Facebook
Twitter
Télégramme
WhatsApp
PDF
E-mail
☦︎
☦︎

الصوم ونقاوة القلب

40

تشير الوصية الخاصة بالصوم إلى نقاوة القلب أيضًا، وهو موضوع بحثنا. لأنه ينبغي لنا عند الصوم أن نحذر من تسلل حب الظهور والرغبة في مديح الناس إلينا، الأمر الذي يجعل القلب مزدوجًا، غير نقي وغير سليم فلا يستطيع أن يدرك الله.

ومتى صمتم فلا تكونوا عابسين كالمرائين. فإنهم يغيّرون وجوههم لكي يظهروا للناس صائمين. الحقَّ أقول لكم إنهم قد استوفوا أَجْرَهم. وأما أنت فمتى صمت فادهن رأسك واغسل وجهك. لكي لا تظهر للناس صائمًا بل لأبيك الذي في الخفاءِ. فأبوك الذي يرى في الخفاءِ يجازيك (علانيةً).

يظهر لنا من هذه الوصايا ضرورة توجيه جهادنا نحو الفرح الداخلي، فلا نطلب جزاءًا خارجيًا كأهل العالم فنخسر البر العظيم والقوة والثبات والأمور الداخلية التي اختارها الله لنا لكي نكون مشابهين لصورة ابنه(1).

41

حب الظهور لا يكون فقط في التعالي والتفخيم في الأمور الجسدية بل ويكن أيضًا في الأمور الوضيعة المحزنة (أي يمكن أن يتبع الصوم كبرياء وحب للظهور) وهذه تكون أكثر خطورة لأنها تخدع الإنسان تحت اسم خدمة الله.

فالشخص المعروف بمغالاته في اهتمامه بالجسديات وتنعمه بالملابس الفاخرة… الخ. يمكن بسهولة معرفة أنه يطلب الأمور الزمنية في هذا العالم، فلا يضلل أحدًا بمظهر خبيث. أما محترف المسيحية فيجذب الأنظار نحوه بمظاهر التواضع، وبتلك الأمور التي يصنعها عمدًا. وإن كان يمكن أن يفتضح من أفعاله الأخرى لأن رب المجد يحذرنا من الذئاب المتنكرة في ثياب حملان قائلاً “من ثمارهم تعرفونهم”(2).

فعند سقوطهم في تجربة تنسحب منهم هذه المظاهر. وبذلك تظهر حقيقتهم هل هم ذئاب في ثياب حملان، أم حملان حقيقيون؟!. لا يعني هذا أن المسيحي الحقيقي يرضي البشر بارتدائه ملابس فاخرة مغالى فيها، بسبب لبس المخادعين الثياب المتضعة، لأنه لا ينبغي على الحملان أن تخلع ثيابها لمجرد لبس الذئاب لثيابهم.

42

إنه من الطبيعي أن تسأل: ماذا يقصد الرب بقوله “وأما أنت فمتى صمت فادهن رأسك وأغسل وجهك”؟ فنحن نغسل وجوهنا يوميًا لكن لا نجبر بدهن الرأس عند الصوم، لذلك فلنفهم الوصية على أنها غسل لوجهنا ودهن لرأسنا الخاص بالإنسان الداخلي.

فدهن الرأس يشير إلى الفرح وغسل الوجه يشير إلى النقاوة. فعلى الإنسان أن يبتهج داخليًا في عقله بدهن رأسه، التي هي فائقة السمو في الروح التي تحكم وتدبر كل أجزاء الجسم وهذا يحدث للإنسان الذي لا يطلب فرحًا خارجيًا نابعًا عن مديح الناس. لأنه لا ينبغي للجسد – الذي يجب قمعه – أن يكون رأسًا على طبيعة الإنسان جميعها. حقًا إنه “لم يبغض أحد جسدهُ(3)“. وكما يقول بولس الرسول عندما يوصي بضرورة محبة الزوجة (جسد الرجل) “أما الرجل فرأس المرأة والمسيح رأس الرجل” (1 كو 3:11). لذلك يكون الفرح داخليًا أثناء الصوم بابتعاده عن مسرات العالم وخضوعه للمسيح.

وهكذا أيضًا فليغسل وجهه أي ينقي قلبه الذي يعاين الله، فلا يعود هناك حجاب حاجز بسبب الضعف الناتج عن الضيق (الحزن)، بل يكون ثابتًا وقويًا لنقاوته التي لا غش فيها.

يقول الرب “اغتسلوا تنقُّوا اعزلوا شرَّ أفعالكم من أمام عينيَّ”(4). فنغسل وجوهنا “ناظرين مجد الرب بوجهٍ مكشوف كما في مِرآةٍ نتغيَّر إلى تلك الصورة عينها”(5).

43

إن الانشغال حتى بالأشياء الضرورية اللازمة لهذه الحياة، غالبًا ما يصيب أعيننا الداخلية ويلوثها، ويجعل القلب مزدوجًا. فحتى في الأمور التي يبدو لنا فيها أن نتعامل بحق مع زملائنا، فإننا لا نعمل بالقلب الذي يطالبنا به الرب. وذلك ليس بسبب محبتنا للأشياء الزمنية بل لرغبتنا في الحصول على بعض المنافع الشخصية منهم. لذلك ينبغي أن يكون هدفنا هو خلاص نفوسهم لا نفعنا الزمني. ليعطنا الرب قلوبًا تميل إلى الشهادة له لا إلى الطمع (مز 36:119). لأن “غاية الوصيَّة فهي المحبَّة من قلبٍ طاهر وضميرٍ صالحٍ وإيمانٍ بلا رياءٍ” (1 تي5:1). فمن يعامل أخاه لأجل الحصول على الضروريات الخاصة بهذه الحياة، فبالتأكيد لا يتعامل بحب، لأنه لا يهتم بأخيه الذي ينبغي أن يحبه كنفسه، بل يهتم بنفسه، بل بالحق لا يهتم حتى بنفسه لأنه بهذه الطريقة يجعل قلبه مزدوجًا فلا يستطيع رؤية الله.

+ + +

مقوّمات نقاوة القلب

أولاً: الانشغال بالسماويات

44

يرغب ربنا في تنقية قلوبنا، لذلك يوصينا قائلاً:

لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض حيث يفسد السوس والصدأُ وحيث ينقب السارقون ويسرقون. بل اكنزوا لكم كنوزًا في السماءِ حيث لا يفسد سوس ولا صدأ وحيث لا ينقب سارقون ولا يسرقون. لأنهُ حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضًا.

فإن كان القلب على الأرض، أي إن كان الإنسان في سلوكه يرغب في نفع أرضي، فكيف يمكنه أن يتنقى، ما دام يتمرغ في الأرض؟! أما إذا كان القلب في السماء فسيكون نقيًا، لأن كل ما في السماء هو نقي فالأشياء تتلوث بامتزاجها بما هو أردأ منها، ولو كان هذا الرديء نقيًا في ذاته. فالذهب يتلوث بامتزاجه بالفضة النقية، وفكرنا يتلوث باشتهائه الأمور الأرضية رغم نقاوة الأرض وجمال تنسيقها في ذاته.

لكننا لا نفهم كلمة “السماء” هنا بمعنى مادي: لأن كل ما هو مادي يعتبر أرضًا. فالذي يكنز في السماء ينبغي عليه أن يحتقر العالم كله. فالسماء هي تلك التي قيل عنها “السماوات سماوات للرب” (مز 16:115) أي جلدًا روحيًا. لأنه لا ينبغي لنا أن نثبت كنزنا وقلبنا في هذه السماء الزائلة، بل لنثبتهما ونكنزهما في السماء الباقية إلى الأبد. أما السماء والأرض (الماديتان) فتزولان (مت 35:34).

45

لقد أوضح أن جميع الوصايا السابقة قصد بها “نقاوة القلب” وذلك بقوله:

سِراج الجسد هو العين. فإن كانت عينك بسيطة فجسدك كلُّهُ يكون نيّرًا. وإن كانت عينك شريرة فجسدك كلهُ يكون مظلمًا. فإن كان النور الذي فيك ظلامًا فالظلام كم يكون.

نفهم من هذه العبارة أن جميع أفعالنا تكون نقية ومرضية في نظر الله إن صنعناها بقلب بسيط، أي إن كان هدفنا فيها سماويًا، متطلعين إلى تلك الغاية التي هي المحبة، لأن “المحبة هي تكميل الناموس”(6). من ثم فلنفهم “العين” هنا على أنها “النية التي نصنع بها أفعالنا”. فإن كانت نيتنا نقية وسليمة، أي ناظرين إلى السماويات، فستكون جميع أعمالنا صالحة. هذه التي لقبها الرب “جسدك كله” لأنه عندما حدثنا الرسول عن بعض أعمالنا القبيحة، دعاها أيضًا (أعضاء لنا)، إذ علمنا أن نصلبها قائلاً: “فأميتوا أعضاءَكم التي على الأرض الزنى النجاسة… الطمع”(7). وما على شاكلة ذلك.

46

فليست أفعال الإنسان هي موضع الاعتبار بل نيته أثناء صنعها، لأن النية هي النور الذي يضيء فينا. فهي التي نعرفها أثناء العمل، (فكل ما أظهر فهو نور). أما نتائج أعمالنا فهي معيار غير أكيد، لذلك دعيت ظلامًا.

فعندما أتصدق إلى فقير ما، لا أعلم ما سيفعله بهذا المال، أو ما سيعانيه بسببه. فقد يصنع به شرًا كما قد يسبب له شرورًا، الأمر الذي لم أكن أقصده عن تصدقي به. فإن كنت قد تصدقت بنية صالحة، وهذا يمكني أن أعرفه أثناء صنعي للصدقة، فإن صنعي هذا سيضيء مهما كانت نتيجته. أما هذه النتيجة فلعدم تأكدي منها أثناء صنعي الصدقة، لذلك دعيت ظلامًا. فالنية يقال عنها إنها نور ولو كانت نية شريرة. ولكن في هذه الحالة يكون هذا النور ظلامًا بسبب عدم توجيه الهدف ببساطة إلى الأمور السامية، بل إلى أسفل نحو الأمور الدنيا. وهذا يتم بواسطة قلب مزدوج كما لو كان ظلامًا.

“فإن كان النور الذي فيك ظلامًا. فالظلام كم يكون”. أي إذا كانت نيتكم قد تلوثت بمحبة الأمور الأرضية الزمنية وصارت ظلامًا، فكم بالأكثر تكون الأعمال نفسها غير المعروف نتيجتها؟! لأنه مهما نتج عما تصنعه بنية شريرة وغير نقية من خير للآخرين، فإن قصدك هو الذي يحسب عليك وليس نتيجة عملك.

47

لا يقدر أحد أن يخدم سيّدَين

حقًا إن هذه العبارة تشير إلى النية نفسها، إذ كمل الرب قائلاً:

لأنهُ إما أن يبغض الواحد ويحب الآخر أو يلازم الواحد ويحتقر الآخر. لا تقدرون أن تخدموا الله والمال Mammon(8).

فمن يعبد المال يخدم الشيطان الذي لقبه ربنا (رئيس هذا العالم)(9) وذلك لسيطرته بضلاله على الأشياء الأرضية” فالإنسان إما أن “يبغض” هذا الواحد “ويحب الآخر” أي الله. أو يلازم الواحد “الشيطان” ويحتقر الآخر “الله”. لأن من يخدم المال يخضع للشيطان القاسي المهلك. فإذ يرتبك بشهوته للمال يخضع للشيطان ويلازمه رغم عدم محبته له، لأنه من منا يحب الشيطان؟! ويكون بذلك يشبه إنسانًا أحب خادمة لدى شخص عظيم، فرغم عدم محبته لسيدها إلا أنه يخضع لعبوديته القاسية بسبب محبته للخادمة.

48

يقول “يحتقر الآخر” دون أن يقول “يبغضه”، لأنه غالبًا ما لا يستطيع إنسان أن يبغض الله بل يستهين به أي لا يخافه كما لو كان يشعر بكثرة مراحم الله. ولكن الروح القدس ينزع تلك النظرة المهلكة، إذ يقول على لسان النبي: “يا ابني لا تزيد خطية على خطية وتقول رحمة الله عظيمة”(10). “غير عالمٍ أن لطف الله إنما يقتادك إلى التوبة”(11). فمن هو رحيم مثل الله، الذي يغفر كل خطايا الراجعين إليه، ويجعل الزيتونة البرية شريكة في دسم الزيتونة كذلك من هو قاسي مثله حتى يقطع الأغصان الطبيعية لعدم إيمانها؟(12)

49

لذلك أقول لكم لا تهتمُّوا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون. ولا لأجسادكم بما تَلبَسون.

فبالرغم من أننا لا نطلب الكماليات، لكن نخشى من أن يصير قلبنا مزدوجًا حتى في طلب الضروريات. فنحن نخشى أن ينحرف هدفنا إلى طلب ما هو لصالحنا الخاص حتى عندما نصنع رحمة بالآخرين مبررين ذلك بأننا نطلب الضروريات لا الكماليات.

لقد نصحنا الرب أن نتذكر أنه عند خلقتنا وهبنا جسدًا وروحًا وهما أفضل من الطعام واللباس. وبذلك لم يشأ أن تكون قلوبنا مزدوجة.

أَليست الروح (الحياة) أفضل من الطعام؟

فالذي أعطى الروح ألا يهب الطعام، والذي وهب الجسد أما يهب الملبس بسهولة؟!.

50

والسؤال المعتاد هنا هو: هل هناك صلة بين هذا الطعام والروح، مع أن الروح غير مادية والطعام مادي؟!.

إن الروح في هذه العبارة يقصد بها “الحياة الزمنية” التي تحتاج إلى قوت مادي. فقد وردت كلمة “روح” أو “نفس” بهذا المعنى في النص التالي “مَنْ يحبّ نفسهُ يهلكها”(13). فلو لم تفهم بهذا المعنى لناقضت القول “ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه”.

51

انظروا إلى طيور السماءِ. أنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن. وأبوكم السماوي يقوتها. أَلستم أنتم بالحري أفضل منها.

إنكم بلا شك أعظم من هذه الطيور لأن العاقل كالإنسان أسمى من الكائنات غير العاقلة.

ومن منكم إذا اهتمَّ يقدر أن يزيد على قامته ذراعًا واحدًا. ولماذا تهتمُّون باللباس.

الله الذي بحسب قدرته وقوته وهبك هذه القامة، أفلا يستطيع أن يلبسك أيضًا؟! فما دمت لم تبلغ إلى هذه القامة بقدرتك الخاصة، لذلك لن تستطيع أن تزيد قامتك ذراعًا واحدًا.

لهذا فلتترك الاهتمام بعناية جسدك هذا لذاك الذي بعنايته بلغ بك إلى هذه القامة.

52

وكما ضرب السيد مثالاً خاصًا بالأكل. هكذا ضرب مثالاً خاصًا بالملبس إذ قال:

تأَمَّلوا زنابق الحقل كيف تنمو. لا تتعب ولا تحصد. ولكن أقول لكم إنهُ ولا سليمان في كل مجدهِ كان يَلبَس كواحدةٍ منها. فأن كان عشب الحقل الذي يوجد اليوم ويُطرَح غدًا في التنور يُلبسهُ الله هكذا أَفليس بالحري جدًّا يلبسكم أنتم يا قليلي الإيمان.

لا تأخذ هذه الأمثلة كرموز، فنبحث عما ترمز إليه، بل هي حقائق صغيرة تؤكد لنا حقائق اكبر، وهذا يشبه مثال القاضي الذي لم يكن يخاف الله ولا الناس، ولكنه استسلم للأرملة التي كانت تلح عليه لينظر في أمرها. فهو لم يستسلم لها لأجل رحمته بها، بل ليتخلص من ضجرها. فلا يمكن أن نقول بأي حال من الأحوال أن هذا القاضي الظالم يرمز لشخص الله، ولكنه ذكر كمثال يظهر لنا مدى اهتمام الله الصالح بأولاده الذين يتوسلون إليه. فمن هذا المثال أراد ربنا أن نستنبط أنه حتى الإنسان الظالم لا يستهين بمن يسألونه بلجاجة ولو كان لمجرد تجنبه مضايقة السائل.

53

فلا تهتمُّوا قائلين ماذا نأكل أو ماذا نشرب أو ماذا نَلبَس. فأن هذه كلها تطلبها الأمم. لأن أباكم السماوي يعلم أنكم تحتاجون إلى هذه كلها. لكن اطلبوا أولاً ملكوت الله وبرَّهُ وهذه كلها تزاد لكم.

يجب علينا ألا نطلب هذه الأشياء كما لو كانت مصدر سعادتنا، كما لا نصنع الخير لأجل نوالها رغم كونها ضرورية في حياتنا. لقد أوضح لنا رب المجد الفارق بين السعادة التي نطلبها وبين حصولنا على ضروريات الحياة، وذلك بقوله “اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره، وهذه كلها تزاد لكم” فملكوت الله وبره هو الخبز الذي نسعى إليه والذي نقصده من كل أعمالنا. ولكننا إذ نخدم في هذه الحياة كجنود راغبين في ملكوت السماوات نحتاج إلى الضروريات اللازمة للحياة، لذلك قال الرب “هذه كلها تزاد لكم”، “ولكن اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره”.

فبقوله كلمة “أولاً” أشار إلى طلبنا هذه الأشياء، ولكن لا نطلبها أولاً، لا من جهة الزمن بل بحسب الأهمية، فملكوت الله نطلبه كخير نسعى نحوه، أما الضروريات فنطلبها كضرورة نحتاج إليها لتحقيق الخير الذي نسعى نحوه.

54، 55

فكمثال: ينبغي ألا نبشر بالإنجيل، بقصد الحصول على الطعام، لكننا نأكل لنستطيع التبشير بالإنجيل. فإن كنا نبشر بالإنجيل لكي نحصل على الطعام، يكون التبشير بالإنجيل في نظرنا أقل أهمية من الطعام، وبذلك تنصب سعادتنا في الطعام، ويصير التبشير ضرورة لازمة لتحقيق سعادتنا (في الأكل). وهذا ما نهانا عنه الرسول عندما قال “إنه بسماح من الرب يجوز للذين يبشرون بالإنجيل أن يعيشوا من الإنجيل” ومع ذلك فلم يستخدم لنفسه هذا السلطان. والسبب في ذلك أن كثيرين كانوا يرغبون في الحصول على فرصة لبيع الإنجيل، وقد أراد أن يضيع عليهم هذه الفرصة، لذلك كان يعمل بيديه، قائلاً “لأقطع فرصة الذين يريدون فرصةً”(14). لقد استقبح البشارة بالإنجيل كضرورة (أي كرهًا، لنوال الطعام) بقوله “أَلستم تعلمون أن الذين يعملون في الأشياء المقدَّسة من الهيكل يأكلون. الذين يلازمون المذبح يشاركون المذبح. هكذا أيضًا أَمَرَ الربُّ أن الذين ينادون بالإنجيل من الإنجيل يعيشون. أمَّا أنا فلم أستعمل شيئًا من هذا” (1 كو 13:9-15). من ثم فقد أظهر أنه يجوز الأكل من الإنجيل ولكنه ليس كأمر إجباري، وإلا يكون في عدم أكله من الإنجيل قد خالف وصية الله، لذلك أردف قائلاً “ولا كتبت هذا لكي يصير فيَّ هكذا. لأنهُ خير لي أن أموت من أن يعطّل أحد فخري”.

يقول: “إن كنت أبشر فليس لي فخر” أي إن كنت أبشر بالإنجيل لنوال هذه الضروريات فإني أكون قد جعلت هدف الإنجيل هو الحصول على الأكل والشرب والملبس. ولكن لماذا “ليس لي فخر”؟ “إذ الضرورة موضوعة عليَّ”. أي في هذه الحالة ينبغي لي التبشير لأنه كوسيلة للحصول على وسائل العيش، أو لأنني أطلب ثمارًا زمنية من التبشير بالأمور الأبدية، فيكون التبشير ضروريًا وليس طوعًا “فويل لي إن كنت لا أبشر”.

ولكن ما هو الهدف في تبشيره؟… إنه بقصد نوال جزاء الإنجيل نفسه والحصول على ملكوت الله، وبذلك يبشر به طوعًا لا كرهًا. فهو يقول “فإن كنت أفعل هذا طوعًا فلي أجر. ولكن إن كان كرهًا فقد استؤمنت على وكالة” أي إن كنت أبشر كرهًا للحصول على الأشياء الضرورية للحياة، فسينال بواسطتي الآخرون جزاء الإنجيل، هؤلاء الذين أحبوا الإنجيل في ذاته بواسطة تبشيري، وأكون أنا قد حرمت من هذا الجزاء لأنني لا أحب الإنجيل لذاته بل للحصول على الأشياء الزائلة. فمن يخدم الإنجيل كعبد وليس كابن يكون قد أخطأ في الوكالة التي استؤمن عليها، لأنه يكون كما لو أعطى الآخرين ما قد حرم نفسه منه، فلا يكون شريكًا في ملكوت السماوات بل يطرد خارجًا، لكنه يأخذ الطعام كأجرة للعبودية البائسة. ومع هذا فهو يدعو نفسه وكيلاً في عبارة أخرى. لكن الخادم الذي يحسب نفسه في عداد الأبناء يكون في قدرته أن يهب بالإيمان الذين يشاركونه في ذلك الملكوت الذي له نصيب فيه. أما إذا حسب عبد فيقول “ولكن إن كان كرهًا فقد استؤمنت على وكالة” أي يعطي الآخرين دون أن يأخذ نصيبًا معهم.

ثانيًا: عدم القلق بالغد

56

الذين يطلبون أولاً ملكوت الله وبره، أي يفضلونهما عن كل الأشياء الأخرى، يطلبون كل شيء بقصد الحصول على ملكوت الله، هؤلاء ينبغي عليهم ألا يقلقوا خوفًا من عدم اكتفائهم بضروريات الحياة، فقد قال قبلاً “لأن أباكم السماوي يعلم أنكم تحتاجون إلى هذه كلها”(15). فعند قوله “اطلبوا أولاً ملكوت الله وبرَّهُ” لم يكمل “ثم اطلبوا هذه الأشياء” بل أكد “هذه كلها تزداد لكم”. أي إن طلبتم الأشياء الأولى فبالتأكيد تنالون هذه أيضًا. وذلك لأنه يخشى من أن ننشغل عن ملكوت الله عندما نطلب هذه، أو ربما يصير هدفنا مزدوجًا فنطلب ملكوت الله لذاته وهذه أيضًا لذاتها وليس لأجل ملكوت الله. “لأنكم لا تقدرون أن تخدموا سيدين”.

وبما أن جميع الذين يتجندون ينالون طعامهم ومرتباتهم، وإن كان ليس جميعهم يعملون لأجل الخير العام، بل هناك من يتجند بقصد أن يحصل على المرتب. هكذا ليس الكل يخدم الله من أجل سعادة الكنيسة بل هناك من يخدم لينال الأشياء الزمنية. وقد قيل قبلاً “لا تقدروا أن تخدموا سيدين”. من ثم ينبغي أن نصنع الخير للجميع بقلب بسيط بقصد نوال ملكوت الله فقط، دون التفكير في نوال الجزاء الزمني وحده أو مع ملكوت الله. فكل الأشياء الزمنية قد وضعها الرب تحت كلمة “الغد” قائلاً “لا تهتموا للغد”. لأن الغد لا يقال إلا في الزمن حيث يوجد مستقبل. لذلك ليتنا عند صنع أي عمل صالح لا نفكر فيما هو زمني بل فيما هو أبدي.

فلا تهتمُّوا للغد. لأن الغد يهتمُّ بما لنفسهِ

أي عندما تحتاجون ستنالون الطعام والشراب والملبس من أبيكم العالم بحاجتكم إليها.

يكفي اليومَ شرُّهُ

يكفينا أن ننال ما هو ضروري لليوم. وأظن أن هذه الضروريات دعيت شرًا، لأنها عقوبة، حكم بها علينا لضعف إرادتنا وقابليتنا للموت الذي نلناه بصنعنا للخطية. فلا نزيد على هذه العقوبة ثقلاً، بعدم اكتفائنا من أن نعاني منه، بل نرغب في إشباع احتياجنا هذا عن طريق خدمة الرب.

57

الاتكال والتواكل

ينبغي علينا أن ندقق في فهمنا للعبارة “يكفي اليوم شره” لئلا نحكم على أحد الخدام بمخالفته للوصية لمجرد تدبيره هذه الضروريات حتى لا يكون هو ومن يعولهم في عوز.

فربنا يسوع الذي تخدمه الملائكة ارتضى أن تكون له صناديق تستخدم في الإنفاق على حاجياته، كالذي كان مع يهوذا خائنه(16).

والرسول بولس يفكر في الغد (ولكن دون قلق) بقوله “وأما من جهة الجمع لأجل القديسين فكما أوصيت كنائس غلاطية هكذا افعلوا أنتم أيضًا. في كل أوَّل أسبوعٍ ليضع كلُّ واحدٍ منكم عندهُ. خازنًا ما تيسَّر حتى إذا جئْت لا يكون جمع حينئذٍ. ومتى حضرت فالذين تستحسنوهم أُرسِلُهم برسائل ليحملوا إحسانكم إلى أورشليم. وإن كان يستحقُّ أن أذهب أنا أيضًا فسيذهبون معي. وسأَجيءُ إليكم متى اجتزت بمكدونية…” (1 كو 1:16-8).

وقد جاء في سفر أعمال الرسل أنهم كانوا يستعدون للمستقبل لمواجهة المجاعة المحدقة ، إذ يقول: “وفي تلك الأيام انحدر أنبياء من أورشليم إلى أنطاكية. وقام واحد منهم اسمه أغابوس وأشار بالروح أن جوعًا عظيمًا كان عتيدًا أن يصير على جميع المسكونة. الذي صار أيضًا في أيام كلوديوس قيصر. فحتم التلاميذ حسبما تيسر لكل منهم أن يرسل كل واحد شيئًا خدمة إلى الإخوة الساكنين في اليهودية. ففعلوا ذلك مرسلين إلى المشايخ بيد برنابا وشاول”(17).

كذلك عندما أبحر بولس الرسول كان الطعام المقدم له يكفيه لأكثر من يوم واحد(18).

وكما كتب بولس الرسول: “لا يسرق السارق فيما بعد بل بالحري يتعب عاملاً الصالحَ بيديهِ ليكون لهُ أن يعطي مَنْ لهُ احتياج”(19)، فقوله هذا يبدو لغير الفاهمين أنه مخالف لوصية الرب القائلة: “انظروا إلى طيور السماء. إنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى المخازن وأبوكم السماوي يقوتها”. إذ يأمر الرسول اللصوص أن يعملوا بأياديهم ليكون لديهم ما يتصدقون به للآخرين.

كذلك يقول عن نفسه مرارًا أنه يعمل بيديه حتى لا يكون ثقلاً على أحد، وأنه التصق بأكيلا بسبب مشابهته له في العمل، حتى يعملا سويًا ليستطيعا العيش(20).

في هذه الأمور السابقة كلها يبدو كأنه لم يقلد طيور السماء وزنابق الحقل. ففي الحقيقة ربنا لم يمنع هذا الاهتمام (التدبير)، بالنظر إلى هذه الضروريات نظرة طبيعية، لكنه يمنع (أن تكون هدفًا) وأن يتجند لله من أجل الحصول على هذه الأمور، فلا يهتم في كل ما يعمله بملكوت الله بل على الحصول على هذه الأشياء.

58

فهذه الوصية تنادي بالتفكير في ملكوت الله، حتى أثناء البحث عن الضروريات، وألا يفكروا فيها أثناء خدمة الله، فإن كان الله يسمح أحيانًا لخدامه بالاحتياج، فذلك لا يثبط عزائمنا بل يقويها، إذ يقول الرسول “نفتخر أيضًا في الضيقات عالمين أن الضيق ينشئُ صبرًا. والصبر تزكية والتزكية رجاءً والرجاءُ لا يُخزِى لأن محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا”(21). كما ذكر الجوع والعطش والبرد والعري عند ذكره للضيقات والأتعاب التي تحملها(22)… وهذا لا يعني إخفاق مواعيد الله. بل هو الطبيب، الذي يتعهد أرواحنا، وبواسطته نلنا الوعد بالحياة الروحية، فهو يعلم ما هو الصالح لنا فيدبر حياتنا وحياة كل من يريد لهم راحة في هذا العالم حتى يكونوا ثابتين في الراحة الأبدية فيما بعد.

فالإنسان قد يحرم حيوانه أحيانًا عن الأكل، فهذا لا يعني عدم اهتمامه به، بل بالحري اعتناءه به.

+ + +


(1) رو29:8.

(2) مت16:7.

(3) أف29:5.

(4) أش16:1.

(5) 2كو18:3.

(6) رو10:13.

(7) كو5:3.

(8) Mammon يعني المال أو إله المال.

(9) يو31:12، 30:14.

(10) حكمة يشوع 5:5،6.

(11) رو4:2.

(12) رو17:11-24.

(13) يو25:12.

(14) 2كو12:11.

(15) مت32:6.

(16) يو6:12.

(17) أع27:11-30.

(18) أع10:28.

(19) أف28:4.

(20) أع2:18،3.

(21) Romains 3 : 5-5.

(22) 2كو23:11-27.

Facebook
Twitter
Télégramme
WhatsApp
PDF
☦︎
Retour en haut