تكثر في العهد الجديد الشهاداتُ التي تتحدّث عن قيامة المسيح في اليوم الثالث من بين الأموات. وهي تختلف في بعض التفاصيل، منها، مثلا، أنّ القبر كان مفتوحاً عندما وصلت النسوة (مرقس 16 :4 ويوحنا 20: 1)، في حين ان الإنجيلي متى يورد أن الملاك هو الذي أزاح الحجر حين أتت النسوة. كما نجد في أحد الأناجيل أنّ ثلاث نسوة زرن القبر (مرقس 16: 1)، وفي إنجيل آخر أنهما اثنتان فقط (متى 28: 1)… وقد اتّفق جلّ المفسّرين على القول ان الاختلافات في روايات القيامة هي برهان دامغ على صحّتها وحقيقتها، ذلك أنّ الحدث الأساسي هو القيامة، واختلاف الروايات في التفاصيل يقصي أي تفسير لها على أنّها روايات وهميّة أو أسطورية.
إنّ النصّ الأقدم حول القبر الفارغ هو الوارد في إنجيل مرقس (16: 1-8)، الذي يشدد على دور النسوة في اكتشاف القبر فارغاً وتسلّمهن الرسالة الإلهية، وهذا يؤلّف برهاناً تاريخيّاً قاطعاً عن حقيقة القيامة. ففي المجتمع اليهوديّ آنذاك لم تكن لشهادات النساء أيّ قيمة قانونيّة أو شرعيّة. فلو كانت رواية القيامة مختلقة (أو بتعبير آخر “مفبركة”) لما كان الكلام على شهادة النساء لعدم جدوى شهادتهن، بل لكانت الشهادة وُضعت على لسان التلاميذ أو بعضهم. وما صمت النسوة و”الرعدة والدهش” اللذين أصاباهنّ إلاّ ردود فعل إنسانيّة طبيعيّة تجاه التدخّل الإلهيّ. هذا الصمت يقول لنا ما لا يمكن كلاماً بشريّاً أن يعبّر عنه. ولهذا، ليست القيامة حدثاً يندرج بين الأحداث العاديّة بل بها تحقّقت حياة العالم الآتي. قيامة المسيح هي الآخرة نفسها.
يعلن الإنجيليّ متّى حدث القيامة بأسلوب يتدرج في إطار أدب الكتاب المقدّس بعهده القديم، ولا يمتّ هذا الأسلوب بأي صلة الى الخرافات. فثمّة “زلزال شديد” و”ملاك الربّ” النازل من السماء ليدحرج الحجر، وكان “منظره كالبرق ولباسه أبيض كالثلج” (28: 2-3) ولا شكّ أنّ الإنجيليّ، هنا، يستعمل تعابير التجليّات الإلهيّة ليقول إنّ الله هو مَن أقام يسوع من بين الأموات. وهو يستعمل لفظ “ملاك الرب” الذي ليس هو ملاكاً عاديّاً، بل هو الربّ نفسه الذي ينزل من السماء. ومتّى بإيراده كلام الرب يسوع “هاءنذا معكم طوال الأيّام إلى نهاية العالم” (28: 19) يجعل، على النقيض من مرقس، نهاية الأزمنة في المستقبل بعد إعلان الإنجيل عند الأمم هكذا، يستمر تاريخ البشر، بحسب القدّيس متّى، في ظلّ سيادة المسيح.
يركّز الإنجيليّ لوقا على إبراز مكانة القيامة في إظهار قصد الله الخلاصيّ. ويبيّن أيضاً أن حدث القيامة حقيقيّ وتاريخيّ، فالقائم له لحم وعظم: “إلمسوني وانظروا، فإنّ الروح ليس له لحم ولا عظم كما ترون لي” (24: 39). ويأتي اللقاء مع تلميذَي عماوس قمة في إعلان القيامة، وعن استمرارها في العبادة، فبواسطة كسر الخبز تعرّف التلميذان إلى المسيح (24: 30-31). ولا ريب أنّ كسر الخبز كان في صميم إيمان المسيحيين الأوائل الذي قام على الاعتراف بموت الربّ وقيامته، وتالياً على التغذّي من جسده ودمه.
إنه الإنجيليّ يوحنّا آمن بقيامة المسيح لمجرّد رؤيته القبر فارغاً: “حينئذ دخل أيضاً التلميذ الآخر وقد وصل قبله إلى القبر، فرأى وآمن” (20: 8). ويتابع التلميذ الحبيب قائلا: “ذلك بأنّهما لم يكونا قد فهما ما ورد في الكتاب من أنّه يجب أن يقوم من بين الأموات” (20: 9). هذه الآية توضح أنّ التلاميذ كانوا لا يتوقّعون قيامة المسيح، وما شاهده يوحنّا كان كافياً ليجعله يوقن بحقيقة القيامة. وخلافاً لما قالته مريم المجدليّة عندما وجدت القبر فارغاً: “أخذوا الربّ من القبر، ولم نعلم أين وضعوه” (20: 2)، فالقبر الفارغ ووجود اللفائف ممدودة جانباً كانا كافييَن للتلميذ ليعترف بالقيامة. وتظهر رواية توما الرسول اليقين وصحّة شهادة شهود القيامة، لهذا قال كاتب الإنجيل الرابع: “طوبى للذين لم يروا ويؤمنون” (20: 29)، أي الذين يؤمنون بناء على شهادة الذين رأوا القائم من بين الأموات والذين اختارهم الربّ شهوداً لهم في العالم كلّه.
إنّ غياب شهادات غير المؤمنين عن القيامة ليس سبباً للشكّ في مصداقيّة شهادة المؤمنين. فقيامة المسيح تتعدّى كونها حدثاً تاريخيّاً، لأنّ الإيمان بها لا يقوم على معرفة تتصل بشهادة ماضية وكأنّه امتداد لمعرفة محض تاريخيّة، بل هو التزام آنيّ يؤثر في مسار حياة المؤمنين. وهذا يتطلّب منهم أن يترجموا في حياتهم معنى تلك القيامة من خلال التتلمذ له والسير بنهج إنجيليه.
المسيح قام! حقّاً قام!
عن نشرة رعيتي 2001