الإنسان صورة الله

ورد في فاتحة سفر التكوين أنّ الله صنع الإنسان على صورته كمثاله، وسلّطه على جميع المخلوقات الأخرى من سمك وطير وبهائم، “فخلق الله الإنسان على صورة الله خلقه ذكراً وأنثى خلقهم” (1: 26-31)0 كما يرد في أسفار أخرى القول عينه، فكاتب سفر الحكمة يقول: “فإنّ الله خلق الإنسان خالداً وجعله صورة ذاته الإلهيّة” (2: 23). وفي العهد الجديد، يؤكّد الرسول بولس على فكرة الإنسان صورة الله وذلك في سياق كلامه على المعموديّة بكونها خلقاً جديداً، فيقول: “ولبستم الإنسان الجديد، ذاك الذي يجدَّد على صورة خالقه ليصل إلى المعرفة” (قولسي 3 : 10). ويشير العهد الجديد في كثير من المقاطع إلى المسيح بصفته “صورة الله الذي لا يُرى” (قولسي 1: 5)، و”صورة الله” (2 قورنتس 4: 4)، و”ضياء مجده وصورة جوهره” (عبرانيّين 1: 3).

لقد تناول جميع آباء الكنيسة بالتفسير موضوع الإنسان المصنوع على صورة الله كمثاله، ورأوا في الآية الواردة في سفر التكوين دعوة موجّهة إلى الإنسان ليقوم بدوره في العالم على صُعد عدّة، أهمّها أنّ الإنسان ملك الكائنات الحيّة كلّها وكاهنها. فقد عهد الله إلى الإنسان بمهمّتين: أن يعمّر الأرض وأن يرفع إلى الله تسبيح الخليقة كلّها.

فالقدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم أعلن بوضوح في تفسيره لآية الخلق: “إنّ الله وهبنا نعمة أولى إذ صنع الإنسان وحده على صورته، ثمّ (النعمة الثانية) سلّطه على المخلوقات، لا ثواباً على أتعابه، بل من فيض نعمته ومحبّته للبشر”. أمّا القدّيس باسيليوس الكبير فيقول: “أيّها الإنسان، إنّك كائن حيّ، خُلق ليأمر. فإنّه حيث توجد سلطة للأمر والنهي تستقرّ أيضاً صورة الله”. وفي الاتّجاه ذاته ينحو القدّيس غريغوريوس النيصيّ حين يلاحظ أنّ “الإنسان يقف مستقيماً، منتصباً نحو السماء وينظر إلى علُ. إنّها وقفة القائد الآمر، وهي دليل على كرامته الملكيّة”.

إنّ خلق الله الإنسان على صورته كمثاله يعني أيضاً أنّ الله صنع البشر جميعاً متساوين ومدعوّين إلى تحقيق الوحدة البشريّة. فالقدّيس النيصيّ يقول إنّ عبارة “وخلق الله الإنسان تفيد مجمل الجنس البشريّ”، ويضيف: “ليست صورة الله في جزءٍ من هذه الطبيعة، فإنّ كلّ الجنس البشريّ يتمتّع بهذه الميزة: إنّه على صورة الله”. هنا، يندرج كلام القدّيس غريغوريوس ضمن إطار التقليد الكنسيّ الذي يؤكّد على المساواة التامّة بين كلّ البشر من دون أيّ تمييز عنصريّ كان، حتّى ولا في الجنس، لأنّ التمييز بين “رجل وامرأة”، بين “ذكر وأنثى”، لم يحدث إلاّ في آخر مراحل الخلق، بعد أن “خلق الله الإنسان على صورته”.

كذلك يجمع الآباء على القول إنّ صورة الله هي ما يميّز الإنسان عن سائر المخلوقات. هي، إذاً، القدرة على “التفكير والإدراك وميزات أخرى من ضمنها القدرة على إصدار الأوامر، والاستقلاليّة الذاتيّة، والاستطاعة على تقرير المصير والإرادة”، وكلّ هذا يمكن اختصاره بعبارة واحدة: “حرّيّة الإنسان”. إنّها مساواة جذريّة بين أشخاص وُهبوا كلّهم العقل والحرّيّة، وينتمون إلى طبيعة واحدة مشتركة، كلّ فرد فيها يتميّز عن الآخر. وهذا التمايز لا ينفي الوحدة البشريّة، بل هو يؤكّدها في تنوّع ضمن الوحدة، وليس في ذلك أيّ تناقض. فالوحدة البشريّة كالجسد الواحد ليست شموليّة فتختزل الأفراد، بل هي شركة من غير انفصام ولا اختلاط بين أشخاص يشتركون في الطبيعة الواحدة، أشخاص يؤلّفون شركة على صورة الآب والابن والروح القدس المثلّث الأشخاص والواحد في الآن عينه.

رأى القدّيس إيريناوس، وبعده كلّ الآباء، أنّ الإنسان صُنع على صورة الله، بينما يمثّل مثال الله غاية الكمال الذي ينبغي للإنسان أن يحقّقه، فبلوغ المثال هو ثمرة الإرادة البشريّة المنسجمة مع الإرادة الإلهيّة. فيقول القدّيس باسيليوس في هذا الصدد: “في بنيتنا الأولى نولد على صورة الله، وبإرادتنا نتشبّه بالله، نصبح كمثاله”. وهذا ما يذهب إليه أيضاً القدّيس الذهبيّ الفم: “الصورة تعني صورة القدرة، والمثال يفيد فكرة الفضيلة. ومآل هذا أنّه علينا بقدر ما يتسنّى ذلك للطبيعة البشريّة المخلوقة أن نتمثّل بالله، بحلمه واعتداله؛ وبالاختصار، بممارسة الفضائل كلّها”. أمّا القدّيس باسيليوس فيقول: “تصير مثله إذا اقتنيت الصلاح (…) ليس ما يدلّ على قربى الإنسان من الله إلاّ قدرته على فعل الخير”.

يوم فسّر أوريجنس نصّ سفر التكوين لاحظ أنّ الإنسان “لم يُخلق إلاّ على صورة الله”، وليس هو “صورة الله”. فليس الإنسان إلاّ صورة لصورة الإله الذي لا يُرى، أي صورة ابنه الوحيد، يسوع المسيح. لذا، يدعونا أوريجنس أن نصير على مثال السيّد المسيح، حتّى نبلغ إلى المثال: “فعلى مثال صورة المسيح قد صُنع الإنسان. فلنشخصنّ إذاً دوماً بأبصارنا إلى صورة الله هذه، لنستطيع أن نكون كمثاله مجدّداً”. إذا كنّا قد خُلقنا على صورة الله، فنحن على “صورة الابن قد صُنعنا”، وبه نحن مدعوّون أن نصير “أبناء الله”. والإنسان مدعوّ أيضاً إلى التألّه بالنعمة، وفي هذا يقول القدّيس مكسيمس المعترف: “لقد خلقنا الله لنشترك في طبيعته الإلهيّة، ولكي يكون لنا نصيب في خلوده، في أبديّته، ونظهر مشابهين له في هذا التأليه الناتج عن النعمة”.

لم يكن للإنسان أن يبلغ إلى هذا المجد لولا تجسّد السيّد المسيح الذي، لكونه ابناً صيّرنا أبناء، ولكونه إلهاً أتاح لنا أن نصير آلهة بالنعمة، ولكونه الصورة والمثال صار ممكناً أن نبلغ إلى المثال. ونختم بقول للقدّيس مكسيمس يوضح فيه: “إنّ تجسّد الله في الإنسان الذي جعل من الإنسان إلهاً، بقدر ما الإله نفسه قد صار إنساناً، إنّ هذا التجسّد هو السبب الرئيس الذي يدعونا إلى الثقة برجاء تأليه الطبيعة البشريّة”.

عن نشرة رعيتي 2001

arArabic
انتقل إلى أعلى