Site icon Orthodox Online Network

2: 9 – المعنى الروحيّ للصوم

Fasting date: 

introduction

الصوم هو ظاهرة بشريّة ارتبطتْ مع كل الأديان. وتعدّدت أشكاله ومفاهيمه بتعدّد هذه الأديان. وفي المسيحيّة يحتلّ الصوم أهميّة خاصّة. فعندما عجز التلاميذ عن طرد الشيطان مرّةً، سألوا الربّ يسوع بعد أن أخرجه، “لماذا لم نستطع نحن؟”، أجابهم: “إن هذا الجنس لا يخرج إلا بالصلاة والصوم”(21)This importance is attested to in the Holy Bible in both its Testaments. We also find that there was a development in understanding the meaning of fasting and its practice, which reached its peak in the time of the New Testament, the era of grace, and was interpreted by the Eastern ascetic tradition in particular.

إنّ عالمنا الحاليّ، وخاصّة الغربيّ وبعض المسيحيّين بتأثير منه، لا يعطون للصوم قدره الحقيقيّ ويجهلون معناه الصحيح. لذلك وإن امتدحوا الاعتدال بالطعام ونظّموا له ضوابط وحميّة (régime) خاصّاً، غدا أغلب الناس يملكون نماذج منه، فإنّهم يعتبرون الصوم تعذيباً للجسد ومضرّاً للصحّة ولا يرون فيه فائدة روحيّة؛ وقد يعتبرونه في أفضل الأحوال ممارسة دينيّة لا يعرفون ضرورتها إلاّ “الشرعيّة”، ولا يدركون فائدتها لذلك قد يبدو لهم مجرّد فرائض دينيّة ضدّ الجسد وملذّاته تتطلبها بعض القساوة التي في الدين. بالطبع ليس الصوم مجرّد “حرمانات” أو “كبتاً” أو “تعذيباً” أو كما يعتبره البعض استغفاراً! إنّ للصوم معنى ً أنثروبولوجيّاً وروحيّاً عميقاً جدّاً، لذلك يستحقّ أن نفهم دوره الحقيقيّ في حياتنا وبالتالي نكتشف ضرورته، ونحدّد إذن كيفيّة ممارسته.

Therefore, we must first define the meaning of fasting and its practice in religions in general, and in the Old Testament, and then the New Testament in particular. Then we must stop at the spiritual anthropological dimension as interpreted by the ascetics and saints in our noble tradition.

الصوم هو إشراك للجسد في العبادة، والترفّع عن بعض متطلّباته رغبةً منّا في التعبير عن معانٍ روحيّة نحو الله. فلمّا كان الإنسان نفساً وجسداً كياناً واحداً، كان من العبث أن نتصوّر ديانة روحيّة محضة. إنّ النفس لكي تلتزم بشيء ما وتعبّر عنه تحتاج إلى أفعال الجسد وأوضاعه الخارجيّة. لذلك يُعبَّر عن الاحترام (موضوع روحيّ) مثلاً باللباس والانحناء أو السجود، وعن الفرح بالألوان وأشكال واحتفالات، وعن الحزن بالصوم واللباس… الخ. يعبّر داؤود النبيّ عن شوقه إلى الله فيقول: “عطشتْ إليك نفسي وتاق كثيراً إليك جسدي” (22).

يتمّ الصوم بأحد شكلين، “الانقطاعيّ” أو “الامتناعيّ”، أو بالشكلين معاً، أي الانقطاع عن الطعام والشراب، وعند الاقتضاء عن العلاقات الجنسيّة خلال فترة محدّدة، أو بالامتناع عن بعض الأنواع من المأكولات.

1. Fasting in religions

Most ancient priests were doctors, so fasting was associated with the concept of health. The Egyptians fasted for periods ranging from 6 days to 7 weeks. The Greeks always fasted before wars. The Romans fasted before the festivals of Demeter (Δήμητρα) and Dios (Δίος). Historians of religions note that fasting occupied an important place in religious practices for the purpose of asceticism, purification, mourning, supplication to God, and recognition of human baseness and divine transcendence. 

2. Fasting in the Old Testament

The Jews in the Old Testament fasted several fasts before their major holidays. They fasted one day before the Day of Atonement. (23) This is to be humble before God. (24) وصاموا جماعيّاً في ذكرى النكبات الوطنيّة بعد السّبي. ويتكلّم داؤود النبيّ في المزامير عن أصوام كثيرة: “حتى كلّت ركبتيَّ من الصوم”.

It seems that Judaism had set a weekly fast on Thursday. The Pharisees added Monday to it as well, in commemoration of Moses’ ascent to the mountain and his descent from it. This is why the Pharisee claimed before God that he fasted twice a week and not once like the common people. (25)The Gospel of Luke mentions the prophetess Anna. (26) وتلامذة يوحنا المعمدان. كما يتّضح أنّ جماعة الأسّانيّين كانوا يصومون كثيراً وينقطعون كلّياً عن اللحم والخمر. وهناك “أربعينيّات” مقدّسة صامها كبارُ الأنبياء مثل موسى (27), and Elijah (28)And like them, Jesus fasted. (29)Of course, this abstinence from food does not mean contempt for material things, but rather it is due to special spiritual motives. Because through fasting, a person turns towards the Lord. (30) Or ask for forgiveness (31) Or seek healing (32) Or express his sadness (33) Or to prevent a disaster (34)We can also fast to open the heart to the divine light. (35) Especially to prepare to meet God (36)Jewish fasts involved delaying meals (abstinence) until the evening and shortening them. Marriages were also forbidden during fasting.

3. Fasting in the New Testament

صام يسوع “الأربعينيّة” كما موسى وإيليا، لكن يظهر أنّه لم يشدّد على حفظ أصوام العهد القديم والعادات اليهوديّة بل وكأنّه في بعض المرّات كان يدعو لتجاوزها. ومع ذلك فإنّ نوعاً من التقشّف والنسك ساد تعاليمه، فهو لم يأتِ لينقض وإنما جاء ليتمّم (37)And he taught us to pray and ask for just enough bread for today. (38) و”أن نطلب أوّلاً ملكوت الله وبرّه” وبعدها أيّ شيء آخر. ويبدو أنّه كان، كما في كلّ تعليمه، يجدّد في روحانيّة الصوم فيشدّد على “التجرّد” والترّفع وتجنّب بعض الأخطار التي كانت تترافق مع “الأصوام”، مثل خطر التمسّك بالشكليّات والكبرياء، أي الصوم “لكي نظهر للناس صائمين”. وكان يدعو لأن نصوم بكتمان وتواضع، أي لله: “فمتى صمتم لا تكونوا عابسين كالمرائين… بل لأبيك الذي في الخفاء” (39).

In the early centuries the Church preserved the Jewish fasts, but in the spirit dictated by Jesus. There is mention of fasts in the Acts of the Apostles that were required for certain celebrations and special occasions. (40): “بينما هم يخدمون الربّ ويصومون قال الروح القدس افرزوا لي برنابا وشاول للعمل الذي دعوتهما إليه، فصاموا حينئذٍ وصلّوا ووضعوا عليهما الأيادي ثم أطلقوهما”. لقد سبق يسوع ودافع عن تلاميذه أمام اتّهامات اليهود عليهم بأنّهم لا يصومون كتلامذة يوحنا، لكنّه قال: “ما دام العريس بينهم لا يستطيعون أن يصوموا. ولكن سيأتي زمن يُرفع العريس من بينهم، ففي ذلك اليوم يصومون”. فإلى أن يأتي إلينا العريس من جديد، سيبقى الصوم محتفظاً بمكانة خاصّة في الكنيسة. لم يكتفِ بولس- على ما يبدو- بالأصوام العاديّة، فرغم العطش والجوع والأسفار، أضاف إلى ذلك أصواماً عديدة (41).

لقد استلمتْ الكنيسة هذا التقليد وتابعت الأصوام التي في اليهوديّة بالروح التي جدّدها المسيح، فصار الصوم “أداةَ توبة” وليس “مفخرةَ تبرير”. ولهذا مالت الكنيسة في أيامها الأولى إلى إبراز هذا التجديد، لكي لا توضع رقعةٌ جديدة في قطعةٍ قديمة. لهذا يذكر كتاب “تعليم الرسل الاثني عشر” (القرن الأول): “صوموا الأربعاء (التسليم) والجمعة (الصلب) على خلاف اليهود المرائين” (42). وتكرّر “الأوامر الرسولية” (القرن الرابع) الوصيّة بالصيام (43)We find in Saint Epiphanius that fasting on Wednesdays and Fridays is an apostolic tradition. (44)Fasts in the Church centered around the most important feast, the death and resurrection of Christ. Justin Martyr and philosopher mentions that Christians observed this fast with severity and rigor. (45).

The period of fasting before Easter was not fixed until the fourth century. When, with the Christianization of the empire, it was fixed at 40 days, in imitation of the sacred forties of Moses, Elijah, and especially Jesus. This fast is mentioned in the First Ecumenical Council of Nicaea (325) and in the fifth canon of the local Council of Laodicea (364). This forty days came to precede Holy Week and Easter. (46). وبالإضافة إلى هذا “الصوم الكبير”، الذي دُعي هكذا لأهميّته ولطول فترته، هناك قبل كلّ الأعياد الأساسيّة أصوماً تمهيديّة، قبل أعياد الميلاد ورقاد السيّدة والرسل. وهناك أصوام في برامون الأعياد الكبرى وسواها وفي عيد قطع رأس يوحنا المعمدان، إلخ…

هكذا يتّضح لنا كمْ يحتلّ الصوم مكانة روحيّة خاصّة في حياة الكنيسة منذ العهد القديم مروراً بيسوع المسيح والرسل والتقليد الشريف. لهذا علينا بالتالي أن نتلمّس الروح الحقيقيّة للصوم، وذلك لفهم معناه الحقيقيّ وضرورته وكيفيّة ممارسته بالنهاية، لننال ثماره الصالحة. رغم أنّ للصوم وجهاً كنسيّاً عامّاً فله أيضاً وجه خاصّ. فإذا كان الوجه العام يشير إلى مشاركتنا مع الكنيسة جمعاء ويثبّت عضويّتَنا فيها، فإن وجهه الخاصّ يفتح الفرصة إلى “الاختبار الشخصيّ” العميق للحياة بالروح.

 Adam fasted in Paradise in accordance with the divine commandment and desire, before the existence of sin and the need for forgiveness or the existence of lawful and unlawful, pure and impure! This observation then leads us to question the true purpose of fasting, which it had from the beginning before the fall, no matter how new practices entered into its meanings after the fall as well. We will discuss fasting then from its deep ascetic dimensions, based on the Eastern Orthodox ascetic anthropological concept. Starting then from Adam’s fasting in Paradise, we acknowledge that fasting has a role and a necessity other than forgiveness, feasts and others, despite the necessity of these latter motives. Fasting then has an authentic positive aspect before the negative aspects that have intruded upon it after the fall and which are practiced by all religions. It was the paradisiacal way of life. (47).

لا بل إنّ كثيراً من الآباء القدّيسين يشدّدون: بما أنّ السقوط كان بسبب كسر الصوم فإنّ العودة والتوبة يجب أن تبدأ من حيث سقطنا أي من الصوم. “إنّ أوّل وصيّة وُضعت لطبيعتنا منذ البداية كانت عدم تذوّق بعض الطعام، ومن هنا سقط أوّل بني جنسنا. لذلك فإنّ أولئك الذين يجاهدون من أجل محبّة الله يجب أن يبدأوا من حيث كانت أوّل ضربة” (اسحق السريانيّ). إذن يدخل الصوم في الحياة الكنسيّة كـ “دواء” و”حلّ” لحالة الإنسان الساقطة، فهو طريقة علاج وشفاء وهو أكثر بكثير من مجرّد ممارسات دينيّة إسترضائيّة للغضب الإلهيّ. إنّه إذن رياضة روحيّة تمسّ عمق أعماق الكيان البشريّ لكي تصلحه، وليس بالأحرى واجبٌ مفروض على حالة خاطئة (الخطيئة) وإنّما هو الحالة الأصيلة للحياة البشريّة كما كانت عند آدم في الفردوس. إذن للصوم بعدٌ أنثروبولوجيّ عميق جداً، وسنحاول أن نعالجه على أساس هذا المفهوم للكائن البشريّ. الصوم هو حركة “روحانيّة” أي عودة بالإنسان من “حالته الحاليّة اللاطبيعيّة” إلى “الحالة الإنسانيّة الأصليّة”.

Spiritual reading for fasting:

introduction

“حلَّ آدم الصومَ وسقط”! تخفي هذه الكلمات في طيّاتها معانٍ عميقة تتجاوز كثيراً المعنى القضائيّ للتعدّي على الوصيّة. إنها حقيقة استبدال حياة بأخرى. لقد أوصى الله (وهذا هو الخير) آدمَ بوصيّة الصيام كطريقةِ حياةٍ: “من كل شجر الجنة تأكل إلاّ من هذه الشجرة”. لكن آدم اختار طريقةً مغايرة ثانية للحياة، لقد تصرف ليس بحسب الوصيّة إنّما بحسب “كلّ ما هو شهيّ للمنظر”. لم تكن هذه الشجرة (معرفة الخير والشرّ) ذات طبيعة خاصّة بها أو كان لها ثمارٌ تجلب الموت! لقد كانت شجرة “لـ” معرفة الخير والشرّ، كانت مفترقَ طرقٍ بين اتجاهين لطريقتَي حياة متغايرتين، تلك التي مع الصوم وهذه التي مع كلّ ما هو شهيّ للمنظر.

لقد كان قرار آدم تفضيل حياة الحواس على إحياء العلاقة مع الله! لقد حوّل حركاته الداخلية (عشقه و اهتمامه) من الله إلى المادة. بعد أن أُعطيت له المادّةُ هديّةً إلهيّةً، العالمَ وكلَّ ما فيه، أراد هو أن يأخذها لذاته غاية، فلم تعدْ تشبع حاجاته وحسب، ولكنّها بقراره صارت “شهيّة للمنظر” تستملك أهواءه وميوله ورغباته. كان السقوط اختياراً خاطئاً في استخدام العالم. وهذا ما يعنيه “حلّ الصوم” أو الوصيّة. بينما كانت الوصيّة هي إشارة إلى طريقة استخدام العالم بحقيقته كصلة وعمل مشترك بين الله والإنسان. لقد كان مقدَّراً للعالم أن يُدخل الإنسان مع الله في شركة- وهذه هي حالة استخدامه الصياميّة- لكن تداعي آدم أمام الحواسّ جعل العالمَ أداةَ فصلٍ بينه وبين الله. لقد كان السقوط سعياً للتألّه قبل أوانه وخارج طريقه. كان طريقاً للتألّه مبنيّاً على تأليه الحواسّ، لكنَّ الحسيّات تعيدنا إلى العالم ولا ترفعنا إلى الله. لقد أضحت الخليقة صنّارة شيطانيّة اصطادت الإنسان، فانحرفت هكذا ميولُه عن الرغبات الأصليّة إلى مجرّد الأمور الماديّة. استبدل الشيطان للإنسان مُثُلَه وأولويّاته، فأضحى العالمُ بعد أن كان هديّةً إلهيّةً سيعيدها الإنسان قرباناً صار أداةً للغواية والخدعة الشيطانيّة. فالتصقت حياة الإنسان بالماديّات وانغلب الروح أمام المادّة. وتركّزت الاهتماماتُ البشريّة حول الحسيّات وضاعت الحضرة الإلهيّة. حتّى أنّ آدم عندما عاد وسمع خطوات الله، بعد أن مال إلى إشباع الشهوات، اختبأ. لأنّ هذه الحضرة التي كانت كلَّ حياته سابقاً صارت مقلقةً ومزعجة لثمرة هذه الشجرة، الشهوة!

عندما ضلَّ الإنسان استُبدٍلتْ شركتُه مع الله بشركتِه مع الماديّات والعالميّات. لهذا يعتبر آباؤنا القدّيسون أنّ سقوط الإنسان أدّى إلى سيطرة “ثلاثة أهواء جبّارة” تتفرَّع عنها كلُّ المشاكل وتتلخّص فيها كل أسباب النزوات والأخطاء. وهذه الأهواء هي الجهل (بسبب الخدعة) والنسيان (بسبب الانشغال بالماديّات) وأخيراً الكسل (لأنّ المادّة بدون الصوم لا تعطي روحاً).

Man's longing for God, after he replaced it with a desire for sensual things, was no longer sufficient for his pursuit of his true goal. Man's energies became distributed between God and the world, while man was supposed to love God only and take what he needed from the world without temptation, that is, with chastity.

Adam wanted to become deified without fasting, that is, he tried to achieve his goals without striving and toiling, as if the matter were magical, merely desiring the world (eating the fruit and desiring it) to become knowers of good and evil - gods. He replaced the toils of the spiritual life (the commandment of fasting) with magic (lust), and magic does not achieve truth. The matter is to determine the purpose of our life: Is it God or is it matter? This answers the question: Are we fasting or not? Adam removed God from his life and brought in sensuality, and we fast in order to live the authentic human paradise life of Adam, so we bring God into our lives and do not let food and sensuality take our attention. Even when we partake of the world, we do not take any matter from it before we spiritualize it, that is, we use it as a tool of connection with God and thanks to Him. Fasting, then, is a movement to make the spirit prevail over matter, it is an effort towards spiritual resurrection.

لا يمكن للإنسان أن يتلمَّس مقدار تسلّط هذه الأهواء الثلاثة (الجهل والنسيان والكسل) دون “الاعتراف”، أي العودة إلى الذات والله، وهذه الأخيرة تستخدم العالم كأداة تذكير بالله وليس كانشغال عنه، والصوم هو طريقة تحويل المادّة إلى هذه الآلة بعد أن كانت غواية. لا يعني الصوم هجر المادّة بل الترفّع والزهد عن غوايتها. فتلك مباركة وهذه غباوة.

1. Healing ignorance

 “يا جاهل”! بهذه الكلمة عبّر يسوع عمّن أراد أن “يغتني لنفسه وليس بالله” (48). لقد أخطأ آدم الخيار بين طريقتَين في الحياة، فصار جاهلاً! ولما تمادى في الخضوع للحسيّات جعلت هذه الأخيرة ذهنه أكثر ظلاماً و”غباوة”. لذلك يقول الراهب بيمين: “لولا أن نبوزردان رئيس طبّاخي البابليّين لم يذهب إلى أورشليم لما احترق المعبد”، مشيراً بذلك إلى مدى تأثير التهافت لإشباع لذّة الجوف على الصفاء الروحيّ والحريّة الداخليّة: “هكذا الإنسان لا يحترق إذا لم تسيطر عليه شهوة الطعام”. ويتكلّم الأدب الرهبانيّ عن حالات دقيقة جدّاً ومرهفة. لقد زار أحد الرهبان مرّة الأب أشعياء في زمن صيام فقدّم له هذا الأب قليلاً من العدس. ولما ذاق الراهب الطعام قال للأب أشعياء: “كان يحتاج لبعض السلق أيضاً”. فأجابه الأب: “اشكر الله يا بُنـَيّ أنّنا قدّمنا لك اليوم مائدة فصحيّة، هذا يكفينا”. نعم يدقّق النسك الرهبانيّ على وجود هذا الهوى حتّى في حالات كهذه. الصوم يعني التخلّي عن “الشهوة” وليس عن الطعام بحدّ ذاته، وإن كانت تلك الشهوة لا تغادرنا قبل أن نتجرّد عن الأطعمة نوعاً وكمّاً. ولكن ترك الأطعمة والمحافظة على شهوتها هو صيام ناقص، أو غير ناضج تماماً.

It is said that a monk father took his disciple with him to a feast day in a neighboring monastery. It was customary on feast days for the monks to spread out a table of food immediately after the solemn mass, that is, at noon. And that is exactly what happened. But the disciple hesitated to eat because their fast usually continued until sunset, as in the monasteries. So he decided to eat from the table only if his teacher, the father, ate from it. Of course, everyone sat at the table with the father and ate the feast food, and the monk did the same to the disciple. Then, on the way back with his teacher, they reached a spring of water. He was very thirsty, so the disciple asked his teacher for permission to wait for him until he had a drink. The teacher said to him: Are we not fasting? The disciple said: We ate at noon! The father answered: Yes, my son, there we broke our fast for the sake of love, but here you are breaking it for the sake of lust!

The first role of fasting is to shift the mind from the world to God. (49)، وهذا ليس بالضرورة عن طريق ترك العالم، إلاّ تدبيريّاً حين يتحتّم ذلك. لذلك يعترف الأدب الرهبانيّ أنّ الراهب لا يحرق عشقه ولكنه يحوِّله “فيستبدل عشقاً بعشق”. بالصوم يعرف الإنسان الشهوة الحقيقيّة- العشق الإلهيّ. الصوم يُصلح “التهذيب” و”الذوق”. لقد كان السقوط انحرافاً في الذوق ويأتي الصوم ليُصلح هذا الذوق البشريّ المخدوع. بالصوم يؤكّد الإنسان لذاته أنّه “لا يحيا بالخبز وحده بل بالأحرى على كل كلمة تخرج من فم الله”. يكوّن الصوم هذه الحكمة. ولا تأتي حكمة كهذه دون تعاطٍ مع العالم كهذا. إن صوم الجسد يشدّد الذهن (50)، إنّ الصوم يحرّر الإنسان من الجهل ويخلق فيه “النبوّة” (51).

يحدّد لنا الصوم “خبزنا الجوهريّ” ويرتّب أولويّات اهتماماتنا وحدود كلّ اهتمام منها ومساحته في زمن حياتنا. لهذا بالصوم رتَّبت الكنيسة أن يزداد تواتر المؤمنين على الكأس المقدّسة وأدخلت “قدّاس السابق تقديسه”. ولعلّ التقشّف والبساطة في الصوم هما أحوج الأمور إلينا للردّ على تسلّط هوس “الرفاهيّة” في حياة الناس اليوم. يعيد الصوم نهاية “السباق” إلى مبتغاه الصحيح. يتسابق الناسُ اليوم على تأمين “الرفاهيّات” في الحياة، وصارت الكماليّات أساسيّات ولو اضطرّتنا إلى التضحية بكلّ ما هو أساسيّ في حياتنا من الراحة والعلاقات الاجتماعيّة الضروريّة. إنّ صنم “الكماليّات” وطلب “السهل” صار إلهَ هذا العصر، ولا تحطِّمه إلاّ بساطة الحياة وتقشّف المعيشة في الصوم. لقد بات الصوم اليوم أكثر ضرورة من أيّ زمن أسبق، وذلك بسبب هيمنة الشهوة والطيَِّب للنظر والحواسّ على مجتمعاتنا وعلى مفاهيمنا. يتراكض الناس ولكن في اتجاهات “ضالّة”، ويتسابقون على اقتناء “الكماليّات”، بينما يعيدنا الصوم إلى السعي لاقتناء الخبز الجوهريّ والتسابق في طرق الفضيلة. إنّ حكمة الناس في دهر الكماليّات هي “كُلْ بقدر ما تستطيع” أي لأكبر حدٍّ ممكن طبيعيّاً أو غير مضرٍّ صحيّاً. لكن حكمة الإنسان في الصوم هي “صُمْ قدر ما تستطيع”، أي لا تأكل قدر ما تستطيع بِشْرتُك. تتبدّل في الصوم النظرة إلى الحياة في غاياتها وفي مصادرها. “في بطن امتلأ من الأطعمة لن يوجد مكانٌ لمعرفة أسرار الله” (اسحق السريانيّ).

 لذلك يترافق الصوم مع الصلاة (الخبز الجوهري) ومع أعمال الإحسان. فتتحوّل طاقات النفس وملكاتها وممتلكاتها نحو غاياتها الصحيحة نحو الله والقريب، نحو بناء علاقة وليس بناء ملكيات. يفتح الصوم الإنسان على عالم الآخر، الله والقريب. “قيمة الصوم ليست بالابتعاد عن المآكل بقدر ما هو الابتعاد عن الخطايا… فماذا يفيدنا الإعراض عن أكل لحوم الخنازير والسمك حين نأكل لحوم أخينا الإنسان”، يقول القدّيس باسيليوس الكبير. وغياب الصوم يغلق الإنسان على ذاته التي لا تشبع وتجعل القريب جحيماً والله مغيَّباً.

يختبر الإنسان في الصوم القول المسيحيّ “يا ربّ خلقتنا ميّالين إليك ولن نرتاح إلاّ بك”. أليست هذه الحكمة أساسيّة في الحياة؟ أو ليسَ غيابها جهالة فظيعة وظلم في حقّ الحياة البشريّة؟

2. Healing forgetfulness

 تذكر رواية التكوين وبدقّة متعمَّدة شجرة معرفة الخير والشرّ، التي نُهيَ عنها آدمَ، وتروي أنّها كانت في “وسط” الفردوس: “وجعل الله الشجرة في وسط الفردوس”. وهذا يعني تماماً أنّ دورها كان “التذكير” بالوصيّة الإلهيّة والعهد الفردوسيّ. هكذا كانت الشجرة في “وسط” حياة آدم أينما التفّت أو انتقل كانت تجرِّبه وتضعه في الخيار، أن ينظر بشهوة إليها أو أن يتذكّر بها الوصيّة والربّ.

بهذا المعنى يمتلئ الكتاب المقدّس بآيات وأحداث تريد أن تظهر رغبة الله أن يكون في “وسط الحياة”: “أنا أكون في وسطهم وهم يكونون لي شعباًً”. وتمتلئ قراءات الأسبوع لمرفع الجبن (الأسبوع قبل الصيام) بهذه المعاني. فالصوم هو أداة تجعل الله يتوسّط حياتنا. إنّ “الجوع” هو طعمُ المائدة التي نتعشّاها مع الربّ: “ها أنذا واقف على الباب أقرع فمن يسمع صوتي ويفتح لي أدخل إليه وأتعشّى معه” (52)Hunger is the taste of the Eucharistic Supper with God. In other words, the experience of hunger, or a little hunger, makes every food have a Eucharistic taste and is mediated by the Lord.

أغلب الفضائل المسيحيّة كالصلاة والإحسان والسجدات تحتاج إلى زاوية خاصّة وزمنٍ خاصٍّ لممارستها، خاصّة لدى المبتدئين؛ إلاّ الصوم، فيمكنه بدون كلّ ما سبق أن يكون وسط حياتنا. لا يمكننا مثلاً الدراسة والإحسان أو الصلاة في الوقت ذاته! لكنّنا نستطيع أن نقوم بأيّ عمل ونحن صائمون. إنّ الصوم هو صلاة في الجسد بل هو صلاة الجسد. الصوم هو منبّه دائم داخلنا خفيّ غير منظور يرافقنا كلّ لحظة ويقول “الله هنا”، أو بالأحرى: “الله معنا” يتعشّى وإيّانا هذا الطعام بالطعم الجديد- بالصوم.

وعندما يتوسّط الله حياتنا بواسطة هذه الممارسة الرائعة، عندها نكون في يقظة! “اسهروا وتيقّظوا إبليس خصمكم كأسدٍ زائر يجول ملتمساً من يبتلعه” (53)، هذه اليقظة تنقذنا من “النسيان”.

أغلب المسيحيّين يؤمنون بالله، وأيضاً يحبونه. ويحبّون تطبيق الوصايا والصلاة وأعمال الفضيلة. لكن لو سألنا ذواتنا لماذا لا نقوم بكلّ ما نحبّه ونخطّط له؟ لوجدنا أنّ الجواب هو “نَسَيْنا”. هذا هو عدوّ المؤمن، “النسيان”. يقول المثل الرهبانيّ إنّ الشيطان لا يقول لأحد لا تعمل عملاً خيراً وفاضلاً لأنّ ذلك يُعادي الضمير، ولكنّه يقول له “أجّلْه للغدّ”، لا يقول لنا: لا تصلّي بل صلِّ بعد قليل، لا يقول لنا لا تساعد بل ساعدْ في وقت آخر…وهكذا! إنّ أسهل وأفتك سلاح يستغلّه الشيطان ليُبطِل فضيلة الإنسان هو “النسيان”. لو قال لنا الشيطان لا تصلِّ لأوقظ فينا ضرورة الصلاة. ولكنّه يقول لنا صلِّ غداً فيأخذنا بالنسيان وليس بالجهل، لأنّه لا يوجد مؤمن يجهل أهميّة الصلاة. لكنّ المؤمنين الذين يجهلون خدعة النسيان هم كثرٌ جدّاً. إنّ الكثير ممّا ينقصنا في جهادنا الروحيّ لم ينقصْ بسبب قناعاتنا السلبيّة تجاهه، ولكن غالباً بسبب مرور الوقت دون أن نخصّص له حقَّه منه، إنّه النسيان عدوّ الإيمان اليوم. والنسيانُ عادة كلَّما كرّرناها تفاحشت، وهذه العادة يقتلها الصوم. الصوم ممارسة سهلة تضعنا في “اليقظة”. يؤهِّلنا الصوم لكلمات داؤود النبيّ “جعلتُ الربَّ أمامي كلّ حين”. وهذا ممكن أحياناً بالصلاة وممكن دائماً ما دام الصوم.

لا شيء يحجب الله عنّا ويخرجه من وسط حياتنا كالنسيان. وللنسيان أسبابه، أهمّها تعلّقنا بالدنيويّات أوّلاً، “لأنّه حيث كنزك هناك يكون قلبك”. وثانياً انشغالنا الزائد بالخبز غير الجوهريّ على حساب الجوهريّ، فيصير خبزُ كفايتِنا غايتَنا وننسى خبز الحياة. يعيدنا الصوم إلى هذه الحضرة أمام الله، أو يجعل حضرة الله في القليل من الجوع ترافقنا. “بمجرّد أن يبدأ الإنسان بالصوم، يتشوّق العقل لعشرة الله” (اسحق السريانيّ).

Isaac the Syrian advises constant fasting and self-control in one place (not being distracted by many interests), and from this, he says, the following things result: subjugation and control of the senses, alertness of the mind and remembrance of God, gentleness of thoughts and domestication of fierce passions, enlightenment of the movements of the mind, sublime contemplations, flowing tears, remembrance of death, and chastity.

عكس النسيان، أي طرد الله من وسط الحياة، هو الصوم الذي يجعلنا “نعاين الله”. ترتيب الأصوام بالأساس في الأديان كان استعداداً لملاقاة الإنسان بالله. وهذا ما تشدّد عليه حوادث الكتاب المقدّس. لقد صعد موسى لملاقاة الله، ولهذا صام قبل ذلك، وهكذا إيليا. فالصوم مرتبط مباشرة بلقاء الله، كتهيئة له. “إنّ إيليا لمّا تنقّى بالصيام شاهد الله عياناً في طور حوريب، فلنطهّرنَّ ونحن أيضاً القلب بالصيام وسنعاين المسيح إلهنا”. هكذا بالصوم ندخل إلى معاينة الله، أي إلى “حياتنا المستترة بالله”.

بحسب غريغوريوس اللاهوتيّ كانت الشجرة هي رؤية الله، أي أنّ الله هيّأ لآدم في وسط الفردوس (وسط الحياة) أن يهتمّ في ذهنه بالبحث عن الله وتمجيده وهذا هو النعيم الحقيقيّ. تشدّد قراءات أسبوع مرفع الجبن (الأسبوع قبل الصوم) على رؤية الله وتربط ذلك بالصوم كطريقة (قراءة الساعة السادسة- يوم الجمعة): “ها أنذا أخلّص شعبي… وأقتادهم وأسكن في وسطهم ويكونون لي شعباً وأكون لهم إلهاً…” (54). ونبوءة مساء الجمعة: “هذه الأقوال يقولها الربّ الضابط الكلّ، الرابعُ صوم… فلننطلق سائرين لنطلب وجه الربّ الضابط الكلّ ونبتغي وجهه في أورشليم…” (55).

Fasting, then, leads us to the divine presence and to standing before Him, and it becomes prayer. Fasting is linked to prayer, and it is like the embers in the censer, just as prayer is like the grains of incense. When they come together, a sweet, fragrant scent is raised to God, a worship of praise. Fasting thus saves us from forgetfulness when life becomes a pause in the presence of God, that is, a prayer.

3. Healing laziness

 الصوم حطب لنار الروح، “أعطِ دماً وخذْ روحاً”. إنّ رياضة الصوم تجعلنا دائماً منتصبين وجاهزين. وإنّ هذه الأتعاب هي التي تحفظنا متقبِّلين لسكب النعمة الإلهيّة. إذا ما نظرنا إلى هذا الجهاد الروحيّ (الصوم) سلبيّاً قد يتراءى لنا كحرب ضدّ الجسد، وهكذا يفهمه البعض، ولكن إذا ما عرفنا معناه إيجابيّاً كسعي إلى النور ومحاولة لتلقّي النعمة، آنذاك يصير الصوم رياضة روحيّة محبوبة.

يشدّد أدبنا الروحيّ الشرقيّ على ضرورة الأتعاب، وذلك التزاماً بوصيّة السيّد “ملكوت الله يُغتصب اغتصاباً” و”ادخلوا من الباب الضيّق”. إنّ الكسل عكس التغصّب. الكسل هو مظهر للأنانيّة المتخفّية، إنّ غصب الذات هو نوع من إنكار لراحتها. وهذا يتمّ عندما نعرف أنّ الراحة لا تأتي من الاستراحة. في جواب يسوع على إعلان اليهود أنّ الله استراح (توقّف عن العمل) في اليوم السابع (يوم الراحة) قال: “أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل”. يقول اسحق السرياني “أحبّ التعب” و”رائحة عرق السجدات أطيب لدى الله من رائحة البخّور”. إنّ الاستسلام لأيّة رغبة يحرمنا من قوة الإرادة، وغياب الجهاد يحرمنا من النعمة.

بالطبع للصوم وجه هو تقوية الإرادة. ولقد مارس كثيرون الصوم لهذه الغاية، لكنّ الصوم مسيحيّاً لا يبتغي الإرادة القويّة وحسب بل والصالحة. يهذّب إذن الصوم الإرادة فتغتصب ما تريد بدل أن تعمل ما لا تريده. إنّ ملكوت الله يُغتصبُ اغتصاباً” (56). “حينما ينحطّ الجسد بالصوم تتشدّد النفس روحيّاً في الصلاة” (اسحق السريانيّ). لهذا يقول بولس واصفاً جهاداته وأصوامه: “فإن كان إنساننا الخارجيّ (الجسد) يموت فإنّ إنساننا الداخليّ (الروح) يتجدّد” (57). لكن هذا “الغصب” للجسد ليس حرباً على الجسد بل تهذيب له. لأنّنا نقتل الأهواء وليس الأجساد (58).


(21) Mark 9:29.

(22) Psalm 62, 2.

(23) Acts 27, 9.

(24) Leviticus 16, 29-31.

(25) Mark 2:18.

(26) 2, 37.

(27) Exodus 34, 28.

(28) 1 Kings 19, 28.

(29) Matthew 4:1-4.

(30) Daniel 9, 3.

(31) 1 Kings 21, 27.

(32) 2 Samuel 12, 16-22.

(33) Judith 8, 5.

(34) Joel 2, 12-17.

(35) Daniel 10, 12.

(36) Exodus 34, 28; Daniel 9, 3.

(37) Matthew 5:17-20.

(38) Matthew 6, 11.

(39) Matthew 6:17-18.

(40) Acts 13:2-4; 14:23.

(41) 2 Cor 6:5; 11:27.

(42) 1, 8.

(43) 5, 15.

(44) “ضدّ الهراطقة”، 76، 6.

(45) “مقالة دفاعية”، 1، 61.

(46) Anastasius of Sinai (7th century).

(47) باسيليوس الكبير، [PG 31, 165]. لقد كان الصوم قبل الناموس: باسيليوس الكبير، “عظة 1″، [PG 31, 164-184]؛ “عظة 2″، [PG 31, 185-196].

(48) Luke 12, 20.

(49) Basil the Great, [PG 31, 172].

(50) Basil the Great, [PG 31, 180].

(51) Basil the Great, [PG 31, 172].

(52) Revelation 3, 20.

(53) 1 Peter 5, 8.

(54) Zechariah 8, 8.

(55) Zechariah 8, 19.

(56) Matthew 11, 12.

(57) 2 Cor 4:16.

(58) Basil the Great, [PG 31, 181].

Exit mobile version