في نسبة الرب ووالدة الله القديسة

لما كنّا في ما تقدّم قد شرحنا شرحاً محدّداً عن القديسة الفائقة التسبيح مريم والدة الله الدائمة البتولية وأثبتنا عنها ما هو جزيل الأهمية، فإننا نحن الآن نكمّل النواقص عن كونها حقّاً وحقيقةً والدةُ الله وعن أنها تُسمى هكذا. فهي -نظراً إلى القصد الإلهي الأزلي السابقة معرفته- قد تحدّدت معالمُها وتمثَّلت بصوَر مختلفة في أقوال وسابق إعلان الأنبياء بإلهام من الروح القدس، فنبتَتْ من أصل داود في الوقت المحدّد لها سابقاً، ذلك تنفيذاً للعهد المقطوع في التصريح التالي: “أقسم الرب لداود حقاً ولا يُلخف: لأُجلسنَّ من ثمرة بطنك على عرشك” (مز 131: 11)، وفي هذا أيضاً: “مرةً حلفتُ بقداستي ولا أكذب على داود. ليدومنَّ نسلُه إلى الأبد. وعرشُه كالشمس أمامي. مثل القمر يكون راسخاً إلى الأبد وشاهداً في الغيوم أميناً” (مز 88: 36-38). وقال أشعيا: “ويخرج قضيبٌ من جذر يسَّى ويَنمي فرعٌ من أصوله” (أشعيا 11: 1).

اختلاف ظاهر بين الإنجيليين في سرد نسبة يوسف: أن يكون إذاً يوسف منحدراً من سبط داود فهذا ما أظهره واضحاً الإنجيليان متّى ولوقا. بيدَ أنّ متى يجعل انحدار يوسف من داود بسليمان، ولوقا، بناتان. غير أنّ كليهما يَصمتُ عن ميلاد العذراء القديسة.

واعلمْ بأنها ليست عادة للعبرانيين ولا للكتاب الإلهي إحصاء نسبة النساء وأنَّ الشريعة كانت أَلاَّ يتزوج سبطٌ من سبطٍ آخر (العدد 36: 6-9). ولما كان يوسف منحدراً من سبط داود وكان صدّيقاً -هذا ما يشهد له به الإنجيلي الإلهيّ- فهو لم يكن ليُقدِم على الزواج من العذراء القدّيسة خلافاً للشريعة، لو لم تكن هي أيضاً خارجة من فرعه. وعليه كان يكفي إظهار نسبة يوسف.

واعلمْ أيضاً أنّ الشريعة كانت تقتضي بأنه إذا مات رجل بدون نسل، يأتي أخو المتوفّى بامرأته للتزوّج بها فيقيمُ نسلاً لأخيه (تثنية 25: 5 وما يليه). ويكون المولود إذاً -على حسب الطبيعة- للثاني أي للوالد. أما على حسب الشريعة فللمتوفّى.

شرح نسبة المسيح: وعليه فمن فرع ناتان بن داود قد وُلد لاوي. وهذا ولد ملكي وبنتير. وبنتير ولد بربنتير (هكذا يسمّى). وبربنتير هذا ولّد يواكيم. ويواكيم ولد والدة الإله القدّيسة. أمّا من فرع سليمان بن داود فكان لمتّان امرأة ولدت له يعقوب. ولمّا توفي متّأن، تزوج ملكي -الذي هو من عشيرة ناتان، ابن لاوي وأخو بنتير- امرأة متّان وأمَّ يعقوب وولد منها عالي. فكان إذاً يعقوب وعالي أخوين من أمٍّ واحدة، لكنّ يعقوب كان من عشيرة سليمان وكان عالي من عشيرة ناتان. وتوفي عالي الذي من عشيرة ناتان بلا ولد وأخذ يعقوب أخوه -الذي من عشيرة سليمان- امرأته وأقام نسلاً لأخيه وولد يوسف. فكان إذاً يوسف ابن يعقوب بالطبيعة ومن سلالة سليمان، وكان ابنَ عالي من سلالة ناتان بحسب الشريعة.

ولادة العذراء: وعليه فإنَّ يواكيم قد أتى بجنَّة الشريفة الجديرة بالمديح للتزوُّج بها. لكن، على نحو ما كانت حنّة القديمة عاقراً وولدتْ صموئيل بالصلاة والوعد كذلك كانت حنّة هذه. فهي بالابتهال وبوعد الله لها لقد وَلدت والدةَ الإله. وذلك كيلا تَنقص بشيء عن صواحبها. فإنّ النعمة إذاً -وهذا معنى حنّة- -قد ولدتْ السيّدة- وهذا معنى مريم. لأن هذه قد صارت حقاً سيدة جميع المخلوقات لمّا أصبحت أُمّ الخالق. وقد وُلدتْ في بيت يواكيم قرب البركة الغنميّة وقُدِّمت للهيكل. ثم شبَّت بعدئذٍ في هيكل الله وتغذَّت بالروح، فصارت كالزيتونة المثمرة محطّاً لكل فضيلة، نابذة من ذهنها كل عاطفة بشرية وجسدية وحافظةً بذلك نفسها مع جسدها بتولين، كما يليق بمن ستَقتبلُ في حضنها الإله، لأنه قدّ,س ويستريح في الأقداس. وعليه فقد استصحبت هكذا القداسة معها وبدت هيكلاً مقدّساً وعجيباً أهلاً للإله العلي.

زواج العذراء بيوسف: ولمّا كان عدوُّ خلاصنا يترصَّد العذارى لسبب نبوءة أشعيا القائل: “ها إنّ العذراء تحبل وتلدُ ابناً وتدعو اسمه عمّانوئيل الذي تفسيره الله معنا” (أشعيا 7: 14، متى 1: 21). ولكنّ “الذي يصطادُ الحكماء بخدعتهم” (أيوب 5: 13) – فلكي يخدع المتباهي دوماً بحكمته- دفع الكهنة بالصبية للزواج بيوسف، وكان ذلك “كتابٌ جديدٌ مختوم لمن يعرف الكتابة” (أشعيا 29: 11)، فأصبح الزواج حصناً للعذراء وخدعةً لمترصّد العذارى. وحينئذٍ أتى ملء الزمن فأرسل ملاك الربّ إليها يُبشّرها بالحبل بالربّ. وهكذا حملت هي ابن الله، قوة الآب الأقنومية لا من مشيئة لحم ولا من مشيئة رجل -أي جماع وزرع- بل من مسرّة الآب ومؤازرة الروح القدس، فأتاحت للخالق أن يخلق وللجابل أن يجبل ولله ابن الله أن يتجسّد ويتأنس من لحمانها ودمائها النقيّة والبريئة من الدنس، فوفَت بذلك دينَ الأُمَّ الأولى. وكما أنَّ تلك قد جُبِلت من آدم بدون جماع، كذلك هي قد حبِلت بآدم الجديد، مولدوداً بحسب الشريعة، ولمّا كان هو بلا أبٍ، كان ذلك بما يفوق طبيعة الولادة. وبما أنه قد أتمَّ الزمن المعتاد -كان قد أكمل الأشهر التسعة ووُلد في بدء العاشر- فقد كان الحبلُ به بموجب الشريعة. وبما أنّ ذلك كان بلا وجع، فقد كان فوق عادة الطبيعة. فلأنه لم يسبق الولادة لذّة، لذلك لم يتبعها وجع، على حسب قول النبيّ: “قبل أن تتمخّض ولدت وأيضاً قبل أن يأخذها الطلقُ وضعتْ ذكراً” (أشعيا 66: 7).

ولادة المسيح: وعليه فقد وُلد منها ابن الله متجسّداً. وهو ليس إنساناً لابساً الله بل هو إلهٌ متجسّدٌ. وهو ليس مثلَ نبي ممسوح بالفعل، بل هو ممسوحٌ بتواجد الماسح كلِّه فيصير الماسح إنساناً والممسوح إلهاً، ليس بتحوُّل في الطبيعة، بل باتحاد في أقنوم، حتى كان الماسحُ والممسوحُ هو هو نفسه، لأنه، وهو بصفته إلهاً، يمسحُ ذاته بصفته إنساناً. كيف إذاً تلك التي ولدت الإله متجسداً منها لا تكون والدة الإله؟ فإنّ التي هي حقاً وحقيقةُ والدة الإله والسيدة والمتولِّية على الخلائق كلها هي أيضاً أمََةُ الخالق وأُمُّه. وكما أن المسيح -في الحبل به- قد حفظ من حَملته بتولاً، كذلك هو أيضاً -في الولادة- قد حفظ بتوليّتها بلا تحويل، مجتازاً بها وحده وحافظاً إيّاها مغلقةً. إن الحبل كان بواسطة السمع. أمّا الولادة فبطريقة الولادة الاعتيادية، ولو كان بعضهم يتخيّلون بأنّ أُمَّ الله قد ولدتْ ابنها من جنبها. فإنه لم يكن يعسر عليه أن يخرج منها دون أن يفضّ ختماً.

دوام بتولية العذراء: وعليه فإنّ الدائمة البتوليّة قد بقيت عذراء حتى بعد الولادة، لأنها حتى وفاتها لم تعرفْ خبرة رجل. وإذا كان قد كُتب: “ولم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر” (متّى 1: 25)، فاعلمْ أنّ البكر هو المولود الأول، حتى إذا كان وحيداً، لأن كلمة بكر تدلّ على المولود الأول ولا تتضمّن ولادة آخرين. أمّا كلمة حتّى فتشير إلى نهاية وقت محدّد ولا تنفي ما هو بعد ذلك. وقد قال الربّ: “وها أنا معكم كل الأيام حتى منتهى الدهر” (متّى 28: 30). وهذا لا يعني أنه سيغادرهم بعد انتهاء الدهر. ويقول الرسول الإلهي: “وهكذا نكون مع الرب دائماً” (1 تسا 4: 16). وهذا الكلام يهدفُ إلى ما هو بعد القيامة.

فكيف العذراء، بعد أن ولدت الله وعرفت المعجزة من اختبار مفاعيلها تُقدِمُ هي على مجامعة رجل؟ فبُعداً لهذا التفكير! فمَن كان ذا رأيٍ سليمٍ لا يفكّر هذا التفكير ولا يعمل به!

ما فات العذراء من أوجاع الولادة لاقته حين صُلب ابنها: لكنّ تلك المغبوطة نفسها التي استحقّتِ المواهب الفائقة الطبيعة فإنّ الأوجاع التي نجتْ منها وهي تلد، قد احتملتها هي نفسها وقت الآلام. لأنّ انعطاف أمومتها كان يُشعرها بتمزيق أحشائها. والذي كانت تعرفه إلهاً بالولادة، فوجئت برؤيته هو نفسه مرفوعاً كفاعل شرّ. ففعلت فيها هذه الأفكار فعل السيف. ولذا يقول الكتاب: “وأنتِ سيجوزُ سيف في نسفك” (لوقا 2: 35). ولكنّ فرج القيامة قد بدَّدَ الحزن بإشهاره أنَّ الذي مات بالجسد هو إله.

arArabic
انتقل إلى أعلى