هو جبرائيل بن نقولا بن يوسف جبارة ولد في دمشق عاصمة سوريا في 19نيسان 1839 وتلقى تعليمه في مدارس الآسية الابتدائية اضطر وهو في العاشرة إلى ترك المدرسة وتعلم مهنة الحياكة ليساعد أخاه يوسف في نسج الأقمشة لكن شغفه بالعلوم جعلَهُ ينكب ليلاً على مطالعة الكتاب المقدس وكتابات الآباء القديسين كالذهبي الفم والدمشقي وغيرهم…. وفي العشرين من عمره سافر إلى القدس ليتابع دراسته اللغوية والدينية وشكل في دمشق بعد عودته جمعية تعني بتعليم اللغة العربية وقواعد الإيمان ومطالعة الكتاب المقدس صارت نواة لجمعية القديس يوحنا الدمشقي وقد ثابر جاهداً على قيادتها لخمس سنين بصدق وتفان.
وخلال ذلك الوقت عادت بدعة آريوس للظهور فقد أصدر أحد الشباب الأرثوذكس في دمشق كتاباً جحد فيه ألوهية السيد وادعى أن الكتاب المقدس محرف فما كان من جبرائيل جبارة إلا أن تصدى له داحضاً آراءه معتمداً على ما كتبه القديس أثناسيوس الكبير في المجمع المسكوني الأول عام 325م وعلى الكتاب المقدس خلال اجتماعات دورية كان ينظمها كل أحد في منزل أحد المسيحيين.
انتقاله إلى اللاذقية:
في عام 1867م زار ميتروبوليت اللاذقية ملاتيوس الدوماني [1] دمشق فأعجب بشخص جبرائيل وبنشاطه وثقافته الواسعة فطلب منه المجيء إلى اللاذقية ليكون مدرساً للعربية والتعليم المسيحي والتاريخ والجغرافيا في مدرسة الرشدية الأرثوذكسية باللاذقية فرد بالموافقة. وفور وصوله باشر بالعمل الموكل إليه ومكث في الرشدية عشرين سنة متولياً إدارتها بعناية فائقة ونشاط قل نظيره في تغذية النفوس بالتعاليم الروحية والآداب وكان يعلم لا بالقول وحسب بل وبالفعل أيضا فقد كان تعليمه مقروناً بالأعمال الخيرية وكانت فترة إدارته العصر الذهبي للمدرسة فتخرج منها العديد من الشخصيات الأرثوذكسية البارزة ونذكر منها الميتروبوليت جراسيموس مسرة ميتروبوليت بيروت.
غريغوريوس الشماس والكاهن والأرشمندريت:
في 25/3/1872 سامه الميتروبوليت ملاتيوس شماساً إنجيلياً وأسماه غريغوريوس وفي عيد رفع الصليب عام 1884 سامه كاهناً وفي مطلع نيسان 1885 رقي إلى رتبة الأرشمندريتية ونظراً لنشاطاته ومعرفته العلمية الواسعة وتقواه عينه راعي الأبرشية رئيساً للجمعية الخيرية باللاذقية في تشرين الأول 1885 كان يقضي نهاره في التعليم والتدريس ويمضي ما تبقى منه لزيارة المرضى والمحتاجين ومواساة الحزانى. وكان ينزوي إلى غرفته لكتابة مراسلات المطرانية والمنشورات الروحية والعظات الكنسية. وقام بإصلاحات عدة في الأبرشية وأعطى منحاً للعديد من الطلاب المحتاجين فذاع صيت فضيلته ومعرفته الحقَّة مما أهله لدرجة الأسقفية.
ترقيته إلى درجة الميتروبوليتية:
في عام 1886 رقد بالرب المثلث الرحمات مطران حماة جرمانوس زيوت فرفع الأهالي عريضة إلى البطريرك يطلبون فيها الأرشمندريت جبارة راعياً لهم فالتئم المجمع الأنطاكي المقدس في 23/12/1886 وانتخب الأرشمندريت غريغوريوس جبارة ميتروبوليتاً على حماة.
ونزولاً عند رغبة أهالي مدينة اللاذقية تمت شرطونية المنتخب في الأحد الأول من الصوم الواقع في 22/2/1887 في كاتدرائية القديس سابا باللاذقية [2] برئاسة البطريرك جراسيموس والمطارنة ملاتيوس (اللاذقية) وغفرائيل (بيروت) وفي نهاية الخدمة وعظ صاحب الغبطة وزود المطران الجديد بتوجيهاته ورد سيادته بكلمة أظهر فيها أهمية الأسقفية وأعبائها وشكر غبطته وسيادة مطران اللاذقية أباه الروحي وأقام قداسي السبت والأحد في اللاذقية ودع فيهما أبناءها فبكى واستبكاهم.
خدمته في حماة:
غادر سيادته اللاذقية إلى حماة في 4 آذار 1887 فجرى له استقبال رسمي وشعبي كالعادة فمنذ تسلمه الأبرشية سعى لإنهاضها من الجمود الذي كانت تعيشه فأعاد لها الحياة بالوعظ والتعليم والتنظيم وباشر ببناء الكنائس حيث يلزم وسد النواقص في الكنائس المشادة قبل انتخابه من سيامة كهنة وتوفير البذلات الكنسية والأواني الطقسية ولم يتوان عن مساعدة أبناءه في مشكلاتهم مع السلطات من حيث تخليصهم من الضرائب المرهقة وإخراجهم من السجون. وأسس جمعية تعنى بمساعدة الفقراء وهي جمعية عضد الفقير الأرثوذكسية التي صارت نواة لأخوية السيدة الموجودة حالياً في حماة وأخرى نسائية تدعى جمعية نور الهدى وهي تعنى بمساعدة الفتيات اليتيمات وتدريبهن على الأشغال اليدوية. وعرف المطران غريغوريوس بأنه رجل علم فبنى أربع مدارس للذكور ولإناث عرفت في عهده الازدهار وازداد عدد طالبي العلم فيها واستمرت حتى عهد خلفه المثلث الرحمات المطران أغناطيوس حريكة ولكن بعده عرفت انتكاسة كبيرة وغابت عن الحياة باستثناء روضة نور الهدى.
أدهش سيادته أبناء أبرشيته بتقشفه وزهده في العيش وقناعته بالقليل وقضائه الليل بكامله في الصلاة والتأمل. فقضى سيادته ربع قرن مجاهداً الجهاد الحسن بصبر وتفان. فقرَّر المثلث الرحمات غبطة بطريرك إنطاكية وسائر المشرق غريغوريوس الرابع حداد [3] تكريمه بإقامة يوبيل فضي له.
مؤلفاته:
كان سيادته كما قلنا سابقاً رجل علم ومعرفة وأتقن العربية واليونانية التي سهلت له دراسة الكتاب المقدس ومؤلفات الآباء القديسين وسيرهم ومن تأليفه كتاب التعاليم السنية وهو مؤلف من 18 فصلاً يبحث فيه العقيدة المسيحية الأرثوذكسية واعتمد فيه اللغة البسيطة السهلة والسلسة لأن كتابه كان موجهاً لجميع أبناء الشعب ليفهموا إيمانهم [4] ويتعمقوا فيه ويضع حقائق الإيمان في متناول الجميع ويلاحظ أنه اتبع المنهج العلمي في كتابه وهذا ما يشير إلى المستوى العلمي الرفيع الذي وصل إليه وعرضه للعقائد يدل على معرفة عقائدية كتابية وآبائية واسعة وعلى أرثوذكسيته الحقة بالطبع. وبسبب معرفته القانونية الواسعة كان المساعد القانوني للبطريرك ملاتيوس في تعديل القانون الأساسي للبطريركية الأنطاكية.
سنيه الأخيرة:
3/أيار شرقي/1919 أشرف المطران غريغوريوس على الثمانين فصارت شيخوخته تعيقه في الخدم الروحية فطلب من غبطة البطريرك إرسال وكيل له في الأبرشية ليساعده في شؤون المحكمة الروحية وغيرها فتم إرسال قدس الأرشمندريت نيفن سابا في 13/8/1920 وطلب من المجمع المقدس إعفاءه من الاشتراك في جلساته وبعد المناقشات قرر المجمع إبقاء المطران غريغوريوس على سدة الأبرشية والاعتناء به في دار المطرانية.
ونذكر مقتطفات مما كتبه الأرشمندريتان سابا وحريكة فالأول يقول عن لسان المطران لخادمته الخاصة: ” مسكينة أنت يا أم برهان الآن كان عندي جوق من القديسين وها نورهم يسطع في الغرفة فأطفئي القنديل لأن نوره ضئيل…” وأنه يسترجع ماضيه ويرتل القوانين بألحانها. أما الثاني فيقول: “إنه يمضي أوقاته في مطالعة الكتاب المقدس والصلوات وقد سألني باهتمام عن غبطتكم وكلفني بتقبيل يديك وقد أعجبت بهذه الشيخوخة المكللة بالصبر والتعزية وراحة الضمير خير ما تختم به أيام خائفي الرب” ونجد في أقوالهما تلميحاً إلى الاعتقاد بقداسته.
وقد انتقل الميتروبوليت غريغوريوس جبارة إلى جوار ربه يوم الأربعاء 26/2/1925م عن عمر ناهز 86عاماً. فنعاه الوكيل الأرشمندريت نيفن إلى سائر الأبرشيات ودعاهم للصلاة لراحة نفسه في كاتدرائية السيدة ثم سجي جثمانه الطاهر في ديوان المطرانية وغصت دار المطرانية بالألوف من أبناء حماة وسوريا على مختلف مذاهبهم وطوائفهم وبعد خدمة الجنازة ووري الثرى مع أسلافه في مدفن مطارنة حماة تحت قبة جرس الكنيسة القديمة.
من حياته:
– عندما هطلت الثلوج عام 1906 شلت كل حركة ومنعت كل عمل فشعر الناس بالضيق والحاجة فأوعز المطران لوكيله ميخائيل حزوري بأن يعطي الناس المحتاجين من المؤونة الموجودة في العنبر فامتثل الوكيل لطلب المطران حتى فرغ المستودع وظل الفقراء منتظرين فنادى سيادته الوكيل وأمره مجدداً بالتوزيع فأخبره بنفاذ المؤون وعندما تحقق المطران من ذلك للتو ركع وصلى وطلب من الله المساعدة وإذ بالمستودع يمتلئ من جديد فعاد الوكيل للتوزيع.
– يروى أنه في أحد الأيام وبينما كان جالساً في السقيلبية وإذ بامرأة تدخل عليه شاكية باكية وقصت عليه حكايتها: أولادها صغار وزوجها أخذ إلى الحرب ولم يعد وليس لها من معيل فلم يتمالك سيادته نفسه وأجهش بالبكاء ومد يده إلى جيبه وأعطاها كل ما معه فدعت هي له بطول العمر وقبل أن تغادر قالت له: يا سيدنا أنا مسلمة. فقال لها: لم أسألك من أنت ولا من أية ملة؟ فالرغيف عنده لا هوية له فهو لكل المحتاجين على حد سواء.
– أيام الحرب العالمية الأولى اشتهرت مطرانية حماة بأنها كانت تطبخ بكميات كبيرة لإطعام المحتاجين لأية ملة انتموا. ويقال أنه لكثرة عطائه أفلست المطرانية وحتى أنه لم يتردد في إعطاء متاعه الشخصي بل وأثاث المطرانية فمرة أتاه شخص يستعطي فأعطاه أحد أغراض المطرانية فذهب به ذلك الشخص إلى سوق الدلالة ليبيعه وهناك رآه أحد وكلاء الكنيسة فسأله:” من أين لك هذا؟ إنه من المطرانية وهو ملك للمطران.” فأجابه بأن المطران هو من أعطاه إياه, وبعد أن بيعَ الغرض ذهبا كليهما إلى المطران وهناك سأل الوكيل سيادته فأجاب: أنا أعطيته إياه فهو بحاجة له أكثر مني, ولعل ثمنه يساعده ليسد به رمقه.
– وهناك الكثيرون ممن كانوا يشاهدون وجهه يشع نوراً خلال وقت الصلاة ولشدة تأثرهم به كانوا يرونه وكأنه يرتفع عن الأرض.
هناك أشخاص كثيرون من طوائف مختلفة يشهدون بقداسته وبعطفه على الفقراء حتى أن بعضهم يقول أنهم رأوه في الحلم يطير إلى السماء كملاك ونذكر منهم شهادة المثلث الرحمات المطران روفائيل نمر مطران حلب: (مطرانكم قديس وقد شاهدته في نومي يحلق إلى السماء)
المطران غريغوريوس جبارة عاش قديساً ومات قديساً
فبشفاعته اللهم ارحمنا وخلصنا آمين
إعداد : ميلاد ديب جبارة
[1] وهو البطريرك الأنطاكي ملاتيوس الثاني (1899-1906) أول بطريرك عربي منذ عام 1725 .
[2] هذه الكنيسة غير موجودة الآن فقد هدمت في أربعينيات القرن الماضي وشيدت مكانها مدرسة الكلية الوطنية الأرثوذكسية في عهد المثلث الرحمات المطران تريفن غريّب اللاذقي مطران اللاذقية وكان هدمها خطأً من السلطات الكنسية لأن الأراضي التي كانت حولها فارغة وزهيدة الثمن ولا تزال أيقونة القديس سابا المتقدس موجودة فوق المدخل الرئيسي للمدرسة شاهدة على صاحب المدرسة الحقيقي والذي يجب أن يكون مرشد طلابها و مدرسيها وإدارتها على حد سواء.
[3] وهو البطريرك العربي الثاني (1906-1928) وكان مطراناً على طرابلس في لبنان وكان مثالاً يحتذى به في القداسة والسيرة الحسنة وسيرته موجودة في كتاب القديسون المنسيون في التراث الأنطاكي للأرشمندريت توما بيطار – منشورات النور 1995
[4] وكم نحن بحاجة لأن يعاد طبع هذا الكتاب خاصة في وقتنا الحاضر حيث يجب علينا أن نفهم إيماننا بدقة لكي نواجه الهجمات الشرسة التي نتعرض لها في حياتنا اليومية من قبل الجماعات المسيحية المتهوِّدة.