إنّ الأناجيل قد دُوّنت للبشارة بالربّ يسوع المسيح، فالإنجيل هو”إنجيل يسوع المسيح ابن الله” (مرقس 1: 1). وقد ذكرت الأناجيل بعض الشخصيّات التي رافقت يسوع خلال حياته، كمريم أمّه ويوسُف خطيبها، يوحنّا المهيّئ طريقه والتلاميذ الاثني عشر وغيرهم. إلاّ أنّ ذكر هذه الشخصيّات لا يمكن فصله عن إطار البشارة والارتباط بشخص يسوع المسيح. فهي شخصيّات ثانويّة لا تحجب محور الحديث، نعني يسوع المسيح الفادي. من هنا، يندرج كلّ حديث عن مريم في الأناجيل في إطار البشارة بيسوع. وبكلام آخر، لا يمكن فصل مريم عن ابنها.
اللقب الأساسيّ لمريم هو “أمّ يسوع” (يوحنّا 2: 1)، وكلّ الصفات التي تضاف إلى اسم يسوع تضاف بالفعل عينه إلى اسم مريم. فإذا آمنّا بأنّ يسوع هو ابن الله والفادي والمسيح والربّ والإله، يجدر بنا القول إنّ مريم هي أمّ ابن الله وأمّ الفادي وأمّ المسيح وأمّ الربّ وأمّ (أو والدة) الإله. أمّا نصّ البشارة بيسوع في الفصل الأوّل من إنجيل لوقا فمليء بالصفات التي يطلقها الملاك جبرائيل على مريم، فهي “عذراء (الآية 27)، “ممتلئة نعمة، الربّ معها” (28)، “الروح القدس يحلّ عليها وقدرة العليّ تظلّلها” (35)، “أمَة الربّ” (38). ويبدأ هذا النصّ بتحيّة الملاك: “السلام عليكِ” (28)، وهي ليست مجرّد تحيّة اعتياديّة، بل هو دعوة إلى الفرح الناتج عن مجيء المسيح المخلّص. مدعاة الفرح في العهد القديم هي حضور الله في وسط شعبه، وبقبول مريم قد تحقّق هذا الفرح بحضور الله في شخص يسوع.
مريم، إذاً، إذا ما قارنّا نصّ البشارة بنصوص العهد القديم التي تتحدّث عن حضور الله في وسط شعبه، هي”هيكل الله الجديد”، “تابوت العهد الجديد” و”مقام سكنى الله”. هي “ابنة صهيون”، “أورشليم الجديدة”، “مسكن الله المقدّس”. هي التي تمثّل “البقيّة” الأمينة من شعب العهد القديم، أولئك الذين كانوا ينتظرون في الفقر والضعة والبرّ والطاعة والقداسة فرح مجيء الربّ المخلّص في شخص المسيح. وإذا ما توغّلنا في المقارنة لوجدنا أنّ مريم، في لحظة قبولها الحبل بالمسيح، هي قدس الأقداس وخيمة الموعد يظلّلها الغمام المنير، الهيكل الذي حلّ فيه مجدُ الله.
مريم هي أمَة أو خادمة الربّ. وعبارة “أمَة الربّ” على غرار عبارة “عبد الربّ” (انظر إشعيا 52 و53)، تعني في الكتاب المقدّس اختياراً من عند الله لرسالة خاصّة تلاقي طاعة وقبولاً وخضوعاً من الإنسان لتحقيقها. لذلك، قالت مريم: ” فليكن لي بحسب قولك” (لوقا 1: 38)، معبّرة بذلك عن رغبتها في تحقيق القصد الإلهيّ. من هنا، تكون مريم هي “حوّاء الجديدة”، ذلك أنّها قبلت دعوة الله وأطاعتها، على العكس من حوّاء الأولى التي رفضت الانصياع لأمر الله. هنا، تكلّمت مريم باسم البشريّة كلّها التائقة إلى الخلاص، فأتاحت لكلمة الله أن يتجسّد فيها ويظهر منها للعالم.
تأكيد بتوليّة مريم يأتينا من نصّ للإنجيليّ متّى الرسول حين يورد قول الملاك ليوسُف: “إنّ الذي حُبل به فيها إنّما هو من الروح القدس” (متى 1 :20). ويقدّمها النصّ ذاته بصفتها “والدة المخلّص”، إذ إنّها “ستلد ابناً فتسمّيه يسوع، لأنّه هو الذي يخلّص شعبه من خطاياهم” (1: 21)، واسم يسوع بالعبريّة يعني “الله يخلّص”. ومريم، في نصّ زيارة مريم لأليصابات أمّ يوحنّا المعمدان، هي “أمّ الربّ” (لوقا 1: 43)، “المباركة في النساء” (1: 42)، “المؤمنة” (1 :45)،… وفي هذا النصّ عينه يحدّثنا القدّيس لوقا عن ارتكاض يوحنّا في بطن أمّه. وإذا ما قارنّا بين العهدين القديم والجديد لوجدنا أنّ دخول مريم إلى بيت زخريّا وسلامها على أليصابات يبدوان كأنّهما تجلّي الله نفسه. فارتكاض يوحنّا المعمدان في بطن أمّه أمام مريم الحاملة المسيح الربّ، يذكّرنا بداود النبيّ الذي راح يثب ويرقص فرحاً أمام تابوت العهد الحامل الله لدى دخوله أورشليم. إنّ حضور الربّ في تابوت العهد وفي أحشاء مريم يتيح لنا أن نقارن بين صعود تابوت العهد إلى أورشليم (2 صموئيل 6) وصعود مريم إلى بيت زخريّا (لوقا 1).
إنّ القرابة الطبيعيّة المتمثّلة بالأمومة بحسب الجسد ينبغي في نظر يسوع أن تتخطّاها مريم وأن تتجرّد منها، لتنتقل إلى قرابة روحيّة تقوم على تتميم مشيئة الله. فمريم تستحقّ الطوبى ليس لأنّها أمّه وحسب، بل بنوع خاصّ لأنّها عملت بمشيئة الله. لقد سمعت كلمة الله وعملت بها، منذ جوابها لملاك البشارة “ليكن لي بحسب قولك”، حتّى آخر نسمة من حياتها. وقد تأكّدت هذه العلاقة تحت قدمي المصلوب، عندما قال لها المسيح المصلوب مشيراً إلى القدّيس يوحنّا الحبيب: “يا امرأة، هوذا ابنكِ” (يوحنّا 19: 25-27)، بهذه الكلمات صارت مريم أمّاً لجميع تلاميذ يسوع وأحبّائه، صارت أمّاً للمؤمنين. ومن وحي هذا النصّ المستلّ من إنجيل يوحنّا، يقول جاورجيوس أسقف نيقوميذية (+ حوالى 880 ) على لسان يسوع: “من الآن فصاعداً، أجعلُ مريم… أمّاً ليس فقط لك بل لجميع الآخرين. وأريد أن تكرَّم بحقٍّ إكرامَ الأمّ. وإذا كنتُ قد منعتكم من أن تدعوا أحداً أباً لكم على الأرض، فإنّي الآن أريدكم أن تدعوا مريم أمّاً لكم وتكرّموها كأمّ”.
يحدّثنا كتاب أعمال الرسل عن أنّ مريم كانت تواظب على الصلاة بنفس واحدة مع الرسل وبعض النساء (1: 14)، وكانت تنتظر حلول الروح القدس الذي به يبدأ في الكنيسة زمنُ البشارة. مريم في وسط الجماعة تؤدّي دور الأمّ الهادية التي تقود المؤمنين إلى المسيح. عسى أن نكون كيوحنّا أبناء لمريم.
نشرة رعيتي
الأحد 10 آب 2003
العدد 32