سر الميرون

أما أنتم فقد قبلتم المسحة من القدوس وحصلتم جميعاً على المعرفة” (1يوحنا20:2).

أحد الأسرار المرتبطة مباشرة بالمعمودية هو سر الميرون. مباشرة بعد التغطيس الثلاثي على اسم الآب والابن والروح القدس يُمسح المعمود بالميرون المقدس و بتعبير ليتورجي، يُختم بالميرون المقدس. عن المعمودية والميرون يقول القديس كيرلس الأورشليمي (القرن الرابع): “ها إنكم اعتمدتم في المسيح ولبستم المسيح فأصبحتم على مثال صورة المسيح ابن الله، لأن الله الذي اختارنا لأن نكون أبناء بالتبني جعلنا على صورة جسد المسيح المجيد. وبما أنكم أصبحتم شركاء المسيح فأنتم مدعوون بحق مسحاء. انكم أصبحتم مسحاء بتلقيكم ختم الروح القدس. كل شيء تمّ فيكم بالامتثال، بما أنكم صورة المسيح. وعندما تعمد المسيح في نهر الأردن ومنح المياه ملامسة ألوهيته، صعد منها فحل الروح القدس بذاته عليه، كذلك أنتم عندما خرجتم من المياه المقدسة قبلتم المسحة (الميرون) وهي الصورة الحقيقية لمسحة المسيح، داعين بها الروح القدس”.

الميرون هو كلمة يونانية تعني العطر والزيت المعطّر. وهو رمز الفرح والبهجة، القوة والازدهار والسعادة. كان الزيت المعطر يحتل مكانة مهمة في العالم القديم خاصة في العالم اليوناني- الروماني حيث يُمسح الجسم في الاحتفالات بالزيوت المعطرة. وكان اليهود يستعملون الطيب في مسح الملوك والكهنة. وكان هذا المسح بالزيت رمزاً لروح يهوه، به يُصبح الملك ممسوح الرب ويشترك بروحه: “مسحني الرب لأبشر المساكين..” (اشعياء6: 1-3).

في الكنيسة الأرثوذكسية الميرون هو سر قائم بذاته، به ينال المعمود الروح القدس كعطية.

يُدهن الميرون المقدس على عدة أماكن من جسد المعمود (جبهته، أنفه، يديه، رجليه، صدره، ظهره) بشكل صليب، وفي كل مرة يقول الكاهن: ختم موهبة الروح القدس. الهدف من ذلك منح الروح القدس وقوته وموهبته المتعددة لتقوية المعتمد وتسليمه من أجل الصمود في وجه الشيطان الحاقد والذي يهاجم المؤمن لإيمانه بيسوع المسيح. هو العنصرة الشخصية لكل مؤمن منا.

تأسيس السر:

نقرأ في الإنجيل المقدس أنه بعدما اعتمد يسوع على يد يوحنا في الأردن انحدر عليه الروح القدس بهيئة حمامة (متى16:3) والرب كان يعد تلاميذه دوماً بارسال الروح القدس عليهم “وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزياً آخر ليمكث معكم إلى الأبد” (يو16:14) ولكنه كان يشدد دوماً “إنه خير لكم أن أذهب فإن لم أذهب لا يأتيكم المعزي. أما إذا ذهبت فأرسله إليكم” (يو7:16). وهذا ما حصل فعلاً في يوم العنصرة، بعد قيامة المسيح وبعد صعوده. عندما حلّ الروح القدس على التلاميذ المجتمعين في العلية. بالنسبة لنا وكما تعلمنا في السابق المعمودية هو موتنا وقيامتنا بيسوع المسيح وتبقى عنصرتنا الشخصية التي ننال بها نعمة الروح القدس عبر مسحة الميرون.

في كتاب أعمال الرسل (الإصحاح 8) نلاحظ بوضوح أن منح الروح القدس هو أمر منفصل تماماً عن المعمودية. أهل السامرة “اعتمدوا رجالاً ونساءً” (12:8) على يد فيلبس. ثم لما “سمع الرسل في أورشليم أن السامرة قبلت كلمة الله، فأرسلوا إليهم بطرس ويوحنا، فنزلا وصليّا من أجلهم لينالوا الروح القدس. لأنه لم يكن قد نزل بعد على أحد منهم، بل كانوا قد اعتمدوا فقط باسم الرب يسوع. فوضعا أيديهما عليهم فنالوا الروح القدس” (8: 14-17).

كذلك يقول بولس الرسول : “ولكن الذي يثبتنا معكم في المسيح وقد مسحنا وهو الله الذي ختمنا وأعطى عربون الروح في قلوبنا” (2كو1: 21-22) و”ولا تحزنوا روح الله القدوس الذي ختمتم ليوم العزاء” (أفسس30:4).

هكذا بدأ سر الميرون ومارسته الكنيسة الأولى بشهادة الآباء القديسين. والقديس ثيوفيلوس الإنطاكي (القرن الثاني) يشرح سبب تسميتنا مسيحيين بأننا مسحنا بزيت الله.

معنى سر الميرون:

المسحة والميرون هو سر الحياة –بما أن الروح القدس هو معطي الحياة. والسر هذا هو امتداد للعنصرة لأن الروح نفسه الذي نزل بهيئة ألسنة نارية على التلاميذ مرئية ينزل غير منظور –عبر المسح بزيت الميرون المقدس- على المعتمد الجديد. يقول القديس سمعان التسالونيكي: “يهبنا الميرون الختم الأول والخلقة التي كانت على صورة الله التي كنا خسرناها بعصياننا. وأيضاً يمنحنا النعمة التي أخذناها بالنفخة الإلهية آنذاك (عند الخلق). وهكذا فإن الميرون يمنح قوة الروح القدس ويُغني بمواهبه. إنه علامة المسيح وختمه. “عبره نصير شركاء المسيح في مسحته.

لقد شددنا سابقاً على ارتباط المعمودية بالميرون، وعلى عدم الفصل بين السرين، وعلى ضرورة تلازم السرين المعمودية والميرون. إن موقف كنيستنا واضح في هذا الموضوع فالميرون “ليس جزءاً عضوياً من سر المعمودية وحسب، بل بوصفه تحقيقاً له، مثلما العمل الذي يلي المسحة المقدسة (الميرون)، أي الاشتراك في الافخارستيا، هو تحقيق لها” (الأب الكسندر شميمان).

يقول الكاهن قبل البدء بسر الميرون: “مبارك أنت أيها الرب الإله، الضابط الكل… يا من وهبت لنا نحن غير المستحقين التنقية المغبوطة بالماء المقدس، والتقديس الإلهي بالمسحة الصانعة الحياة، يا من سررت الأن أيضاً أن تجدد ميلاد عبدك المستنير جديداً بالماء والروح، ومنحته غفران خطاياه الطوعية والكرهية، أنت أيها السيد ملك الكل المتحنن، امنحه أيضاً ختم موهبة روحك القدوس القادر على كل شيء والمسجود له، وتناول جسد مسيحك المقدس ودمه الكريم..”. القديس امبروسيوس يوضح ما يحصل في الميرون “إن الختم الروح أي الميرون يلي المعمودية لأنه بعد الولادة يجب أن يحصل الكمال. وهذا يتم عندما، باستدعاء الكاهن، ينحدر على المعتمد الروح القدس، روح الحكمة والفهم روح المشورة والقوة، روح المعرفة والتقوى، روح مخافة الله”.

إذاً بالمعمودية يحصل الكمال الذي يتحقق بموهبة الروح القدس. أما سر الميرون يقود القوى الروحية (المولودة داخل النفس بالمعمودية) إلى الكمال بفعل الروح القدس.

المعمودية تفتح لنا أبواب الملكوت وتدخلنا إليه، والميرون يثبتنا فيه ويختمنا على أننا أعضاء في هذا الملكوت بوضع علامة المسيح علينا وختمه.

ختم موهبة الروح القدس:

إن فهمنا لسر الميرون يتعمق أكثر متى فهمنا عبارة “ختم موهبة الروح القدس “التي يقولها الكاهن أثناء مسح المعمود بالميرون المقدس. الحديث هنا ليس عن “موهبة” معينة خاصة (موهبة الصوت مثلاً) ومواهب متعددة كالتي يتحدث عنها الرسول بولس: “أن المواهب على أنواع اما الروح فواحد” (1كو4:12). هنا كلمة موهبة لا ترد في صيغة الجمع “مواهب” بل “ختم موهبة الروح القدس” لأن المعتمد لا يمنح بهذا السر موهبة خاصة بل يُمنح الروح القدس بوصفه موهبة. يقول الأب ألكسندر شميمان: “إننا في العنصرة الشخصية نأخذ بالموهبة ما أخذه يسوع المسيح وحده بالطبيعة، أي الروح القدس الإلهي الذي منحه الآب للابن منذ الأزل والذي حلّ على المسيح، وعليه وحده، في الأردن فقلنا أنه هو الممسوح وهو الابن المحبوب والمخلِّص. “الروح القدس يحل علينا في هذه المسحة، العنصرة، ويسكن فينا بوصفه الهبة الشخصية للمسيح من أبيه، وموهبة حياته وبنوته وشركته مع أبيه”. قال المسيح حين وعدنا به: “يأخذ مما لي ويطلعكم عليه. جميع ما هو للآب هو لي لذلك قلت أنه يأخذ مما لي ويطلعكم عليه” (يو16: 14-15). بالمعمودية يعود الإنسان إلى طبيعته الحقيقية في المسيح ويتحرر من شوكة الخطيئة، وبذلك صار من الممكن أن ينال دعوةً أكمل، دعوة المسيح العلوية التي تفتح باب التأله، والتي يحققها سر الميرون بمسح المعمد بالروح القدس.

تبقى الاشارة إلى أن موضوع الموهبة بالنسبة للإنسان المسيحي المؤمن ليس موضوع سحر وما شابه. فنحن نؤمن أن كل ما لدينا من مواهب ونِعم هي عطية من الله. فقد يتحلى شخص غير مؤمن بالمواهب نفسها التي يمتلكها المؤمن، وقد يبرع في عمله كالمؤمن، لكن الفرق أننا نؤمن إيماناً يقيناً أن كل ما نملكه هو عطية من الله ائتمنا عليها لكي نخدم بها اخوتنا البشر فتكون الموهبة هب فعلاً موهبة الروح القدس.

البعد الملوكي:

في العهد القديم عندما كانوا يريدون تنصيب الملوك كان الكاهن يأتي ويسكب الزيت- الطيب على رأس الملك. هذه المسحة كانت مصدر الملوكية الإلهية أي أن الله اختاره، وكانت تظهر أن الملك حامل السلطة الإلهية ومنفذ قراراتها. لكن الأمور كانت مختلفة في البدء قبل الخطيئة والسقوط، أي عند الخلق. الله خلق الإنسان ملكاً على الخليقة وأعطاه السلطان لكي “يُخضع الأرض ويتسلط على سمك البحر وطير السماء..” (تك1: 27-28). إذاً من طبيعة الإنسان أن يكون ملكاً وهذه هي صورة الله ملك الملوك في الإنسان. لاحقاً صارت “الملوكية” سلطة خاصة لأشخاص معينين بعد أن كانت تخص كل إنسان بوصفها دعوته الإنسانية العلوية ورتبته. الملوكية إذاً هي حقيقية الإنسان الأولى الأساسية.

ولكن الحقيقية أيضاً أن هذا الإنسان الملك هو الملك ساقط. فقد خسر ملوكيته عندما ارتضى أن يصير عبداً للخليقة بدل أن يكون سيدها وتخلى عن مسحته ودعوته. توقف عن أن يكون سيد الأرض والخليقة وصارت تقوده نحو الموت والهلاك بدل أن يقودها إلى الكمال.

تبقى الحقيقة الثالثة والأساسية وهي أن يسوع المسيح ربنا أنقذ ملوكية الإنسان واستعادنا ملوكاً من جديد عبر سر الفداء الذي أكمله بالصليب. بموته وقيامته تحطم الموت وقضى على الشرير، وصار إكليل الشوك إكليل الملك المتوج، وصار باستطاعتنا استعادة دعوتنا العلوية من جديد. المسيح على الصليب كشف فساد العالم وشره، وهذا الكشف سيبقى دينونة له إلى الأبد. لأننا ارتضينا أن نموت ونقوم مع المسيح بالمعمودية، المسحة تجعلنا ملوكاً من جديد كما كان الملوك يمسحون في العهد القديم، ولكن الجديد هذا أن الروح القدس يمنحنا ملوكية الملك المصلوب. فالصليب الذي يتوج المسيح ملكاً يكشف لنا أنه هو الطريق الوحيد لتتويجنا مع المسيح وإعادتنا ملوكاً. هكذا فهم بولس الرسول الموضوع: ” وأما من جهتي فحاشا لي أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح الذي به قد صُلب العالم لي وأنا للعالم” (غلاطية 14:6). إذا عندما أرتضي أن أُصلب مع يسوع وأتخلى عن كل ما يعيقني عن محبته ويصبح الصليب هو معيار كل حياتي وأعمالي، عندها أدخل مع يسوع من جديد إلى ملكوته وأستعيد دعوتي الملوكية وأستعيد الحرية التي فقدتها من قبل.

البعد الكهنوتي

يقول أحد الآباء المعاصرين: “إن سر الميرون الذي هو سر الكهنوت الكوني يضع الجميع في رتبة كهنوتية متساوية من القداسة الشخصية بفعل النعمة المقدسة الوحيدة نفسها. ومن هذه الرتبة الكهنوتية الملوكية الواحدة يُختار البعض ويقامون من الله أساقفة وكهنة. وهنا تكمن ميزة الكنيسة الأرثوذكسية إذ أن للجميع الصفة الروحية نفسها”. هناك إذاً أمران: كهنوت ملوكي يناله كل مسيحي معمَّد أثناء مسحه بالميرون المقدس، وكهنوت مكرَّس، أي سر الكهنوت. ولكننا نود التشديد على أن الاثنين يكملان بعضهما البعض.

لقد قلنا في السابق أننا بالمسحة نصير مسحاء على صورة المسيح الملك والكاهن والنبي. كهنوت المسيح مثل ملوكيته متأصل في طبيعته البشرية وهو جزء منها وتعبير متمم لها. يسمى المسيح آدم الجديد لأنه هكذا كان ينبغي أن يكون آدم الأول قبل السقوط. فالله عندما خلق الإنسان أقامه ملكاً وأعطاه السلطان، فكان من واجب هذا الإنسان أن يقدِّم الخليقة والطبيعة وكل شيء جُعل ملكاً عليه، لله ذبيحةً روحية. كانت مهمته أن يقدس الحياة والكون عبر ادخالهما في المشيئة الإلهية والنظام الإلهي. هكذا يتحقق الكهنوت الملوكي. كان الإنسان هو الوسيط بين الله والخليقة ولكنه فقد هذه الصفة الكهنوتية الملوكية عندما قرر الابتعاد عن الله، وصار مستهلكاً للكون يستعمله ويسود عليه من أجل نفسه ولا يقربه لله. هذا ما فهمته الكنيسة وتشدد عليه في كل افخارستيا، سر الشكر، أي في كل قداس إلهي عندما يرفع الكاهن الخبز والخمر ويقدّمها لله قائلاً: “التي لك مما لك نقدمها لك على كل شيء ومن جهة كل شيء”.

المسيح عبر تجسده، عبر ذبيحة الصليب التي قدّم بها نفسه إلى الله من أجل خلاص العالم، وقدّم طبيعتنا البشرية لله ورفعها إليه (الصعود الإلهي) ورفع معها كل خليقة وقدمّها لله، عبر هذا كله أظهر طبيعة الإنسان الحقيقية، أي الطبيعة الكهنوتية. ونحن عندما نعتمد ونموت ونقوم معه وننال مسحته،أي مسحة الروح القدس، نكرِّس كهنة ملوكيين.

مهمتنا من لحظة المعمودية أن نقدِّم أنفسنا لله ونكرسها له عبر الالتزام بوصاياه والعمل بحسب مشيئته الموجودة في الكتاب المقدس. ذكرنا كلمة تكريس لكي لا يظن البعض أن الاكليروس هم فقط المكرسون. كل إنسان مسيحي معتمد هو مكرَّس وعليه تطبيق الوصايا وهذه لم توضع فقط لفئة معينة من البشر أي الاكليروس. كما أن الكتاب المقدس الذي نقرأه هو نفسه الذي يقرأه الاكليروس. هم أشخاص مثلنا ولكنهم وعوا دعوتهم بوضوح وقرروا السير في دعوتهم ومسحتهم حتى النهاية وطلبوا التكريس النهائي للرب وهم يرفعوننا ويقربوننا إلى الله ويستدعون نعمة الرب علينا وعليهم.

البعد النبوي

الإنسان نبي

يقول الرب: “ويكون في الأيام الأخيرة أني أسكب من روحي على كل بشرٍ فيتنبأ بنوكم وبناتكم..” (أعمال17:2).

لقد قلنا سابقاً أننا بالميرون المقدس نصبح ملوكاً وكهنةً وأنبياء. النبوة أيضاً هي من الطبيعة البشرية للإنسان عند الخلق. ولكن ما هي النبوّة؟ بحسب الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد النبوة لا تعني أبداً القدرة على التنبؤ بالمستقبل، أي معرفة ما سيحدث غد وبعد فترة. النبوّة كتابياً هي النعمة المعطاة للإنسان لكي يميز مشيئة الله ويسمع صوته وينقل إرادته ولكته إلى الخليقة والعالم، التي على أساسها سوف تتم الدينونة. هكذا كان إيليا النبي في العهد القديم شاهداً لله. نعمة النبوة هذه فقدها الإنسان بالسقوط وظن أنه يستطيع معرفة العالم دون النبوة أي دون الله. المسيح وحده كان النبي الأعظم، به تحققت كل نبؤات الأنبياء، ووحده سمع الله حتى النهاية وأطاعه حتى الموت موت الصليب، ونقل مشيئته إلى العالم وعلى أساس كلامه سوف يدان العالم. ونحن نعتمد على اسم يسوع المسيح وعندما نُمسح بمسحته ننال نعمة النبوة هذه لكي نكون شهوداً لله في هذا العالم. ننقل كلمته للناس وللخليقة.

إذاً موهبة النبوة ليست قوة سحرية وعرافة وتبصير. إنها موهبة التمييز والمعرفة لأننا في المسيح ننال المعرفة الحقيقية عن الإنسان والله.

المتروبوليت بولس يازجي
نقلاً عن رسالة ابرشية حلب
عدة رسائل

arArabic
انتقل إلى أعلى