الصلاة من أجل الراقدين

تشير الكنيسة الارثوذكسية في صلواتها الى الموت كـ “رقاد”، لأنها تؤمن “بالوجود الشخصيّ بعد الموت”، وهي ترجو لجميع الراقدين النهوض (القيامة من بين الاموات) عندما يبزغ النهار”الذي لا يعروه مساء”، وفي ما تَذْكُرهم في كل ذبيحة إلهية تتضرع الى الله الآب أن يرحمهم: “حيث يُفتقد نورُ وجهه”.

السؤال المطروح هو: على ماذا تسنتد الكنيسة عندما تصلّي للذين رقدوا بالإيمان والرجاء؟

ثمة مبدأً وأوّلي ننطلق منه لنجيب عن هذا السؤال، وهو أن فاعلية أية صلاة غير قابلة للتفسير العقلي. فإذا كانت الصلاة واجبة من أجل “بعضنا البعض”، كما يقول يعقوب الرسول (5: 16)، وهي حياة الكنيسة في كل عصر، لأنها تُرفع من أجل “كل شيء” – مرض، شدة، ضيق، سجن، كرازة رسولية…- (راجع 2 تسالونيكي 1: 11 –12: أفسس 6: 18 – 19…)، فهي واجبة، تاليا، من أجل الذين سبقونا. ذلك أن وحدة الشركة في جسد المسيح لا يَفْصم الموت عُراها (يوحنا 10: 28 – 30؛ رومية 8: 38 – 39)، وإلا يكون الموت المغلوب على الصليب غَلَبَ قوة الله وأعني قيامته التي نالها المؤمنون سريا في المعمودية. فنحن، اذاً، نصلّي للآخر الذي نحبّه ونحن وإيّاه أعضاء في جسد المسيح الواحد، وهذا يتجلّى بشكل رائع في الحياة الليتورجية في ما أَسْمَتْهُ الكنيسة الارثوذكسية بـ”شركة القديسين”، حيث الكنيسة جمعاء تصلّي – وليس فقط الأحياء – وهذه الشركة هي “سلسلة”، كما يصفها القديس سمعان اللاهوتي الحديث، من الصلاة والمحبة المتبادلة. الأب ألكسندر شميمَن في كتابه “الصوم الكبير” يركّز على السبب الذي تدعو الكنيسة فيه أعضاءها الى الصلاة من أجل الراقدين بقوله:”هي تعبير جوهريّ عن الكنيسة كمحبة”، ويتابع قوله: “اننا نطلب من الله أن يذكر الذين نذكرهم، ونحن نذكرهم لأننا نحبّهم. وإذ نصلّي من أجلهم فنحن نلقاهم في المسيح الذي هو محبة، والذي بما أنه محبة يغلب الموت الذي هو ذروة الانفصال واللا محبة. في المسيح لا فرق بين الأحياء والأموات لأن الجميع هم أحياء فيه. انه الحياة وهذه الحياة هي نور الناس. واذ نحب المسيح نحب جميع الذين فيه، وإذ نحب الذين فيه فنحن نحب المسيح”.

بيد أن كلمة الله التي هي متَّكلُنا ترشدنا الى الحقيقة الكاملة، فنرى الرسول بولس نفسه يصلّي من أجل أحد الإخوة الذين رقدوا بالرب، اذ يقول: ” ليعُطِ الرب رحمة ً لبيت أُنيسيفورس لأنه مراراً كثيرة أراحني ولم يخجل بسلسلتي، بل لما كان في رومية طلبني بأوفر اجتهاد فوجدني. ليعطِه الرب أن يجد رحمة في ذلك اليوم” (2 تيموثاوس1: 16- 18). اسم “أنيسيفورس” يَرِدُ في الرسالة ذاتها مرة ثانية وهو مضاف الى “بيته”(4: 19). على الغالب هو راقد بالرب، ويطلب الرسول له الرحمة َ” في ذلك اليوم” اي في يوم الدينونة. فنحن، اذاً، أمام مسلَّمة رسولية لأجل الصلاة للراقدين. في احدى عظاته يقول فيلاريت متروبوليت موسكو(القرن التاسع عشر) بأن الصلاة من أجل الراقدين جارية في الكنيسة منذ القدم “منذ أن مورسَتِ العبادة علناً… وهي مفروضة فيها كجزء كان دائما متمِّما لها. وكلّ الخدم القديمة للقداس الإلهي تشهد بذلك، ابتداء من قدّاس يعقوب أخي الرب…”، ويؤكد، في ختم قوله، أن الصلاة من اجل الراقدين ” كانت من التقاليد الرسولية”.

تصلّي الكنيسة الارثوذكسية من أجل المؤمنين الراقدين وتعتبر أن الصلاة تساعدهم (يوحنا الذهبي الفم، غريغوريوس اللاهوتي، كيرلّس الأورشليمي…)، وفي حين يرفض معظم اللاهوتيين الارثوذكسيين فكرة “المطهر” بالشكل الذي تطرحه الكثلكة (تذهب الارواح الى المَطْهَر لتُكفّر عن ذنوبها فيه بالعذاب) وتؤكّد غالبيتُهم بأن الاموات لا يتعذّبون، يقبل البعض منهم (اللاهوتيين الارثوذكسيين) بطابع الجهاد التطهيري بعد الموت. الآباء القدّيسون صوّروا الحياة بعد الموت وكأنها فترة يخلع فيها تدريجيا جميع الذين أدركوا أن كل شيء قد أُكمل لأجلهم كلَّ خِرَقِهم البالية في طريقهم الى ملء استعلان القيامة.

يقول كوستي بندلي في كتابه “الله والشر والمصير”: “إن الموت يقيم جدارا رهيبا من الصمت بين المحبّين، ولكن حاجز الموت، مهما علا، لا يصل الى الله الآب، وهو وحده يُسقط المسفات والحواجز و”يُعِين ضعفَنا” ومحدوديتنا و”يشفع فينا بأنّات لا يُنطَق بها”. ما لا شك فيه أن صلاتنا من أجل أحبائنا الراقدين ليست هي تدخُّلا بقرار الله وقضائه الأخير، فنحن نؤمن بأن حكمته الأزلية ليس للإنسان مهما علَتْ قداستُهُ أن يخترقها”، وإنما أن خضع لها. غير أن المسيحية لكونها ديانةَ المحبة، ونحن جميعا أعضاء في جسد المسيح الحيّ الذي لا يستطيع الموت ولا اي شيء آخر أن يُبطل عضويتنا فيه، فالصلاة التي هي لغة الحبّ – اولاً وآخراً – هي التعبير الامثل على أن “المحبة أقوى من الموت”، واننا فيها نتمم الغلبة الأخيرة، لأن الموت المهزوم بات وراءنا، وليس أمامنا سوى الكنيسة الحيّة الأخيرة التي نحن فيها منذ الآن.

عن نشرة رعيتي 1996

arArabic
انتقل إلى أعلى