نصف الخمسين – حكمة الله

نصف الخمسين

بنصف الخمسينما أن المسيح هو حكمة الله المتجسّد، فأقواله هي تعبير عن هذه الحكمة. المسيح هو الكلمة (مع “أل” التعرّيف) أي كلمة الله، لأنّه يعلن مشورة الله الآب وإرادته، ولأنه مولود من الآب كما الكلمة من النوس. في الوقت نفسه، قوله، أي وعظه، تعليمه، هو تعبير وقوة كلمة الله وحكمته. قوله ليس قولاً بشرياً بل هو بشري إلهي. لهذا السبب تساهم كلمة الكلمة في شفاء الإنسان، على ما أكّد هو: “أَنْتُمُ الآنَ أَنْقِيَاءُ لِسَبَبِ الْكَلاَمِ الَّذِي كَلَّمْتُكُمْ بِهِ” (يوحنا 3:15).

إن كلمة الله هي قوته غير المخلوقة التي تطهّر وتنير وتقدّس الإنسان وبها يخلق الله العالم كله ويصونه. يقول المزمور “بِكَلِمَةِ الرَّبِّ صُنِعَتِ السَّمَاوَاتُ” (مزمور 6:33). بالفعل، نحن لا نجهل أننا عندما نتكلّم عن كلمة الله (بمعنى قوله) نحن نعني أمرين، قوته غير المخلوقة، الكلمات والمعاني غير المنطوق بها، والثاني هو نقل الخبرة الإعلانية من خلال التعليم. في كل كلمة بشرية قوة مخبأة لأنها تعبّر عن الخبرة والمعرفة والقدرات الخاصة بكل شخص. هذا صحيح بالأكثر مع كلمة الله. كلمات المسيح نقلت، وما زالت تنقل، قوته غير المخلوقة. المسيح نفسه قال أن مَن يحفظ وصاياه يحبه الآب “وَإِلَيْهِ نَأْتِي، وَعِنْدَهُ نَصْنَعُ مَنْزِلاً” (يوحنا 21:14-23). يقول القديس مكسيموس المعترف شارحاً هذه النقطة أن كلمة الله نفسه حاضر سرياً في كل وصية يعطيها. لكنّه معروف أن كلمة الله لا ينفصل عن الآب والروح القدس. لهذا مَن يحفظ كلمة المسيح يحصل على الثالوث في داخله ويشارك فيه سرياً.

إذاً، تعاليم المسيح هي “كلمات الحياة الأبدية” (يوحنا 68:6)، وليست مجرد تعليم. الكلمة غير المتجسد أعطى الكلمة لأنبياء العهد القديم ولهذا هو مألوف قولهم “هكذا قال الرب”. من ناحية ثانية، لا يتكلّم المسيح بهذه الطريقة بل يقول “أمّا انا فأقول”. وعندما تجد هذه الكلمة تربة ملائمة تثمر. المسيح كشف إرادة الآب. فكما أن للبذرة إمكانية وقدرة عظيمتين لأن ينبت منها شجرة ضخمة، كذلك لكلمة الله إمكانية وقدرة عظيمتين. إلى هذا، يوجد فرق بين القوة المخلوقة والقوة غير المخلوقة. يخبرنا القديس مكاريوس أن كلمة الله ليست كسولة “بل لديها عمل حين تصبح في التربة”. لهذا مَن يسمع كلمة المسيح “ينير المسيح طريقه”، بحسب القديس ثالاسيوس. إن الصفة النفّاذة لكلمة الله تعود لكونها بالتحديد قوته غير المخلوقة، وهذا يظهر في مقطع مدهش من عند الرسول بولس: “لأَنَّ كَلِمَةَ اللهِ حَيَّةٌ وَفَعَّالَةٌ وَأَمْضَى مِنْ كُلِّ سَيْفٍ ذِي حَدَّيْنِ، وَخَارِقَةٌ إِلَى مَفْرَقِ النَّفْسِ وَالرُّوحِ وَالْمَفَاصِلِ وَالْمِخَاخِ، وَمُمَيِّزَةٌ أَفْكَارَ الْقَلْبِ وَنِيَّاتِهِ. وَلَيْسَتْ خَلِيقَةٌ غَيْرَ ظَاهِرَةٍ قُدَّامَهُ، بَلْ كُلُّ شَيْءٍ عُرْيَانٌ وَمَكْشُوفٌ لِعَيْنَيْ ذلِكَ الَّذِي مَعَهُ أَمْرُنَا” (عبرانيين 12:4-13). لا يمكن شرح هذا المقطع إلا بربطه بكلمة الله وقوته.

السؤال هو لماذا لا تعمل كلمة الله في كل الناس بالطريقة ذاتها. هذا يرتبط بأن النعمة الإلهية تعمل في الناس بشكل مختلف بحسب الحالة الروحية لكل منهم. يقول القديس مكسيموس بأن هنا أيضاً شيء مماثل لما هو الماء الحقيقي للنباتات والحيوانات. يدخل الماء في كل ما عنده حياة لكنه يؤدي إلى نتائج مختلفة. لكل شجرة ونبتة ثمرتها الخاصة، حلاوتها، مرارتها، حموضتها، مع أنها جميعاً تلقت الماء نفسه. هذا يتوقّف على تركيبة كل نبات. وهكذا تعمل الكلمة الإلهية وتظهر بما يتناسب مع نوعية فضيلة كل شخص ومعرفته، أي عملياً ومعرفياً. إذا كان المرء دنساً، تطهره كلمة الله، إذا كان في طور الاستنارة أو التألّه، تنيره وتؤلهه. هذا يفسّر معنى أن البعض يخلصون لسماعهم كلمة الله فيما يُدان آخرون.

تقدّم لنا الأمثال مثالاً مميزاً عن هذه الظاهرة. لم يتكلّم المسيح بأمثال لكي يجعل كلامه أكثر وضوحاً، بل بالضبط لكي يحجب الحقائق العظيمة، أي أن الانطباع بأن المسيح كان يتكلّم ببساطة لكي يفهم بسطاء زمانه ليس صحيحاً. عندما أورد المسيح مثل البذار، لم يفهم اليهود معنى المثل ومحتواه العميق. وعندما اقترب التلاميذ ليسألوه معنى هذا المثل قال لهم: “لَكُمْ قَدْ أُعْطِيَ أَنْ تَعْرِفُوا أَسْرَارَ مَلَكُوتِ اللهِ، وَأَمَّا لِلْبَاقِينَ فَبِأَمْثَال، حَتَّى إِنَّهُمْ مُبْصِرِينَ لاَ يُبْصِرُونَ، وَسَامِعِينَ لاَ يَفْهَمُونَ.” (لوقا 9:8-10). يبدو واضحاً أن الصور في الأمثال استُعملَت لتخفي معاني الأمثال التي كانت تُشرَح للتلاميذ المهيئين لها.

القديس ثيوفلكتوس، في تفسيره لهذه النقطة، يقول أن التلاميذ كانوا مستحقين لمعرفة أسرار ملكوت السماوات، بينما الآخرون كانوا يُخبَّرون “على نحو غامض”، حتى إذا ما رأوا وسمعوا لا يستوعبون المعنى. لكن المسيح فعل هذا ليس من باب الانتقائية، بل من باب المحبة والعناية. فلأنه كان يعرف أنهم سوف يزدرون أسرار الملكوت بعد أن يعرفوها، فقد أخفاها “حتى لا تزيد دينونتهم”. إذاً نرى من مثل البذار أن البعض، مثل الجموع، يسمعون كلمة الله في الأمثال، وآخرون، مثل التلاميذ، يعرفون أسرار ملكوت الله، وغيرهم، مثل التلاميذ الثلاثة الذين صعدوا على طور ثابور، يرون المسيح المتجلّي. يتوقّف الأمر على حالة المستمعين الروحية.

arArabic
انتقل إلى أعلى