التجسد الإلهي والعقم البشري

الحَدَث الأساس في تاريخ البشريّة هو التجسُّد. التجسُّد صار بمشيئة الآب وقبول الإبن وعمل الروح القدس. ما كان ممكناً أن لا يكون التجسُّد الإلهي، لأن البشريّة سقطت وسقطت بعنف يومَ تغرّب الإنسان عن الخالق بحريّته التي خَلَقَه الله عليها. كذلك ما كان ممكناً أن لا يُعطى الإنسان الحريّة، حريّة الاختيار، وإلاّ ما كان الإله خَلَق الإنسان كاملَ الحريّة، لأن الله حُرّ ولا يمكن إلاّ أن يَلِدَ “حريّة”، بشراً على صورته ومثاله.

لكنْ بالغواية سَقَط الإنسان… أيّة غواية؟ دائماً هناك علامات استفهام حول هذا الموضوع، في تاريخ الكنيسة وعند البشر. الغواية التي أُغوِيَ بها الإنسان هي القول أنت صُنْوٌ للإله، عديلٌ لله، أنت لديك قدرةٌ كالإله وحُكمٌ كالإله… قوّة واقتدار وسطوة… واستعلى الإنسانُ ليطال الإله فسقط…

حين يكون الإنسان واحداً مع المسيح، في الإله، فإنّ أناه تصير أنا إلهية. لذلك يقول الرسول: “لستُ أنا بعد أحيا بل المسيح يحيا فيَّ”. لكنّ هذا الحسّ وهذه القولة أتَتْ بعد السقوط… هل كان يجب أن يكون هناك سقوط؟ هل الإنسان مَوْسوم ومرسوم ومختوم بحركة السقوط؟

لو لم يكن هناك سقوط، ما كان هناك تجسُّد إلهي!

حمَلَ الإنسان ضعفَ البشَرَة وأقوى من ضعف البشَرَة، حمَلَ العجز على التفلُّت من هذا الضعف، عدم القدرة على التخلّص من هذا الضعف والشعور بهذا الضعف. وهذا كلّه ليرُدَّنا، إلى الموضوع الأساس الذي هو موضوع العقم.

“من ثمارهم تعرفونهم” (مت 7: 16). فالبشريّة، منذ أن سقطت، سقطت في الضعف وتالياً في العقم. وأيّ عقم؟ العقم الذي يصيب الإنسان عندما ينفصل عن الله.

إنجيل اليوم، في أحد النسبة، لم ترد فيه إلاّ سلالة خاطئة، مريضة، سلالة قاتلة، زانية، سلالة أهواء. لكنّ هذه السلالة كانت حامِلةً لروح الله الذي خُلقَت عليه في آن… والعقم أصابها لأنّها لم تَعُد ترى الإله لتعبده، بل صارت تدور حول نفسها لتعبدها… ليس من خطيئة، بل لا يمكن أن يدخل الإنسان في خطيئة وأن يقع في خطيئة وأن يمارس خطيئة، إلاّ حين يعبد نفسَه. عبادة الله الحيّ تُحيي الإنسان، أما عبادة الإنسان لذاته فهي تُمْرِضه وتُسقطه في العقم…

وما هو العقم؟ ألاّ نُنجِب أولاداً؟ لا، العقم هو ألاّ نعمل أعمالاً صالحة إلهيّة… هذا هو عقم البشريّة الذي تجسّد الربّ يسوع ليخلّصها منه… والذي لا يزال الإنسان بعد التجسُّد وبعد الميلاد ساقطاً فيه.

العقم، يا أحبّة، هو أن لا نلد الكلمة كلّ لحظة في حياتنا، أن لا تتفتّح الكلمة الإلهية التي انغَرَزَت بالروح القدس فينا، يومَ نَفَخَ الله روحَه في منخرَي آدم. في ذلك الوقت أعطانا الإله روحه… العقم هو أن لا نسلك بحسب ذاك الروح الإلهي. لذلك يبقى الإنسان عقيماً من كل عمل برّ وصلاح ومن كل إمكانية تطبيق للوصيّة الإلهية التي أعطانا إيّاها الله. ومِثالُ العقم ما كان ممكناً لنا أن نفهمه لو لم نكن قد رأيناه في الجسد مع زكريا وأليصابات ويواكيم وحنّة… زكريا وأليصابات كانا عائشَين في عقم الإنجاب سنوات طويلة جداً… وزكريا كان كاهنَ العليّ، لكنّ الله لجمه بالعقم أي سَمَح بأن يكون هو وزوجه عقيمَين ليُرينا، بالضبط، أنه حتى البشر الذي يخدمون الله يبقون في العقم إذا لم يُعطهم ربُّنا الولد، إذا لم يُعطهم هو الميراث… وعندما أُعطيَ هذان الإثنان الميراث، أُعطِيا يوحنا المعمدان الذي هو مولود العقم البشري وابن الخصب الإلهي… هو ابن العقم البشري وابن العطاء الإلهي. منذ ذلك الوقت ونحن المسيحيّين نرى الحياة الروحيّة هكذا. نرى حياتنا وكياننا برمّته في الضعف والعقم ما لم يلمسه روح الربّ القدوس ليخصبه…

يوحنّا المعمدان وُلِد حاملاً روح الله، حاملاً الروح القدس… ولو لم يكن حاملاً لروح الله ما كان ليرتقص حين وصلت مريم العذراء الحامل أيضاً، بحال سريّة من العقم البشري، بل من عدم إمكانية الإيلاد إذ هي لم تعرف رجلاً، بل حبلت بكلمة الله بالروح القدس… ما كان ممكناً للجنين يوحنّا أن يسجد في أحشاء أمّه أليصابات للطفل الإلهي ويهتف بفمها: “كيف لي أن تأتي أمُّ ربّي إليّ…”

هكذا أوْلَدَ العقم الأول الخطيئة في آدم وحوّاء، وبعد آلاف السنوات وُلدَ السابق من العقم البشري ووُلد الربّ يسوع المسيح من بطنٍ عذريّ وأحشاء عذريّة.

بشارة التجسُّد والميلاد هما بداية هذه الحياة التي أُعطيناها مجاناً لنعرف فيها المسيح ونؤمن بأنه هو مخلّص العالم…

كثيرون من الناس يتحدّثون عن المغارة والعتمة والظلمة، حتى الكتب الكنسيّة والقراءات، لتُشبِّه وتقرِّب للبشر المفهوم أن الأنسان ساكن في الظلمة وظلال الموت وقد أتى الربّ لينير حياتنا إليه… والخوف أننا نتغنّى كثيراً، حتى في الكنيسة، نتغنّى بالمذود والنجم والرعاة والمجوس والمغارة والحيوانات. هذه كلّها كانت لتدُلّنا على أنّ الإنسان ما لم يسكب الله روحَه فيه فهو لا يفهم شيئاً ولا يعمل شيئاً حسناً قطعياً. المجوس كانوا يحيون طيلة حياتهم يعملون في رصد حركات ومسارات الزمن والكون، فلمّا أتاهم الرسول الملاك وناداهم ليذهبوا ويَرَوا، سمعوا وذهبوا وراءه… والرعاة كانوا يحيون طيلة حياتهم في الرعاية يجمعون أغنامهم ويسقونها ويطعمونها، ويتوالَدون ثمّ يموتون، هؤلاء أيضاً أتى الملاك وقال لهم: اذهبوا فقد وُلِد المخلّص… والملائكة أيضاً أخذوا أمراً من الله ليذهبوا… كل شيء حصل عندما أطلق الله جبرائيل الملاك ليذهب إلى مريم ويقول لها: ستحبلين وتلدين ابناً ويُدعى اسمُه عمّانوئيل أي الله معنا…

هنا البداية، الله معنا.

الحياة الجديدة أُعطيناها لتبدأ جديداً بعد سقوط الإنسانية وعقمها… الحياة الجديدة بالولادة من بطن التجسّد، من كلمة الإله في حشا العذراء مريم، حوّاء الجديدة أمّ الكون الجديد… كل ما حصل بعد ذلك كان يجب أن يحصل وإلاّ ما كان التجسُّد ليكون.

ميلاد الربّ يسوع هو أساس الكون الجديد، أساس الإنسان الجديد أساس الحياة المسيحيّة، أساس الحياة كلّها… أساس تعرّفنا بالإله، بحضوره معنا وتجسُّده فينا، في أحشائنا، في كياننا، في قلبنا، في داخلنا، في عقلنا، في ذهننا، في روحنا، في حسِّنا… هكذا يبدأ الخصب لنخرج من عقمنا، إذ نقبل البشارة وننفتح حتى نقبل الحبل والميلاد…

قبل أن يأتي الربّ يسوع ويولد فينا، في داخلنا، وقبل أن نعرفه، نحن أيضاً نبقى مسمّرين في العقم. ويومَ نبتعد، في حياتنا اليوميّة، عن تفتيق الوصيّة و سماعه وتطبيقها، فإننا نعود ونسقط في العقم. وهكذا فإنّ حياتنا كلّها تسير على خطّين الواحد بجانب الآخر: العقم والميلاد، العقم والإيلاد، العقم والحياة، الموت والحياة الجديدة…

وتأتي البشارة فنسمع الكلمة… هذا كلّه يحتاج إلى تدريب حياة وعيش، حتى نبدأ بالسّماع، لأننا نحسّ لكننا لا نسمع… والسّماع ليس إحساساً بل هو انفتاح كيانيّ كامل، هو وعيٌ وحضرة. وما تبقّى كلّه أحاسيس ومشاعر وعواطف وانفعالات وردود فعل… لكننا حين نبدأ بالسّماع نكون قد صرنا حاضرين لنتقبّل نزول الكلمة كما الندى على الأرض العطشى وكما البذار في الأرض الجيّدة…

هذا هو مغزى مثال الزارع الذي أتى ليزرع فيسقط البذار على كل نوع أرض ليصل إلى الأرض الجيّدة… حالات الأرض هذه هي كل واحد منّا… ولا يمكن لأحد منّا أن يقول إنه ليس هو كل هذا الحدَث وكل هذا المثال. ليس إنسان أرضاً جيّدة بالكليّة، لا زالت كلّ البشريّة حتى الآن على قارعة طريق وفي الأرض المحجرة والشوك، إلى أن تصل إلى الأرض الجيّدة حين تسمع ما قاله صموئيل للربّ: تكلّم يا ربّ، تكلّم (الآن) فإنّ عبدك بدأ بالسّماع (الآن)… لأنّه في البداية لم يكن يسمع. وكلّ واحد منّا يسمع للحظة إذ يناسبه الكلام ولأنّ حسّاً تحرّك فيه، فيسمع ويطبِّق. لكنّه، بعد خمس وعشر دقائق وساعة وفي اليوم التالي، ينسى فيعود ويسقط في دَنَسه وأهوائه ووسخه وكبريائه وحقده وعدم محبّته وغضبه وانفعاليته وينسى… هكذا هو العمر بأكمله. نحن نحمل هذه “البقجة” التي هي الأرض التي فيها قارعة الطريق والأرض المحجرة المشوِكة، لنصل إلى الأرض الجيّدة بالنعمة الإلهية…

والميلاد يأتي هكذا، بهذه الطريقة، حتى نصل إلى الأمان الكبير، إلى شاطئ الأمان، إلى الاحتضان الكبير الذي هو الموت والصليب والقيامة… كان يجب وكان في تدبير السرّ الخلاصي للبشريّة أن يتجسّد الربّ وأن يولَد في هذا الكون وأن يأخذ هذه البشرة. ولو لم يأخذ بشرتنا، لَما كان أتْحَدَ ذاته بنا. أخذ هذه البشَرَة وهذه الطبيعة الإنسانية كاملة إلاّ الخطيئة… لماذا ما عدا الخطيئة؟ لأنّ الخطيئة موت للإله ولسرّ التجسُّد فينا… الله عندما خلَقَنا إنما خلَقَنا على صورته ومثاله كاملين… فكلّما ابتعدنا عنه وخطئنا سقطنا في العقم… وتجسُّد الإله كان حتى يُرينا ويُسمعنا صوتَه فنَتْبعه على الطريق التي سار هو عليها لنصل معه إلى الموت المحيي…

نحن نتكلّم كثيراً ونتساءل عن كيفيّة قبول الشهداء للشهادة… واليوم بدأنا بغروب عيد الشهيد الكبير أغناطيوس الأنطاكي، نتلمّس كيف وصل هذا الشهيد العظيم إلى القول: أنا أشتاق أن أصير حنطة تُطحَن تحت أنياب الأُسُد لأمجّد ربّي وإلهي…

كيف يقدر الإنسان أن يصل إلى الشهادة، أي إلى الصليب؟!… لا يمكنه أن يصل إلى السّماع وإلى استقبال الربّ ليولد فيه وإلى الحياة مع الربّ يومياً إلاّ بالحبّ. والحبّ الإلهي ليس من هذا العالم. مَن يحبّه الربّ يؤدّبه. الحبّ الإلهي هو تأديب العليّ لنا. لماذا يؤدِّبنا الإله؟ لماذا لا يتعاطى الربّ دائماً معنا بعاطفية فيقول: لماذا تبكي يا بنيّ؟ لا بأس خذْ ما تريد؟!… لأن الإنسان حين يأخذ ما يريد فهو يأخذ الخطيئة. لذلك أتى يوحنّا المعمدان صوتاً صارخاً في البريّة أعدّوا طريق الربّ، توبوا فقد اقترب ملكوت السماوات…

لكن قبل التوبة هناك إعداد. وهذا هو عملنا، في حياتنا اليوميّة مع الربّ يسوع. حياتنا هي حياة إعداد. وكيف نُعدّ أنفسنا؟ نعدّ أنفسنا بالسّماع والطاعة بالإيمان وبالحبّ، وليس هناك طريق آخر. بالسّماع بعد أن نكون قد سقطنا، وكلّنا سقطنا وأثمنا. بعد أن نسقط ونتجرَّح ونسقط ونتجرَّح فإننا نَعي… مَن يخطئ ولا يسمح للخطيئة بأن تغلبه يُجَرَّب ولكنه يقوى على التجربة… كيف؟ بالسّماع، بسماع الكلمة، بالطاعة للإله، بالإيمان به وبحبّه… أنا أسمع وأؤمن بأنّ لديّ إلهاً مخلِّصاً. وهذا الإيمان يجعلني أحبّه أكثر كل يوم لأني أرى أفعاله وحركته في جسدي ونفسي وكياني، في التغيير الذي يقيمه فيّ كل يوم. حين أصل إلى هذه الحالة من الرؤية أحبّه بالأكثر، والحبّ يلد حبّاً. والحبّ الإلهي يلد معرفة، والمعرفة تلد كياناً داخلياً ثابتاً وإرادة خلاص فأسير، يوماً فيوماً، ساعة فساعة، لحظة فلحظة، في قطع مشيئتي. لأنّ مشيئتي الشخصيّة هي مشيئة السقوط، أما الطاعة له وصُنع مشيئته، فدخول في حريّة أبناء الله…

القدّيسون كانوا يكرهون أنفسهم. ليس من قدّيس أحبّ نفسه قطعياً… كل مَن يحبّ نفسه لا يزال في البشَرَة وفي حالة السقوط، كل مَن يُدغدِغ عواطفه ولا يُلزِم نفسَه بجرأة القتال مع نفسه والتطاحن معها حتى يغلبها بالكلمة الإلهية والوصايا ويكسرها ويلجمها في العين والشمّ والذوق واللباس والحركة والفكر والنطق… كل مَن لا يعرف أنّه ابن السقوط وتالياً ابن العقم، هذا لا يمكنه أن يضع نفسه تحت يديّ ربّنا ليفتح أبواب جحيم نفسه ويندّيه بندى طريّ حنون كلّ يوم…

الربّ تجسّد حتى يحملنا من إرادة السقوط والعقم والموت إلى إرادة الحياة بالموت عن أنفسنا… هو استعمل ما هو موجود حتى يرينا غيرَ الموجود والفائق الطبيعة. استعمل الطبيعة الساقطة حتى يُخرجنا إلى الفائق الطبيعة. أقام في الظلمة حتى يُخرجنا منها إلى نوره هو. ذاق الموت حتى ننتقل من موت الجسد وموت الأهواء وموت الدناءة والسقوط والأنا إلى حياة الحضور الإلهي. لذلك في القدّاس الإلهي الذي هو العطيّة التجسُّدية الكاملة للحضور الإلهي نهتف: “القدسات للقدّيسين”، ونحن نُجيب: “قدّوس واحد ربّ واحد يسوع المسيح في مجد الله الآب آمين”.

إذن الإنسان مشروع قداسة… ونحن خُلقنا لنصير قدّيسين مثل القدّوس الذي أعطانا الحياة. لكنْ مع هذه القداسة وهذا الحسّ الحياتي بالحضرة الإلهية، يتلازم فينا الموت والجحيم والعقم حتى نعرف أننا بأنفسنا لا يمكننا أن نأتي عملاً صالحاً واحداً. وحين نعرف ونتيقَّن أنّه ليس فينا عمل صالح واحد وأنّ كل شيء هو بنعمة من ربّنا، نرصده حتى في أبسط الأمثلة. فإن المائدة التي اعتَدْنا أن نعدّها عشرَ وخمسَ عشرة سنة، إنْ لم نكن محمولين بالنعمة الإلهية، فإننا نعدّها بشكل غير صحيح… بدون النعمة نحن نكسر، نخربط، نكذب، نسرق، نزني، نتعظّم، ننمّ، نغضب ونكره.

هذا هو الإنسان، هذا هو العقم البشري، هذا هو السقوط الذي أوْلَدَ العقم. سقوط الإنسان أوْلَد العقم. أما ميلاد الربّ يسوع المسيح فأوْلَد الإيمان والحياة إلى الموت المحيي على صليب أنانا…

حين يعي الإنسان دناءة نفسه وحقارتها وميوعتها ولزاجتها وأهوائيتها وعنادها واستكبارها وعبادتها لذاتها، يبدأ بكره نفسه، بالكره المقدّس. انظروا كيف يستعمل الله الموجود حتى يُبْطله فنصير إلى اللاموجود الذي هو حياتُه الروحيّة، هو يستعمل الكره حتى نحبّ. فحين نكره أنفسنا نحبّه هو بالأكثر ونسير يوماً فيوماً في هذه الحالة من الكره لأنفسنا والاشمئزاز من خطيئتنا ومعرفة أهوائنا، على الطريق لنصل إليه!!!

“ماراناثا”… تعال يا ربّي تعال، خلّصني من ذاتي. وهو يغدق في تلك اللحظة نعمة القيامة في موتنا. يختار الموت لنا… لا أحد منّا يختار الموت لنفسه، لا في الشهادة ولا في الحياة اليوميّة ولا في الرهبنة ولا في الحياة في المجتمع. لا أحد منّا يختار أيّ شيء لنفسه. “أنا اخترتكم، لستم أنتم الذين اخترتموني” (يو 15: 16). أنا أحببتكم، لستم أنتم الذين تحبّونني… هكذا يولَد الربّ فينا بالموت عن أنفسنا. لا يمكن أن يولَد الربّ في أحشائنا، يا أحبّة، إنْ كنّا لا نزال بعدُ أحياء في إنساننا العتيق… هو يُميت شيئاً منّا ويولَد. وكلّما استنار هذا الكيان الداخلي تموت الظلمة ويموت إنساننا العتيق، حتى إنه مع حياتنا اليوميّة المنتبهة الصابرة المتّضعة المنكسرة المُحبّة الباذِلة لنفسها والسامعة، نصل إلى الإتحاد به في موت محيٍ… “خلّصني يا ربّي من جسد الموت هذا”. وينقلنا إلى النور، إلى الحياة الأبدية.

هكذا إن أحببنا الربّ يسوع أكثر من أنفسنا نسلك في الأمانة. والأمانة هي من الإيمان، من الحبّ، من السّماع والعيش.

ألا أعطانا الله أن نصل إلى ذلك ونستمرّ في ذلك حتى نلتقي وجهه القدّوس. آمين…

الراهبة الأم مريم
رئيسة دير القدّيس يوحنّا المعمدان
دوما – لبنان
عن مجلة التراث الأرثوذكسي

arArabic
انتقل إلى أعلى