهذا ما تمّ بجسد المسيح القائم كبداية لقيامتنا. وكأنّ “تجذل عظامي” هي نبوءة عن قيامة الجسد التي ستحصل لأوّل مرّة مع المسيح. من هؤلاء الآباء الذهبيّ الفمّ وكيرلّلس الاسكندريّ.

(9) Turn your face away from my sins, and blot out all my iniquities.

ها أنذا أجمع خطاياي وأعترف بها وأضعها أمامي، ولا يمكنها أن تخفى عن ناظرَيك، لكن أنت اصرفْ وجهك عنها. هذا ما يؤكّده المغبوط أغوسطين وما يقوله الذهبيّ الفمّ بالحرف: “اكتبْ وسجّلْ أنت خطاياك في كتاب الله، وهو سوف يمحوها. لأنّك إن لم تكتبْها أنت فلا يمحوها، وإنّما سيطلب المحاكمة عليها”. فالأحسن لنا أن نسجّلها نحن لتُمحى من فوق بدل أن نتناساها نحن وتسجَّل علينا إلى أن نواجهها أمام أعيننا في ذلك اليوم الرهيب (يوم الدينونة).

This is what burns David’s heart, that he has wronged the one he loves, God. He does not know how to please Him and humbly asks Him to reconcile with him, to turn a blind eye, to erase the sin, to increase His mercies and to wash him away. And each line adds another phrase. The meanings are too narrow to contain the feelings of contrition and bear the fervor of supplication for reconciliation.

(10) Create in me a clean heart, O God, and renew a steadfast spirit within me.

القلب، المقصود هنا ليس العضو الجسديّ بالطبع! سأل المسيحُ مرّة: “لماذا تفكّرون بهذا في قلوبكم؟”(21)، فالقلب هنا مركز الأفكار. مرّات يعني القلبُ: الإرادةَ، والقرارَ، والميلَ، والرغبة الذاتيّة، كما جاء على لسان أشعياء النبيّ: “هذا الشعب يكرمني بشفتَيه أمّا قلبه فبعيد عنّي”(22). مرّات أخرى يعني القلبُ: الرضى، والسرور، والقبول: “فوجد الله داوود بن يسّى رجلاً حسب قلبه الذي يصنع كلّ مشيئته”(23).

القلب هو مركز الكيان الإنسانيّ، الإرادة والرغبات، وهنا كلمة قلب يمكن تفسيرها ب”نفس”، أي طهِّرْ نفسي واجعلْها نقيّة. “اخلقْ” هنا لا تعني أنّه يطلب شيئاً غير موجود- وهذا ما يؤكّد عليه القدّيس باسيليوس الكبير- وإنّما كما يقول القدّيس كيرلّلس، اخلقْ هنا يعني جدِّدْ وأصلحْ. فقلب داوود ونفسه كانا نقيَّين لكنّه ملأهما هو فساداً وأفسدهما، والآن يطلب إلى الله أن يعيد فيه القلب والنفس إلى جمالهما الأوّل.

David increases his request and asks God for a right spirit. The right spirit is the spirit of truth. The entrails here are the interior of the person, or in other words, the inner man. So make my spirit right, O Lord. Just as the heart is the center of the person and his person, the entrails are the recesses of his depths. Thus he explains his request in a pressing manner similar to the first one in the first half.

Theodoretus here emphasizes that what is meant is not the Holy Spirit but the spirit of righteousness, that is, the concept of justice, truth, and sound reason. Likewise, Saint Athanasius explains the righteous spirit as a living conscience.

(11) Do not cast me away from your presence, and do not take your Holy Spirit from me.

كما طلب داوود من الربّ أن يصرف وجهه عن خطاياه، يطلب هنا الأمر عينه، يقول: إنْ نظرتَ إليَّ ورأيتَني غير مستحقّ بسبب إثمي لا تطردني خارجاً، لا تطرحْني من أمام وجهك، وروحك القدوس ونعمة النبوّة التي وهبتني إيّاها لا تنزعْها منّي. لا تنزعْ منّي روحَك القدوس ومواهبه التي كانت فيَّ. هكذا يشرح الذهبيّ الفمّ ويقول: “إنّي أطلب هذه النعمة وحضور روحك كما تعود النحلة إلى الزهر بعد غياب الدخان”. هذا لا يعارض الفكرة السابقة أنّ داوود لم يخسر كليّاً روح النبوءة بعد خطيئته وإنّما فعلاً خسره جزئياً. لأنّه إن هجر الروحُ القدس الإنسانَ كليّاً هلك لا محالة، وإنّما تنقصر نعمه عنّا عندما نعيق عمله فينا بخطايانا.

(12) Grant me the joy of your salvation, and sustain me with your governing spirit.

Grant me, O Lord, inner peace, and cast from my heart the torment of sin, restore to me the joy of righteousness, and remove from me the anxiety of evil. Give me the peace and joy of conscience and the joy of salvation that I had before my sin. How does a person feel the joy of salvation? When he feels that his own God is the justifier and the savior, when he feels that he has a calling, despite his weakness, to be among the ranks of the saved, that is, those whom the Savior God acknowledges as His servants.

And support me, O Lord, with a governing spirit, with the spirit of righteousness. Let Your Holy Spirit give me the strength to live virtuously, let Him calm the turmoil of my passions and grant me the spirit of righteousness, and give me the strength to control my inclinations toward sin. Grant me the rule of the spirit over the body, give me the dominion that You gave me before, the dominion of the will over desires.

(13) Then I will teach transgressors your ways, and the ungodly will turn to you.

This verse may be a prophecy of the conversion of the unbelieving nations to faith through the spread of the Gospel. Perhaps this book that remains from David will actually be an instruction to the unbelievers with its wonderful songs and fervent prayers of repentance.

القدّيس أثناسيوس يقول عن لسان النبيّ داوود: “إذ قد محوتَ مآثمي وأطلْتَ عليَّ أناتك وسكبتَ فيضَ رحمتك ولم تنزعْ روحك القدّوس منّي وها قد منحتَني بهجة خلاصك، فإنّي سأعلِّم بالطبع الكفرةَ الإيمان والأثمةَ التوبة. لا بل إنّ غفرانك وعودتي ستكون فعلاً درساً بليغاً في التوبة، وسيقودان كثيرين إليها”. هكذا يقول أيضاً إيسيخيوس: كما أنّ المريض يلجأ إلى دواء ما بثقة عندما يرى عليلاً مثله قد تناوله قبله وشفي، هكذا صارت توبة داوود درساً وحثّاً على توبتنا.

هكذا في أفاشين السّحر التي يتلوها الكاهن يقول الأفشين الثامن: “يا مَن وضعتَ لنا توبة داوود رسماً للتوبة…”. إذن يصرخ داوود: سامحْني يا ربّ وأظهِرْ فيَّ عظم رحمتك وسأكون أنا درساً ومثالاً للتوبة وبرهاناً على محبّتك ورحمتك، برهانٌ يقود الخاطئين إلى أن يعودوا ويتوبوا لئلاّ يهلكوا. لهذا كانت صرخة بولس مثالاً قويّاً أنّ المسيح “جاء ليخلّص الخطأة الذين أنا أوّلهم”. وهذا ما يعنيه بولس، أي إن كنتم لا تؤمنون أنّ المسيح يقبل الخطأة، فها إنّ مثالي يبرهن – على حدّ قوله – أنّه يسامح أكبر الخطأة الذين أنا أكبرهم والأوّل فيهم إذ قد اضطهدتُ قبلاً كنيسته.

(14) Deliver me from blood, O God, the God of my salvation, and my tongue will rejoice in your righteousness.

إذا أردنا أن نفهم النصّ بمعناه التاريخيّ، فالدّماء هنا، هي الدم المهدور ظلماً، دم أوريّا الذي قتله داوود. وكأنّ داوود يصلّي إلى الله أن ينجّيه من الوقوع ثانية بهذه الزّلة الرهيبة. تكرار اسم الله، “يا الله إله خلاصي”، يوضح شدّة تضرّعه. هنا يطلب داوود التائب من الله أن يعطيه القوّة لتمضية حياته الباقية في توبة بدون دماء. فحتّى التوبة ذاتها، هي من ناحية قرار وموقف شخصيَّين، لكن من ناحية أخرى تحقيقها هو بركة وهبة إلهيّتَين. فالذي يضمن توبتي هو إله خلاصي.

ويمكن فهم كلمة “دماء” بمعناها المجازي “شياطين”. والشياطين يرمز لها بالدماء لأنّها سبب القتل وتفرح به وبالشرّ.

بالطبع القلب الذي ينجو من الدماء ومن الشرور عامّة ويخلص منها لا تشغله هموم ولا تقلقه مخاوف الشرور وأعمالها ونتائجها، وإنّما تملؤه مشاعر التسبيح ويروح يشدو بعظائم الله ورحمته وببرّه، أي بالتبرير، أي بالمسامحة والغفران الذي ناله. القدّيس كيرلّلس يرى بكلمة “برّ” هنا المسيحَ ذاته. فداؤود كما بنبوءة يبتهج بالمسيح الذي صار به التبرير لنا وصار هو تبرير الله لنا وبرّنا أمامه.

(15) O Lord, open my lips, and my mouth shall declare your praise.

My mouth has become silent from the pain of sin, it has blocked my mouth from its usual hymns. So forgive me, O Lord, and open my lips with your forgiveness so that they may praise you once again as they were. O Lord, open for me the doors of repentance so that I may return to my former life, to praising you and singing of your mercy.

(16) For if you had desired sacrifice, I would have given it now, but you do not delight in burnt offerings.

Here David transcends all the gap between his time and the time of the New Testament, and transcends the legal ordinances as if he were worshipping God in spirit and truth.(24)His sacrifice is his praise, his thanksgiving, his prayer, and his repentance. God’s forgiveness is not bought with sacrifices, but with true repentance, that is, a deep hatred of sin. You do not sell forgiveness with a sacrifice, for even burnt offerings do not please you, the prophet says to God.

The Jews had several types of sacrifices as offerings to the temple, some of which were slaughtered and eaten. The most precious sacrifices to God were those that were offered entirely to God, so they were all burned and nothing was taken from them at all. Even these, the most honorable sacrifices, were not preferred by God, but as David continues in the next verse:

(17) For the sacrifice of God is a broken spirit; a broken and humble heart God will not despise.

وما هو الروح المنسحق؟ إنّه قلبنا عندما ندينه ونحاكمه ويعترف فعلاً بذنبنا. الانسحاق يأتي من لوم الذات والوقوف أمام الله كمُحاكَمٍ منكسِر القلب. القدّيس باسيليوس الكبير يشرح ويقول: “انسحاق القلب هو طرد الأفكار البشريّة. فالمنسحق القلب هو مَن يعطي نفسه وعقله إلى التأمّل بالكلام الإلهيّ والذي يمنح ذهنه فرص الانشغال بالمعاني السامية والإلهيّة. هذا يجعل، فعلاً، قلبه ذبيحة مرضيّة لدى الربّ وغير مرذولة منه. فمَن يحبّه الله، ويحسن إليه ويريده أن يعيش في جدّة الحياة والروح، يسحق فيه إنسانَه القديم. لهذا فالذبيحة لله هي الروح المنسحق، أي ينسحق روح العالم العامل فينا كلّ خطيئة لكي يتجدّد في أحشائنا روح مستقيم…”.

القدّيس مرقس الناسك يقول: “بدون انسحاق قلب لا يمكننا التخلّص من خطايانا. وما يسحق القلب هو ضبط النوم والمعدة وعدم الكسل في الراحة”. انسحاق القلب بكلام آخر هو الفقر بالروح. والفقير بالروح هو المتواضع، الذي إذا ما عمل خيراً لا يترفّع لأنّه يذكر خطاياه على الدوام وهي أمامه كلّ حين. على العكس، إنّ قساوةَ القلب هي من الكبرياء ومن حبّ الدنيويّات والمراءاة والكذب. لهذا يقول النبيّ: “يا بَني البشر لماذا أنتم ثقيلو القلوب، إلى متى تحبّون الباطل وتبتغون الكذب؟”. هكذا يسمّي المغبوط أوغسطين دموع الصلاة، عرق القلب ودم النفس. مَن يَبْكي خطاياه هذا يقدّم الذبيحة الحقيقيّة لله.

(18) O Lord, in your good pleasure restore Zion, and let the walls of Jerusalem be built.

أنتَ صالح يا ربّ، وشهوتي ليس فقط صفحَك عن مآثمي، وإنّما أن تنظر من السماء وتطّلع على الكرمة التي غرستها يمينُك وتصلحها، لأنّه لا يمكنها أن تنصلح إن لم ترضَ أنت عن ذلك وتسعَ أنت إليه. هنا يطلب داوود بإلحاح ولكن بانكسار، ويقول “ولتُبنَ” بدل “وابْنِ أسوار أورشليم”. هكذا يشدّد على الطلب برجاء وليس بأمر. طبعاً أورشليم هي مدينة الله وشعبه، وأسوارها المبنيّة هي صحّة وقوّة كنيسته.

(19) Then you will be pleased with the sacrifice of righteousness, with offerings and burnt offerings; then they will offer bullocks upon your altar.

David's former and latter request were fulfilled when the Lord built his church and repaired its walls, and he took pleasure in the sacrifice of righteousness, that is, in the body and blood of his Son which are eaten and sanctify those who partake of them. This is the living sacrifice and the sacrificial lamb.

In this psalm many of the holy fathers saw allusions to Christ and his Church, such as Cyril and Eusebius. The pleasure of God is Christ, the Savior. Zion is the Church. The walls of Jerusalem are the upright teachers of the Church, its pillars and bishops, or also the heavenly angels. The sacrifice of justice in the Church of Christ is not animal sacrifices but the life of Christians, that is, virtue. The offerings and sacrifices correspond to the sufferings of the saints and confessors. The burnt offerings are the martyrs who offered their whole selves and their entire lives for the sake of faith. Also a sacrifice in the Church is chastity or any sacrifice of life in our daily conduct, whatever it may be. The burnt offerings are perfect virtue, that is, monastic life (as Theodoretus explains).

The calves are the Christians who practice virtues. These become fat with the oil of the Holy Spirit because they struggle with the passions and the devil knows their faith. These offer their souls on the heavenly altar as sacrifices that become a sweet smell. Amen.

 

 


(12) Footnote related to the title: This psalm is recited at midnight prayers, matins, the third hour, and the lesser and greater sleep.

(13) Phil 3, 13.

(14) See: 1 Cor 15:8-10.

(15) Phil 1, 23.

(16) FL 1, 6.

(17) Phil 3, 13.

(18) Phil 3, 17.

(19) Isaiah 43:25-26.

(20) 2 Kings 12, 9.

(21) Luke 24:38.

(22) 29, 13.

(23) Acts 13, 22; 1 Kings 13, 14.

(24) John 4:23-24.

Exit mobile version