القديسون والآباء الدقيسون

القديسون:

عندما يطلق الرسول بولس على المسيحيين صفة “القديسين”، فهو يقصد أنهم “مفروزون”. وعندما يصف بطرس الكنيسة بأنها “جماعة كهنوتية مقدَّسة”، “أمة مقدّسة” و”شعب اقتناه الله” (1 بطرس 2: 5و9)، فهو لا يقصد معنى مختلفا عن هذا الفرز. والمقدِّس والفارز هو الله “القدّوس” وحده.

في العهد الجديد، استُعمل إذاً لفظ “قدّيسين” للدلالة على الجماعة المسيحية الأولى، أي على المعمَّدين “غُسلتم، بل قُدِّستم، بل بُرِّرتم باسم الربّ يسوع المسيح وبروح إلهنا” (1 قورنثس 6: 11). بالمعمودية تبدأ حياة المؤمن بالمسيح، ولكن يبقى أن يكمل معموديته بالنمو فيه في الكنيسة. فالقداسة تأتي من المسيح القدّوس إذ لا أحد يستطيع أن يبني على غير الأساس الموضوع. ولفظة “قدّيسين” تعني أن حامليها ينتسبون الى الروح القدس، كما أن لفظة “مسيحيين” تعني أن حامليها ينتسبون الى المسيح. لذا يقول الرسول الإلهي: “أما تعلمون أنكم هيكل الله، وأن روح الله حالٌّ فيكم” (1قورنثس 3: 16) وهو نفسه يقول في الرسالة عينها: “أما تعلمون أن أجسادكم هيكل الروح القدس، وهو فيكم قد نلتموه من الله، وأنكم لستم لأنفسكم؟ ” (6: 19).

اذا نُسبت القداسة إلى البشر فهذا لا يعني إطلاقا التنزيه عن الخطيئة بل اشتراك بقداسة المسيح والكنيسة عن طريق الإيمان والمحبة والأسرار والعبادات. لفظة “قدّيس” ليست عكس لفظة “خاطئ”، فقد كتب بولس الرسول رسالته الى “القدّيسين” في قورنثس (1: 2) يوبّخهم على خطاياهم الكثيرة. القدّيسون هم “الخطأة المجاهدون الذين يعيشون حياة توبة دائمة”، وهم، وإن حصلوا على القداسة، يستمرّون في جهاد ضد الخطيئة. ولكن اذا أثمر سعيهم، فإنهم سيدينون العالم “أوما تعلمون أن القدّيسين سيدينون العالم؟” (1 قورنثس 6: 2).

الآب هو مصدر القداسة ومثالها، “كما أن الذي دعاكم هو قدّوس، فكذلك كونوا انتم قدّيسين في سيرتكم كلها” (1 بطرس 1: 15). ويسوع ايضا يقدِّس كنيسته “ليقدِّسها مطهّرا إياها بغسل الماء وكلمة تصحبه، فيزفّها الى نفسه كنيسة مجيدة لا دنس فيها ولا تغضّن ولا ما أشبه ذلك، بل مقدَّسة بلا عيب” (افسس 5: 26-27).
إن كان الآب والمسيح يقدّسان، فالروح القدس هو الذي يحقّق هذا التقديس في العالم، “لأن الله اختاركم منذ البدء ليخلّصكم بالروح الذي يقدِّسكم والإيمان بالحق” (2 تسالونيكي 2: 13). هذا ما ردّده آباء الكنيسة، فيعرّف القديس باسيليوس الروحَ القدسَ بأنه “منبع التقديس الذي لا ينبض”. فثمرة الروح القدس هي القداسة “أما ثمر الروح فهو المحبة والفرح والسلام والصبر واللطف وكرم الأخلاق والإيمان والوداعة والعفاف” (غلاطية 5: 22).

يقول الأب ألكسندر شميمن إن ما يميّز الروح القدس هو “قداسته” وليس كونه “روحا”، وقد تحدّث الكتاب المقدس عن “ارواح شريرة” ايضا. والقداسة ليست مرادفا للكمال والصلاح والبر والأمانة، مع انها تحتوي عليها وتتضمنها كلها. القداسة هي الحقيقة التي يتحقّق فيها كل موجود.

القدّيسون اذاً ليسوا اولئك الذين يعملون “الخوارق والأعاجيب”، ولا الذين “يظهر عليهم هذا القديس او ذاك” ولا الذين تظهر عليهم رؤى او أحلام… انما هم الذين وعوا أنهم خطأة فتابوا الى ربهم وقبلوه مخلّصا لهم. كل كلام خارق عن القدّيسين وكأنهم لا يمتّون بصلة إلينا من حيث إنهم كانوا اناسا من طبيعتنا نحن، يجعل القداسة مشروعا لقلة من ال”سوبّر بشر”. القدّيسون بشر مثلنا، أكملوا السعي وصاروا الى ما هم عليه اليوم. القداسة مشروع الحياة الوحيد لكل منا.

يقول المطران جورج خضر: “القداسة لله وحده، ولكن منذ أن سكن الكلمة بين الناس ورثنا الألوهة وصار عهد من الله للناس جديد وأصبحت قداسة الله قداسة بشرية تنبع من الثالوث في الكنيسة لتروي كلّ من اعتمد باسمه”.

الآباء القديسون – آباء الكنيسة:

“أنتَ أيّها المسيح الفائق التسبيح، يا مَن أسّستَ آباءَنا القدّيسين على الأرض كواكب لامعة، وبهم هديتنا جميعاً إلى الإيمان الحقيقيّ، أيّها الجزيل الرحمة المجد لك”، هكذا ترنّم الكنيسة في هذا الأحد المدعو أحد آباء المجمع المسكونيّ الرابع، وفي كلّ عيد تذكاريّ جامع للآباء القدّيسين، وبخاصّة الذين اشتركوا في المجامع المسكونيّة السبعة التي تعترف بها الكنيسة. وتوجز هذه الترنيمة مهمّة الآباء بهداية المؤمنين إلى التعليم المستقيم والعقيدة الصحيحة عندما تظهر الهرطقات والبدع. وهم، كالكواكب التي تستمدّ نورها من الشمس، يستمدّون نورهم من المسيح لينيروا دروب المؤمنين في الطريق القويم. لذلك دعي العديد من الآباء بـ”معلّمي المسكونة” لأنّهم ساهموا بواسطة مؤلّفاتهم ذات العلم الرفيع في تصويب الانحرافات العقيديّة التي كان يأتي بها الهراطقة وأتباعهم من الغاوين.

في زمن نشأة الكنيسة الأولى، أطلق المسيحيّون على أسقفهم لقب “الأب”، للدلالة على أنّه هو الذي يلدهم في الإيمان، وذلك عملاً بقول الرسول بولس: “وإنْ كان لكم ربوات من المؤدِّبين في المسيح، فليس لكم آباء كثيرون لأنّي أنا ولدتكم في المسيح يسوع بالإنجيل. فأسألكم أن تقتدوا بي كما أقتدي أنا بالمسيح” (كورنثس الأولى 4: 15-16). لذلك لم يُطلَق هذا اللقب في البداية إلاّ على الأساقفة. فالأسقف، خليفة الرسل بحسب إيمان الكنيسة، هو الذي يضمن وحدة الإيمان والتعليم المستقيم واستمرارهما عبر العصور المتتالية في تاريخ الكنيسة. وهذا يتطلّب من الأسقف أن يكون أميناً على ما استلمه من أسلافه في الإيمان، وعليه أن يخضع في كلّ أمر للكتاب المقدّس والتقليد الشريف، لكي يصبح بدوره شاهداً حقيقيّاً لإيمان الكنيسة وعقيدتها العصماء.

فهناك مجموعة من القديسين نسميهم آباء. منهم على سبيل المثل الأقمار الثلاثة: “يوحنا الذهبي الفم، باسيليوس الكبير، غريغوريوس اللاهوتي”. قبلهم إيريناوس. بعدهم يوحنا الدمشقي. اللائحة غير محددة الأسماء والأزمنة. يمكن أن يظهر آباء جدد. سميّناهم آباء لمّا أحسسنا أننا نجيء منهم روحيا كما يجيء الولد من والديه. هناك معلمون ساهموا في كشف الحقيقة المسيحية. أما الكبار الذين ثبّتوا الإيمان وشعرنا بأننا مدينون لهم كثيرا في بقائنا مسيحيين فهم آباؤنا.

ما كان همهم؟ في القرنين الرابع والخامس، وهما الأهمان في توضيح العقيدة، كان هاجس هؤلاء أن ينقلوا الإنجيل إلى عقول الناس حسبما كانت أذهانهم، والأذهان كانت آنذاك متأثرة بالفلسفة اليونانية. واللغة كانت اليونانية. كيف ننقذ الإنجيل من أعدائه؟ كيف نظهره معقولا، قويا، منقذا من الضلال؟ كانوا يحاربوننا بالفلسفة. كان لا بد أن نستعمل الفلسفة نحن أيضا أداة حرب لا لنثبتها هي ولكن لنثبت الإنجيل.

مثال على ذلك الكلام على الله الآب وعلاقته بالابن والروح القدس كلام كثير في العهد الجديد. كان يمكن أن يبقى كما ورد في الكتاب مبسوطا في آيات عديدة. كان يكفي مثلا أن نذكر مطلع يوحنا الإنجيلي القائل: “وإلهاً كان الكلمة” لنبين أن المسيح أزلي. ولكن جاء من يقول: بل “كان زمان لم يكن الكلمة فيه” وهو آريوس، حتى ننهض ونقول بل الابن أو الكلمة كان في كل الأزمنة أي إنه إله. قلنا إذاً إنه “مولود غير مخلوق” بمعنى أن الآب كان دائما معه ابنه.

ظهرت بدعة أن الابن أول المخلوقات. اجتمعت الكنيسة المؤمنة بأزلية المسيح (ولم تخترع هذه الأزلية)، اجتمعت وأوضحت أن الابن هو من جوهر الآب. اضطررنا في المجمع النيقاوي وهو المسكوني الأول (سنة 325) لا أن نخترع عقيدة جديدة ولكن أن نثبت الإيمان القديم. من أجل الكلام مع ناس متحضرين استعرضنا كلمة “جوهر” من اللغة الفلسفية لنقول أن الابن ليس له طبيعة تختلف عن طبيعة الآب وأن ليس فيه تبعية المخلوق.

على هذه الطريقة، لمّا أنكر مقدونيوس كون الروح القدس إلهاً، اضطررنا أن نجتمع في القسطنطينية في المجمع المسكوني الثاني ونقول بل هو من جوهر الآب أيضا لأن الكتاب قالها في طريقة أخرى لمّا قال: “روح الحق الذي من الآب ينبثق” بمعنى إنه ينبثق منه دائما وقبل تكوين العالم.

وكما ظهر من يقول أن الابن ليس إلهاً فقد قيل إنه ليس بإنسان ولكنه شبح إنسان. قلنا في دستور الإيمان إنه إله وإنسان معا لأن هذا في الإنجيل. ولكن دفاعا أيضا عن أنفسنا كان لا بد أن نؤكد إنه إله حقيقي وإنسان حقيقي في شخصية له واحدة. وكان لا بد أن نؤكد أيضا أن هذين العنصرين فيه ملتحمان ولا يذوب الواحد في الآخر أو يختلط فيه أو يطغى عليه، فقلنا في المجمع الخلقيدوني وهو الرابع المسكوني (451) أن المسيح ذو طبيعتين. استعرنا اللفظة للإيضاح.

هذا هو دستور الإيمان. هناك آباء كتبوا فهيأوا له. وهناك آباء جاؤوا منه. ولهذا لا بد لفهم الدستور من الرجوع إلى هؤلاء وأولئك.

أمّا أهمّ المعايير التي تستنتد إليها الكنيسة من أجل اعتبار أحدهم مستحقّاً أن يعَدّ من ضمن آباء الكنيسة فهي:

  1. نقاوة العقيدة، فينبغي على الآباء أن تكون تعاليمهم موافقة لتعليم الكنيسة.
  2. قداسة الحياة، وذلك بناء على قول الربّ في الموعظة على الجبل (في الفقرة الإنجيليّة التي تتلوها الكنيسة اليوم): “أمّا الذي يعمل ويعلّم فهذا يدعى عظيماً في ملكوت السموات” (متّى 5: 19). نقاوة التعليم مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بنقاوة العمل، فالمعلّم عليه أن يعمل بما يقوله كي يصدّق الناس أقواله، فيقتدون به على حسب وصيّة القدّيس بولس لأبنائه المذكورة أعلاه.
  3. اعتراف الكنيسة الصريح بأنّ تعاليمه صالحة لبناء المؤمنين في ما هو موافق لإنجيل الربّ يسوع وتعاليمه، والتقليد الرسوليّ الدائم.

يرقى الاستناد إلى تعاليم الآباء من أجل الحكم على صحّة التعليم، والدفاع عن الإيمان في وجه الهرطقات، إلى القدّيس باسيليوس الكبير (+379)، أوّل مَن وضع لائحة بآباء الكنيسة لدعم تفسيره للعقيدة “ببراهين ودفاعات ترتكز على الآباء”. ففي الفصل التاسع والعشرين من كتابه “مقال عن الروح القدس” يصف باسيليوس هؤلاء الآباء بـ”أعمدة الكنيسة الذين تفوّقوا بالمعرفة واستبسلوا بقوّة الروح القدس”. ويدافع باسيليوس عن صحّة اللجوء إلى الآباء بالاستناد إلى الكتاب المقدّس، فيورد في هذا السياق قولَين للرسول بولس: “وإنّي أمدحكم أيّها الإخوة لأنّكم تذكروني في كلّ شيء وتحافظون على التقاليد التي سلّمتها إليكم” (كورنثس الأولى 11: 2)، وأيضاً: “حافظوا على السِّنن التي اتّخذتموها عنّا إمّا مشافهةً وإمّا مكاتبةً” (تسالونيكي الثانية 2: 14).

يحتوي الأدب الآبائيّ على تفسيرات للكتاب المقدّس، وشروح للعقيدة وللعبادات، وكتب ومقالات دفاعيّة عن المسيحيّة بإزاء الوثنيّة واليهوديّة والإسلام، وعظات تعليميّة، وخطابات، ورسائل، وكتب تاريخ وسيَر، ومجموعة صلوات وأناشيد وتأمّلات، وأعمال مجامع، ويوميّات أسفار ورحلات. وما كتابات الآباء إلاّ تفسير لوحي الله في العهد القديم، ولتعاليم الربّ يسوع في العهد الجديد. من هنا، تشكّل كتابات الآباء الوسيلة الفضلى للتبحّر في الإيمان المسيحيّ من أجل البلوغ إلى غاية الحياة المسيحيّة، الحياة في المسيح. وقد قرأت هذا الأدب أجيال المسيحيّين عبر التاريخ، وكان لها بمثابة الغذاء الحقيقيّ الذي جعلها ترتقي في القداسة إلى ملء قامة المسيح.

تبقى الإشارة إلى حاجة مكتبتنا العربيّة الماسّة إلى ترجمات تنقل إلى لغتنا الأمّ، العربيّة، أمّهات الكتب الآبائيّة التي دوِّن أغلبها باللغتَين اليونانيّة واللاتينيّة. فينتفع أبناء كنيستنا الأنطاكيّة والناطقون بالعربيّة من درر الأدب المسيحيّ الآبائيّ الذي راكمته خبرة القدّيسين النابعة من العين التي لا تنضب، من الربّ يسوع المخلّص.

فمن المؤسف طبعا أن كتب الآباء نُقل بعضها إلى العربية ولم يُنقل كثيرها. غير أن اللاهوتيين عندنا يطالعونها باللغات الأصلية اليونانية واللاتينية والسريانية وباللغات الأوربية المترجمة عن الأصل.

غير أن المؤمنين العاديين لم يُتركوا في الجهل لكون تعاليم الآباء عبّرنا عنها بالخِدَم الإلهية. فقد لا يعرف الأكثرون عظة غريغوريوس اللاهوتي عن الميلاد، ولكن الجزء الأساسي فيها موجود في طروبارية الميلاد. آباؤنا إذاً إنجيليون بمعنى مطابقتهم للإنجيل. العقيدة هي نفسها الإيمان مشروحا أي مواكبا للغة العصور التي كافحنا فيها خدمة ليسوع المسيح.

بتصرف عن نشرة رعيتي 1995+1999+2006

arArabic
انتقل إلى أعلى