Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

(ذاك الذي كان مخلصنا المنظور ساكن الآن في الأسرار).
ليون الكبير، بابا رومية.

تشغل الأسرار مكاناً رئيسياً في العبادة المسيحية. ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم متكلماً عن سر الشكر: (نسّميه سراً، لأن الذي نؤمن به ليس هو ما نراه تماماً، بل إننا نرى شيئاً ونؤمن بشيء آخر… فحينما أسمع أحداً يذكر جسد المسيح، أفهم معنى ما يقال على غير ما يفهمه من لا يؤمن) {المواعظ في الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس، 7، 1}. هذه الثنائية لما يُرى وما لا يُرى في كل سر مقدس هي خاصته المميزة. فالأسرار، كما الكنيسة، منظورة وغير منظورة، ويوجد في كل إشارة خارجية ونعمة داخلية. والمسيحي أثناء معموديته، يُغطّس بالماء الذي يغسله من أقذاره كما يغسله في الوقت نفسه من خطاياه. في سر الشكر، يتناول المرء ما يبدو أنه خبز وخمر، لكنه في الواقع يأكل جسد المسيح ودمه الكريمين.

الكنيسة في معظم الأسرار المقدسة، تستعين بالعناصر المادية – من ماء وخبز وخمر وزيت – وتجعَل منها أداة لنقل الروح القدس. بهذا المعنى تنطلق الأسرار من التجسد، حيث بالتجسد اتخذ المسيح لنفسه جسداً مادياً وحوّله إلى أداة تحمل الروح القدس. كذلك الأسرار تتطلع أو بالأحرى تدشن فداء المادة الأخير (واستعادتها) الذي سيحصل في يوم الدينونة.

وتتكلم الكنيسة الأرثوذكسية عادة عن سبعة أسرار: المعمودية، مسحة الميرون، سر الشكر، التوبة أو الاعتراف، الكهنوت، الزواج ومسحة المرضى.

لم يجرِ تثبيت هذه اللائحة نهائياً إلاّ في القرن السابع عشر، بتأثير اللاتين الذي كان وقتئذ في أَوجِهِ. وقد كان الكتّاب الأرثوذكسيون قبل ذلك يختلفون اختلافاً كبيراً حول عدد الأسرار، فيوحنا الدمشقي يتكلم عن سرين فقط، وديونيسيوس الأريوباغي يحدثنا عن ستة، أما يوشافاط متروبوليت أفسس (في القرن الخامس عشر) فيذكر عشرة وهنالك عدد من اللاهوتيين البيزنطيين يتفقون على سبعة أسرار لكنهم يختلفون على نوعيتها. وحتى الآن لم يتخذ العدد سبعة أية دلالة عقائدية مطلقة في اللاهوت الأرثوذكسي، وهو لا يُستخدم في غالب الأحيان إلاّ من أجل تسهيل العليم الديني.

أما أولئك الذين يفكرون بمنطق (الأسرار السبعة) فعليهم أن يكونوا حذرين ويتجنبوا سوء الفهم الذي قد ينشأ عنه. أولاً، على الرغم من أن جميع الأسرار حقيقية، فإنها لا تتمتع جميعها بنفس الأهمية، وثمة تسلسل مراتبي لها. فسر الشكر مثلاً هو في قلب الحياة المسيحية على نحو مختلف عمّا هو عليه سر مسحة المرضى بالزيت. ومن بين الأسرار السبعة، تحتل المعمودية وسر الشكر مكانة خاصة.

ثانياً، حينما نتحدث عن الأسرار السبعة، فلا ينبغي لنا أن نفصلها عن أعمال أخرى تتخذ هي بدورها طابع الأسرار، أعني بذلك كل الخدم التقديسية، كارتداء الاسكيم الرهباني، وتبريك المياه في عيد الظهور الإلهي، وخدمة الجناز، ومسح الزيت عند تتويج الملوك، الخ… ففي جميع الخدم هذه، هنالك إشارة منظورة ونعمة روحية غير منظورة. والكنيسة الأرثوذكسية تستخدم أيضاً عدداً كبيراً آخر من الخدم التبريكية الصغيرة التي هي من طبيعة الأسرار المقدسة، كالصلاة على القمح والخمر والزيت والفاكهة، ومباركة الحقول والمساكن والأشياء المختلفة. لهذه الخدم الصغيرة ومعظم الأحيان هدف عملي واقعي، إذ توجد صلوات لتكريس السيارات والقاطرات وحتى من أجل القضاء على الديدان المؤذية. وليس ثمة فرق جذري بين الأسرار الأساسية وأفعال التكريس هذه، إذ يجب أن يُنظر للحياة المسيحية كوحدة، وكسر واحد كبير يجري التعبير عن مختلف جوانبه من خلال مجموعة من الصيغ والأساليب، بعضها يمارس مرة واحدة فقط في حياة الإنسان، والبعض الآخر قد يمارس كل يوم تقريباً.

والأسرار المقدسة تخص كل شخص بمفرده، إذ فيها يكتسب كل إنسان افرادياً نعمة الله ولهذا السبب يُسمّي الكاهن كل مؤمن باسمه الخاص عند ممارسة معظم الأسرار. فعند المناولة يقول الكاهن: (يُناول عبد الله (فلان) جسد ودم ربنا يسوع المسيح). وعند القيام بسر مسحة الزيت للمرضى يقول: (يا أبتاه القدوس… اشف عبدك هذا (فلان) من الأمراض النفسانية والجسدية المستحوذة عليه..).

المعمودية

في الكنيسة الأرثوذكسية اليوم، كما في كنيسة القرون الأولى ترتبط الأسرار الثلاثة الخاصة بالدخول إلى الحياة المسيحية وهي المعمودية والميرون وسر الشكر، ارتباطاً وثيقاً بعضها ببعض. والأرثوذكسي الذي يصبح عضواً في جسد المسيح يتلقى في الحال جميع امتيازات هذه العضوية. فلا يقتصر الأمر على عمادة الأولاد في سن مبكرة، بل يُمسحون كذلك بالميرون كما أنهم يناولون جسد ودم الرب: (دعوا الأولاد يأتون إليّ ولا تمنعوهم لأن لمثل هؤلاء ملكوت السموات) (متى14:19).

وهناك عنصران أساسيان في المعمودية: توسل اسم الثالوث، والتغطيس المثلث في الماء. يقول الكاهن: (يُعمَّد عبد الله (فلان) باسم الآب، آمين. والابن، آمين. والروح القدس، آمين!). وفي كل مرة يذكر فيها أحد أقانيم الثالوث القدوس، يغطّس الكاهن الطفل في جرن المعمودية، يغطّسه كلّه، وفي حالات خاصة يصب الماء على جسده كله. وإذا كان الشخص طالب المعمودية مريضاً بحيث تتعرض حياته للخطر من جرّاء التغطيس فيُكْتَفَى بصبّ الماء على جبينه. فيما عدا ذلك فإن التغطيس ليس بالشيء الذي يمكن إلغاؤه.

والأرثوذكسيون يتطلعون بأسف إلى تخلي الكنيسة الغربية عن طقس التغطيس القديم واكتفائها بصب قليل من الماء على جبين طالب المعمودية. والتغطيس أساسي في نظر الأرثوذكسية (إلاّ في الحالات الاستثنائية) لأنه بدونه تنقطع الصلة بين الإشارة الخارجية والمعنى لداخلي، وتُفقد رمزية السر. المعمودية ترمز سرياً إلى الدفن والقيامة مع المسيح (رو 4:6- 5 وكولوسي 12:2). والإشارة الخارجية لهذا السر هي التغطيس في الجرن متبوعاً بخروج المعمَّد من الماء. فرمزية السر تستوجب إذاً التغطيس أو (الدفن) في مياه المعمودية ومن ثم (النهوض) منها.

نحصل في المعمودية على غفران كل خطايانا الأصلية والحالية. ونحن (نلبس المسيح) إذ نصبح أعضاء في جسده، أي في الكنيسة. ومن أجل تذكر هذا اليوم يعلّق المسيحيون الأرثوذكسيون على العموم صلباناً صغيرة تتدلّى من أعناقهم.

الأسقف أو الكاهن يتولى القيام بالمعمودية، وفي الحالات الاستثنائية يجوز ذلك للشماس أو لأحد العلمانيين شريطة أن يكون مسيحياً. وفي حين يوافق اللاهوت الكاثوليكي على معمودية لا يقوم بها إنسان مسيحي، فإن الأرثوذكسية لا تعترف بمعمودية كهذه. فالشخص الذي يُعمِّد لا بدّ وأن يكون قد تعمَّد.

مسحة الميرون

مسحة الميرون تلي المعمودية مباشرة. يتناول الكاهن الميرون ويمسح به أماكن مختلفة من جسم الطفل مع رسم إشارة الصليب: يبدأ أولاً بالجبين، ثم العينين، ثم الأنف، ثم الفم والأذنين، ثم الصدر، ثم اليدين والرجلين. وعند كل مسحة يقول: (ختم موهبة الروح القدس، آمين). والطفل الذي أصبح عضواً في جسد المسيح بالمعمودية، يتلقى بمسحة الميرون موهبة الروح القدس ويصبح (علمانياً) (Laikos) أي عضواً كاملاً في شعب الله (Laos tou Theou). فسر الميرون يتمم العنصرة، فالروح القدس الذي حلّ على الرسل على نحوٍ منظور وعلى شكل ألسنة نارية هو نفسه يحلّ بصورة غير منظورة على المعمَّد الجديد. بسر الميرون هذا، يتحوّل كل عضو في الكنيسة إلى نبيّ ويصبح شريكاً في كهنوت المسيح الملوكي. وجميع المسيحيين، لأنهم مُسحوا بالميرون، مدعوون لأن يكونوا شهوداً وأعين للحقيقة: (وأما أنتم فلكم مسحة من القدوس وتعلمون كل شيء) (1 يو 20:2).

في الغرب، يتم (التثبيت) عموماً بواسطة الأسقف، أما في الشرق فيعطي سر الميرون بواسطة الكاهن، شرط أن يكون الميرون المستعمل قد كرّسه الأسقف. (وفق العرف الأرثوذكسي المتّبع، وحده الأسقف الذي يرئس كنيسة مستقلة يتمتع بامتياز تكريس الميرون). هكذا فإن الأسقف – سواء في الشرق أو الغرب – هو المُعنى بالسر الثاني المتعلق بالدخول في الحياة المسيحية، ويتم ذلك في الغرب بصورة مباشرة وأمّا في الشرق فبصورة غير مباشرة.

ويُستخدم سر مسحة الميرون أيضاً في حالات المصالحة مع الكنيسة، أو الارتداد إليها. إذا جحد أحد الأرثوذكسيون ثم عاد إلى أحضان الكنيسة، عندها يمسح بمسحة الميرون من جديد. كذلك بالنسبة للكاثوليك الذين يهتدون إلى الأرثوذكسية، تعمد معظم الكنائس الأرثوذكسية في الشرق على العموم إلى مسحهم بالميرون عند قبولهم في شركتها. لكن الكنيسة الروسية عموماً لا تطلب إليهم سوى اعتراف إيماني ولا تفرض عليهم الميرون. أما الانجليكان وسائر البروتستانت فيُقبلون دائماً بواسطة سر الميرون.

بعد تلقي مسحة الميرون بأسرع ما يمكن يُناول الطفل الأرثوذكسي دون النظر إلى سنه. وهو لا يتقدم إذاً للمناولة الأولى في سن السادسة أو السابعة (كما عند الكاثوليك) أو في سن المراهقة (كما عند الانجليكان).

سر الشكر

القداس الإلهي:

يُحتفل بسر الشكر في الكنيسة الأرثوذكسية في ظل واحدة من الخدم الأربع التالية:

  • أ- خدمة القداس الإلهي لأبينا الجليل في القديسين يوحنا الذهبي الفم (وهو القداس العادي أيام الآحاد وفي بحر الأسبوع).
  • ب- خدمة القداس الإلهي لأبينا الجليل في القديسين باسيليوس الكبير (وتُستخدم عشر مرات في السنة. وتختلف قليلاً، في الظاهر، عن خدمة قداس الذهبي الفم، والصلوات السرية التي يتلوها الكاهن أكثر طولاً).
  • ج- خدمة القداس الإلهي للقديس يعقوب أخي الرب (وتقام مرة في السنة، في عيد القديس يعقوب الواقع فيه 23 تشرين الأول، وفي بعض الأماكن فقط {إلى وقت قريب جداً لم يستخدم إلاّ في القدس وفي جزيرة زانت اليونانية. وقد أعيد استعماله مؤخراً في عدد من الأماكن منها الكنيسة البطريركية في اسطنبول، والكاتدرائية اليونانية في لندن ودير جوردان فيل الروسي في الولايات المتحدة وبعض الرعيا الأنطاكية}).
  • د- خدمة القدسات السابق تقديسها البروجيازمينا (وتقام في أيام الأربعاء والجمعة من الصوم الكبير وفي الأيام الثلاثة الأولى من الأسبوع العظيم. ولا يُصار فيها إلى تقديس القرابين أثناء الخدمة، ولكن تجري المناولة من قرابين (سبق تقديسها) أثناء قداس الأحد السابق).

إن بنية قداس {لمزيد من الاطلاع راجع: (مدخل إلى القداس الإلهي) لكوستي بندلي، و (مائدة الرب) لاثناسييف، منشورات النور (الناشر)} كلّ من القديسين يوحنا الذهبي الفم وباسيليوس الكبير في خطوطها العريضة هي كالآتي:

  • 1- التقدمة، حيث يتم إعداد الخبز والخمر اللذين سيستعملان في الإفخارستيا.
  • 2- قداس الموعوظين.

آ- بدء الخدمة

الطلبة السلامية الكبرى

المزمور 102 (103) {جرت العادة في الرعايا الأنطاكية ألا تتلى المزامير إلاّ في الأعياد الكبرى (الناشر)} والانتيفونا الأولى: (بشفاعات والدة الإله يا مخلص خلصنا)

الطلبة الصغرى

المزمور 145 (146) والانتيفونا الثانية (خلصنا يا ابن الله…) تتبعها ترنيمة (يا كلمة الله الابن الوحيد…)

الطلبة الصغرى

التطويبات {جرت العادة ألا تُتلى هذه التطويبات في القداديس العادية في الرعايا الأنطاكية (الناشر)} مع طروباريات النهار

ب- الدورة الصغيرة (أو الايصودن الصغير) تتبعها ترنيمة (هلموا نسجد ونركع للمسيح)… والطروباريات والقنداق.

التريصاجيون أي ترنيمة (قدوس الله، قدوس القوي، قدوس الذي لا يموت، ارحمنا) التي ترتل ثلاث مرات أو أكثر.

ج- تلاوة نصوص من الكتاب المقدس

البروكيمنن وهي آيات تُختار على العموم من المزامير

الرسالة

هلّلوليا تُنشد تسع مرات وأحياناً ثلاثة فقط تتخللها آيات من الكتاب المقدس

الإنجيل

العظة

د- صلوات من أجل الكنيسة

الطلبة من أجل كل أعضاء الكنيسة الأحياء

الطلبة من أجل الراقدين

الطلبة من أجل الموعوظين وخروج الموعوظين {لا تُتلى هذه الطلبة في كثير من الأماكن في أيامنا هذه (الناشر)}

  • 3- قداس المؤمنين

آ- إفشين من أجل المؤمنين

الدورة الكبرى (أو الايصودن الكبير) مصحوبة بترنيمة الشاروبيكون: (أيها الممثلون الشاروبيم سرياً…) وتتبعها طلبة كبرى).

ب- قبلة السلام وتلاوة دستور الإيمان.

ج- قانون الشكر وهو مقسم على الشكل التالي:

– المقدمة

– صلاة الشكر التي تنتهي بذكر أحداث العشاء الأخير وبأقوال المسيح: (هذا هو جسدي… وهذا هو دمي…).

– إحياء ذكرى موت المسيح، والدفن والقيامة، والصعود، والمجيء الثاني، وتقديم القرابين لله.

– استدعاء الروح القدس على القرابين.

– ذكر جميع أعضاء الكنيسة: والدة الإله، والقديسين، والراقدين، والأحياء.

– طلبة تتبعها الصلاة الربانية.

د- رفع القرابين المكرّسة وكسرها.

هـ- مناولة الكاهن ثم الشعب.

و- إنهاء الخدمة بصلاة الشكر والبركة الختامية وتوزيع البروتي.

يتمم الكاهن والشماس القسم الأول من القداس، أي خدمة التقدمة، على انفراد داخل الهيكل وعلى المائدة. ويتضمن القسم العلني من الخدمة مرحلتين: قداس الموعوظين (وهي خدمة يوجد فيها ترانيم وصلوات وقراءات من الكتاب المقدس، وقداس المؤمنين أو الإفخارستيا بحد ذاتها. في السابق كان يُحتفل في كثير من الأحيان بقداس الموعوظين والإفخارستيا بصورة منفصلة، لكنهما ضُمّا كخدمة واحدة ابتداء من القرن الرابع. ويتضمن كل منهما ما يسمى بالدورة الصغيرة والدورة الكبيرة. في الدورة الصغرى يجري الطواف بالإنجيل في الكنيسة، وفي الدورة الكبرى يجري الطواف بالخبز والخمر (اللذين أحضرا أثناء التقدمة من المائدة ليوضعا على المذبح). ولكل من القداسين قمة، هي تلاوة الإنجيل بالنسبة لقداس الموعوظين وحلول الروح القدس على القرابين بالنسبة لقداس المؤمنين.

والعقيدة الأرثوذكسية حول الإفخارستيا تظهر بوضوح في قانون الشكر. يتلو الكاهن بصوت منخفض بداية قانون الشكر، حتى الفترة التي يصل فيها لأقوال المسيح في العشاء الأخير: (خذوا، كلوا، هذا هو جسدي… واشربوا منها كلكم، هذا هو دمي…) التي تُتلى دائماً بصوت عالٍ يسمعه جميع الحاضرين. ثم يتابع الكاهن بصوت منخفض:

(… ونحن بما أننا متذكرون هذه الوصية الخلاصية وكل الأمور التي جرت من أجلنا، الصليب، والقبر، والقيامة ذات الثلاثة الأيام، والصعود إلى السموات، والجلوس عن الميامن، والمجيء الثاني المجد أيضاً…)، ومن ثم بأعلى صوته:

(التي لك مما لك نقدمها لك على كل شيء ومن جهة كل شيء).

وهنا تجري صلاة استدعاء الروح الدس التي تُتلى بصوت خافت، ولكن ليست هذه قاعدة مطلقة:

(أرسل روحك القدوس علينا وعلى هذه القرابين الموضوعة. واصنع أما هذا الخبز فجسد مسيحك المكرم. آمين.

وأما ما في هذه الكأس فدم مسيحك المكرم. آمين.

محولاً إياهما بروحك القدوس.

آمين. آمين. آمين.) {كل هذه النصوص مقتبسة عن قداس الذهبي الفم وتختلف قليلاً عن نصوص قداس باسيليوس}.

يسجد الكاهن والشماس فور ذلك أمام القرابين التي تم تقديسها الآن.

وبديهي أن الأرثوذكسيين والكاثوليك يفهمون (وقت) تقديس القرابين بشكل مختلف. حسب اللاهوت اللاتيني، يتم التقديس من طريق كلام التأسيس أي: (هذا هو جسدي… هذا هو دمي). أما حسب اللاهوت الأرثوذكسي، فإن فعل التقديس لا يكتمل قبل استدعاء الروح القدس. وتُحرّم الكنيسة الأرثوذكسية تكريم القرابين المقدسة قبل هذه اللحظة. لكنّ التعاليم الأرثوذكسية لا تقول بأن التقديس يتم من طريق استدعاء الروح القدس فقط، ولا تعتبر أن كلام التأسيس كلاماً عابراً أو قليل الأهمية. إنها بالعكس من ذلك تعتبر قانون الشكر كُلاً لا يتجزأ، حيث أن أقسامه الرئيسية الثلاثة، أي صلاة الشكر، وذكرى حياة المسيح، واستدعاء الروح القدس، تشكل جزءاً لا يتجزأ في فعل واحد هو فعل التقديس. ولكن إذا جاز اختيار وقت معيّن للتقديس، فلا بد أن يكون بعد الانتهاء من تلاوة عبارة: آمين في آخر صلاة استدعاء الروح القدس.

حضور المسيح في الإفخارستيا:

كلمات استدعاء الروح القدس تدل دلالة واضحة على أن الكنيسة الأرثوذكسية تؤمن بأن الخبز والخمر يستحيلان حقيقة بعد التقديس إلى جسد المسيح ودمه، وأنهما ليسا رمزين لهذا الجسد وهذا الدم بل هما الجسد والدم عينهما. ولكن مع تأكيدها على حقيقة الاستحالة، لم تحاول الأرثوذكسية قط تفسير الطريقة التي تجري بها. والعبارات المستخدمة في قانون الشكر للدلالة على هذا الأمر، أي: (ناقلاً إياهما) لا تُعطي أي توضيح. وصحيح أن بعض الكتّاب الأرثوذكسيين في القرن السابع عشر، وحتى بعض المجامع، مثل مجمع أورشليم السنة الـ1672، استخدموا عبارة (استحالة الجوهر) (Transubstantiatio) اللاتينية، كما استعملوا التمايز الذي تحدثت عنه المدرسة السكولستيكية بين الجوهر والأعراض. لكن آباء مجمع أورشليم أضافوا في الوقت نفسه قولهم بأن استخدام مثل هذه التعابير لا يعني تفسيراً للطريقة التي تتم بها الاستحالة، لأن ذلك سرٌ ينبغي أن يظل دائماً غير مفهوم {تميز فلسفة العصر الوسيط بين الجوهر (الذي يكوّن الشيء، ويجعله ما هو عليه) والأعراض أو الصفات التي تخص الجوهر (أي كل ما تدركه الحواس: الحجم، الوزن، الشكل، اللون، الذوق، الرائحة الخ…). والجوهر شيء موجود بذاته (ens per se)، أما الأعراض فموجودة في داخل شيء غيرها ليس إلاّ (ens in alio). إذا ما طبقنا هذا التمايز على الإفخارستيا، فإننا نصل إلى عقيدة (استحالة الجوهر). وفق هذه العقيدة، عند تقديس القرابين في القداس الإلهي يحدث تغيير في الجوهر في حين تظل الأعراض هي هي. فجوهرا الخبز والخمر يتغيران إلى جوهري جسد المسيح ودمه، لكن أعراض الخبز والخمر، أي لونهما ورائحتهما الخ…، تستمر في الوجود على نحو عجائبي وتبقى خاضعة لإدراك الحواس}. ولكن على الرغم من هذا، أحسّ الكثيرون من الأرثوذكسيين بأن المجمع قد ذهب بَعيداً في التوافق مع التعبير اللاتيني والسكولستيكي. وفي السنة الـ1838 أصدرت الكنيسة الروسية ترجمة لأعمال مجمع أورشليم، استعملت فيها تعبير (Transubstantiatio) لكنها تجنّبت ذكر تعابير الجوهر والأعراض، وذلك من طريق تحوير النص الأصلي {يوضح هذا المثال كيف أن الكنيسة هي (انتقائية) في موافقتها على قوانين المجامع المحلية}.

والكتّاب الأرثوذكسيون المعاصرون ما زالوا يستخدمون تعبير (استحالة الجوهر) ولكن مع التشديد على نقطتين: أولاً، يمكن استخدام الكثير من الكلمات الأخرى، وبشكل مشروع، للدلالة على التقديس. من هذه الكلمات، ليس لتعبير (استحالة الجوهر) سلطة حاسمة. ثانياً، استخدام العبارة بالضرورة قبول معانيها الفلسفية الأرسطوطالية. والموقف الأرثوذكسي العام بشأن هذه القضية موجز بوضوح في (التعليم الديني الموسّع) الذي كتبه فيلاريت، متروبوليت موسكو (1782- 1867)، والذي أقرته الكنيسة الروسية السنة الـ1839:

سؤال: (كيف ينبغي أن نفهم عبارة (استحالة الجوهر)؟

جواب: (….. كلمة (استحالة الجوهر) لا تحدد الطريقة التي يتغيّر بها الخبز والخمر إلى جسد الرب ودمه. فهذا لا يستطيع أن يفهمه أحد غير الله. لكن الكلمة تدل فقط على أن الخبز يتحوّل في الواقع والحقيقة والجوهر إلى جسد ربنا يسوع المسيح والخمر يصبح الدم الحقيقي للرب).

وكذلك يذكر (التعليم الديني الموسّع) استشهاداً من يوحنا الدمشقي: (إذا كنتم تسعون لمعرفة كيف يتم ذلك، يكفي أن تعلموا بأن ذلك يتم بواسطة الروح القدس… ولا نعرف شيئاً أكثر من أن كلام الله صحيح وفاعل وكلّي القدرة، ولكنه يفوق الإدراك) {(في الإيمان الأرثوذكسي)، 4، 13}.

وتظل القرابين المقدسة، في معظم الأحيان، محفوظة في كل كنيسة أرثوذكسية في مكان خاص داخل الهيكل. ولكن لا تُعرض للعبادة، كما هو شائع في الكنيسة الكاثوليكية. خلال القداس الإلهي، يبارك الكاهن المؤمنين بالقرابين المقدسة، ولكن ليس خارج هذه الفترة أبداً.

الإفخارستيا كذبيحة:

تؤمن الكنيسة الأرثوذكسية أن الإفخارستيا هي ذبيحة. والتعليم الأرثوذكسي بهذا الشأن واضح جداً في النص الليتورجي نفسه: (التي لك، مما لك، نقدمها لك، على كل شيء ومن جهة كل شيء).

1) (التي لك مما لك): الذبيحة التي تُقدم في الإفخارستيا هي المسيح نفسه، والمسيح نفسه هو الذي يقوم في الكنيسة بفعل التقدمة. فهو الكاهن والضحية في آن واحد: (أنت الموزِّع والموزَّع… والمقرِّب والمقرَّب…) {صلاة الكاهن قبل الدورة الكبرى}.

2) (نقدمها لك): الإفخارستيا تُقدم لله الثالوث ليس للآب فقط، بل كذلك للروح القدس وللمسيح نفسه {كما أعلن مجمع القسطنطينية السنة الـ1157}. هكذا حين نسأل: ما هي ذبيحة الإفخارستيا ؟ ومن ذا الذي يقدمها ؟ وإلى من تُقدَّم ؟ فالجواب في كل مرة هو: المسيح.

3) (على كل شيء ومن جهة كل شيء): إن الإفخارستيا حسب اللاهوت الأرثوذكسي ذبيحة تكفير تُقدم عن الأحياء والأموات.

فذبيحة المسيح إذاً هي الذبيحة التي تُقدم في الإفخارستيا، ولكن ما الذي يعنيه ذلك ؟ نظريات اللاهوتيين عديدة بهذا الشأن، والكنيسة رفضت بعضها باعتبارها غير ملائمة، لكنها لم تدعم قط بصورة نهائية أياً من هذه النظريات. ويوجز نقولا كباسيلاس الموقف الأرثوذكسي كما يلي: (أولاً، الذبيحة ليست مجرد صورة أو رمز، بل هي ذبيحة حقيقية. حمل الله ذُبح مرة واحدة وإلى الأبد… ولا تتمثل الذبيحة في الإفخارستيا في إراقة دم الحمل، بل بتحويل الخبز إلى الحمل المذبوح) {(شرح القداس الإلهي)، 32}.

والإفخارستيا ليست إحياء لذكرى ذبيحة المسيح أو تصويراً خيالياً لها، بل هي الذبيحة الحقيقية عينها. لكنها ليست بذبيحة جديدة، كما أنها ليست تكراراً لذبيحة الجلجلة إذ أن الحمل ذُبح (مرة واحدة وإلى الأبد). جميع عناصر ذبيحة التسبيح، التجسد، والعشاء الأخير، والصلب، والقيامة، والصعود {تشمل ذبيحة المسيح على أكثر من موته. وهذه نقطة عظيمة الأهمية في تعاليم الآباء، كما في الأرثوذكسية}، لا يجري تكرارها في الإفخارستيا، بل هي معاشة من جديد. (خلال القداس الإلهي، وبفعل قوته الإلهية، نُقذف إلى نقطة تلتقي فيها الأبدية مع الزمان. عند هذه النقطة نصبح معاصرين حقيقيين للأحداث التي نحيي ذكراها) {بول افدوكيموف، (الأرثوذكسية)، ص241}. (وجميع العشاءات السرية المقدسة في الكنيسة ليست سوى عشاء سرّي واحد أزلي فريد، عشاء المسيح في العلّية. فالفعل الإلهي نفسه وقع مرة في فترة محددة من التاريخ ويُعاد إحياؤه دائماً في السر المقدس) {المصدر نفسه، ص208}.

المناولة:

في الكنيسة الأرثوذكسية، يتناول الاكليروس والعلمانيون الجسد والدم بالشكلين. تُعطى المناولة للعلمانيين بواسطة ملعقة صغيرة تحتوي على قطعة من الخبز المقدّس وقليل من الخمر المقدّس، يأخذها المؤمن وهو واقف. وتشدّد الأرثوذكسية على ضرورة الصوم قبل المناولة، فلا شيء يمكن أكله أو شربه منذ منتصف الليل {(أولئك الذين يدعون الإمبراطور ينظفون بيوتهم. كذلك أنتم الذين ترغبون في استقبال الله في بيوت أجسادكم، من أجل خلاص حياتكم، عليكم أن تطهروا تلك الأجساد بالصوم) (جيناديوس، الفصول المئة). في حال المرض أو الضرورة القصوى، بوسع الأب الروحي أن يمنح إعفاء من الصوم قبل المناولة}. وتدعو كل حركات النهضة في العالم الأرثوذكسي المعاصر للعودة إلى ممارسة المناولة الأسبوعية، كما كانت عليه الحال في عصور الكنيسة الأولى.

بعد البركة الختامية التي يُختتم بها القداس الإلهي، يقترب المؤمنون لتقبيل الصليب الذي يحمله الكاهن واقفاً أمام باب الهيكل، كما يأخذون قطعة صغيرة من الخبز المبارك تدعى (البروتي). وفي معظم الكنائس الأرثوذكسية، يستطيع غير الأرثوذكسيين ممن يحضرون القداس أخذ البروتي، وذلك عربوناً للأخوّة والمحبة المسيحية.\

سر التوبة

يمارس الطفل الأرثوذكسي المناولة منذ نعومة أظفاره. وحين يصبح كبيراً إلى حد يستطيع معه تمييز الخير من الشر ويفهم ما تعنيه الخطيئة (في سن السادسة أو السابعة)، يبدأ في ممارسة سر جديد آخر هو سر التوبة أو الاعتراف. بهذا السر، تغفر الخطايا التي اقترفها بعد المعمودية ويتصالح الخاطئ مع الكنيسة، لذلك يدعى هذا السر (بالمعمودية الثانية). وفي الوقت نفسه يعمل هذا السر على ترويض النفس، لأن الكاهن لا يمنح حل الخطايا فقط، بل يقدِّم أيضاً الإرشاد الروحي. والاعتراف، في القديم، كان علنياً، لأن الخطيئة لا ترتكب بحق الله وحده وإنما بحق القريب والجماعة أيضاً. ولكنّ الاعتراف أصبح منذ قرون طويلة، سواء في الشرق أم في الغرب، بمثابة محادثة خاصة بين الكاهن والمؤمن. والكاهن ملزَم بالمحافظة على سر الاعتراف محافظة مطلقة.

وليس في الكنيسة الأرثوذكسية كرسيّ اعتراف على الطراز الكاثوليكي، فالتائب والمعرِّف على العموم يقفان معاً أمام الأيقونسطاس، وأحياناً وراء ستاره، أو داخل غرفة مخصصة لهذا الأمر. يقف التائب أمام الصليب أو أيقونة السيّد أو كتاب الأناجيل، ويقف الكاهن إلى جانبه. ووضع الشخصين على هذا النحو يؤكد بأن الله هو الحاكم في الاعتراف، وبأن الكاهن ليس سوى شاهد وخادم الله. ويُشار إلى ذلك أيضاً من خلال قول الكاهن قبل سماع الاعتراف:

(يا ولدي، المسيح موجود هنا بشكل غير منظور ويتقبل اعترافك. لا تخجل ولا تخش شيئاً ولا تخبئ عليّ أي أمر. بل اذكر بدون إحجام كل ما اقترفته، كي تحوز على الغفران من ربنا يسوع المسيح. انظر إلى أيقونته قربنا. وما أنا سوى شاهد يشهد أمامه لكل ما ستقوله لي. ولكن لو أخفيت عني شيئاً، ستقترف ذبناً كبيراُ. تشجّع إذاً، جئت إلى الطبيب، فحذار أن تعود غير معافى) {هذا الإرشاد موجود في الكتب الطقسية السلافونية وليس في الكتب اليونانية أو العربية}.

ثم يتحدث المعترف ويحاول الكاهن أثناء ذلك توجيه بعض الأسئلة ليتعرف على مشاكل المعترف وبعدئذ يسدي إليه النصح. وللحال يجثو المعترف على ركبتيه أو يحني رأسه فقط، فيضع الكاهن البطرشيل على رأسه، ويضع يده هو فوق البطرشيل ويتلو صلاة الحل.

أما صيغ صلوات الحل فهي مختلفة. في النص اليوناني (والعربي)، يُستخدم ضمير الغائب (الله يسامحك…)، أما في النص السلافوني، فيُستخدم ضمير المتكلم (أنا أسامحك…)، وإليك النص بالصيغة اليونانية:

(يا ولدي الروحي المعترف لحقارتي، إني أنا الحقير الخاطئ لا أستطيع أن أغفر خطيئة على الأرض لكن الله هو الذي يغفر الخطايا… أما نحن فنقول إن كل ما اعترفت به لحقارتي الذليلة وكل ما لم تقله عن جهل أو عن نسيان مهما كان، فسامحك الله به في هذا الدهر وفي الدهر الآتي… فلا تهتم له البتة، بل اذهب بسلام).

والنص بالصيغة السلافونية: (فليغفر لك ربنا وسيدنا يسوع المسيح لكثرة رأفته ومحبته للبشر، أيها الابن الروحي كل خطاياك… وأنا الكاهن غير المستحق وبواسطة السلطة المعطاة لي من لدنه، أسامحك وأحلك من كل خطاياك…).

هذه الصيغة بضمير المتكلم أدخلها بطرس موغيلا إلى أوكرانيا ويظهر الأثر اللاتيني واضحاً فيها. وقد اعتمدتها الكنيسة الروسية في القرن الثامن عشر.

وبمستطاع الكاهن، إذا ارتأى، أن يفرض على التائب القيام بعمل معيّن تعبيراً عن التوبة، لكن ذلك لا يشكل جزءاً رئيسياً من السر وهو أمر نادر الحدوث. ومن عادة الأرثوذكسيين أن يعتمدوا (أباً روحياً) خاصاً يقصدونه دورياً للاعتراف والإرشاد الروحي، ولا يكون هذا الأب بالضرورة كاهن رعيتهم {تعدّ الكنيسة الأرثوذكسية أيضاً علمانيين بين الآباء الروحيين بإمكانهم أن يصغوا للاعتراف ويعطوا الإرشاد الروحي، ويطمئنوا التائب عن الغفران الإلهي، ولكن لا يسعهم تلاوة صلاة الحل، لذلك يرسلون التائب إلى الكاهن}. وليس ثمة قاعدة في الكنيسة الأرثوذكسية بشأن عدد الاعترافات فهذا متروك لتقدير الأب الروحي. وفي حالة المناولة في فترات متباعدة – خمس أو ست مرات في السنة مثلاً – يُطلب من المؤمن الاعتراف قبل كل مناولة. وأما في حالة تواتر المناولة، فلن تكون هنالك ضرورة للاعتراف قبل كل مناولة.

سر الكهنوت

في الكنيسة الأرثوذكسية ثلاث رتب كهنوتية رئيسية: الأسقفية والقسوسية والشموسية. وهناك أيضاً رتبتان ثانويتان: رتبة الايبوذياكون (أو شماس الشمعة) ورتبة القارئ. (وجدت لبعض الوقت رتب أخرى ثانوية لكنها أهملت نتيجة عدم استعمالها). والرسامة إلى الرتب الرئيسية تتم دائماً خلال القداس الإلهي، كما يجب أن تكون دائماً فردية، (حيث لا تكون أكثر من رسامة واحدة في القداس الواحد وبذا يختلف الطقس البيزنطي عن الطقس الروماني)، وللأسقف وحده سلطة الرسامة {في حال الضرورة يمكن للأرشمندريت أو لرئيس الكهنة، بتفويض من الأسقف، أن يرسم قارئاً}. أما رسامة أسقف جديد فينبغي أن تتم بوضع أيدي ثلاثة أساقفة أو اثنين على الأقل. وبما أن الأسقفية (جماعية) في طبيعتها، فرسامة الأسقف يجب أيضاً أن تكون من قبل (جماعة) من الأساقفة. وعلى الرغم من أن الرسامة لا يمكن أن تتم إلاّ بوضع أيدي الأساقفة، فمن الواجب أيضاً أن تحظى بموافقة كل شعب الله. لذلك تعبِّر الجماعة كلها عن موافقتها بصرخة (مستحق) (اكسيوس باليونانية) تطلقها في أوقات معيّنة خلال خدمة الرسامة.

ويُقسم الكهنة الأرثوذكسيون إلى فئتين: فئة الكهنة المتزوجين وفئة الكهنة غير المتزوجين. وعلى الراغبين في الالتحاق بالطغمة الكهنوتية أن يختاروا طريقهم قبل الرسامة، إذ لا يجوز الزواج بعدها. فعلى من يرغب الزواج أن يتزوج قبل أن يصبح شماساً. وأما الذي لا يرغب في الزواج فيفترض فيه أن يصير راهباً قبل رسامته. واليوم يوجد في الكنيسة الأرثوذكسية عدد من الكهنة العازبين وليسوا برهبان. وإذا ترمَّل الكاهن، فلا يحق له الزواج ثانية.

في القاعدة العامة، كاهن الرعية متزوج، ونادراً ما يجري تعيين راهبٍ كاهنَ رعية {في أيامنا هذه، يقوم العديد من الرهبان بوظيفة كهنة الرعية، لكن الكثيرين يأسفون لهذه المخالفة للتقليد}. ويتم اختيار الأساقفة دائماً من صفوف الرهبان {تلك هي القاعدة منذ القرن السادس على الأقل، لكن عرفت الكنيسة الأولى العديد من الأساقفة المتزوجين ومنهم بطرس الرسول}، علماً أنه بمستطاع الأرمل أن يصبح أسقفاً إذا اتخذ النذور الرهبانية. ليس من السهل، في وضع الرهبنة الحالي داخل الكنيسة الأرثوذكسية، العثور دائماً على مرشّحين صالحين للأسقفية. وقد ابتدأ بعض الأرثوذكسيين في التساؤل عما إذا كان يجب حصر اختيار الأساقفة من بين الرهبان. والحل ليس بالتأكيد في تغيير القاعدة الحالية التي تقضي بأن يأتي الأسقف من صفوف الرهبان، إنما الحل هو تقوية الحياة الرهبانية نفسها.

في الكنيسة الأولى، كان يتم اختيار الأسقف من قبل شعب الأبرشية، كهنة وعلمانيين. واليوم يقوم المجمع المقدس لكل كنيسة مستقلة على العموم بتعيين الأساقفة في المراكز الخالية. وهناك في بعض الكنائس نظام انتخابي معدّل لا يزال ساري المفعول. كما قرر مجمع موسكو المنعقد بين 1917 و1918 أن يتم انتخاب الأساقفة من قبل ممثلين عن الكهنة والعلمانيين بالإضافة إلى المطارنة. هذه القاعدة معمول بها في الإدارة الكنسية الروسية الموجودة في باريس وفي (الكنيسة الأرثوذكسية في أميركا)، لكن الأوضاع السياسية جعلتها غير ممكنة التنفيذ في الاتحاد السوفياتي (كما في أماكن أخرى من العالم الأرثوذكسي).

ورتبة الشموسية في الكنيسة الأرثوذكسية أكثر أهمية مما هي عليه في الكنائس الغربية. فبالنسبة للكاثوليك ما هي سوى مرحلة تدريب استعدادية للكهنوت، لكنها خدمة دائمة عند الأرثوذكسيين، حتى أن العديد من الشمامسة يقضون عمرهم في رتبة الشموسية.

وبموجب القانون الكنسي، لا تجوز رسامة الكاهن قبل سن الثلاثين ولا تجوز رسامة الشماس قبل الخامسة والعشرين. ولكن لكل قاعدة شواذ {لمزيد من البحث في سر الكهنوت راجع: (في الكهنوت) لرهبنة دير الحرف، و (كن كاهني) للأب ليف جيلله، و (في الكهنوت) ليوحنا الذهبي الفم، منشورات النور (الناشر)}.

الألقاب الاكليريكية:

بطريرك: أساساً هو لقب رئيس الكنيسة الرسولية المستقلة. والآن اتسع إطلاقه فدعي به العديد من رؤساء الكنائس المستقلة، أما رؤساء الكنائس الأخرى فيدعون (رئيس الأساقفة) أو (متروبوليت).

المتروبوليت، رئيس الأساقفة: كان المتروبوليت في الأساس، أسقفاً لعاصمة المقاطعة، في حين كان يُمنح لقب (رئيس الأساقفة) كرتبة شرف للأساقفة البارزين جداً. وليس من الضروري أن يكون مركزهم في عاصمة ما. على هذا النحو لا يزال الروس يستخدمون هذه الألقاب. أما اليونان والعرب، فإنهم يمنحون لقب متروبوليت لكل مطران أبرشية لأنه بالطبيعة يسكن المدينة الكبيرة. ويسمي اليونانيون رئيس أساقفة أولئك الذين كانوا يُدعون متروبوليت في السابق. لذا فإن رئيس الأساقفة عند اليونان أرفع من المتروبوليت. أما عند الروس، فالمتروبوليت هو الذي يحل مقاماً أرفع.

الأرشمندريت: في الأصل، راهب مكلف بالإدارة الروحية لعدة أديرة، أو رئيس دير ذي أهمية خاصة. ويُستخدم اللقب اليوم كرتبة شرف لأحد الكهنة العازبين المميّزين.

هيجومينوس: عند اليونان، رئيس الدير. عند الروس، لقب شرف لكاهن راهب (ليس بالضرورة رئيس دير). والهيجومينوس الروسي أقل من الأرشمندريت.

رئيس كهنة: لقب شرف يمنح للكهنة المتزوجين.

رئيس الشمامسة أو بروتوشماس: لقب شرف يُمنح للشمامسة. رئيس شمامسة لدى الرهبان، بروتوشماس للشمامسة الذين ليسوا رهباناً. (رئيس الشمامسة في الغرب اليوم هو كاهن، لكنه في الكنيسة الأرثوذكسية، كما في الكنيسة الأولى، يبقى شماساً).

سر الزواج

سر الثالوث المعبِّر عن الوحدة في التعدد لا ينطبق على عقيدة الكنيسة فقط، بل على الزواج أيضاً. فالإنسان مخلوق على صورة الثالوث، والله لم يخلقه لكي يعيش وحده بل ليعيش ضمن عائلة، إلاّ في بعض الحالات الاستثنائية. وكما بارك الله العائلة الأولى، وأوصى آدم وحواء بأن يكونا خصبين ويتكاثر، كذلك فإن الكنيسة تبارك اليوم اتحاد الرجل والمرأة. والزواج ليس وضعاً تفرضه الطبيعة فقط، بل هو حالة من النعمة. والحياة الزوجية، كما الحياة الرهبانية، رسالة خاصة تتطلب نعمة خاصة من الروح القدس، وهذه النعمة تُعطى من طريق سر الزواج.

وتشتمل خدمة الزواج على قسمين كانا في السابق منفصلين، لكنهما اليوم يأخذان غالباً مكانهما الواحد تلو الآخر بلا انقطاع. إنهما خدمة (الخطبة) وخدمة الإكليل)، وأثناء الأخيرة يُقام السر المقدس. والجزء الأساسي من خدمة (الخطبة) هو تبريك المحابس وتبادلها عربوناً للرضا المتبادل الذي يعرب عنه الخطيبان بملء حريتهما، لأن سر الزواج المسيحي لا يمكن أن يتم إلاّ بموافقة الطرفين. وقمة خدمة (الإكليل) هي في وضع إكليل من قبل الكاهن على رأس كل من العروسين. والإكليلان عند اليونان مصنوعان من أوراق الشجر والزهور، أما عند الروس فيصنعان من الذهب أو الفضة. وهما الإشارة المنظورة للسر، ويدِّلان على النعمة الخاصة التي يتلقاها الزوجان من الروح القدس من أجل أن يؤسسا عائلة جديدة أو (كنيسة بيتية) {راجع: (العائلة… كنيسة) لبول افدوكيموف وكوستي بندلي، منشورات النور، 1982 (الناشر)}. والإكليلان هما إكليلا فرح ولكنهما أيضاً إكليلا استشهاد، لأن كل زواج حقيقي يتطلب من كلا الطرفين نكراناً خاصاً للذات. في نهاية الخدمة، وتذكيراً بأعجوبة زواج قانا الجليل، يشرب الزوجان النبيذ من كأس واحدة، إشارة إلى أنهما من الآن فصاعداُ سيتقاسمان حياة واحدة.

والكنيسة الأرثوذكسية تبيح الطلاق والزواج الثاني، مستندة في ذلك على ما ورد في متى9:19، حيث قال السيد: (من طلّق امرأته إلاّ بسبب الزنا وتزوّج بأخرى يزني). والكنيسة الأرثوذكسية تحذو حذو المسيح الذي سمح باستثناءٍ واحد في قانون عدم فك الارتباط في الزواج. ومن البديهي أن الكنيسة تنظر للزواج على أنه مبدئياً غير قابل للحل وتعتبر فسخه خطيئة. ولكن رغم إدانة الخطيئة، تساعد الكنيسة الخطأة إذ تمنحهم فرصة أخرى. وحينما لا يعود الزواج حقيقة واقعة، لا تتشبث الكنيسة بالحفاظ على وهم شرعي. فينظر إذاً إلى الطلاق كتساهل استثنائي ولكنه ضروري للخطيئة البشرية. إنه فعل تدبير كنسي (Oikonomia) وفعل من محبة الله للبشر (Philanthropia). ولكن الكنيسة الأرثوذكسية، وهي تساعد الرجل والمرأة على النهوض بعد السقطة، تعلم تماماً أن الزواج الثاني لا يمكن أن يكون مثل الأول، لذا فإن جزءاً من الاحتفالات التي تشير إلى الفرح يجري إلغاؤه ويُستبدل بصلوات التوبة.

والقانون الكنسي الأرثوذكسي الذي يبيح زواجاً ثانياً وحتى ثالثاً يمنع الرابع منعاً باتاً. ومن الناحية النظرية يُمنح الطلاق في حالة الزنى فقط، لكنه يُمنح أحياناً لأسباب وجيهة أخرى.

ولا تشجع الكنيسة الأرثوذكسية على العموم تحديد النسل بالوسائل الاصطناعية. ويُحظر بعض الأساقفة واللاهوتيين كلياً استعمال مثل هذه الوسائل، بينما يتخذ البعض الآخر موقفاً أكثر مرونة ويدعون إلى ترك حل هذه المشكلة لحرية الزوجين بالتشاور مع أبيهم الروحي.

سر مسحة المرضى بالزيت

جرى وصف هذا السر في رسالة يعقوب الأولى: (أمريض بينكم، فليدعُ شيوخ الكنيسة فيصلّوا عليه ويدهنوه بزيت باسم الرب. وصلاة الإيمان تشفي المريض والرب يقيمه وإن كان قد فعل

خطيئة تُغفر له) (يعقوب 14:5- 15). ولهذا السر، كما نرى في هذا المقطع، تأثير مزدوج، فهو يجلب الشفاء للجسد، ويأتي بالغفران عن الخطايا. وحيث أن الإنسان جسد وروح، فلا توجد حدود واضحة بين أمراض الجسد وأمراض الروح. والأرثوذكسية لا تؤمن بأن سر الزيت (أو مسحة المرضى) يجلب الصحة للمريض بصورة آلية. إنه يجلب أحياناً الشفاء، وإلا فإنه يؤثّر على المريض في العمق ويمنحه القوى الروحية التي يحتاجها لاستقبال الموت {(لهذا السر وجهان، واحد يتجه للشفاء، والثاني للخلاص من المرض من طريق الموت)، (سرجيوس بولغاكوف، (الأرثوذكسية)، ص 135}. يعرف هذا السر في الكنيسة الكاثوليكية (بالمسحة الأخيرة) التي تعطى للمحتضرين فقط، وقد أُهمل مفهوم الشفاء كلياً. أما في الكنيسة الأرثوذكسية، فيعطى هذا السر لكل مريض كائنة ما كانت خطورة مرضه.

كتاب: الكنيسة الأرثوذكسية: إيمان وعقيدة
الفصل الخامس: الأسرار
تأليف: الأسقف كاليستوس (تيموثي) وير

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF

معلومات حول الصفحة

عناوين الصفحة

محتويات القسم

الوسوم

arArabic
انتقل إلى أعلى