هذا الفصل صالح لأن يكون فصلاً في القسم الثاني من هذا الكتاب. إلا أن وجوده هنا يُعطي المطالع متعة تاريخية لم أرد أن أحرمه منها:
فالمقارنة التي أجريتها تساعد على فهم ما يأتي.
ولا يتوهمنَّ أحد أن أهمية الأمر محدودة. فالصيغة التي صغتها أعلاه ذات مفاعيل شاسعة وتطبيقات واسعة في العلوم اللاهوتية.
1 – الإلهام الإلهي
فمثلاً: نظريتنا في الإلهام الإلهي مرتبطة ارتباطاً وثيقا بعقيدة التجسد: في يسوع إله وإنسان. في الإلهام إله يُلهم وإنسان مُلهَم يقوم بينهما تعاون synergie. الإله يؤثر في الإنسان ولكن طبعاً الإنسان لا يؤثر في الإله.
2 – الحياة الروحية والاتحاد بالله
ومثلاً: الحياة الروحية واتحادنا بالله يقومان على هذا التعاون (مايندورف 233 وبورودين 26-235).
لولا تجسد المسيح لاستحال على الإنسان أن ينال النعمة الإلهية التي تؤلهه. ناسوت يسوع اتحد أقنومياً بالإله الكلمة. فسح لنا المجال لأن ننال نعمة الروح القدس لنتحد بالله على قدر ما نطيق. هناك الله والإنسان، هناك مشيئتان تلتقيان، هناك إنسان يريد الله وإله يقبل الإنسان في شركته فيسلط إرادته الإلهية على إرادة الإنسان ليصنعها إلهية ويؤله أفعاله وشخصه حتى يلغ ملء قامة المسيح. هناك قربان مقدس. فنتناول فيه جسد الرب ودمه. الجسد والدم متحدان أقنومياً بالإله الكلمة الابن يسوع. هذا ما لم يحصل عليه الملائكة.
فأنا أمتزج بدم الرب وجسده وأحصل على التأله (الدمشقي، مين 94: 348 وبورودين، ص 43 ومايندورف 259 وفي قاموس الروحانية 3: 13811 و1382… نصوص من أثناسيوس وباسيليوس وغريغوريوس).
كثيرون من الآباء قالوا أننا قد صرنا بفضل التجسد أعلى الكائنات وارتفعنا فوق الملائكة (غريغوريوس اللاهوتي الخطبة 38: 11 و13 في مين 38: 322 و325 وأيضاً 45: 9 في مين 38: 633-634 والدشمقي، غريغوريوس بالاماس، نيقوديموس الآثوسي، ص 119، بورودين 43، مايندورف 219 والحاشيتان 32 و259). فامتزاجنا بجسد الرب ودمه إنما هو خاص بنا نحن البشر دون سوانا (1).
وعلى صعيد العلاقات يمثل القربان المقدس أعلى درجة فيها. فالذين يتناولون يشتركون في الخبزة الواحدة (كورنثوس الأولى 10). يتحدون بالله ليجمعهم إلى واحد (الدمشقي 4: 13 وستانيواي، كونتاك، العدد 84 / 1973 ص 294 و295 و297 و307 وسواهما).
فامتزاجنا بجسد الرب ودمه إنما هو خاص بالبشر دون سواهم. ومع هذا يبقى اتحادنا بالله مختلفاً عن اتحاد ناسوت يسوع بلاهوته على ما أسلفنا (مايندورف، المدخل، ص 254 وسواه). ناسوت يسوع متحد أقنومياً باللاهوت. اقنوم يسوع الإلهي تملّك الناسوت واحتواه في وحدة شخصه الإلهي التي لا تنفصم أبداً. يسوع واحد في طبيعتين. كل إنسان شخص. في التجسد صار يسوع آدم الثاني الذي نولد فيه بالمعمودية ونصير أعضاء جسده الذي هو الكنيسة. وإنما أشخاصنا لا تتحد به أقنومياً. يبقى عليها أن تمتلك الروح القدس بأعلى الطاقات الممكنة لكي نصير، بأعلى قدر ممكن للإنسان، مسكناً للثالوث القدوس، بنعمة الله غير المخلوقة (في بورودين ومايندورف ولوسكي عبارات كثيرة مشابهة. وأيضاً قاموس الروحانية 3: 1382 و1386 و1387).
3 – الأنتروبولوجيا:
ومثلاً: الرؤية الأرثوذكسية للإنسان. استعان الآباء لتفسير الثالوث أو التجسد بتكوين الإنسان (باسيليوس، اللاهوتي، كيرللس، أوغسطين و…) سويروس الأنطاكي لجأ إلى ذلك كثيراً على ما ذكر لوبون. المجمعان الرابع والخامس المسكونيان صارا مسنداً لنظرة أعمق بما لايقاس. بدلاً من أن نفهم الله من وراء فهمنا للإنسان صرنا نفهم الإنسان من وراء فهمنا لله. ما دمنا نقول أن يسوع أقنوم واحد في طبيعتين، في جوهرين، وأن الإنسان مخلوق على صورة الله ومثاله، فمن المنطق السليم أن نقول أن الإنسان شخص، إنه أقنوم يملك روحاً وجسداً وإن اتحادهما سر لا يدركه العقل. خلقه الله شخصاً واحداً ونضد في شخصه روحاً وجسداً (غريغوريوس اللاهوتي، الخطبة 45: 9).
غريغوريوس النيصصي ومكسيموس المعترف وضعا إلى حد بعيد أسس الأنتروبولوجيا الآبائية الشرقية. مكسيموس وكابازيلاس والبعض الآخر يذهبون في الامر إلى حد قصي. يرون التجسد الإلهي هو الغاية التي من أجلها تم خلق البشر وأن التجسد كان سيقع ولو لم يرتكب الإنسان الخطيئة (2). وهو البداية والنهاية ولكن بما أنه ارتكب الخطيئة فقد كان موت المسيح لافتدائنا ضرورياً. بعبارة أخرى كان التجسد سيقع في مطلق الأحوال بينما الصلب يقع بسبب الخطيئة (3).
ويسوع هو النموذج الذي خُلق الإنسان على موجبه. فالله خلق الإنسان على موجب ما سيكون عليه ناسوت يسوع أثناء التجسد الإلهي (4).
والجدير بالذكر هنا أن مكسيموس المعترف نفى أقوال الأوريجنسيين القائلين بسبق وجود الروح. فقال أن الروح والجسد يقومان في آن واحد معاً. والروح تُحيي الجسد وهو بحاجة إليها وهي بحاجة إليه (مين 91: 1321-1341 و517 و529 و64). فالمسيح اتحد بالناسوت منذ الحبل به. والروح والجسد متحدان منذ بداية كل منهما. وجودهما مترافق زمنياً، كل منهما معاصر للآخر.
بورودين ذكرت -دون إيراد المصدر، كعادتها- أن مكسيموس قال في الإنسان أنه “الإله المخلوق” وأن سيرج بولغاكوف الروسي قال فيه إنه “أقنوم أرضي لله”، حقيقي بينما لدى مكسيموس هو أقنوم أرضي للكمة “الذي به كان كل شيء” (ص 43).
غريغوريوس اللاهوتي قال في الإنسان: “إنه إله في وضع” (القصائد الأخلاقية 10، 140 مين 37: 690).
كيرللس الإسكندري ذهب إلى أن كون يسوع إلهاً وإنساناً أتاح تحويل إنسانيتا الساقطة إلى النبل الإلهي (مين 75: 24-28 و356 و368). وقال: “نحن هياكل الروح القدس… بسببه نحن نسمَّى آلهة… كيف نصير آلهة وهياكل الله…؟ ولكننا، حقيقة، هياكل وآلهة” (في الثالوث 7، مين 75: 1089).
ودينونيسيوس المنحول قال: “وتألهنا هو أن نشبه الله ونتحد به على قدر ما نستطيع…” (الرئاسة الكنسية 1: 3-4 مين 3: 373-376 وأيضاً 3: 3 مين 429، و7 مين 436، والأسماء الإلهية 8: 5 مين 893).
صفرونيوس الدمشقي-الأورشليمي قال: “بشرى سارة بها، نحن المرذولين، ارتفعنا وتم تأليهنا وتصييرنا آلهة بالنعمة… لقد تم إظهارنا كلنا آلهة” (مين 87: 3284).
مكسيموس قال في نفخة الله لصنع الإنسان أنه الأقنوم المخلوق على صورة الأقانيم الإلهية (مين 91: 1217 وريو ص 75). وقال أيضاً إن الإنسان “شخص مؤلف” (مين 91: 448) و”أقنوم” (مين 91: 552 وأمكنة أُخرى أيضاً).
أوليفيه كليمان قال في الإنسان أنه “إله صغير” وكرر مع صفرونيوس “إله بالنعمة”… عالم صغير microcosme (مجلة كوناك، العدد 68 / 1969 ص 304).
وقد بذل بعض المعاصرين جهوداً محمودة في ميدان التركيز على أن الإنسان شخص أو أقنوم. بدأت بورودين المسعى الحميد في العام 1932 بسلسلة من المقالات كان لها أوسع الأثر كما ذكر الكردينال دانييلو. وفيها فصل جيد بعنوان “الأنثروبولوجية الصوفية”. وفي مقالاتها في مجلة oecumenica العام 1939 تحدثت عن صورة الله في الإنسان بصورة رائعة. ثم برز فلاديمير لوسكي ذو الهاجس الثابت لتحديد معالم الشخص حتى اعتبره البعض “لاهوتي الشخص” أي العالم اللاهوتي البارع في التحدث عن الشخص باختصاص لامع. فقد ركز في مؤلفاته اللاهوتية على مفهوم الشخص. وخصه في العام 1957 (العدد 24 من الميساجي) بمقال ورد فيما بعد في كتابه “على الصورة والمثال”. وقد نشر تلميذه أوليفيه كليمان في المجلة نفسها لعامي 1964 و1965 (الأعداد 47-50) دروسه اللاهوتية. وفيها قسم عن الأقنوم. وفي المجلة نفسها بعض من دروسه عن الشخص. فقد أجاد تلميذه أوليفييه كليمان في هذه المجلة إذ قام بعمل جيد فنسّق شتات ما قاله أستاذه في مؤلفاته أو الدروس التي ألقاها في معهد القديس ديونيسيوس اللاهوتي الأرثوذكسي في باريس، فجاء العرض شاملاً متناسقاً متكاملاً. وأحسن كليمان فيما بعد بنشره في المجلة نفسها (الأعداد 46-50 لعامي 1964 و1965) دروساً للوسكي بعنوان “العقائد الأرثوذكسية”. وقد ظهر العام الماضي بالإنجليزية بعنوان “اللاهوت الأرثوذكسي: مدخل”. وهو عرض جيد وأسهل من كتبه الأخرى.
غريغوريوس اللاهوتي قال إن الإنسان عالم كبير كما سيمر معنا بينما قال مكسيموس أنه عالم صغير microcosme (5). خلقه الله شخصاً على صورته مدعواً لأن يبلغ في النعمة الإلهية مثال الله في الكمال الروحي. صورة الله فيه هي الشخص (لوسكي نفسه في عدة أمكنة منها “على الصورة والمثال” ص 135-137). وقال لوسكي أيضاً: “الإنسان هو كائن شخصي مثل الله، وليس طبيعة عمياء. هذا هو طابع الصورة الإلهية فيه… علاقته المطلقة كشخص مع إله شخصي يجب أن تسمح له “بشخصنة” العالم. لم يعد الإنسان يخلص عبر الكون بل الكون عبر الإنسان. لأن الإنسان هو أقنوم الكون كله الذي يشترك في طبيعته. والأرض تجد معناها الشخصي، الأقنومي في الإنسان. الإنسان، هو للكون رجاء نيل النعمة والاتحاد بالله (رومية 8: 19-21). فالخليقة إذ أخضعها الإنسان للبلبلة والموت تنتظر أيضاً من الإنسان، إذ صار ابن الله بالنعمة، انعتاقها”… والشخص… يجد ملئه حينما يعطي طبيعته، حينما يتسلم الكون ليقربه لله… عبرنا نحن فقط العالم، كالجسم الذي هو امتداده، يستكيع أن ينال النعمة. لأنه ليست النفس فقط، بل جسم الإنسان هو مخلوق على صورة الله. قال غريغوريوس بالاماس: “معاً قد خُلقا على صورة الله”… الكائن الشخصي يعني كائناً حراً، مسؤولاً،… قادراً على أن يحب أحد الناس أكثر من طبيعته الخاصة، أكثر من حياته…” (العقائد الأرثوذكسية، العدد 48 ص 227-228). وهو متأثر بمكسيموس هنا.
في النهاية الإنسان هو أقنوم يحوي طبيعة، أقنوم مطالب بأن يتوجه بكل شخصه إلى الصيرورة إلهاً بفضل نعمة الله، وجهوده هو العملاقة.
فالطبيعة لدى الآباء ذات معنى ديناميكي لا ذات معنى ثابت (6).
وقد قال الآباء إن الله وضع في الإنسان ما يجعل الإنسان يتجه إلى الله ويرغب فيه ويفتش عنه. وركّز النيصصي بصورة واسعة على امتداد الإنسان نحو الله بشوق مضطرم لا يبرد تركيزاً رائعاً. فلا حدود قاطعة. نمتد إلى الله بلا انقطاع ولا نهاية، إلى الأبد وذلك بدون أن نستطيع نحن معشر المحدودين أن نشبع من الله اللامتناهي. فسعينا إليه متواصل، لا يتوقف أبداً (7). وكذلك الملائكة (بالاماس)
ومكمله مكسيموس لا يقل عنه تركيزاً على الموضوع. فالله لديه هو الكل في الكل. هو بدايتنا وهو نهايتنا. ومع كونه لاهوتي متصوف كبير فهو رجل نضال لا تلين له قناة. جاب دينا المتوسط مكافحةَ ضد بدعة المشيئة. ولا يهمل العمل الإيجابي في تحاليله اللاهوتية. فهو يركز على المعرفة الإلهية المقرونة بالفضيلة الإيجابية المناضلة، بالعمل المتقن المركز (8). وحتى راهب متصوف نقل إلى جبل أثوس حرارة “صلاة يسوع” كغريغوريوس السينائي (9) ركز على العمل أوسع تركيز هام. فتراخي الأرثوذكس إذاً ليس قائماً على التعليم إذ تعليمهم إيجابي كما ذكرنا قبلاً، بل على عيب في النفس.
مكسيموس المعترف قال “إن الإنسان هو كنيسة صوفية… الكنيسة إنسان روحي، والإنسان كنيسة صوفية” (مين 91: 672 و684 في كتابه الميستغوغيا حيث يتحدث عن بناء الكنيسة والخدمة).
باسيليوس قال على ما ذكر غريغورويوس في رثائه له: “أنا خليقة (من خلائق) الله مدعوة لأن تكون إلهاً” (مين 36: 560).
غريغوريوس بالاماس، على غرار مكسيموس والكبادوكيين، يضع النبرة بقوة على الأقانيم الإلهية (مايندورف، المدخل، ص 292 و297). وهو يذكر 3 أنواع من الاتحادات: اتحاد الأقانيم الثلاثة في الجوهر الواحد، اتحاد طبيعتي المسيح في أقنوم واحد، اتحادنا بالقوة الإلهية التي تؤلهنا (10).
في هذا الاتحاد الأخير نشترك في الحياة الإلهية بفضل النعمة الإلهية. النعمة الإلهية قوة إلهية غير مخلوقة صادرة من الثالوث القدوس، تسكن فينا. بواسطتها نتحد بالله. هذه النعمة تتقنّم فيَّ. الطبيعة البشرية تقنمت في يسوع. والنعمة تتقنّم فيّ. وكلما ارتقيت في الاتحاد بها تعاظم اتحادي بالله (مايندورف، المدخل، ص 254 و297 وو…).
ستانيلواي يقول إن “أنا” الإنسان هو صورة “أنا” كلمة الله يسوع، المعد لأن يصير ذاتاً للأشياء وأن يسوع-الكلمة قد نفخه فينا (كوناك 84 / 1973 ص 298-302).
باسيليوس والغريغوريوسان والذهبي الفم والدمشقي وبالاماس تحدثوا عن رئاسة الإنسان على الكون كملك وسيد. وذكروا أن الله خلق العالم أولاً فأعدّه كقصر ومملكة للملك الآتي أي الإنسان (11). وميّز الآباء الصورة الإلهية بالعقل والحرية والسيادة والحكمة وو… وبعضهم ككبازيلاس (تبعاً للنيصصي) تحدث عن صورة الله في الإنسان، فجعل مقوماتها طرقاً للتفتيش عن مثيلاتها في الله (كوناك، النص والحواشي 35 ومايليها) (12).
إلا أن أستاذي المرحوم بول افدوكيموف لم يكن موفقاً كل التوفيق في هذا الباب. أحسن في انتقاده شخصانية بعض المفكرين المعاصرين فاعتبرها شخصانية كونية (كوسمولوجية) أو أخلاقية أو اجتماعية (الحاشية 102 وص 94) ذاهباً إلى أن أنثروبولوجيتنا هي أونتولوجية، وقائمة على عقيدتنا في الثالوث القدوس. وذكر مثل بورودين أن الإنسان “إله مخلوق” و”أقنوم مخلوق”. وقال أيضاً أنه “إله بحسب النعمة” و”شخص مخلوق”. كما ذكر تقنّم النعمة الإلهية فينا وتقنّم الكون في يسوع بفضل ناسوته. إلا أنه في الصفحات 68 إلى 72 يقيم تفريقاً بين الأقنوم والشخص، فيجعل الأقنوم ما سنصير إليه، ويقول: “في الحالة الطبيعية يختلط الشخص مع الفرد”.
وفي مقاله في مجلة كونتاك يحاول دعم ذلك بتحديد المجمع الرابع المسكوني الذي أقام واو العطف بين لفظتي أقنوم وشخصي. إلا أنه ذهل عن لجوء المجمع الخامس صراحة إلىإقامة المرادفة بينهما، وأن المجمع الرابع صرَّح بوحدة الشخص والأقنوم ليقضي على بلبلة القول بأقنومين وثلاثة أشخاص في يسوع.
ومر معنا أن الكبادوكيين والكنيسة غرباً وشرقاً قبلوا في القرن الرابع ترادف اللفظتين في عقيدتنا الثالوثية. إلا أن الأمر تأخر بالنسبة إلى عقيدتنا الخريستولوجية في المسيح حتى القرن الخامس. وينسب لفظة تقنيم إلى لاونديوس البيزنطي (ص 70 الحاشية 111) بينما وردت قبلاً لدى أبوليناريوس وابيفانيوس القبرصي. إلا أن لاونديوس جعل منها مصطلحاً لاهوتياً أساسياً في مذهبه. انتزعها منه لاونديوس الأورشليمي وطهرها من أردان الأفلاطونية الأوريجنسية.
وصرنا اليوم نطلقها على تقنّم الطبيعة البشرية في أقنوم ابن الله يسوع (13).
وهو يعتبر القلب مركز إشعاع الشخص. ولكن سنرى أن لاهوتنا الآبائي يعتبر هذه الألفاظ مجازية (14). وفي مقاله في مجلة كونتاك الفرنسية يحاول إدخال الطبيب النفسي شارل يونج في عداد الشخصانيين القريبين من اللاهوتيين. أتحفظ حيال ذلك. يونج مؤمن. ومفاهيمه قريبة من الدين نسبياً فقط. أما الأطباء النفسيون إجمالاً طوّروا نظرياتهم باتجاه الـ “أنا” و”الشخص” (15) ومع هذا يبقى البون بيننا كبيراً. يتعاطون التحليل والتطبيب على أسس وضعية وموضوعية. واللاهوتيون يتجاوزون هذا الواقع النسبي إلى المطلق. وإن كان يونج أعطى الـ “هو” so i معنى غير الذي أعطاه إياه فرويد الذي استعار من نيتشه es (بالألمانية) فإنما ألفاظنا اللاهوتية أقوى تعبيراً عن المضمون اللاهوتي بمراحل شاسعة. الآباء كيرللس الأورشليمي.
4 – علاقة الجسد بالروح.
فالجسد هو أداة الروح على مايرى الآباء، كيرلس الأورشليمي (4: 23 مين 23: 15) وباسيليوس الكبير (ص 183) وأخوه النيصصي (ص 130). فالروح لا يستقر في مكان معين محدود في الجسد. وإنما يرتبط بكل جزء منه، يتصل بكل أداته أي الجسد بطريقة اتحاد ما غير قابلة للوصف، وبصورة روحية. وحيث يقع عطب ما في الجسد يبقى الروح بلا نتيجة ينتجها ولا نفاذ (النيصصي، ص 129-132 و…) (16).
ويعتبر باسيليوس أن الـ “أنا” يطلق على إنساننا الداخلي. أما ما هو خارجي فلا نسميه “أنا”. الخارجي هو شيء أملكه، هو ملكي، هو لي. فيدي هي جزء من الإنسان وليس “أنا”. أقول يدي أي اليد هي ملكي، لي، خاصة بي (183).
“أنا” هو المالك، يدي هي المملوك.
ويسأل الذهبي الفم في عظته الخامسة ضد الأفنوميين: ما هو جوهر النفس؟ كيف هي موجودة في جسمنا؟ هل هي منتشرة في كل كتلة الجسم؟ هذا مجهول ومبهم. الامتداد خاص بالأشياء الجسمانية. فإن قطعت يدا ردل أو رجلاه بقيت نفسه هي هي. وإذا لم تكن في كل الجسم، فهل هي في قسم من اقسامه؟ لا! لأن ذلك يعني موت الأقسام الأُخرى، إذ أن كل ما ليست له نسمة حياة هو ميت. النفس موجودة في جسمنا، ولكن لا ندري كيف هي موجودة فيه (17).
هذا التعليم مستمر في الأرثوذكسية. فالقديس نيقوديموس الآثوسي في القرن الثامن عشر قال هذا القول مستنداً إلى الدمشقي (“… والجسد لا يحوي النفس بل هي تحويه كما أن النار تحوي الحديد”). وباسيليوس، ومن عباراته الجميلة: “الإنسان عالم كبير megalocosmos” (غريغوريوس اللاهوتي)، “كل الخليقة كانت لأجل النفس: الناموس، النبوات، الأناجيل قد أُعطيت لأجل النفس… لأجل خلاصها جاء ابن الله نفسه إلى الأرض وصار إنساناً… وتألم كثيراً وصلب” (18). وغريغوريوس بالاماس سبقه فقال: “النفس هي في كل مكان في الجسد الذي خلقت فيه، لا كأن لها مكاناً أو أنه قد احتواها، بل كممسكة بالجسد معاً ومعطية حياة له (19)“. وأبرز وفاق الآباء في الرأي.
أما ديكارت الفيلسوف والعالم الفرنسي الكبير فقد ضل السبيل وانطلق يفتش في الجسد عن نقطة التقاء النفس والجسد. كان هذا الهم موجوداً في الفكر اليوناني القديم. فذكر النيصصي أن البعض يجعلون الدفاغ مركزاً وأن البعض الآخر يجعل القلب إلا أنه نسخ القولين معاً وما إلى آفاق الروح الرحبة. فالروح جوهرياً هو غير الجسد.
وانزلق الفكر بعد ديكارت في التفريق فهوى العلماء إلى حضيض العلوم المادية وانسل الفلاسفة إلى الاجترارات العقلية بدون حيوية وقيمة جياتية ديناميكية. وتحجر الفكر وابتعد عن الحياة وتلوينها بألوان العمق الروحي الزاهية. صارت المادة معيار الفكر.
فلو كان ديكارت في عهد آباء الكنيسة لاعبتروه نسطورياً في نظرته إلى الإنسان. ومازال هناك من يرى رأيه بعد التعديل العلمي المعاصر. ففي القرن الماضي قامت محاولات جادة لإقامة الدليل على أن الدماغ هو مركز النشاط العقلي. ولكنها فشلت جميعاً. وتجددت في هذا العصر فصارت إلى الإفلاس التام.
وفي عدد أيار 1979 عقد جراح أميركي كبير مختص بجراحة الدماغ مقالاً جيداً في مجلة “المختار” (ص 81-84). هو يؤمن بالروح وخلودها وأنها غير الجسد وأن العلم عاجز عن تفسير ظاهرة الحياة وأنه سيبقى عاجزاً. ومع أن الجراح يحمل دكتوراه في الفلسفة فقد اعتبر الدماغ مركز الروح. فمع احترامي لكفاءته الطبية والعلمية أرفض رأيه الفلسفي. الروح جوهر خاص غير جوهر الجسد. والحلول مفهوم مكاني. والمكان مادة.. والروح غير مادية. فلا حيّ. مادي لها تسكنه بصورة تقبل المعاينة المجهرية.
إلا أن الفكر المعاصر أُصيب بصدمة مع ظهور مؤسس الوجودية المسيحي كيركيغارد. فاكتشافه في مطلع القرن كان بداية ثورة ضد الأرسطوية ليهب على الفكر نسيم الإنجيل والفكر الوجودي العميق. أضف إلى هذا رجوع الغرب بكثافة إلى آباء الكنيسة القدامى واللغة اليونانية للتعمق اللاهوتي والفكري.
وبعض العلماء المعاصرين توصل إلى رأي آباء الكنيسة. فقد أورد كتاب Cosmos رأياً للدكتور بول شوشار مؤداه أن الدماغ هو أداة حياة الروح. فإذا تعطل الدماغ كلياً أو أصيب برجة تعيبه عن العمل تلاشت الحياة الروحية أو توقفت (20).
5 – الرجل والمرأة متساويان
ويبقى معنا فرع أخير ألا وهو مسألة الجنسين لدى البشر. فآباء الكنيسة لا يفرقون بين الرجل والمرأة في الخلق على صورة الله ومثاله. ويعتبرون الرجل أقنوماً والمرأة أقنوماً. ويكرمون طبيعتهما بالتساوي. ففضائلهما متساوية. ومكافأتهما متعادلة. وكذلك دينونتهما. وليست المرأة بضعيفة إذ أن الضعف هو من فعل الجسد بينما تقيم القوة في النفس (باسيليوس).
ولا يقف باسيليوس عند هذا الحد. فيبدو أنه عرف في زمانه تفوق النساء في الفضيلة على الرجال، فتابع يقول: هل تستطيع طبيعة الرجل في وقت ما من الأوقات أن تدخل في منافسة مع طبيعة المرأة التي تقضي حياتها في معاناة ألوان الحرمان؟ وهل يستطيع الرجل أن يقتفي أثرهن في التجلد على الأصوام والحرارة في الصلاة، وغزارة الدموع، والهمّة في الأعمال الخيرية؟ (ص 213).
وإنه لجدير بالذكر أن هذا الإطراء لتقوى النساء صدر في القرن الرابع أيام العمل بالقانون الروماني الوثني الذي لم يكن قد نال سوى بعض التعديلات التي أملتها الروح المسيحية. ونعرف أن هذا القانون لا يساوي أبدأً بين الرجال والنساء. فالسلطة فيه لربّ العائلة. ولكن ذلك يعطينا صورة واضحة عن التطور الذي طرأ على الأفكار وعن الانقلاب الجذري الذي أجرته المسيحية حتى تفوقت النساء في ذلك القرن (قرن أنطونيوس الكبير وأمثاله) على الرجال (21). وغابت هذه الرؤية عن الغرب، بالرغم من بعض التقدم المحرز على يد قانونيي القرن الثاني عشر، فجاء تشريع نابوليون يعيد أحكام القانون الوماني القديم ويقيد حرية المرأة. وجاء هذا القرن -وبخاصة بعد الحرب العالمية الثانية- يحرر المرأة أسوأ تحرير لحشوها بالغرور والبروز الكاذب على حساب الرجل الذي لا يؤمن في عقله الباطن بذلك، فاستغل غرور النساء للتملق والتدجيل وتحويل المرأة إلى دمية ومطية لاهوائه المرفوضة القبيحة.
أما تاريخ كنيستنا فيشهد للنساء بأنهن حاميات الإيمان والتقوى والفضيلة. وهذا هو التفوق الذي شهد به باسيليوس شيخ آباء الكنيسة غير المنازلع. أما هذا الاسترجال فمرفوض لدى الأرثوذكس. وعلمياً يرى الأطباء النفسيون (22) اليوم أن الرجال أخذوا يتخنّثون. وفي حديث مع اسكندينافية في العام 1961 أثبت لها من الطب النفسي أن قول كنائس اسكندينافيا الليبرالية باتفاق العلم والدين وتركيز التربية على الوداعة واستعلاء النساء هي التي نسفت الدين هناك وخلقت الأفكار الانتحارية وتخنّث الرجال واسترجال النساء.
(1) راجع 17 مصارد.
(2) السؤال 60 إلى ثلاسيوس أصرح نص لدى مكسيموس. راجع ص 92-98 في كتاب آلان ريو والحاشية 35 في الصفحة 51 من كتاب بورودين في التأله والعدد 84 (1973) من مجلة كونتاك الفرنسية (ض 270 والحواشي 41 و43 و44). إلا أن الأب ديمتري ستانيلوي الروماني ذو نظرة مخالفة (ص 307 من مجلة كونتاك).
(3) السؤال 60 إلى ثلاسيوس في مين 90: 621 والسؤال 22، مين 321 والسؤال 40: 396؛ ومين 91: 1237؛ السؤال 59 في مين 90: 608-609 والسؤال 60 المذكور أيضاً مين 642-625 ومين 91: 1042 و1113 و1385 و1076 والمئوية اللاهوتية2: 86-88 مين 90: 1165-1186 والدمشقي في الإيمان الأرثوذكسي 2: 11-12 مين 94: 909-929 و3: 1 مين 94: 981-984 و4: 13: 1136-1153 (وهو متأثر بغريغوريوس اللاهوتي، الخطبة 11: 11-13) وقاموس الروحانية 3: 1387-1388.
(4) غريغوريوس النيصصي، العظة الكبيرة 5 في مين 45: 21 وكابازيلاس، الحياة في المسيح 6 مين 150: 680-681 وكونتاك (ص 268-269 والحواشي 36-39).
(5) راجع 18 و19 مصادر
(6) مايندورف، المدخل، ص 230 و252، أوليفيه كليمان في العدد 68 / 1969 من مجلة كونتاك، ص 291 و292، ستانيلواي، في العدد 84 / 1973 منها، ص 291.
يقول بردياييف ما موداه: الأرثوذكسية انتصرت في المجمع المسكوني الرابع على المونوفيزيتية (الطبيعة الواحدة) نظرياً ولكنها بقيت عملياً مونوفيزيتية. هذا القول مجحف نسبياً. لاهوتنا ديناميكي. إلا أن تاريخنا ذو شؤون وشجون. شرقي المتوسط ذو تكوين نفسي خاص. فيرخوفسكوي أحد أكابر اللاهوتيين الأرثوذكس المعاصرين قال لطلابنا لديه: “أنتم تستوعبون العقائد إلا أنه يكمن فيكم خطر الهرطقة”. حتى بيلاجيوس الهرطوقي الغربي كان تلميذاً لراهب سوري. وكان أبناء الكرسي الأنطاكي نافذين في قصر القسطنطينية وفي المدينة نفسها كما كانوا يوماً في روما ثم متأخراً في اسطنبول العثمانيين. ويعتبر داوني الاختصاصي الكبير بتاريخ أنطاكية أنها هي أنضجت المدينة البيزنطية ثم قدمتها إلى القسطنطينية. وقياصرة روما القديمة والجديدة رومان همهم قبضة الحكم. الصراعات الكنسية أضعفت السلطة الكنسية أمام القياصرة. وانتقل المرض إلى روسيا وسواها.
وقد ارتفى عدد كبير من السوريين السدة البطريركية في القسطنطينية. أحدهم نسطوريوس شق الكنيسة أول انشقاق كبير استمر حتى يومنا هذا. ومنهم أيضاً سرجيوس مؤسس بدعة المشيئة الواحدة التي أزعجت الكنيسة إيما ازعاج في ظروف تاريخية غير مؤاتية لتشقق كبير من هذا النوع. فتوطيد السلطان السياسي كان أهم من التلهي بمثل هذه الاختراعات المضرة. ولكن وراء ذلك كله تكمن أسباب نفسية خاصة بتكونينا النفسي. فنحن فرديون يدور الفرد منا حول محور نفسه. بدون تقاطع عميق مع الغير يحول دون التشقق إن عاجلاً أم آجلاً. نشبه الرمل إلى حدِّ ما، من جهة عدم قابليتنا للالتحام. لتربيتنا وتاريخنا دور كبير في ذلك. إلا أني غير قادر علمياً على تقدير دور البيئة الطبيعية والبنية البيولوجية والمواد الغذائية في ذلك. فهذا يحتاج إلى فريق عمل واسع من العلماء يضم إليهم محللون نفسانيوس ومربون. والأرثوذكس تشددوا في العفة الجسدية وذهلوا عن الصراع الروحي لاقتناء الروح القدس الذي يمنح العفة الحقيقية أي طهارة الروح والجسد معاً.
(7) العدد 84 لعام 1973 من كونتاك خاص بالأنثروبولوجيا الأرثوذكسية. في العدد 68 لعام 69 عقد كل من أفدوكيموف وأوليفيه كليمان مقالاً. وخص الكردينال دانييلو “الامتداد” بفصل جيد في كتابه عن النصصي (ص 291-307) (20). وهو مدين فيه جداً لبورودين كما ذكر نفسه.
(8) مستغوغيا، في مين 91: 675-718 وبخاصة الفصل الخامس. منذ السنوات الثلاثين أثار مكسيموس اهتمامات الباحثين. وكان فضل بوردين كبيراً. هانس فون بلتازار (21) أصدر كتاباً عنه العام 1941 ظهر ثانياً موسعاً (1961) بالألمانية. للأول ترجمة فرنسية. وخصه مايندورف بالفصل السابع من كتابه. ومناسبة الذكرى المئوية 13 للمجمع السادس ظهرت 3 كتب عنه وعن صفرونيوس بالفرنسية (22)، فيها لوائح مصادر جيدة.
(9) غريغوريوس السينائي، مين 150: 1305-1311. وهو من رجالات القرن الرابع عشر. توفاه الله العام 1346. والأمر واحد في التراث الصوفي الرهباني. فالاهتمام بالعمل بند رئيسي جداً. والكفاح الروحي حرب غير منظورة.
(10) قال بهذا أيضاً الدمشقي ونيقوديموس جبل آثوس (كونتاك، العدد 84 / 1973 ص 266).
(11) باسيليوس، على أصول الإنسان وأخوه غريغوريوس (خلق الإنسان) وغريغوريوس اللاهوتي، الخطبة 45: 7 و8 والذهبي (شرح التكوين) والدمشقي (الإيمان الأرثوذكسي 2: 11 و12) وبالاماس، مين 150: 166 وستانيلواي (العدد 84 / 1973 من كونتال، ص 287 و302-303).
(12) كانت النشرة البطريركية في العامين 1973 و1974 قد نشرت دراسة مترجمة عن اليونانية بعنوان “الصورة الإلهية في الإنسان”. وهي إجمالاً جيدة إلا أنها لا تتمتع بالطابع العلمي لجهة ذكر نصوص بالاماس بين هلالين مع ذكر الصفحات التي ورد فيها النص، وتحتاج إلى تدقيق أقوى لتنقيح الترجمة وزوال بعض الغموض.
(13) مكسيموس قال أن يسوع يُقنِّم العالم في شخصه. بما أن الله صار إنساناً ليصير الإنسان إلهاً. أما الارتفاع بالإنسانية فيجر معه ارتفاع الله (السؤال 60 من الأسئلة إلى ثلاسيوس).
(14) غريغوريوس بالاماس قال بوحدة الروح والجسد وحدة انتولوجية. وهو يحترم أقوال من سبقه من الآباء إلا أنه يصحح ما يراه محتاجاً إلى التصحيح. فسميّه النيصصي اعتبر الروح غير جسماني وبالتالي ليس هو داخل الجسم. مكاريوس المنحول ركّز على القلب وجعله مركز الروح وكل أفكار القلب. بالاماس صحّح ذلك فقال أن الورح هو في داخل الجسم لأنه مرتبط به. وهو يستخدم القلب بصورة لا تقبل الوصف كأول عضو جسدي على ما قال مكاريوس المنحول. ولكنه إجمالاً يفتح صدره رحباً لمثل هذه المباحث ويطلق لها عنان الحرية. فما هو هام في نظره إنما هو الخلاص فقط (مايندورف، المدخل 212-213). وعالج الأمر جيداً في ثالوثياته.
(15) أنظر عرضاً شاملاً في الإنكليزية والفرنسية في:
Gerald S. Blum: Psychoanelytic Theories of Personality (1953).
(16) راجع 24 مراجع.
(17) راجع 25 مراجع
(18) راجع 17 مراجع
(19) راجع 26 مراجع
(20) لقد سبق لي في العامين 1974-1975 أن عقدت بحثاً علمياً حول الموضوع استعرضت فيه أحد الآراء في أصل الحياة وعلاقات النفس بالجسد مسشتهداً بمراجع علم النفس الفيزيولوجي والطب العقلي والتحليل النفسي والجراحة الدماغية وو…. وانتهيت إلى إثبات فرادة لرأي آباء الكنيسة وشخصانيتهم. ولكن فقدت قسماً من البحث.
(21) آباؤنا القديسون يميلون إلى اعتبار الإنسان الأول كائناً مثالياً كما سيكون في يوم القيامة أي كالمسيح الممجد. وبقسم كبير مال البيزنطيون إلى رأي أوريجنس وغريغوريوس النيصصي أي أن الحياة الجنسية كانت مفقودة في الفردوس وأن آدم وحواء لم يعرفاها إلا بعد أن خسرا جسمهما الأثيري واتخذا جسماً مادياً يجسد دعوة الحواس (بورودين، الحاشيتان 29 و30 ص 46-48، ومايندورف 189 ولوسكي، العقائدية الأرثوذكسية، العدد 48 ص 231-232).
وما دام الشيء بالشيء يذكر، فإن الذهبي الفم في خطبه الشهيرة عن الزواج اعتبر الأبوة الروحية أهم وأشمل من الأبوة الجسدية. ودفاعه عن الحياة الرهبانية وتعلقه بها مشهور. وفي خطبه المذكورة عرض نظريته الرائعة في الزواج اقترن بين الزوجين دون أن يكون النسل شرطاً فيه. هذه نظرية توما الإكويني لا الأرثوذكسية الآبائية. ولذا لا يقيم الذهبي الفم أي وزن لعقم النساء لأن اتحاد الزوج بالزوجة كالمسيح بالكنيسة هو أساس الزواج لا النسل. وبولس الرسول تنازل للضعف البشري فسمح بالزواج الثاني. أما غريغوريوس اللاهوتي فشتم الزواج الثالث. مسيح واحد وكنيسة واحدة والزوجان صورتاهما يصيران واحداً.
{القديس باسيليوس الكبير لا يرفض الزواج الثالث فيعتبره أفضل من الوقوع في خطيئة الزنى. ولكنه يرفض الزواج الرابع رفضاً قاطعاً، والكنيسة الأرثوذكسية تسير معه في هذا التدبير… (الشبكة)}
(22) راجع 27 مراجع