عجيب كيف يتكلّم راهب عن الزواج وهو لم يختبره؟ لكنه ليس بالعجب الكبير إذ إن أفضل كتاب عن البتولية ألّفه إنسان متزوج هو القدّيس غريغوريوس النيصصي. عنوان الكتاب “فن البتولية”[1]، ليس بالعجب الكبير أن يتكلّم راهب عن الزواج المسيحي، لأن البتولية الحقة ليست بعيدة عن الزواج الحق.
المواضيع كثيرة في هذا المجال والأسئلة كثيرة أيضاً مع الجدل. لنقتصر في حديثنا اليوم على النقاط الرئيسية التي تهمنا.
فلنبدأ من البداية أي من قصة الخلق: “فأوقع الرب الإله سباتاً على آدم فنام، فاستل إحدى أضلاعه وسدّ مكانها بلحم. وبنى الربّ الإله الضلع الذي أخذها من آدم امرأة، فأتى بها أدم. فقال آدم هذه المرأة عظمٌ من عظامي ولحم من لحمي، هذه تسمى امرأة لأنها من امرئ أخذت. ولذلك يترك الرجل أباه وأمّه ويلزم امرأته فيصيران كلاهما جسداً واحداً” (تك 2: 21-24).
وبعدها يُضيف: “فخلق الله الإنسان على صورته. على صورة الله خلقه، ذكراً وأنثى خلقهم” (تك 1: 27).
هذا يشير إلى أنه منذ البدء، منذ الخلق، هناك تدبير إلهي يتضمن وجود اثنين: الذكر والانثى، الرجل والمرأة. ويشير في الوقت نفسه غلى واحد “فيصيران جسداً واحداً”.
“وليكن لكل واحد امرأته وليكن لكل واحدة رجلها” (1 كور 7: 2). يقول القديس يوحنا الذهبي الفم في هذا الموضوع: “سمح الله للرجل في البدء أن يتزوج أخته، لا أخته بل ابنته، لا إبنته بل لحماً من لحمه الخاصّ.
تفرّع الجنس البشري من إنسان واحد هو آدم، وبعدها لم يسمح بالزواج من أخواتنا وبناتنا حتى لا تنحصر المحبة”.
الرباط الوثيق بين الرجل والمرأة:
إذاً هناك رباط وثيق بين الرجل والمرأة منذ البداية. الإلفة بين الرجل والمرأة تفوق كل إلفة، والمحبة قوية، لذلك جبلت المرأة من الرجل.
“هذه الآن عظم من عظامي ولحم من لحمي، هذه تُسمى امرأة لأنها من امريء أخذت، ولذلك…” (تك 2: 23).
إذا انتقلنا إلى العهد الجديد نسمع بولس الرسول يقول: “ليس عبد ولاحر، ليس ذكر وأنثى، لأنكم جميعاً واحدٌ في المسيح يسوع” (غلا 3: 28).
لا يشير هذا الكلام إلى اثنين، بل إلى “واحد في المسيح” كما يوحي بالمساواة بين الرجل والمرأة وعدم التفريق بينهما. هل هناك من تناقض مع سفر التكوين 1: 27؟ أم هنالك كشف للعلاقة المتكاملة والمميزة في المسيح [2]?
يرفع الرسول بولس العلاقة بين الرجل والمرأة إلى المستوى الروحي. الثنائي يصبح واحداً في المسيح. الجسد الواحد هو جسد المسيح. اتحاد المرأة بالرجل علاة لاتحادهما الروحي في المسيح، لأن المسيحيين وإن كانوا في الجسد إلا أنهم لا يتصرفون بحسب الجسد.
ماذا نستنتح من كل هذا؟
أولاً: أن العلاقة الحقة بين الرجل والمرأة ليست مجرد علاقة جسدية. هي في النهاية علاقة روحية لأنها اتحاد سرّي بالمسيح: يجمعهما المسيح في جسد واحد هو جسده ضمن تدبير الله منذ البدء وترتيبه، هذا التدبير الذي كشف واضحاً في المسيح.
كيف يصبح الاثنان واحداً؟ ماذا يجعل الاثنين يصيران واحداً أو ثلاثة أو أكثر؟ إنها المحبة المتبادلة، المحبة المبذولة المُضحيّة، المسيح الذي هو المحبة المصلوبة.
ثانياً: الشهوة الجنسية عابرة. طبعاً هي واردة خاصة في البدء. جُعل الميس الجنسي حتى لا يبقى الإنسان وحيداً، متفرداً، أنانياً، وأيضاً من أجل الإنجاب لا من أجل التمتمع فقط.
من هنا تفهمون كيف أن الراهب الذي اقترن بالمسيح (سرّيّاً) يبقى بتولاً محافظاً على أمانته للمسيح، تماماً كما أن الزوج (الرجل والمرأة)، يتحد بالمسيح ويبقى أميناً له.
طبعاً ما يُعزّز صلة الزوج بالمسيح هو الصلاة وقراءة الكتاب المقدس والمناولة وعمل الرحمة.
في الطاعة والمحبة:
نأتي الآن إلى نقطة مثارة دائماً في العلاقات بين الرجل والمرأة. يقول الرسول بولس:
“ألأيها النساء اخضعن لرجالكن كما للربّ، لأن الرجل هو رأس المرأة كما أن المسيح أيضاً رأس الكنيسة” (أفسس 5: 22-23).
ثم يضيف “أيها الرجال أحبّوا نساءكم كما أحبَّ المسيح أيضاً الكنيسة وبذل نفسه من أجلها” (أفسس 5: 25).
قبل شرح العلاقات المتبادلة بين الرجل والمرأة من خلال كلام بولس، لابد أولاً من أن نشير إلى أن المرأة في عصره لم تكن مساوية للرجل في الحقوق، لا في العالم اليوناني، ولا في العالم الروماني، ولا في العالم اليهودي.
هذا الوضع التاريخي يمكن أن يُبرر التعبير “القاسي” الذي جاء على لسان الرسول. لكن هذا الأخير لم يكن يبغي العلاقة البشرية فحسب، بل العلاقة الروحية، لأنه يضيف “كما للربّ”، ولأنه يقارن دائماً العلاقات المتبادلة بين الرجل والمرأة بعلاقة الكنيسة والمسيح. في هذه العلاقة الأخيرة، الطاعة تقابل المحبة، والمحبة تقابل الطاعة.
هذا القانون يسري على المرأة كما على الرجل. أي إن أطاعت المرأة الرجل تنال محبته، وإن أحب الرجل امرأته يستدعي طاعتها، والعكس بالعكس أيضاً.
هذا القانون يسري على العلاقات البشرية عامة. يعبّر عنه الرسول هنا بطاعة المرأة للرجل وبمحبة الرجل للمرأة. هذا التعبير جاء هكذا ربّما بداعي العوامل التاريخية أو بداعي التدبير الإلهي منذ البدء.
على كلٍّ، تظهر في المسيحية المساواة بين الرجل والمرأة أمام الله، والوحدة بينهما في المسيح، وذلك على الرغم من وظائفهما المختلفة والترتيب القائم في الأسرة حيث يصعب وجود رأسين.
الخلاصة:
الزواج المسيحي مدرسة للمحبة. هو أيضاً تمرين على الطاعة المتبادلة بين الرجل والمرأة. ولكن في البدء وفي النهاية، الطاعة والمحبة هما للمسيح.
الإكليل، إكليل العروسين، هو إكليل المجد، وهو في الوقت نفسه إكليل الشهادة للمسيح. لذلك نرتل في خدمة الإكليل: “أيها الرب إلهنا بالمجد والكرامة كللهما” (ثلاثاً)، كما نرتل ترتيلة الشهداء: “أيها الشهداء القديسون الذين جاهدوا حسناً فتكلّلوا”… هذا عند دورة العروسين الذين يمسك بيدهما الكاهن الممثل بالمسيح ممسكاً بيده الأخرى الإنجيل الذي به يرشدهما إلى الخلاص.
حديث ألقاهالأرشمندريت أفرام كرياكوس -مطران أبرشية طرابلس لاحقاً- في الصوم الكبير في كاتدرائية القديس نيقولاوس في بيروت. نهار الخميس 6/4/200.
[1] ألّف القديس يوحنا الذهبي الفم كتاباً، صدر مؤخراً باللغة العربية عنوانه “في البتولية”، يتكلم فيه القديس عن البتولية في الزواج أيضاً.
[2] ما يميز المسيحية عن كل الديانات والفلسفات الأخرى فيما يختص بعلاقة الرجل بالمرأة.