النبيّ هو شخص حصل على وحي إلهيّ من خلال خبرة أو رؤيا أو سماع أو حلم أو ما شابه. وهو يعلم علم اليقين أنّ الله أوكل إليه أن يوصل هذا الوحي بالكلام أو بوجه غير كلاميّ إلى آخرين هم المعنيّون به. والنبيّ بالمعنى الحقيقيّ هو مَن كانت له موهبة تؤهّله لأن يتقبّل مباشرة (أي ليس بواسطة تقليد وصل إليه شفهيّاً أو خطّيّاً) من الله رسالة عليه أن يبلّغها للناس (وبنوع خاصّ وأوّليّ إلى معاصريه). والنبوّة ظاهرة يمكن الاستدلال على وجودها المتكرّر في الكتاب المقدّس، لا سيّما في العهد القديم.
والنبوّة لا تكون تحصيليّة، فالنبيّ لا يحصل على الوحي بفضل مبادرته الخاصّة وبقوّته الشخصيّة، بل هو ينقضّ عليه الوحي مباشرةً، بدون إرادته. والنبيّ موقن إيقاناً ثابتاً أنّ الوحي ينزل عليه من الله الذي يكشف له عن نفسه. وثمّة طريقتان حسّيّتان لتنزّل الوحي: السماع والرؤية، كما ورد في سفر هوشع على لسان الربّ: “وقد كلّمت الأنبياء وأكثرت من الرؤى وعلى ألسنة الأنبياء مثّلت الأمثال” (12: 10). فالنبيّ هو الذي يسمع كلمة الربّ، أمّا التعبيران الأكثر استعمالاً واللذان يشيران إلى هذه الخبرة النبويّة فهما: “كانت إليّ كلمة الربّ”، و”هكذا يقول الربّ”. والنبيّ، في الأساس، هو رجل الكلمة يتقبّلها من الله لكي ينقلها وفقاً لمهمّته إلى الناس الذين أرسل إليهم. الله يكلّم النبيّ، وهذه المخاطبة تجعله يصير نبيّاً: “تكلّم الربّ فمَن لا يتنبّأ” (عاموس 3: 8)، وتجعل كلمة الله في فمه، فالله يخاطب حزقيال قائلاً: “افتح فمك وكلْ ما أناولك” (2: 8)، فناوله الكتاب فأكله.
وقد تنضمّ الرؤية إلى السماع أو تحلّ محلّه، فالنبيّ “يبصر الكلمة”، والكلمة ليست في تراث الساميّين فقط أداة معرفة مجرّدة، بل هي في الوقت عينه شيء حسّيّ أو حدث واقعيّ. لذلك، النبيّ في جوهره “راءٍ” و”مبصر”. “هكذا أراني السيّد الربّ” يكرّر النبيّ عاموس (7: 1، و8: 1)، و”رأيت السيّد” (9: 1). والملاك يسأل النبيّ زكريّا في مواضع عدّة من نبوءته: “ماذا أنت راءٍ” (4 :2و 5: 2).
أمّا الأمر الحاسم عند النبيّ فهو اختباره الأوّل للوحي، اختباره دعوته الذي يؤسّس علاقة شخصيّة فريدة دائمة، علاقة إلهيّة-بشريّة مباشرة، فيه يعرف النبيّ أنّ الله اختاره وقدّسه (أي فرزه): “قبل أن أصوّرك في البطن عرفتك وقبل أن تخرج من الرحم قدّستك وجعلتك نبيّاً للأمم” (إرميا 1:5). ويد الربّ عليه أو معه: “وكانت يد الربّ مع إيليّا” (1 ملوك 18: 46). ولمسته يد الربّ: “ثمّ مدّ الربّ يده ولمس فمي وقال لي الربّ هاءنذا قد جعلت كلامي في فمك” (إرميا 1: 9). وهذا الاختبار الأوّليّ في حياة النبيّ قد يعبّر عنه في عرض لاحق يعتمد على استحضار الماضي، من أغراضه تأييد مشروعيّة النبوّة، كما في حالة الأنبياء إشعيا وإرميا وحزقيال.
ومن صفات النبيّ أنّه “رسول”، فإنّ الله يرسلهم أو أرسلهم ليبلّغوا رسالته ويدعوا الناس إلى التوبة والعودة إليه، ابتداءً بموسى الذي أمره الله قائلاً: “قل لبني إسرائيل: الكائنُ أرسلني إليكم” (خروج 3: 14)، ومروراً بإشعيا: “فقلت هاءنذا فأرسلْني” (6: 8) وإرميا: “فإنّك لكلّ ما أرسلك له تنطلق وكلّ ما آمرك به تقوله” (1 :7)، وحزقيال: “فقال لي الربّ يا ابن البشر أنّي مرسلك إلى بني إسرائيل” (2 :3 )، وغيرهم من الأنبياء. والنبيّ أيضاً “نذير” مبعوث لينذر بني قومه من يوم الدينونة، كما ورد في سفر حزقيال النبيّ: “إنّي جعلتك رقيباً لآل إسرائيل فاسمع الكلمة من فمي وأنذرهم عني” (3: 17).
غير أنّ النبيّ ليس “نذيراً” فقط، بل هو “مبشّر” أيضاً. ويقترن الوصفان، في أكثر الأحيان، معاً، فالله ينطق بالوعيد كما ينطق بالوعد. والنبوءات الكتابيّة تتفوّه بأقوال الوعيد وألفاظ الخلاص كما تتكلّم على النجاة. وها إشعيا، في هذا الإطار، يقول: “ما أجمل على الجبال أقدام المبشّرين المسمعين بالسلام المبشّرين بالخير المسمعين بالخلاص” (52: 7). من هنا، النبيّ هو “الشاهد”، فعليه أن يشهد للربّ ولكلام الربّ، ويشرك معه الشعب في هذه الشهادة: “أنتم شهودي يقول الربّ” (إشعيا 43: 10-12).
ومن صفات النبيّ الأساسيّة الزهد بالنفس، فمَن لا يطابق مسلكه تعاليم الله لا يمكن أن يكون مرسَلاً منه. تكون النبوّة صحيحة عندما يحيا النبيّ طبقاً لما يبشّر ويطالب به، وعندما يمارس، كما يقول كتاب الذيذاخي، “مسلك الربّ”. وذلك يعني قبل كلّ شيء النزاهة والزهد بالنفس. فلا يسعى النبيّ الصحيح وراء المكسب، وهو مترفّع عن الرشوة،وهو ليس مدّاحاً ولا انتهازيّاً يُخضع نفسه لمشيئة المقتدرين والأقوياء، فيؤيّد آراءهم مبشّراً دائماً بالخير حيث لا خير. بل النبيّ الحقّ امرؤ نزيه يهب نفسه لأجل إلهه ولأجل شعبه، لا سيّما الفقراء والمستضعفين والمظلومين الذين يقف إلى جانبهم.
مع مجيء الربّ يسوع تحقّقت كلّ نبوءات العهد القديم، واستمرّت النبوءة بصورة أخرى مقياس صحّتها، كما يقول الرسول بولس في رسالته إلى رومية: “فمَن أوتي النبوّة فليتنبّأ بحسب قاعدة الإيمان” (12 :6 ). ليست نبوّة، إذاً، تلك التي لا توافق القواعد الأساسيّة للإيمان المسيحيّ، لا سيّما في ما يختصّ بالعقائد الأساسيّة التي يقوم عليها هذا الإيمان كالثالوث والتجسّد والصلب والقيامة.
عن نشرة رعيتي 2004