الأنبياء والتجسد

التجسد هو حدث دخول الله في زمان الناس, فإذا قال الحبيب ان ” الكلمة صار جسدا” (يوحنا 1: 14) فهذا يعني أن ابن الله صار كائنا بشريا حقيقيا. واذا كان هذا التجسد مهيَّئا له من قَبْل إنشاء العالم, يكون الزمان في تدبير الله تاريخا متّجها نحو هذا الحدث العظيم (مجيء الله الى العالم) وخاضعا له، ويكون تاريخ البشر –بسبب هذا الحدث – صار تاريخ الله.

منذ الاول من ايلول, بدء السنة الطقسية، تقيم الكنيسة ذكرى شخصيات بارّة من العهد القديم احبوا الله وأخلصوا له وساهموا, في ما كُشف لهم, في انتظار الحدث. اول شخصيتين نعيّد لهما هما يشوع بن نون (1 ايلول) وموسى معاين الله (4 ايلول)، الاول ساهم في دخول اسرائيل الى ارض الميعاد, وذلك بعد أن أُخرج، من مصر, على يد موسى. غير أن ذكراهما هنا لا تتعلق فقط بالرجوع الى هذا الحدث القديم ولكنهما, في هذه الفترة، سوف يقودان اسرائيل الجديد, وأعني الكنيسة, الى ارض الميعاد الحقيقية الذي هو المخلّص المزمع أن يولد في بيت لحم من البتول ” فتاة الله “.

يونان (21 ايلول) واحد من الانبياء الذين لا يُفهم معنى التعييد لهم – في هذه الفترة – إن لم يُرجع الى كتبهم (او الى الكتب المقدسة التي تكلّمت عنهم). نبوءة يونان أتت لتكسر التقوقع والتحجر اللذين اكتسبهما الشعب العائد من السبي, وهي تقوم على شيئين اساسيين يفيدان الكنيسة في هذه المرحلة، الا وهما شمولية الخلاص ومجانيته اللذان، بمعناهما الاخير، سوف يحقّقهما الرب المتجسد.

أنشد باروخ (28 ايلول) الحكمة التي هي الشريعة وقد أقامت في المدينة المحبوبة اورشليم, وهي نفسها التي تشارك الله في الخلق وسوف تظهر على الارض لتتكلم مع الناس (3: 38), ولترد لهم الفرح الابدي عن طريق خلاصهم (4: 29). يحكي النبي في بدء كتابه عن قطيعة بين الله وشعبه تنتهي بمصالحة ستبقى وعدا الى أن يأتي ابن الله الوحيد وحكمته ليصالح العالم ويخلّصه بدمه على الصليب.

ثمة مقاطع عديدة يوردها العهد الجديد مأخوذة من نبوءة هوشع (17 تشرين الاول), (راجع متى 2: 15، 9: 13؛ لوقا 12: 7؛ 1 كورنثوس 15: 55). الله في هوشع يطلب الحب (14: 5 – 8)، الرسولان بولس ويوحنا طبّقا رمز زواج الله بشعبه – الذي تكلم عنه هوشع – على علاقة المسيح والكنيسة. تجعلنا صلوات العيد (عيد النبي هوشع) نقيم تذكاره لسبب مشاهدتنا أقواله التي تتعلق بمجيء المسيح “المتوقع أن يموت في الازمنة الاخيرة لتجديد الخليقة”.

النبيان يوئيل (19 تشرين الاول) وعوبديا (19 تشرين الثاني) تحدثا عن يوم الرب الذي يتم في اليوم الاخير. اليوم الاخير هو يوم يسوع المسيح الآتي, هذا ما سوف يعلنه يسوع نفسه في بدء كرازته (مرقس 1: 15). غير أن الجديد في تعليم يسوع هو انه أعلن – بوضوح خالص – بدء الأزمنة الاخيرة وظهور ملكوت الله – على السواء – لإسرائيل القديم ولجميع الأمم.

الله في ناحوم (1 كانون الاول) حاضر دائما وهو سيد التاريخ. تساؤل الشعب, في النبوءة, امام الجور والطغيان: اين انت يا الله؟ سوف يجيب عليه الطفل المولود: انا هنا.

الموضوعان الاساسيان في نبوءة حبقوق (2 كانون الاول) هما: الايمان (2: 4) والخلاص (3: 18). يعلن يسوع في انجيل مرقس 16: 15 و16 الموضوعين عينهما ويجعلهما يتعلقان بقبوله هو عن طريق المعمودية. ترى صلوات غروب العيد أن حبقوق النبي لما كان واقفا على المحرث الالهي “سمع سر مجيئك الينا غير الموصوف ايها المسيح…”.

يتخذ يوم الرب الذي يتحدث عنه صفنيا النبي (3 كانون الاول) شكلا جديدا وبعدا كونيا. ففي قلب المأساة الرهيبة وانحلال الناس والحضارة بشكل كامل ينبلج فجر جديد, يوم رجاء وخلاص, يدشّن الله مُلكا جديدا في وسط شعبه (3: 15). هذا ما سبق صفنيا ورآه – كما تقول خدمة العيد – “بالروح الكلي قدسه” عن “حضور المسيح الهنا الحقيقي” ف ” أنبأ بالخلاص لجميع الامم”.

“انا معكم يقول الرب” في حجاي 2: 5 (16 كانون الاول), غير أن النبي يشترط لتحقيق ذلك إعادة بناء الهيكل “الذي سقط قديما”, لأن هذا يعني إعادة مكانة الله وسط شعبه وتاليا إعادة الحوار بينه وبينهم. كلام حجاي سيتحقق كليا في يسوع الآتي الذي هو كلمة الله الوحيد والهيكل المملوء من المجد.

أدخلت الكنيسة في كثير من أناشيدها قصة الفتية الثلاثة الذين لم يحرقهم “أَتون النار المتّقدة”, وهي مأخوذة من كتاب دانيال النبي (17 كانون الاول). تكرار ذكرهم – في هذه المرحلة – قد يفسره عدمُ خضوعهم لأمر الملك الملحد القاضي بسجودهم لمن هو دون الله واعني تمثال الذهب, ذلك لان الرب الذي تجسد بمشيئته هو ايضا “ثمرة الايمان الثابت”. ولعل موضوع الشخص الرابع الذي ظهر في اتون النار مع الفتية الثلاثة والذي “منظره يشبه ابن الآلهة” (3: 25), بالاضافة الى لقب “ابن الانسان” الذي أُطلق في العهد الجديد على يسوع بالمعنى الذي قصده سفر دانيال (7: 13 و14), يساعدانا كي نرى أن يسوع الآتي هو الشخص السماوي وتاليا الإلهي الكامل الذي سيوليه الله الدينونة في نهاية الأزمنة.

في الأحدين السابقين للميلاد تعيّد الكنيسة لجميع الاجداد والآباء والأنبياء وبطاركة العهد القديم الذين ولدوا منذ آدم لأجل أن يُهيئوا لمجيء ابن الله الذي هو ابن الموعد. يُقرأ في “احد النسبة” الإصحاح الاول من انجيل متى, حيث يُقسّم البشير التاريخ القديم الى ثلاث حقبات, فيأتي المسيح في آخر الحقبة الاخيرة فاتحا بمولده عهدا جديدا مكمّلا التاريخ وخاتمه.

هؤلاء الأبرار القدماء وغيرهم الذين صوتهم إعلان مسبق للسيد, كانت رسالتهم مؤسسة على دعوة الناس الى تغيير القلب وتقديمه لله, ولذلك هم ينادون في البيعة – وفي كل جيل – ليمهّدوا بالتوبة والبذل طريقَ الرب الآتي الى العالم.

عن نشرة رعيتي 1996

arArabic
انتقل إلى أعلى