يسوع أمام بيلاطس:
1 وَلِلْوَقْتِ فِي الصَّبَاحِ تَشَاوَرَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالشُّيُوخُ وَالْكَتَبَةُ وَالْمَجْمَعُ كُلُّهُ، فَأَوْثَقُوا يَسُوعَ وَمَضَوْا بِهِ وَأَسْلَمُوهُ إِلَى بِيلاَطُسَ. 2 فَسَأَلَهُ بِيلاَطُسُ:«أَأَنْتَ مَلِكُ الْيَهُودِ؟» فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُ:«أَنْتَ تَقُولُ». 3 وَكَانَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ يَشْتَكُونَ عَلَيْهِ كَثِيرًا. 4 فَسَأَلَهُ بِيلاَطُسُ أَيْضًا قِائِلاً:«أَمَا تُجِيبُ بِشَيْءٍ؟ اُنْظُرْ كَمْ يَشْهَدُونَ عَلَيْكَ!» 5 فَلَمْ يُجِبْ يَسُوعُ أَيْضًا بِشَيْءٍ حَتَّى تَعَجَّبَ بِيلاَطُسُ. 6 وَكَانَ يُطْلِقُ لَهُمْ فِي كُلِّ عِيدٍ أَسِيرًا وَاحِدًا، مَنْ طَلَبُوهُ. 7 وَكَانَ الْمُسَمَّى بَارَابَاسَ مُوثَقًا مَعَ رُفَقَائِهِ فِي الْفِتْنَةِ، الَّذِينَ فِي الْفِتْنَةِ فَعَلُوا قَتْلاً. 8 فَصَرَخَ الْجَمْعُ وَابْتَدَأُوا يَطْلُبُونَ أَنْ يَفْعَلَ كَمَا كَانَ دَائِمًا يَفْعَلُ لَهُمْ. 9 فَأَجَابَهُمْ بِيلاَطُسُ:«أَتُرِيدُونَ أَنْ أُطْلِقَ لَكُمْ مَلِكَ الْيَهُودِ؟». 10 لأَنَّهُ عَرَفَ أَنَّ رُؤَسَاءَ الْكَهَنَةِ كَانُوا قَدْ أَسْلَمُوهُ حَسَدًا. 11 فَهَيَّجَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ الْجَمْعَ لِكَيْ يُطْلِقَ لَهُمْ بِالْحَرِيِّ بَارَابَاسَ. 12 فَأجَابَ بِيلاَطُسُ أَيْضًا وَقَالَ لَهُمْ:«فَمَاذَا تُرِيدُونَ أَنْ أَفْعَلَ بِالَّذِي تَدْعُونَهُ مَلِكَ الْيَهُودِ؟» 13 فَصَرَخُوا أَيْضًا:«اصْلِبْهُ!» 14 فَقَالَ لَهُمْ بِيلاَطُسُ:«وَأَيَّ شَرّ عَمِلَ؟» فَازْدَادُوا جِدًّا صُرَاخًا:«اصْلِبْهُ!» 15 فَبِيلاَطُسُ إِذْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ لِلْجَمْعِ مَا يُرْضِيهِمْ، أَطْلَقَ لَهُمْ بَارَابَاسَ، وَأَسْلَمَ يَسُوعَ، بَعْدَمَا جَلَدَهُ، لِيُصْلَبَ. (مرقس 15: 1-15، متى 27: 1-26، لوقا 23: 1-25).
في الصباح اجتمع من جديد المجمع اليهودي الكبير الذي اشترك فيه “رؤساء الكهنة والشيوخ والكتبة والمجمع كله”، وقرّر تسليم يسوع إلى حاكم اليهودية الروماني (الآية 1؛ أنظر أيضاً متى 27: 1-2، لوقا 23: 1). لا يذكر النص هنا التعمة الموجهة إليه من قبل اليهود (أنظر لوقا 23: 2). يطرح بيلاطس على يسوع السؤال التالي: “أنت ملك اليهود؟”. يقترب المفسر ثيوفيلكتوس من طريقة تفكير الرئيس الروماني عندما يلاحظ أن بيلاطس من خلال سؤاله هذا يقصد الاستهزاء بمفاهيم اليهود المسيانية. أما بالنسبة لجواب يسوع “أنت تقول” فقد فهمه المفسّرون القدماء والحديثون بطرق مختلفة. يقول ثيوفيلكتوس مثلاً: “يمكن للجواب أن يعني: نعم أنا هو بالحقيقة ما أنت تقوله. وقد يعني أيضاً: أنا لا أقول ذلك؛ أنت تقوله؛ ولك السلطان أن تقول ما تشاء”. يوافق المفسّر كولمان (1) على المعنى السلبي لجملة يسوع، ويتساءل، في حال كان الجواب إيجابياً، لماذا لم يقاومه بيلاطس مباشرةً طالما أن سير محاكمته كلّها يتعلق بهذا الجواب. نعتقد أن الموضوع كله يتضح إن أخذنا بعين الاعتبار رواية الإنجيلي الرابع حيث يشدد جواب يسوع على الطابع غير الدنيوي الذي لملكوته: “مملكتي ليست من هذا العالم. لو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خدّامي يجاهدون لكي لا أُسلّم إلى اليهود. ولكن الآن ليست مملكتي من هنا” (يوحنا 18: 36). يتفق يسوع مع بيلاطس ويختلف عنه في آن واحد: صحيح أنه ملك، ولكن مملكته لا علاقة لها بما بقصده الرومان من هذه المملكة.
أما اتهامات اليهود المتواصلة فيواجهها يسوع بالصمت، مما يدفع بيلاطس إلى الحيرة وإلى محاولته تبرئة يسوع المتهم. في إطار محاولات الحاكم الروماني تبرئة يسوع يدخل اقتراحه باستغلال عادة تحرير أحد السجناء في العيد كل سنة، وهكذا يطلق يسوع (الآية 6 وما يليها). وتعود هذه العادة إلى “تقليد آبائي” عند الشعب اليهودي استمر من أيام خروجهم من مصر كحق مكتسب لم تلغه سيادة الرومان على فلسطين. بينما، كما يلاحظ القديس يوحنا الذهبي الفم، كانت العادة تقتضي أن يطالب الشعب “بمطلب يدافع عن المحكوم عليه”، والحاكم يمنح “العطية”. تأتي هنا الأدوار معكوسة إذ أن الحاكم الروماني هنا يطالب بتحرير المقيّد، لأنه فضل تحرير يسوع الماثل أمامه. لكن أمام هذا الاقتراح يجيب الجمع مدفوعاً من قبل الرؤساء الدينيني بالمطالبة بتحرير باراباس. تدل العبارات المتسعملة لوصف هذا الأسير في الأناجيل على أنه كان على الأرجح من حزب الغيورين، قُبض عليه بسبب نشاطه الثوري ضد الرومان. ويمكن أن يستند هذا التفسير خصوصاً إلى ما جاء عند يوحنا “وكانا باراباس لصاً” (يو 18: 40). وقد أشرنا سابقاً إلى أن كلمة لصّ تشير إلى الغيورين (2).
يشدّد الإنجيلي بصورة واضحة على أن بيلاطس، بعد عناء اليهود الشديد، أطلق باراباس وأسلم يسوع “ليُصلب” (الآية 15). يُبرز مرنمو الكيسة عن طريق التضاد الشهري الرهبة الحاصلة والحدث المثير للاستياء لأن “سيد الخليقة يمثل أمام بيلاطس”، و”يحْضر بيلاطس فنحضر قوات السماوات برعدة”، “تعمّد القصبة بقرار من القضاة الأثمة”… ويتساءل الواحد من جهة كيف أن الجمع، الذي كان رؤساء اليهود الدينيون يحاولون أن يتجنبوه عند القبض على يسوع، يطلب الآن إماتته، ومن جهة ثانية كيف أن الحاكم الروماني يُظهر مثل هذا العطف على يسوع؟ بالنسبة إلى السؤال الأول يجب أن نلاحظ أن الجمع الحاضر يختلف عن الذي يُذكر في مرقس 14: 2 لأنه مؤلف من خدّام رؤساء اليهودي أي من اصدقائهم وأتباعهم… جاؤوا لكي يتمموا رغبة رؤسائهم، أو أن موقف الجمع تجاه يسوع قد تبدل بسبب خيبة آمالهم المسيانية الثقيلة حوله وبسبب تأثير الرؤساء الدينيين عليهم.
من الأصعب تفسير موقف بيلاطس العطوف تجاه يسوع، ونحن نعلم كيف أن معاصريه من المؤرخين يصفون قساوته الكبيرة وعدم إنسانيته “كان بطبيعته قاسياً (لا يلوي)، يكتب فيلون، وصلباً امام الوقحين” (في كتابه إلى غايوس 301)، وكذلك المؤرخ يوسيفوس يتكلم كثيراً عن قساوة بيلاطس. طبعاً يتحدث البعض عن عطف الحاكم على يسوع لأن شخصية الرب قد جذبته. في كتب الأبوكريفا (3) يظهر بيلاطس يطلاً وشهيداً للمسيح. يكرمه الأقباط كشهيد (لنلاحظ أن زوجته بوركلا مكّرمة من قبل الكنيسة الأرثوذكسية كقديسة، وذكراها في 27 تشرين الأول). تاريخياً يمكن أن نفسر موقف بيلاطس انطلاقاً من عدم محبته لليهود، إذ جاءت قضية يسوع فرصة لكي يهزأ من توقعاتهم المسيانية عن طريق شخص هذا المعلم البريء، وغير الخطر. إن كان في النهاية قد تراجع واستسلم لمطالبهم، فهذا يعود إلى أنه التجأ أخيراً إلى المنطق الجاف الذي غلب شعوره بالكره نحو اليهود، لأنهم قد هددوه، لو أطلق يسوع، بأن يعتبروا عمله موجهاً ضد قيصر (أنظر يو 19: 12…)، وقد نجحوا في هدفهم. ففكر إذاً ألا يخاطر في إطلاقه المعلم المتهم ظلماً. فالحكم على إنسان بريء لن يخلق عنده مشكلة ضميرية لأن ذلك العمل لن يكون الوحيد من نوعه في تاريخ حياته.
على كل حال يجب أن نلاحظ أن الإنجيليين لا يهتمون بتحليل شخصية من كانت لهم صلة بآلام المسيح كما أنهم لا يهتمون أيضاً بسرد دقيق تاريخي للحوادث وبتفسير مايقوم به بعض الاشخاص المسؤولين. إنهم يسعون بصورة رئيسية إلى إظهار النتيجة الخلاصية من وراء آلام الرب، ذاكرين في الوقت نفسه الأشخاص المعنيين والجوّ التاريخي العديم الإنسانية الذي فيه تتحقق المشيئة الإلهية.
لكي نتمم الصورة عن بيلاطس حاكم اليهودية في السنوات 26-36 بعد المسيح، يجب أن نأخذ بعين الاعتبار الحوادث العنيفة التي يرويها المؤرخ يوسيفوس (التاريخ اليهودي 18، 3، 1-2 / 4: 1-2. والحرب اليهودية 2، 9، 2 / 4) والتي تشهد على قساوته وكرهه لليهود. وكذلك يشير الإنجيلي لوقا (13: 1 وما يليها) إلى حادث يقتل فيه بيلاطس بعد الجليليين “الذين خلط بيلاطس دمهم بذبائحهم”. أما عن نهاية بيلاطس فلا نملك تفاصيل تاريخية واضحة، لكننا نملك عدداً كبيراً من التقاليد الأسطورية تعود إلى زمن مبكّر: حسب المؤرخ أفسافيوس نُفي إلى فياني في فرنسا حيث انتحر (التاريخ الكنسي 2: 7)؛ حسب تقليد آخر رُمي في نهر التيبر وأحدثت جثته فيضانات وعواصف؛ وحسب تقليد آخر انتحر عندما رفمى نفسه من الجبل المسمى “جبل بيلاطس” (Pilatusberg) في بحيرة لوسيرن في سويسرا.
يّذكر اسم بيلاطس في دستور الإيمان (“وصلب عنا على عهد بيلاطس البنطي”)، وهو يقدم شهادة تاريخية على الحوادث الخلاصية التي تمت في أيامه من أجل حياة العالم.
الموت على الصليب:
16 فَمَضَى بِهِ الْعَسْكَرُ إِلَى دَاخِلِ الدَّارِ، الَّتِي هِيَ دَارُ الْوِلاَيَةِ، وَجَمَعُوا كُلَّ الْكَتِيبَةِ. 17 وَأَلْبَسُوهُ أُرْجُوَانًا، وَضَفَرُوا إِكْلِيلاً مِنْ شَوْكٍ وَوَضَعُوهُ عَلَيْهِ، 18 وَابْتَدَأُوا يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ قَائِلِينَ: «السَّلاَمُ يَا مَلِكَ الْيَهُودِ!» 19 وَكَانُوا يَضْرِبُونَهُ عَلَى رَأْسِهِ بِقَصَبَةٍ، وَيَبْصُقُونَ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَسْجُدُونَ لَهُ جَاثِينَ عَلَى رُكَبِهِمْ. 20 وَبَعْدَمَا اسْتَهْزَأُوا بِهِ، نَزَعُوا عَنْهُ الأُرْجُوانَ وَأَلْبَسُوهُ ثِيَابَهُ، ثُمَّ خَرَجُوا بِهِ لِيَصْلِبُوهُ. 21 فَسَخَّرُوا رَجُلاً مُجْتَازًا كَانَ آتِيًا مِنَ الْحَقْلِ، وَهُوَ سِمْعَانُ الْقَيْرَوَانِيُّ أَبُو أَلَكْسَنْدَرُسَ وَرُوفُسَ، لِيَحْمِلَ صَلِيبَهُ.
22 وَجَاءُوا بِهِ إِلَى مَوْضِعِ «جُلْجُثَةَ» الَّذِي تَفْسِيرُهُ مَوْضِعُ «جُمْجُمَةٍ». 23 وَأَعْطَوْهُ خَمْرًا مَمْزُوجَةً بِمُرّ لِيَشْرَبَ، فَلَمْ يَقْبَلْ. 24 وَلَمَّا صَلَبُوهُ اقْتَسَمُوا ثِيَابَهُ مُقْتَرِعِينَ عَلَيْهَا: مَاذَا يَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ؟ 25 وَكَانَتِ السَّاعَةُ الثَّالِثَةُ فَصَلَبُوهُ. 26 وَكَانَ عُنْوَانُ عِلَّتِهِ مَكْتُوبًا: «مَلِكُ الْيَهُودِ». 27 وَصَلَبُوا مَعَهُ لِصَّيْنِ، وَاحِدًا عَنْ يَمِينِهِ وَآخَرَ عَنْ يَسَارِهِ. 28 فَتَمَّ الْكِتَابُ الْقَائِلُ:«وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ». 29 وَكَانَ الْمُجْتَازُونَ يُجَدِّفُونَ عَلَيْهِ، وَهُمْ يَهُزُّونَ رُؤُوسَهُمْ قَائِلِينَ:«آهِ يَا نَاقِضَ الْهَيْكَلِ وَبَانِيَهُ فِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ! 30 خَلِّصْ نَفْسَكَ وَانْزِلْ عَنِ الصَّلِيبِ!» 31 وَكَذلِكَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَهُمْ مُسْتَهْزِئُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ مَعَ الْكَتَبَةِ، قَالُوا: «خَلَّصَ آخَرِينَ وَأَمَّا نَفْسُهُ فَمَا يَقْدِرُ أَنْ يُخَلِّصَهَا! 32 لِيَنْزِلِ الآنَ الْمَسِيحُ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ عَنِ الصَّلِيبِ، لِنَرَى وَنُؤْمِنَ!». وَاللَّذَانِ صُلِبَا مَعَهُ كَانَا يُعَيِّرَانِهِ.
33 وَلَمَّا كَانَتِ السَّاعَةُ السَّادِسَةُ، كَانَتْ ظُلْمَةٌ عَلَى الأَرْضِ كُلِّهَا إِلَى السَّاعَةِ التَّاسِعَةِ. 34 وَفِي السَّاعَةِ التَّاسِعَةِ صَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلاً:«إِلُوِي، إِلُوِي، لِمَا شَبَقْتَنِي؟» اَلَّذِي تَفْسِيرُهُ: إِلهِي، إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟ 35 فَقَالَ قَوْمٌ مِنَ الْحَاضِرِينَ لَمَّا سَمِعُوا:«هُوَذَا يُنَادِي إِيلِيَّا». 36 فَرَكَضَ وَاحِدٌ وَمَلأَ إِسْفِنْجَةً خَّلاً وَجَعَلَهَا عَلَى قَصَبَةٍ وَسَقَاهُ قَائِلاً:«اتْرُكُوا. لِنَرَ هَلْ يَأْتِي إِيلِيَّا لِيُنْزِلَهُ!»
37 فَصَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَأَسْلَمَ الرُّوحَ. 38 وَانْشَقَّ حِجَابُ الْهَيْكَلِ إِلَى اثْنَيْنِ، مِنْ فَوْقُ إِلَى أَسْفَلُ. 39 وَلَمَّا رَأَى قَائِدُ الْمِئَةِ الْوَاقِفُ مُقَابِلَهُ أَنَّهُ صَرَخَ هكَذَا وَأَسْلَمَ الرُّوحَ، قَالَ:«حَقًّا كَانَ هذَا الإِنْسَانُ ابْنَ اللهِ!» 40 وَكَانَتْ أَيْضًا نِسَاءٌ يَنْظُرْنَ مِنْ بَعِيدٍ، بَيْنَهُنَّ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ، وَمَرْيَمُ أُمُّ يَعْقُوبَ الصَّغِيرِ وَيُوسِي، وَسَالُومَةُ، 41 اللَّوَاتِي أَيْضًا تَبِعْنَهُ وَخَدَمْنَهُ حِينَ كَانَ فِي الْجَلِيلِ. وَأُخَرُ كَثِيرَاتٌ اللَّوَاتِي صَعِدْنَ مَعَهُ إِلَى أُورُشَلِيمَ. (مرقس 15: 16-41، متى 27: 27-56، لوقا 23: 26-49).
بعد قرار بيلاطس بالحكم على يسوع، يأتي الإنجيلي على ذكر الاستهزاءات بالمحكوم عليه من قبل العسكر (الآيات 16-20؛ حول الاستهزاءات أنظر التعليق على مرقس 14: 56). وبعدها يتكلم الإنجيلي عن مكان الصلب. يحمل يسوع الصليب على كتفيه كما كانت عادة المحكوم عليهم. كان الصلب عقاباً قديماً مستخدماً عند البابليين والفرس… وقد ساد بصورة واسعة في عهد الرومان الذين نفذوه بحق العبيد والمواطنين غير الرومانيين، وكان يشكل أبشع طريقة للموت. والصليب المستخدم كان له شكل T: الخشبة العمودية مثبتة في الأرض في مكان الصليب، أما الأفقية فكان المحكوم عليه يحملها حتى مكان الشهادة، وهناك تُجمع الخشبتان ويُرفع الجسد ويسمّر على الصليب بثلاثة أو أربعة مسامير أو يُربط بالحبال. حسب معلومات أُخرى كان الصليب يُجمع على الأرض قبل تثبيت القسم العمودي ويسمّر عليه الذي سوف يصلب ومن ثم يرفع الصليب بكامله مع المصلوب إلى وضعه القويم. على كل حال سبيل الموت هذا كان بطيئاً ومؤلماً.
لا نعلم بالضبط ماهي الطريقة التي استُخدمت مع يسوع. يشهد التقليد على أنه “سُمِّرَ” على الصليب (نجد صدى لذلك عند القديسين أغناطيوس، برنابا، يوستينونس، ايريناوس، اقليمس الإسكندري) وكذلك تشهد أيقونات الكنيسة وترانيمها. هل حمل يسوع ثم سمعان القيرواني الصليب كله في سيرة نحو الجلجلة؟ بالرغم من كلام الإنجيلي عن الصليب الذي حمله يسوع المتألم من أجلنا، يعتقد الكثيرون أن كان يحمل الخشبة الأفقية فقط بينما كان القسم العمودي موجوداً في مكان الصلب. وكذلك لا نعرف بالضبط إن كان شكل الصليب حقاً هو شكل T، والأرجح أن يكون القسم العمودي بارزاً قليلاً فوق الأفقي حيث وضعت لوحة كُتب عليها سبب الصلب. ما هو مؤكد على كل حال هو أن رئيس إيماننا تحمّل الموت المهني على الصليب لكي “يشترينا” من عبودية العدوّ، محوّلاً الصليب الملعون إلى “عود مكرّم” إلى سلاح ضد الشيطان، وبكلمة واحدة إلى شعار المسيحية.
لقد أصاب التعب يسوع من جراء الجلد (أنظر يوحنا 19: 1)، وهذا منعه من متابعة السير نحو مكان الصلب. وخوفاً من التأخير يضطر العسكر الروماني إلى “تسخير” سمعان القيرواني العائد من الحقل لحمل الصليب. لمست نعمة الصليب سمعان بصورة عميقة، لذلك اعتنق المسيحية مع سمعان هو “أبو الكسنروس وروفس” وهما على الأرجح عضوان معروفان من كنيسة روما (يرسل الرسول إلى واحد منهما سلامات في رومية 16: 13).
كان مكان الصلب تلة خارج المدينة. إن كانت اليوم داخل حدود المدينة فهذا يعود إلى أنه بعد زمن قصير من حادثة الصلب أقام أغريبا الأول سوراً جديداً لمدينة أورشليم أوسع من القديم ضم في داخله تلك التلة وغيرها. تدعة التلة “الجلجلة”، ويستخدم لوقا الكلمة اليونانية kranion أي الجمجمة. تدعى هكذا لأن شكلها يذكّر بالجمجمة. التقليد القائل أن عظام آدم وجمجمته موضوعة هناك لا علاقة له بتلك التسمية (وهو على كل حال لاحق للتسمية)، بل هو تعبير لاهوتي مرتبط بعمل آدم الجديد الخلاصي منأجل الخطيئة التي دخلت العالم بواسطة آدم الأول.
هنالك وجهة نظر تقول إن العدل الإلهي المغبون حقه من جرّاء الخطيئة قد رضي عن طريق ذبيحة المسيح على الصليب. هذه النظرية آتية من الغرب ومدوّنة عند أنسلم أسقف كنتربري. لكن الآباء الشرقيين يشدّدون بصورة واضحة على أن صليب المسيح يشكل التعبير الأعظم والقمة لمحبة الله تجاه البشرية الساقطة. الخطيئة تبعد الإنسان عن الله، لكن الله المعني بخليقته يسرع إلى خلاصه “بطرق عديدة ومتنوعة” وخصوصاً عن طريق تجسد ابنه. يشير موته على الصليب إلى محبة الله التي لا حدود لها، ويدفع الناس عن طريق التوبة والانسحاق إلى تمجيده في الثالوث الأقدس الإلهي.
الخمر:
“الخمر الممزوج بمرّ” المقدّم إلى يسوع المصلوب (الآية 23) هو بمثابة تخدير يقدّم عادة من أجل تسهيل عملية الصلب، حتى لا يقاوم المحكوم عليه صالبيه من جرّاء آلامه. لكن يسوع يرفض أن يشرب، ويموت، كما يلاحظ غروندمن (صفحة 313)، بكامل وعيه دون أن يهرب من أوجاعه: “إنه… حمل أوجاعنا” (أشعيا 53: 4). يوصف اقتسام الثياب (الآية 24) – وهو عمل اعتيادي عند تنفيذ الأحكام – بعبارات المزمور 21: 19، دون أن يُقال “لكي يتم الكتاب” (أنظر أيضاً يوحنا 19: 24).
الساعة الثالثة:
يؤدي تحديد الساعة الثالثة في الآية 25 (أي حوالي 9 قبل الظهر) ساعة للصلب إلى بعض الصعوبات التفسيرية بالمقارنة مع ماجاء عند يوحنا (19: 14 و169) الذي يقول أن الحكم على يسوع من قبل بيلاطس حصل في الساعة السادسة (أي 12 ظهراً). في تقليد المخطوطات هناك محاولة للتوفيق بين المصدرين كتعديل ما جاء في الآية 25 حتى تصبح “وكانت الساعة السادسة”، أو تعديل ما جاء عند يوحنا 19: 14 إلى “وكانت الساعة الثالثة”. يوافق الكثير من المفسرين القدماء على رأي أفسابيوس أسقف قيصرية الذي يقول إن إشارة الساعة الثالثة (4) ‘Г في يوحنا 19: 14 قد نُقلت خطأ من قبل النساخ على أنها إشارة السادسة ‘S. وقد انتقل هذا الخطأ إلى كل المخطوطات اللاحقة. هذه النظرية يتبناها البطريرك جناديوس سنمولاريوس الذي يلاحظ أن “الكثيرين من اللاحقين ارتضوا بهذا الحل”. ويقول غيرهم من الشارحين القدماء إن الخطأ حصل في مقطع مرقس 15: 25 حيث، بدلاً من العلامة ‘S السادسة الموجودة قديماً، قرأ النساخ وكتبوا بدون انتباه الثالثة ‘Г. وتقول نظرية أخرى أقدم يعبّر عنها ثيوفيلكتوس: إن مرقس يذكر ساعة حكم بيلاطس بالصلب بينما يذكر يوحنا ساعة تنفيذ الحكم: “من جهة يذكر مرقس ساعة الحكم على الرب بالصلب بصورة واضحة وبدون شك… بينما يأخذ يوحنا علمأً بما جاء عند مرقس حول ساعة القرار، ويذكر بدوره ساعة تنفيذ الحكم مريداً أن يشير كم مضى من الوقت، لأن كل ما حصل من حوادث لاحقة امتدّ من الساعة الثالثة حتى الساعة السادسة. وإلى جابن كل ذلك قال يوحنا “كان نحو الساعة السادسة” (يوحنا 19: 14) إشارة إلى تردده وعدم تأكده من الوقت”. إن رأي زيغافنوس مشابه وهو يقول: “تشير الساعة الثالثة من جهة إلى بداية آلام السيد، أما الساعة السادسة فتشير إلى نهاية هذه الآلام عند الصلب”. ويقول بعض المفسرين أن يوحنا هو شاهد عيان للأحداث، وهو يصحّح معلومات مرقس الخاطئة. يعبر عن الواقع التاريخي بصورة أدقّ، جاعلاً قرار الحكم وتنفيذه حوال الساعة السادسة أي حوالي الظهر (5). وتقول نظرية أخرى أنه علينا أن نأخذ معدّل الساعات المذكورة من قبل الإنجيليين. هكذا فإن “الثالثة” عند مرقس هي الزمن الممتد من الثامنة حتى العاشرة قبل الظهر، و”السادسة” عند يوحنا هي الزمن الممتد من الحادية عشر حتى الظهر. ومن جهة ثانية يعلم الإنجيلي الرابع أنه غير متأكد من التوقيت (إذ “هو متردد وغير متأكد”، كما يذكر قيوفيلكتوس)، ولذلك يقول “وكان نحو الساعة السادسة”.
قبل أن نختم الموضوع بوجهة نظرنا يجب أن نذكر مايلي:
أ – لم يكن قياس الزمن في ذلك العصر بدقّة مقاييسنا العصرية. كان يعتمد على حساب موقع الشمس أو على توقيت قمري، ولذلك يجب ألا نسعى وراء دقة كبيرة في التحديدات الزمنية للعهد الجديد بل نكتفي بالزمن التقريبي للحوادث. من جهة أخرى يعي الإنجيليون هذا الواقع، ولذلك يذكرون الساعة على وجه تقريبي (مثلا، حوالي، تقريباً…).
ب – الإنجيليون هم قبل كل شيء وبصورة رئيسية لاهوتيون ومفسرون ملهمون من الله للحوادث الرئيسية من تاريخ التدبير الإلهي، ويهتمون بصورة ثانوية بزمن الحوادث التفصيلي الدقيق.
ج – إن ممارسة الكنيسة الليتورجية، التي ضمن إطارها كتب كل إنجيلي نصّه، هي حتماً مرتبطة بالتحديدات الزمنية المختلفة الواردة في الأناجيل.
يمكن أن تقودنا هذه النقطة الثالثة إلى النظرية التالية: من الممكن أن يكون الإنجيلي مرقس قد رتب الأحداث كل ثلاث ساعات قبل الصليب (وهي: صياح الديك، الصباح، الساعة الثالثة، السادسة، التاسعة، المساء) وهذا يعكس التقليد الليتورجي السائد في كنيسة روما الذي ضمن إطاره كتب إنجيله. طبعاً هناك صعوبات في إدخال العرض الليتورجي لآلام المسيح في مثل هذه الأزمنة الأولى، ولا نقصد هنا بالضرورة ممارسة الكنيسة الليتورجية اللاحقة. من المرجّح أن يكون قد ساد في كنيسة روما ترتيب لساعات الصلاة في يوم ذكرى آلام الرب. ونعلم من جهة ثانية أن الزمن الليتورجي لا يتفق دائماً وبالضرورة مع الزمن الحقيقي للحوادث المعيَّد لها (أنظر مثلاً الممارسة الليتورجية في أيامنا حيث يتم إنزال المصلوب نهار الجمعة ظهراً بينما حصل في الواقع بين الساعة التاسعة، أي 3 بعد الظهر، والمسياء) (6).
الكتابة:
الكتابة التي على الصليب “ملك اليهود” (اليهود 26) تذكر سبب الصلب. كان المحكوم عليهم بالموت يحملون هذه الكتابة معّلّقة على صدورهم وهم سائرون إلى مكان تنفيذ الحكم، وبعد الصلب كانت توضع على الصليب في مكان ظاهر حتى تُقرأ بسهولة. وقد وضع الرومان هذه الكتابة على صليب يسوع استهزاءً بالمفاهيم المسيانية اليهودية (أنظر أيضاً يوحنا 19: 21). أما الأيقونات الأرثوذكسية التي تمثل الصليب فتستبدل هذه الكتاب الساخرة بعبارة “ملك المجد”، معبّرة هكذا عن إيمان الكنيسة فيما يختص بالمسيح.
يرى الإنجيلي في صلب يسوع بين لصّين (الآية 27) تحقيقاً لنبوءة أشعيا 53: 12 “وقد أُحصي مع الأثمة” (لوقا وحده يتكلم عن توبة أحد اللصين في 23: 39-43). تذكر أسماء اللصين في مخطوطة لاتينية في الآية 27 (وفي متى 27: 38)، وهما زوئان ومغاتراس. ويذكر (إنجيل) نيقودمس الأبوكريفي أسماء ذِستاس ويستاس.
الاستهزاءات:
تذكرنا الأقوال الاستهزائية التي ترد على لسان “المجتازين” ورؤساء الكهنة (الآيات 29-32) بالجمل المشابهة التي وجّهها الشيطان إلى يسوع عند تجربته في البرية (متى4: 1… لوقا 4: 1….). ومن خلال المقارنة بين هذه الأقوال، يمكن للواحد أن يلتقط الطابع الشيطاني للاستهزاءات التي تدعو يسوع إلى تجنّب الآلام بنزوله عن الصليب بطريقة ظاه9رة للجميع، كما يقترح رؤساء الكهنة، وهذا يعني خضوعه من جهة لتجربة فرض نفسه كابن الله بطريقة مدهشة، وعدم طاعته من جهة أخرى لرسالة عبد الله المتألم أو اتّباعها، مما يعني في النهاية بطلانم عمل الخلاص. “كان رئيس الشر يعلم، كما يلاحظ ثيوفيلكتوس، أن الخلاص يتم بواسطة الصليب. ولذلك أخذ يجرّب الرب مرّة أخرى لكي إذا نزل عن الصليب يتحقق أنه ليس ابن الله، وهكذا يبطل الخلاص الآتي من الصليب”.
الظلمة:
في الآية 33 يذكر الإنجيلي الظلمة من الساعة السادسة حتى التاسعة. ويبدو أن ذلك لم يكن ناتجاً عن ظاهرة فلكية (مثلاً انخساف الشمس، لأنه لا يتفق مع البدر كما يلاحظ أوريجنس وايرونيموس والذهبي الفم)، بل هي على الأرجح عوامل حوّية تؤدي إلى ظلام واختفاء للشمس. يفسر أوريجنس الظلمة بغيوم كثيفة رطبة غطّت الجوّ بكامله. بعض الآباء الآخرين لا يهتمون بتفسير مصدر هذه الظلمة، ويفهمونها كعلامة لحزن الطبيعة على موت الرب (نجد صدى لهذا التفسير في ترانيم الكنيسة لنهار الجمعة العظيم)، وكتحقيق لعبارات المزمور 68: 24 “أظلمت عيونهم لكي لا يبصروا”، وأشعيا 50: 3 “و أُلبس السماء ظلاماً، واجعل كسوتهن المسح” إن كان النور والمجد قد أنارا الناس عند ولادة المسيح (لوقا 2: 9)، فالظلام هو الظاهرة الأكثر تعبيراً عن حزن الطبيعة على موته.
صرخة يسوع:
لا تعبّر صرخة يسوع في الساعة التاسعة (اي 3 بعد الظهر) في الآية 34 “إلوهي إلوهي لما شبقتني الذي تفسيره إلهي إلهي لماذا تركتني؟” (أنظر أيضاً متى 27: 46 “إيلي إيلي لما شبقتني أي إلهي إلهي لماذا تركتني؟”) عن تذمّر الربّ من تخلي الله الب عنه، بل على العكس عن ثقته بالله الآب. لا يمكن أن تتفق ساعة وصول محبة الله للبشر إلى أوجها، الساعة الي فيها انشق حجاب الهيكل في الوسط، مع تخلي الله الآب، بل بالعكس عليها أن تكون وقت اقتراب حضور أكثر فأكثر. يعبّر المزمور المسياني 21 عن الثقة التامة بالله في وسط اضطهادات البشر، ويستخد يسوع من جهة أخرى عبارات هذه المزمور لكي يبرهن على أنه واثق حتى النهاية بمشيئة الآب الذي أطاعه طيلة حياته على الأرض. لقد فسّر القديس يوحنا الذهبي الفم الجملة الأخيرة قائلاً: “… حتى أخر نسمة يكرم الآب ولا يقاومه، ولذلك جاء بصوت نبوي يشهد في آخر نسمة عما جاء في العهد القديم… كل شيء يدل على اتفاق الكتاب مع الحوادث الجارية”.
إن صرخة يسوع الأخيرة العظيمة المذكورة باختصار في الآية 37 (أنظر أيضاً متى 27: 50) تتضح أكثر عند لوقا 23: 46 عندما قال “يا أبتاه في يدك أستودع روحي”. تأتي هذه الجملة من المزمور 30 الذي يردّده المؤمنون اليهود عبر النهار وخاصة قبل النوم. يستخدم يسوع عبارة هذه المزمور لكي يبرهن عن ثقته ويقينه بأنه يودع أخر نسمة له في يدي الله الآب. يفهم الآباء حدث انشقاق حجاب الهيكل، الذي يفصل بين “قدس الأقداس” و”القدس”، مباشرةً بعد هذه الصرخة الأخيرة كعلامة لإزالة النظام أو العبادة القديمة وكسقوط الحائط المتوسط الذي يفصل السماء عن الأرض، فيصبح مسلوكاً من البشر بعد ذبيحة الصليب.
قائد المئة:
أدّت طريقة موت يسوع هذه إلى اعتراف قائد المئة (وهو على الأرجج المسؤول عن تنفيذ الحكم بالصلب) عندما قال “حقاً كان هذا الإنسان ابن الله” (الآية 39). لهذا الاعتراف أهمية في الكنيسة وفي العمل الرسولي لأن ضابطاً وثنياً يعترف بالمسيح مصلوباً “كابن الله” (أو “كبارّ” عند لوقا 23: 47). قائد المئة هذا هو الوثني الأول الذي مباشرةً بعد موت المسيح يستفيد من نتائجة الحاملة الحياة، صائراً هكذا بداية لإقبال العالم الوثني إلى المسيح. يتكلم التقليد الكنسي عن حياة قائد المئة واستشهاده، وهو الذي أصبح مسيحاً باسم لونجينش والذي يكرّم كقديس في 16 تشرين الأول (7).
النسوة:
تُختم الرواية بذكر النسوة اللواتي يراقبن الأحداث من بعيد (الآيتان 40-41)، وهن مريم المجدلية ومريم أم يعقوب ويوسي وسالومة. فيما يختص بالإمرأة الثانية، يعبّر القديس الذهبي الفم وثيوفيلكتوس وغيرهم عن تقليد زمنهم باعتبارهم إياها والدة الإله أم أولاد يوسف الخطيب، أي أم يعقوب ويوسي ولدي يوسف من زواج سابق له. في ترانيم الكنيسة وفي تقليدها المفسر بعامة، نجد أيضاً صدى لرواية تقول أن إحدى النسوة اللواتي ذهبن إلى القبر ليدهم يسوع بالطيب كانت والدة الإله، وكذلك كانت هي إحدى النسوة اللواتي ظهرن لهنّ يسوع.
الدفن:
42 وَلَمَّا كَانَ الْمَسَاءُ، إِذْ كَانَ الاسْتِعْدَادُ، أَيْ مَا قَبْلَ السَّبْتِ، 43 جَاءَ يُوسُفُ الَّذِي مِنَ الرَّامَةِ، مُشِيرٌ شَرِيفٌ، وَكَانَ هُوَ أَيْضًا مُنْتَظِرًا مَلَكُوتَ اللهِ، فَتَجَاسَرَ وَدَخَلَ إِلَى بِيلاَطُسَ وَطَلَبَ جَسَدَ يَسُوعَ. 44 فَتَعَجَّبَ بِيلاَطُسُ أَنَّهُ مَاتَ كَذَا سَرِيعًا. فَدَعَا قَائِدَ الْمِئَةِ وَسَأَلَهُ:«هَلْ لَهُ زَمَانٌ قَدْ مَاتَ؟» 45 وَلَمَّا عَرَفَ مِنْ قَائِدِ الْمِئَةِ، وَهَبَ الْجَسَدَ لِيُوسُفَ. 46 فَاشْتَرَى كَتَّانًا، فَأَنْزَلَهُ وَكَفَّنَهُ بِالْكَتَّانِ، وَوَضَعَهُ فِي قَبْرٍ كَانَ مَنْحُوتًا فِي صَخْرَةٍ، وَدَحْرَجَ حَجَرًا عَلَى بَابِ الْقَبْرِ. 47 وَكَانَتْ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَمَرْيَمُ أُمُّ يُوسِي تَنْظُرَانِ أَيْنَ وُضِعَ.(مرقس 15: 42-47، متى 56-61، لوقا 23: 50-56).
إن رواية الدفن المختصرة لجسد المصلوب يسوع تختم سلسلة الىلام، وتثبّت حقيقتها. ومن جهة ثانية يشكل الدفن عنصراً رئيسياً في إيمان الكنيسة، مذكوراً في دساتير الإيمان وفي الاعترافات الإيمانية كلها (مثلاً 1 كور 15: 4 “…. وأنه دُفن”، وأيضاً أنظر العبارة “تألم وقبر” في دستور إيمان نيقية القسطنيطينة). تتكلم الرواية عن إنسان كان مجهولاً حتى تلك اللحظة وهو يوسف الرامي. ويعطي الإنجيل عنه المعلومات التالية: أولاً كان “مشيراً” أي عضواً في المجلس، ولا نعرف إن كان قد اشترك أم تغيّب عن الاجتماع الذي فيه حُكم على يسوع. إلا أن الإنجيلي لوقا يلاحظ في 23: 51 أنه “لم يكن موافقاً لرأيهم وعملهم”. ثانياً كان ينتمي إلى هؤلاء الذين كانوا ينتظرون ملكوت الله. هذا الإنسان “تجاسر” حسب الآية 43 وطلب من الحاكم الروماني جسد يسوع. ويعد التدابير المتخذة للتحقق من موت يسوع (المذكورة بالتفصيل عند يوحنا 19: 31 وما يليها) أخذ الجسد (يعاونه نيقودموس حسب يوحنا 19: 39)، ودفنه في قبر منحوت في صخر لم يستعمله أحد ويملكه هو على الأرجح. في تلك اللحظة تشتت التلاميذ ربّما لخوفهم من القبض عليهم من قبل الرومان. أما يوسف فقد تجاوز كل خوف أو تردد، وأظهر احترامه للرب المصلوب الذي كان يؤمن به في الخفية (أنظر يوحنا 19: 38). فاستيقظت في داخله الرغبة في تكريم المعلّم الميت في اللحظة الأخيرة إذ لم يتجاسر أن يخدمه وهو حيّ. هناك لحظات مزعزعة، كاللحظة العظيمة التي فيها أُعلنت محبة الله علي الصليب، تحمل الإنسان على مواجهة نفسه، تهزّه وتقوده إلى القرارات الكبرى. لا يمكن أن يحب أحد المسيح وتعليمه وأن يبقى دائماً “مخفياً لسبب الخوف” من الناس. في تلك اللحظة الحاسمة يتغلب ضمير الواجب على الخوف والتحفظ.
يجري الدفن مساء الجمعة حين تطلّ بدايات السبت الذي هو يوم عيد الفصح الكبير عند اليهود والذي فيه يُحرّم كل عمل، لوصية تثنية 21: 22 وما يليها. وتشير عبارة لوقا 23: 54 “وقد بدت أضواء السبت” مع كل ماسبق ذكره إلى نهاية نهار الجمعة، أو إلى ضوء المساء الذي يدل على بداية اليوم الجديد وهو يوم السبت، أو إلى اضواء المدينة المقدّسة التي تشعل ليلة العيد الكبير.
تتبع مريم المجدلية ومريم أم يوسي عملين الدفن. وهذه الملاحظة تشكل مقدمة لما سوف يروى عن زيارة النسوة إلى القبر الفارغ. ما يلفت النظر هو جراءة النسوة وإيمانهنّ لأنهنّ لم يردن أن يهملن واجبهنّ تجاه المعلم الميت. كما لا ننسى أنهن قد استحققن أولاً أن يشاهدن القائم من بين الأموات.
يوضع يسوع المصلوب في القبر. لكن القبر لا يستطيع أن يضبط عنصر الحياة، وهذا ماترتله الكنيسة مساء الجمعة العظيم. من خلال ترانيم كثيرة وعجيبة تشدد النيسة المؤمنة بالقائم من بين الأموات والمؤسسة عليه، تشدد على غرابة قبر “ناقض الجحيم”، وعلى عدم إمكانية ضبط عنصر الحياة داخل القبر، ومحبة الله غير المحدودة الممتدة إلى الأموات منذ الدهر الذين تقبلوا زيارة مبدأ الحياة، وأخيراً سر الحكمة الإلهية التي بموجبها يوجد سيد الحياة والموت في كل مكان: في العرش مع الآب وفي القبر بالجسد وفي الجحيم مع الأموات الذين اقامهم وفي الفردوس مع اللص “مالئاً كل شيء هذا الذي يُمتنع وصفه”. وفوق كل شيء تشدد الكنيسة وتؤمن بالحياة النابعة من موت المسيح وقيامته لجميع البشر.
تُعرف الكنيسة الأرثوذكسية بأنها “كنيسة القيامة” لأنها في الليتورجيا تجعل المكانة الأولى لحدث قيامة المسيح، وفي اللاهوت تُبرز ما يتبع ذلك من آمال للبشرية نابعة من القيامة. لكن علينا ألا ننسى أن الصليب والقيامة يشكلان وحدة غير منفصلة: المسيح المائت على الصليب هو “ناقض الموت” الذي “وطئ الموت بالموت ووهب الحياة للذين في القبور”. هنا تسجد الكنيسة للمصلوب، وتمجد في الوقت نفسه القائم من بين الأموات، الحاضر دائماً في العالم والذي يدعو جميع الناسي إلى الخلاص.
(1) Cullmann: Christologie du N. Testament p. 122.
(2) راجع تفسير الإصحاح الرابع عشر… (الشبكة)
(3) هي كتب منسوبة إلى الرسل لا تعترف بها الكنيسة رسمياً.
(4) قد تم وضع الرمز Г نقلاً عن أحرف اللغة الروسية، لأنه أقرب شكل لما هو موجود في الكتاب المطبوع. وليس هو نفس الرمز الموجود في الكتاب المطبوع… (الشبكة)
(5) الخدمة الليتورجية تعتمد على توقيت يوحنا.
(6) راجع الدكتور عدنان طرابلس، شرح إنجيل متى، الجزء الثالث، ملحق: تاريخ الصلب… (الشبكة)
(7) راجع سيرة القديس ضمن سير القديسين في الشبكة… (الشبكة)