في القديسين وفي وجوب تكريهم وتكريم رفاتهم

يجب تكريم القديسين لأنه أحبّاء المسيح وأبناء الله وورثته، كما يقول يوحنا اللاهوتي والإنجيلي: “كل الذين قبلوه أعطاهم أن يكونوا أبناء الله”. (يو 1: 12)، “حتى إنهم ليسوا بعدُ عبيداً بل هم أبناء. وإذا كانوا أبناءً فهم وارثون بالله” (غل 4: 7) ووارثون مع المسيح. وقد قال الرب لرسله في أناجيله المقدّسة: “أنتم أحبّائي… لا أسمِّيكم عبيداً بعد، لأنّ العبد لا يعلم ما يصنع سيّده” (يو 15: 14-15). ولمّا كان يُقال لصانع الجميع وسيّدهم “ملك الملوك ورب الأرباب” (رؤيا 19: 16) وإلهُ الآلهة (مز 49: 1)، فإنه يُقال حتماً للقدّيسين أيضاً آلهة وأرباباً وملوكاً، لأنّ الله هو -ويُقال له- إلهُهم وربُّهم وملكُهم. وقو القائل لموسى: “أنا إلهُ أبيك، إلهُ إبراهيم وإلهُ إسحق وإلهُ يعقوب”(خر 3: 6). وقد “جعلَ الله موسى إلهاً لفرعون”(خر 7: 1). وقولي (القديس يوحنا الدمشقي) فيهم بأنه آلهة وملوك وأرباب ليس بالطبيعة، بل ذلك لأنهم ملَكوا أهواءَهم وضبطوها وحفظوا بلا انثلام مثالَ الصورة الإلهيّة التي وُلدوا فيها. فإنه يُقال أيضاً لصورة الملك ملكاً. ثم لأنهم اتحدوا بالله باختيارهم وقبلوا إسكانه فيهم، وبامتزاجهم به بالنعمة صاروا ما هو عليه بالطبيعة. فكيف إذاً لا ينبغي أن نكرِّم أولئك الذين أصبحوا خدّام الله وأحبّاءه وأبناءَه؟ لأنّ الإكرام الواصل من الرفاق في العبوديّة إلى مَن حَسُنَ ولاؤُهم لسيّدهم لهو برهانٌ على صدق النية نحو السيّد العامّ!

إن هؤلاء القديسين قد أصبحوا خزائن الله ومنازله، لأنّ الله يقول: “إني سأسكن فيهم وأسير في ما بينهم وأكون لهم إلهاً” (2 كور 6: 16). ويقول الكتاب الإلهي أيضاً: “نفوسُ الصدّيقين بيد الله فلا يمسُّها عذابٌ” (حكمة 3: 1) فإنَّ موت الصدّيقين نومٌ أكثر منه موت. “لأنهم قد تعبوا إلى الدهر وسيعيشون في الانقضاء”، و “وكريمٌ في عينَي الرب موت أصفيائه”(مز 115: 15). إذاً فماذا أكرمُ من أن يكون الإنسان بين يدَي الله؟ فإنَّ الله حياةٌ ونور. ومن هم بين يديه هم في الحياة والنور.

وإن الله يتّحد أيضاً اتحاداً عقلياً في أجسادهم، كما يقول الرسول: “أما تعلمون أنكم هيكل الله وأنّ روح الله مستقرّ فيكم”؟ و”أنّ الربّ روح” (2كور 3: 17)، و “أَنَّ من يفسد هيكل الله يفسده الله”(1كو 3: 17). إذاً فكيف لا ينبغي أن نكرّم هياكل الله الحيّة، مساكنَ الله الحيّة أن أولئك العائشين منتصبين بحضرة الله؟

رفات القديسين: لقد وهبنا السيّد المسيح رفات القديسين ينابيع خلاصية تنبع البركات بطرق شتّى، وتفيض الحيلَ الذكيّ الرائحة. ولا ينكرنَّ أحدٌ ذلك! فإنّ الله لمّا شاء أنبع ماءً في الصحراء من صخرة صمّاء يابسة، وأنبع لشمشون في عطشه ماءً من فكّ حمار (قضاة15: 19)، أفيكون منكراً أن يفيض الحيلَ الذكي الرائحة من رفاتِ من نُغبّطهم؟ إنه ليس منكراً البتّة لمن يعرفون قوة الله وكرامة القديسين لديه.

يجب ألا نُحصي القديسين مع الأموات.-هم شفعاء البشر جميعاً: جاء في الشريعة: “من لمس ميتاً ما من الناس يكون نجساً” (العدد19: 11). لكننا نقول إنّ هؤلاء القديسين ليسوا أمواتاً. فإننا -منذ أن أحصي الحياة بالذات وعلّة الحياة بين الأموات- لا نحسب أمواتاً من رقدوا على رجاء القيامة والإيمان بالمسيح. وإلا فكيف يجترح المعجزات جسمٌ ميتٌ وكيف يطرد الشياطين؟ والأمراض تزول؟ والضعفاء يشفَون؟ والعميان يُعاد إليهم بصرُهم؟ والبرص يطهرون؟ والتجارب والأحزان تتبدد؟ “وكل عطية صالحة تهبط بواسطتهم من لدن أبي الأنوار” (يعقوب1: 17) على من يلتمسونها بإيمان راسخ؟ فما أكثر ما تُعاني أنت لتجد لك نصيراً يقف تجاه ملك زائل ليدافع عنك! ونحن ألا ينبغي أن نكرّم شفعاء البشر أجمعين الذين يرفعون الابتهالات إلى الله من أجلنا؟ أجل، ينبغي أن نكرِّمهم، ونُشيد على اسمهم الهياكل إلى الله، ونأتيهم بتقادمنا، ونُحيي ذكراهم، ونُسرُّ بها سروراً حياً، فتكون الفرحة خاصة بكل من المدعوين، ونخشى -بعكس ذلك- من أن نغضبهم إذا ما تباطأنا في خدمتهم؟ فإنّ إرضاء خدّام الله عبادة له وإغضابهم باعثٌ لغضبه. إذاً أيها المؤمنون، فلنخدمنَّ القديسين، ولا سيما في ما يعود إلى خدمة الله، وذلك بالمزامير والتسابيح والأناشيد الروحية وبالخشوع وبالرأفة بالمحتاجين. ولنقم لهم النُصُبَ وعليها الأيقونات ظاهرة للعيان، بل ولنصر نحن نصباً وأيقونات حيّة لذكر فضائلهم. ولنكرّمنَّ والدة الإله، على أنها حقاً وحقيقة أُمُّ الله، ويوحنا النبي، على أنه السابق والمعمِّد والرسول والشاهد، الذي قال عنه الربّ: “لم يقم في مواليد النساء أعظم من يوحنا” (متى11: 11)، وقد كان هو المنادي الأول بملكوته. ثم الرسل، على أنهم أخوة الربّ ومعاينوه وخدّام آلامه، “الذين سبق الله فعرفهم وسبق فحدّد أن يكونوا مشابهين لصورة ابنه” (رومة8: 29)، “أولاً رسلاً، ثانياً أنبياء، ثالثاً رعاة ومعلمين” (1كور12: 28). ثم شهداء الرب المنتخبين من كل طبقة، على أنهم جنود المسيح الذين شربوا كأس آلامه واعتمدوا بمعمودية موته المحيي، فأضحوا شركاءه في آلامه ومجده، منهم زعيمهم استفانوس، أول شمامسة المسيح ورسوله وشهيده الأول. ثم آباءنا الأبرار اللابس الله النسّاك، الذين جاهدوا في الاستشهاد الطويل والتعب الجزيل “الذين ساحوا في جلود الغنم والمعز وهو معوزون مضايقون مجهودون، فكانوا تائهين في البراري والجبال ومغاور الأرض والكهوف، ولم يكن العالم مستحقاً لهم” (عبرا11: 37-38). ثم لنكرّمنّ أنبياء ما قبل النعمة ورؤساء الآباء والصدّيقين الذين سبقوا فبشّروا بمجيء الربّ هؤلاء جميعاً، إذا ما تأملنا في سيرتهم، نتشبّه بإيمانهم ومحبتهم ورجائهم وغيرتهم ومعيشتهم وصبرهم على الآلام وثباتهم حتى الدم، لكي نشاركهم في إكليل مجدهم.

عن كتاب المئة مقالة في الإيمان الأرثوذكسي
القديس يوحنا الدمشقي

arArabic
انتقل إلى أعلى