لقد وضعتنا كلمة الله الخالقة، في الفصل السابق، أمام مأساة الإنسان التي هي السقوط. كان الإنسان صديقاً لله يكلمه وجهاً لوجه فأصبح الآن يهرب منه ويختبئ. “سمعت صوتك.. فاختبأت” (تكوين 3: 10). ولكن الله لا يتخلى عن خليقته، فكل سفر التكوين، بعد سقوط آدم مباشرة، يرينا رحمة الله على خليقته، وعنايته بخلاصها.
إن الإصحاحات الأحد عشر الأولى من سفر التكوين لا تتعلق مباشرة بالتاريخ المقدس. في الإصحاح الثاني عشر ومع ابراهيم فقط يبدأ تاريخ الخلاص.
إن الإصحاحات الأولى تتعلق بتاريخ البشرية العام، فموسى كاتب السفر قد جمع بعض المعلومات الأولى المحفوظة في ذاكرة جميع الأمم في تلك الأيام، كاتباً تاريخ البشر قبل اختيار الله لابراهيم. وهذا التاريخ يتصف بعدة ميزات: إن الله أولاً لا يتخلى عن خليقته بل إنه يظهر كعناية إلهية تدبر الأمور وتديرها كنظام كوني، مترئساً الظواهر الطبيعية اللازمة لحياة الإنسان، ذلك لأن الإنسان لم يكن قادراً على أن يتجاوز هذه المرحلة من الإعلان الإلهي: إعلان الله عن ذاته في الكون.
ويظهر الله أيضاً في هذا التاريخ العام للبشرية كصبر، أي أنه يقبل بالوضع الجديد عن الخطيئة ولا يقدم على إفنائه إلى الأبد. لا يزيل الإثم والعنف والكذب والشر دفعة واحدة بل يصبر. يعطي مهلة ويعرف لماذا يعطيها. وعند إفنائه الأرض بالطوفان لا يفنيها كلها بل يخلص نوحاً لكي يعيد به نظام العالم.
ثم مع نوح نصادف الميثاق الأول الذي هو نموذج ومثال لكل مواثيق الله التالية. ويقبل نوح من الله هذا الميثاق الكوني: “وأبداً ما دامت الأرض فالزرع والحصاد والبرد والحر والصيف والشتاء والنهار والليل لا تبطل” (تكوين 22:8) الله يضمن النظام الطبيعي. إنه وعد طبيعي فقط ولكنه يؤمن الشروط الخارجية لوعده الفائق الطبيعة. فالله يؤكد لنوح وللبشرية بعده أن نظام الطبيعة لن يطرأ عليه خلل رغم خطيئة الإنسان. هذا هو الحد الأقصى الذي كان يستطيع الإنسان أن يقبله بعد سقوطه (1).
ولكن كلام الله محبة كما رأينا والمحبة تريد خلاص الساقط. إن كلام الله خلاص. ولكن لا بد من مخاطب يفهمه ويطيعه، فلم يكتف الله بتأمين النظام الكوني بل خطا خطوة أعمق في إعلان ذاته للناس وهي إعلان إرادته نحو الكائن الروحي إرادة الخلاص للإنسان. بعد أسبوع الخلق يبدأ “أسبوع الفداء”. إنه خلق أسمى من خلق الكون بما لا قياس له. إن كلمة الله تخلق لذاتها الآن شعباً، جيلاً بشرياً ينبغي أن يعبر لا الأرض بل الزمن والتاريخ ويستعد كإناء لقبول إعلان أعظم، الإعلان الكلي الذي هو التجسد، غاية الله أن يوجد شعباً أميناً عبر الزمن ليتقبل الخلاص.
وسفر التكوين ابتدأ من الإصحاح 12 وحتى النهاية يروي لنا ذلك. وهذا كله، في هذه المرحلة الثانية “مرحلة الوعد” يعد به الله رجلاً يجده ويرتبط معه بتحقيق قصد الخلاص: هو ابراهيم، فالإصحاحات 12 إلى 26 تروي تاريخ ابراهيم الذي يقبل الوعد والإصحاحات 26 إلى 50 تروي تاريخ ذرية ابراهيم المباشرة: حروبهم وأمانتهم.. إلى أن تبدأ المرحلة التالية وهي الخروج.
إن مرحلة الوعد تحتوي أفكاراً ثانوية عديدة تؤلفها وتساعدنا على فهمها:
1- الإله الحي: يبدأ الإصحاح 12 من سفر التكوين بشكل غريب مفاجئ: “وقال الرب لأبرام انطلق من أرضك وعشيرتك وبيت أبيك إلى الأرض التي أريك” (تكوين12: 1- 2). لقد أعلن الله ذاته حتى الآن، ومنذ سقوط آدم، من خلال نظام الكون الطبيعي كما رأينا. ولكن الوثنية تقوم على الخلط بين الله وبين نتائج عنايته في الطبيعة فلا تبلغ إلى الإله الحي.
أما الوصول إلى الإله الحي فيتم عندما هو يبادر ويتكلم. ليس من خلال الخليقة بل مباشرة متوجهاً إلى إرادة الإنسان. إله حي يتكلم ويتكلم متوجهاً للإرادة. إله يختار رجلاً ويدعوه ليعلن به للكون تصميماً خاصاً: “أنا أجعلك أمة كبيرة وأباركك وأعظم اسمك وتتبارك بك جميع أمم الأرض”. تصميماً ليس في نطاق الانتظام الكوني بل مختلفاً عنه، تصميماً على حدة، يعلنه من عنده اختيار وحرية. “لأني علمت أنه سيوصي بنيه وأهله بعده بأن يحفظوا طريق الرب ليعلموا بالبر والعدل حتى ينجز الرب لابراهيم ما وعده به” (تكوين 18: 19) إن الآلهة الوثنية تمثل النظام الطبيعي، أما الإله الحي فيعلن قصداً وسراً فائق الطبيعة.
2- الله يتوجه إلى ابراهيم بأمر ووعد: إن الإنسان بعد السقوط كفّ عن قبول كلام الله وطاعته. أما الآن فإبراهيم يتقبل أمراً ويطيعه. “انطلق من أرضك وعشيرتك وبيت أبيك..” إن الله بهذا الأمر ينزع ابراهيم من النظام الطبيعي، ويبدأ يفرزه ويميزه عن الآخرين. إن أمر الله يقيم من يطيعه في نظام فوق طبيعي (2). وانطلق ابراهيم وجماعته وأتوا أرض كنعان. “وتجلى الرب لابراهيم وقال لنسلك أعطي هذه الأرض” (تكوين 4:12- 7).
لأول مرة في الكتاب تظهر غاية كلام الله وكنهه، تظهر مجانية محبة الله: إنه يرينا أفق عطيته. “لِنَسلِكَ أعطي هذه الأرض”. إن الله يعد ابراهيم وعداً مجانياً تماماً يكاد يكون جنونياً: إن ابراهيم شيخ في الخامسة والسبعين وهو وحيد وأعزل، والكنعانيون يحتلون البلاد فكيف يمكنه أن يستولي على الأرض؟ ولكنه يطيع متعلقاً بالوعد الإلهي. إنه يكاد لا يعيش في الزمن بل يقيم في الأبدية ممتداً إلى الأمام. هذا بدء تلك المغامرة العجيبة.
3- الوعد يصبح عهداً، أعني يتخذ علامة منظورة تثبته وتختمه وتجعله ميثاقاً غير قابل للزوال. إن الإصحاح 15 يروي لنا ذلك: “لا تخف يا أبرام: من يخرج من صلبك هو يرثك.. ويكون نسلك كنجوم السماء… وأعطيك هذه الأرض ميراثاً – اللهم بماذا أعلم أني أرثها ؟” فيجري الله مع ابراهيم عقداً على حسب عادة الكنعانيين: يشطر ابراهيم بعض الحيوانات أنصافاً ويجعل كل شطر قبالة صاحبه ثم يقع على ابراهيم سبات (3) ورعب.. ويعبر تنور دخان ومشعل نار بين القطع، فيبت العهد.”في ذلك اليوم بت الرب مع أبرام عهداً قائلاً لنسلك أعطي هذه الأرض” (4) ولكن الله وحده يعبر بين القطع لا ابراهيم أي أن العقد هو ذو طرف واحد وأن الله هو ضامن الميثاق بالحقيقة، وقد عبر كالنار التي تحرق و لا تحترق.
هكذا في الإصحاح 17 يؤكد الله العهد أيضاً ويعطي علامة أخرى هي الختان (أنظر تكوين 17).
4- وجه ابراهيم: إن شخص ابراهيم رمز حي يمثل الفريق الآخر، الفريق الذي يخاطبه الله بأمر ووعد ويبت معه عهداً. وفي ابراهيم هذا نجد عدة نواح:
أ- الإيمان وهو الطابع الأقوى والأكثر ظهوراً. ابراهيم أبونا في الإيمان، إنه أول المؤمنين. إننا نرى الإيمان محققاً في ابراهيم ومجسداً بقوة وفي مأساة بشرية تجعل منه رمزاً حياً للإيمان إلى الأبد. بإبراهيم يظهر طابع الإيمان “الذهولي”، الإيمان كخروج من الذات مغامرة، كتنازل عن الذات والمنطلق والبديهة وتعلق وحده، بالإيمان وحده، بكلام الله وحده وحسب. بالإيمان نعرف الله ونعترف بجميله واعترافنا بالله (إيماننا به) هو الطريقة الوحيدة لدينا لشكرنا ومكافأتنا له. وبالإيمان أيضاً نسبح الله، لأن التسبيح الأكثر كمالاً إنما هو الطاعة الكلية، وحيث توجد الطاعة لا لزوم لتسبيح الشفاه. والإيمان يظهر الله. حيث يوجد مؤمن هناك يسكن الله على الأرض ويظهر للناس. منذ آدم لم يعد الله يسكن مع الناس، والآن بإبراهيم وبفضل الإيمان يعود الله إلى الأرض إلهاً حياً. وبالإيمان استحق ابراهيم تحقيق إيمانه: استحق أن يرى الله.
إن الإصحاح 18 من سفر التكوين يروي لنا كيف رأى ابراهيم الله عند بلوطة ممري في رؤيا ذهولية هي نموذج للصوفيين. ويعقوب الرسول يقول “آمن ابراهيم بالله فحسب له ذلك براً ودعي خليل الله” (يعقوب 2: 23). هذا وتغيير اسم ابراهيم من أبرام إلى ابراهيم بعد إيمانه يرمز إلى دخوله في حياة جديدة ومنذ ذلك الوقت يصير الإله الحي “إله ابراهيم واسحق ويعقوب”. إنها علاقة الاسم، علاقة شخصية بين الله والإنسان. وهو اسم غير الاسم الطبيعي، اسم إرادة الله لابراهيم منذ الأزل.
ب- الغربة: إن اختيار الله لابراهيم يجعله غريباً. عوض السعادة البشرية التي كان ينعم بها بين أهله وعشيرته، ينتزع من وطنه: ليس له مكان في الأرض بل له الوعد فقط. أي معنى تحمل هذه الغربة؟ إنها غربة آدم عن الفردوس المفقود لقد طرد آدم من الفردوس لعصيانه كلام الله. أما ابراهيم فيعود يسير مجدداً نحو الفردوس، إنه أول من يجد الفردوس في كلام الله. ليس الفردوس وراءه بل في كلام الله. إلى الأمام دائماً. إن ابراهيم يعبر التاريخ والأرض إلى الأمام، غريباً، أميناً لوعد الله. وبهذا هو أبونا. ولذا يجب أن نحتفظ بتلك الأمانة، في البرية التي نسلك، لنكون أبناءه حقاً. لقد نسي اليهود أن يظلوا منفتحين للإيمان، لكلام الله، فانغلقوا وأقاموا في الأرض. إنهم أولاد ابراهيم بالجسد لا بالإيمان.
ج- المحنة: “وكان بعد هذه الأمور أن الله امتحن ابراهيم…” (الإصحاح 22 من سفر التكوين وقصة ذبيحة اسحق)، بعد الإيمان والغربة تأتي المحنة لزاماً. لا يمكن العيش بالإيمان دون محن، ذلك لأن الإيمان جهاد. الإيمان يسلخنا من الوضع الطبيعي، ولذا فالوضع الطبيعي يمتحننا. أما التغلب على المحنة فيتم بالضبط بالتعمق في الإيمان والتأمل فيه بقبول كل شيء في الإيمان. الله يدعو ابراهيم فيجيب: “هاأنذا يا رب”، إنها حضرة أبدية أمام الرب. فيقول له الله: “انطلق من أرضك”، إنها سفرة أبدية نحو الرب. إن كل مصير ابراهيم بين هاتين العبارتين “انطلق”، و”هاأنذا”، في ذلك الصليب المؤلف من اتجاه للمسير والانطلاق وآخر للثبات والرسوخ (5). وأمر الله ابراهيم أن يأخذ ابنه وحيده الذي يحبه، اسحق، ويمضي إلى جبل موريا ويصعده هناك محرقة (إن جبل موريا هو الموضع الذي يشاد عليه الهيكل ويحكم فيه على يسوع). فيسير ابراهيم بإسحق ثلاثة أيام (كذلك سار يسوع مسيرة ثلاثة أيام نحو أورشليم قبل الصليب…). إن اسحق ليس ابناً طبيعياً كإسماعيل بل هو ابن الموعد، ولذا على ابراهيم أن يضحي به لله ليناله منه مجدداً. هكذا يعود فيحصل عليه بمثابة رسم للقيامة من بين الأموات (أنظر عبرانيين 11: 17). تلك هي نتيجة المحنة وسيرينا الكتاب أن جميع الآباء ابتداء من ابراهيم سيجاهدون مثله “ضد الله” ويخرجون من المعركة محطمين ولكن مباركين. نعم ليس الإيمان راحة وسلاماً بحسب ما يفهمه العالم.
د- البركة: “وأباركك… وتكون بركة وأبارك مباركيك… وتتبارك بك جميع عشائر الأرض” (تكوين 12: 2- 3). مع ابراهيم تبدأ سلسلة جديدة، سلسلة من البركة تنتهي إلى الجسد. ما هي البركة؟ إنها الفعل الخارجي لمدلول صالح إيجابي يتضمن التبني. ولكنها أيضاً أعمق من ذلك: إنها بمثابة حضرة هي حضرة الله. حضرة الله هي التي تبارك وتعظم وتخلص. إن بركة الله لابراهيم: “أباركك وأعظم اسمك..” تعني أنه تقبل حضرة الله. وهذه الحضرة تستمر في نسل ابراهيم في سلسلة تصل إلى تجسد الله وحضوره بالذات. لم يكن الآباء يعرفون ما تنقله هذه البركة “إننا نرى في بركة يعقوب لحفيديه إفرائيم ومنسى بشكل صليب رسماً سابقاً لسر البركة”. ولكنها تتحقق عند بشارة الملاك للعذراء مريم: “مباركة أنت في النساء ومبارك ثمر بطنك… عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا”. إنه تحقيق وعد الله لابراهيم. والتحقيق يصير كاملاً يوم الصعود وفيما هو يباركهم انفراد عنهم وصعد إلى السماء (لو 24: 51) فرجعوا إلى أورشليم بفرح عظيم (لو 24: 52): ذلك لأن الله قد صار معنا إلى الأبد. ليست الآن بركة ملاك الرب (كما أخذها يعقوب) ولا بركة أحد الآباء (كبركة يعقوب لابني يوسف)، بل بركة الله نفسه، وبركة الله تبقى إلى الأبد. الله يباركنا وهو حاضر ببركته هذه في الكنيسة وفي العالم.
(1) أنظر أنافورة قداس القديس باسيليوس التي تعرض بشكل جلي عدم تخلي الله عن خليقته بعد الخطيئة مباشرة بل إنقاذه لها مرات عديدة وبشتى الأشكال بأنبياء وعجائب وقديسين من كل الأمم إلى أن أعطاها الشريعة الخ…
(2) إن هذا يتم تدريجياً. نحن لا نبلغ رأساً إلى السماء فلا بد من الاستعداد المناسب وإلا نسقط من أعلى السلم. يروي أن ثلاثة ربانيين من الشيوخ اليهود حاولوا الدخول إلى الفردوس دون استعداد. فالأول ويدعى يهوذا دخل الفردوس ولم يكن منتبهاً: فخرج كما دخل والثاني جماليال دخل عن فضولية فاختل عقله. والثالث سيمون لم يكن متطهراً فلما اقترب دفع بعيداً والقي على الأرض. أما عقيبا الذي كان في طاعة واستعداد فدخل وخرج بسلام.
(3) إنه سبات غير طبيعي يرمز إلى ذهول.
(4) إن عادة الكنعانيين أن يمر الفريقان بين القطع دلالة على قبولهما أن يشطرا مثل تلك الحيوانات في حال إخلالهم بالعهد.
(5) إن إيليا الغيور سيردد أيضاً “حي هو الله الذي أنا واقف أمامه”.. وموسى في رؤيته لله يعلمنا أن شرط المسير إنما هو الإقامة في نقرة الصخرة.