ليس الإيمان بالثالوث الأقدس عقيدة نظريّة أو فلسفيّة أو عقليّة مجرّدة، بل هو عقيدة قائمة على الكشف الإلهيّ الذي تمّ بتجسّد كلمة الله في التاريخ واكتمال سرّ التدبير الخلاصيّ بموت المسيح على الصليب وقيامته. لقد عرفت الكنيسة منذ نشأتها الإيمان بالثالوث الأقدس المؤسَّس على الكتاب المقدّس وتعاليم الرسل والجماعة الأولى. وإنْ لم تستعمل الكنيسة المصطلحات اللاهوتيّة السائدة اليوم مثل: الثالوث، الأقانيم، الجوهر، الطبيعة… إلاّ أنّ الكنيسة الفتيّة كانت ذات إيمان ثالوثيّ، فالأناجيل وكتاب أعمال الرسل ورسائل القدّيس بولس تضمّ تعابير وتسابيح ثالوثيّة كانت تُستخدم في العبادة الجماعيّة.
لم تدوّن الكنيسة العقيدة في دستور للإيمان إلاّ بسبب انتشار البدع والهرطقات التي شوّهت صورة الثالوث فأنقصت من ألوهة السيّد المسيح والروح القدس. لهذا وجدت الكنيسة نفسها مضطرة إلى إيضاح التعليم الحقيقيّ المسلَّم إليها من الرسل، ما دفعها إلى عقد المجامع المحلّيّة والمسكونيّة، فوضعت في المجمع المسكونيّ الأوّل دستوراً للإيمان هو صيغة موحّدة للإيمان الإنجيليّ الرسوليّ بلغة تناسب العصر الذي وضعت فيه. المجامع لم تخترع شيئاً جديداً ولم تضِف إلى الإيمان عقائد غير معروفة أو غير مبنيّة على ما سبقها، بل هي صاغت الإيمان الذي وصلها بواسطة الرسل والشهداء والآباء والمعلّمين والمؤمنين…
القدّيس ثيوفيلُس أسقف أنطاكية (+191) هو أوّل من استعمل تعبير “الثالوث” للإشارة إلى “الله وكلمته وحكمته”. قبله كان الكتّاب الكنسيّون يتحدّثون عن الآب والابن والروح القدس كإله واحد من دون إطلاق لقب “الثالوث” عليهم. فالقدّيس الشهيد أغناطيوس الأنطاكيّ (+108) يقول: “اثبتوا إذاً على تعليم الربّ والرسل، لتنجحوا فيما تعملون… في الابن والآب والروح، في البداية والنهاية”. ما يلفت النظر في هذا المقطع هو ذكر الابن قبل الآب، وهذا دليل على أنّ الكاتب يؤمن بالمساواة بين الآب والابن. والقدّيس الشهيد بوليكاربُس أسقف إزمير (+157) يحمد الله ويمجدّه متوجّهاً إليه بالقول “بابنك الحبيب، الذي له المجد معك ومع الروح القدس”…
تشهد أقدم العبادات أيضاً للإيمان بالثالوث كحقيقة إيمانيّة خلاصيّة، وهنا نذكر النشيد الذي يرتَّل في صلاة الغروب “يا نوراً بهيّاً”، ويعود تأليفه إلى القرن الثاني. يرد في هذا النشيد: “نسبّح الآب والابن والروح القدس الإله”، ويطلق فيه على المسيح لقب “ابن الله المعطي الحياة”. ومَن يعطي الحياة سوى الله؟ أمّا القدّيس يوستينُس الفيلسوف الشهيد (+165) فيعلن: “نحن نكرّم الآب ونعبده مع الابن الذي جاء من عنده والروح النبويّ”. هذا النصّ واضح في تأكيده على أنّ العبادة تليق بالابن والروح القدس كما بالآب. وأكّد أثيناغوراس الفيلسوف (+180) في دفاعه عن المسيحيّين بأنّهم ليسوا مشركين بل هم يؤمنون بوحدانيّة الثالوث: “إنّ ابن الآب هو عقل الآب وكلمته. إنّه وُلد من الآب لا بمعنى أنه صُنع. فالله منذ البدء هو عقل أزليّ وبما أنّه عاقل منذ الأزل كان معه كلمته”. هنا إشارة إلى أزليّة الكلمة كون الله ناطقاً منذ الأزل، ولم يكن ثمّة وقت لم يكن فيه الله متكلّماً. في ذهن المسيحيّين إذاً الله واحد، وإنْ كان آباً وابناً وروحاً قدساً.
من أهمّ آباء الكنيسة ما قبل المجمع المسكونيّ الأوّل، يأتي القدّيس إيريناوس أسقف ليون (+202) في طليعة الذين كتبوا ضدّ الهرطقات الشائعة آنذاك، فيؤكّد على وحدانيّة الآب والابن والروح القدس مبعداً عن المؤمنين صفة الشرك وتعدّد الآلهة: “فمع الله على الدوام الكلمة والحكمة، الابن والروح، بهما وفيهما خلق كلّ الأشياء حرّة، ولهما يقول: “لنخلق الإنسان على صورتنا ومثالنا” (تكوين 1″ 26)”. أمّا القدّيس اكليمنضُس الإسكندريّ، وهو من أوائل من استخدم الفلسفة في سبيل دعم الإيمان، فيجيب على التساؤل كيف يمكن أن يكون الواحد ثلاثة؟ بالقول إنّ الله فوق الأرقام، وحينما نقول إنّه واحد لا نخضعه لقواعد حسابيّة بشريّة، فإنّ “الله واحد، ويتعدّى الواحد، وفوق الوحدانيّة ذاتها”. وقد تصدّى الآباء لهذه المعضلة فأوضحوا أنّ “الواحد” لا يعني رقماً حسابيّاً بل “وحدة” لا يُنطق بها..ويلاحَظ أيضاً أنّ الكلمة اليونانيّة triandanes تعني “الثالوث مع وحدانيّة”، وهو تعبير تصعب ترجمته إلى العربيّة.
لم يكن هدفنا في هذه المقالة عرض أقوال للآباء في موضوع الإيمان بالثالوث الأقدس وحسب، بل نريد التأكيد على أنّ الكنيسة منذ انطلاق بشارتها آمنت بالآب والابن والروح القدس إلهاً واحداً، واختبرت حبّه وتدبيره لأجل خلاص جنس البشر. وما تعبير “الثالوث” – غير الموجود كتعبير في الكتاب المقدّس – إلاّ مصطلح لاهوتيّ نحتته الكنيسة بلغة عصرها للإشارة إلى الآب والابن والروح القدس. الإيمان بالثالوث ليس ترفاً فكريّاً لاهوتيّاً، وإنّما هو خبرة يعيشها المؤمن بكامل كيانه.
Ji bultena civata min 2001