يسوع المسيح الكاهن

تقول الرسالة الى العبرانيين إن السيّد المسيح هو “كاهن الى الأبد على رتبة ملكيصادق” (5 :6). أمّا ملكيصادق فهو كاهن اللّه العليّ الذي بارك إبراهيم، وقد أدّى له هذا الأخير العِشر من كل شيء (تكوين 14: 18). اللافت أنّ كهنوت ملكيصادق يسبق زمنياً كهنوت اللاّويين الذي شرّعه اللّه لموسى. وكانت تقدمته مؤلّفة من الخبز والخمر إشارة إلى عشاء المسيح الأخير مع تلاميذه، وتالياً إلى القدّاس الإلهي.

أمر الله موسى بأن يقيم كهنةً من أبناء عشيرة لاوي حصراً، “وقرِّب إليك هارون أخاك وبنيه معه من بين بني إسرائيل ليكهنوا لي” (خروج 28: 1). ثمّ يطلب إلى موسى أن يمسحهم، “وامسح هارون وبنيه وقدّسهم ليكهنوا لي” (خروج 30، 30). وتستفيض كتب الخروج واللاّويين والعدد وتثنية الاشتراع في تفصيل مهام الكهنة من تقدمة القرابين وصلوات التضرّع من أجل التوبة والسلام وغيرها، واحتفالات الأعياد وأوان تعييدها… وبعد أن بنى سليمان هيكل أورشليم بناء على أمر الله له، أضحى هذا الهيكل المكان الوحيد المخصّص للعبادة، وحلّ إذاً محلَّ خيمة تابوت العهد.

تغيّرت كلّ هذه المفاهيم بعد مجيء المسيح بتجسده، إذ غدا جسد المسيح هو الهيكل (يوحنّا  2: 13-22)، أي المكان الذي تقدّم فيه الذبيحة، لذلك فالكنيسة هي جسد المسيح أي المكان الوحيد الذي يوزَّع فيه المسيح قرباناً. كما صار الناس هم هيكل اللّه الحيّ، “وكونوا أنتم أيضاً مبنيين كالحجارة الحيّة بيتاً روحياً وكهنوتاً مقدَّساً لإصعاد ذبائح روحيّة مقبولة لدى اللّه بيسوع المسيح” (بطرس الأولى 2 : 5) .

ليس المسيح هيكل اللّه وحسب، بل هو الإله المتجسّد الذي قدّم نفسه ذبيحة لخلاص العالم، فكان الكاهن العظيم والذبيحة الكاملة في الوقت عينه. لقد قدّم المسيح نفسه على الصليب ذبيحة مقبولة عند اللّه وقام من بين الأموات وصعد إلى السماوات. ولم يعد، بعد ذلك، ثمّة كهنوت غير كهنوته ولا ذبيحة سواه. هذا الكلام واضح في الرسالة الى العبرانيين التي تستطيل في الإشارة إلى كهنوت المسيح، فيقول كاتبها: “وليس بدم تيوس وعجول بل بدم نفسه دخل الأقداس مرّة واحدة” (9 : 12)، ويقول أيضاً: “لكن المسيح برز الآن مرّة واحدة عند انقضاء الدهور ليُبطل الخطيئة بذبيحة نفسه” (9: 26). الذبيحة قدّمت على الصليب مرّة واحدة وإلى الأبد، وبها أتى الخلاص إلى العالم، لذلك يقول كاتب الرسالة ذاتها: “لقد قُدِّسنا نحن بتقدمة جسد يسوع المسيح مرّة واحدة” (10: 10). ولا داعي لأن يقدّم المسيح نفسه مرّات كثيرة، لأنه “كما حُتّم على الناس أن يموتوا مرّة واحدة كذلك المسيح قُرِّب مرة واحدة ليتحمّل خطايا الكثيرين” ( 9: 27-28) .

إذا كان المسيح هو الكاهن الوحيد والذبيحة الوحيدة، فكنيسة المسيح كلّها هي جماعة الكهنوت الملوكيّ: “أما أنتم فجيل مختار وكهنوت ملوكيّ وأمّة مقدّسة وشعب مقتنى لتخبروا بفضائل الذي دعاكم من الظلمة الى نوره العجيب” (بطرس الأولى 2 : 9). هذا الكهنوت الملوكي العام يناله كل مؤمن يوم ولادته الثانية، نعني المعمودية التي بها يصير المعمَّد عضواً في الكنيسة ومشاركاً في كلّ عباداتها، وبذلك، ممارساً كهنوته. أمّا الكهنة (الخوارنة) فأُقيموا لتكميل وظائف الكنيسة التي يفترضها كهنوت المسيح لبنيان جسده. وأول هذه الوظائف إقامة سرّ الشكر (القداس الإلهي) الذي به يصير المتناولون جسدَ المسيح. كما تدخل في إطار الوظائف إقامة الأسرار والعبادات كافّة وإمامة الصلاة ومتابعة المؤمنين في الرعاية والإرشاد.

في ملكوت السموات الآتي يملك المسيح -الحمل الى الأبد، هو الذي “كان ميتاً وعاد حياً” (رؤيا 2 : 8) يملك على كلّ الخليقة: “وكلّ خليقة في السماء وعلى الأرض وتحت الأرض وفي البحر، وكلّ ما فيها، سمعته يقول: للجالس على العرش وللحمل التسبيح والإكرام والمجد والعزّة إلى أبد الدهور” (رؤيا 5 : 13). كلّ هذا المجد أخذه يسوع لأنه هو الحمل الذي ذُبح ليفتدي بدمه “أناساً من كلّ قبيلة ولسان وشعب وأمّة” (رؤيا 5 : 9). صورة الحمل الذبيح استعارة من العهد القديم تشير إلى المسيح “كشاةٍ سيقَ إلى الذبح وكحمَلٍ صامتٍ أمام الذين يَجُزُّونه ولم يفتح فاه” (إشعياء 53 : 7) وتستند أيضاً إلى رمز الحمَل الفصحي (خروج 12 : 3-6). وهذا معناه أنّ يسوع الحمَل قد مات فأخذ على عاتقه خطيئة البشر ليفتديهم، وهو نفسه مَن قدَّم هذه الذبيحة، وهنا يكمن دوره الكهنوتيّ الأساسيّ.

لقد اكتمل في السيّد المسيح الهيكل والكهنوت وذبائح العهد القديم، وهو نفسه الهيكل والكاهن والحَمَل الذبيح المالك في السموات، وهو مَن جعلنا “ملكوتاً وكهنة للّه أبيه” (رؤيا 1 : 6). إذا كان دور الكاهن الرئيسيّ تقديم الذبائح، فالمسيح، كاهناً، قدّم نفسه ذبيحة من أجل خلاص العالم. ونحن نستمد كهنوتنا الملوكيّ من كهنوته. فلنمارسه.

نشرة رعيتي
الأحد 18 تشرين الأول 1998
العدد 42

arArabic
انتقل إلى أعلى