نقصد به العهد الذي بته الله مع شعبه في سيناء، وهي مرحلة بدء تحقيق وعد الله في ميثاق يرتبط به. هذه المرحلة يرويها سفر الخروج، وهو سفر أساسي في الكتاب المقدس، بل بمثابة موجز لكل معنى الكتاب. إن حادث خروج إسرائيل من مصر أساسي جداً في تاريخهم، إذ في الخروج يعون أنفسهم كشعب الله، وهم يتجهون إليه دائماً كإلى مصدر إسرائيل وينبوعه. وآباء الكنيسة بدورهم، يرون في سفر الخروج، الرسم الأكثر نقاوة وشفافية لسر المسيح، وهو السفر الذي تأملوا فيه أكثر من كل الأسفار. ذلك لأن الخروج يطابق وضع كل نفس مسيحية، ويبشر بأسرار المسيح بأكثر قوة.
إن العهد يقوم في خط الوعد عينه ولكن في طور آخر. إن الكتاب المقدس في جميع مراحله عبارة عن اتجاه واحد نحو التجسد. ففي كل مراحل يعلن لنا الله شيئاً واحداً: هو الشيء عينه، خلاص الإنسان. لقد رأينا المحبة في الخلق، ثم قبول المحبة والطاعة لها في الوعد، والآن سنرى الأمر عينه ولكن بصورة أقرب إلينا، وكأن في كل مرحلة خلق جديد، بل خلق دائم للنفوس وللبشرية: “أبي يعمل وأنا أيضاً أعمل”.
إننا نلاحظ، بصورة عامة، ثلاث نقاط أساسية في سفر الخروج:
1- العهد موجه إلى جميع الشعب: كان الوعد موجهاً إلى إنسان واحد، إذ كان لا بد من أن يبدأ إنسان واحد ويسلك طريق الفردوس المفقود، فقام ابراهيم، عوض آدم المختبئ، وانطلق. انطلق لأن الفردوس هو في الأمام، كما رأينا، انطلق نحوه، ولكنه كان لوحده. نعم كان يتوقع بالإيمان أن يصير شعباً عظيماً، ولكن بناء على وعد عام: “تتبارك بك كل الأمم”. ولم يرَ ابراهيم من نسله إلا اسحق فقط. أما الآن فالشعب كله يعقد ميثاقاً مع الله. الشعب نفسه يصير كشخص واحد ويسمى “إسرائيل”. إن العهد ينقل الوعد إلى صعيد كامل شامل.
2- العهد يعلن كلمة الله ككلمة فاعلة وليس فقط مقولة فالله الآن هو الإله الذي ينقذ ويخلص ويقهر الأعداء، وسيبقى تاريخ إسرائيل مطبوعاً بهذا الإعلان الجديد. الله رجل حرب، والخلاص أيضاً حرب، وإن كانت غير منظورة، والله هو الذي يحارب، إنه قوي يسحق الأعداء، ويحارب عن شعبه لأن شعبه أضعف جميع الشعوب: إنه شعب بدوي قائم بين شعوب ممالك كبيرة. ولكن قوتهم هي هذه بالضبط. إن الله هو الذي يحارب عنهم، إنه “رب الجنود”… ولما يحاول إسرائيل أن يجمع جيشاً، متكلاً في ذلك على ذاته، يغلب، نعم للعدو خيل، ولكن لله خيل أسرع (أنظر أشعياء 31: 1 و3).
3- العهد خطوة جديدة نحو الاتحاد بالله: في مرحلة الميثاق يتبنى الله شعب إسرائيل، فيصبح كل الشعب ابناً لله ليس باللحم والجسد بل بالتبني الاختياري الحر. إن الإله الحي يختار مجاناً (دون أي مقابل يضاهي هذا الاختيار) ويلد روحياً من يختار. وفي مرحلة العهد يخطب الله أيضاً شعب إسرائيل لنفسه ويرتبط به. إن الله في محبته يتنازل ليتحد بالناس، ولا عجب لأن سر الثالوث وراءه. الله الأب يتبنى، ولكنها أيضاً خطبة مع الابن، وسيكون الزواج، الاتحاد الكامل، في المسيح الختن، الإله المتجسد: “هكذا قال الرب: تذكرت لك مودة صبائك محبة خطبتك إذ سرت ورائي في البرية في أرض لا زرع فيها. إن إسرائيل قدس للرب وهو باكورة غلته. كل الذين يأكلونه يأثمون ويأتي عليهم الشر يقول الرب” (ارميا 2: 2-3). أما فكرة البنوة فنراها في (هوشع 11: 1): “إذ كان إسرائيل صبياً من مصر دعوت ابني”. والفكرتان تتحققان في الرب يسوع.
إلى جانب هذه النقاط الأساسية الثلاث هناك في مرحلة العهد أفكار عديدة ومتشبعة:
أ- إسرائيل في العبودية المصرية ونرى فيها:
(1) الاضطهادات: لأول مرة يواجه إسرائيل الاضطهادات وستكون هذه بعد الآن نصيبه. ينبغي للشعب المختار أن يفهم أن اختيار الله له ليس مبعث راحة بل صعوبات وآلام يسببها له الأعداء. والأعداء هنا هم المصريون: إن مصر تمثل ملكوت الشر وفرعون صورة لإبليس الخصم. فيرهقون الإسرائيليين بالأشغال الشاقة وينغصون حياتهم ويأمرون القابلتين العبرانيتين بقتل مواليدهم الذكور الخ.. ولكن الاضطهادات تتضمن فكرة أخرى: “وتنهد بنو إسرائيل من خدمتهم وصرخوا وصعد صراخهم إلى الله من الخدمة فسمع الله إلى بني إسرائيل..” (خروج 2: 23- 25). هذا وضع كل نفس تتلمس الله. من أعماق الأسر تنبعث الصرخة حقاً إلى الله. إن الله لا ينسى عهده وإنما يريد أولاً أن يصرخ شعبه إليه ويناديه.
(2) موسى: يظهر موسى في عبودية مصر، وتشير طفولته العجيبة إلى دعوة الله له. من يختار الله لإنقاذ شعبه؟ إنه يجد موسى ومنذ ولادته يميزه بحماية خاصة. فموسى مثل نوح قديماً ينتشل من المياه، ومهد موسى يقابل سفينة نوح. وفي قبول موسى لدعوة الله وتركه لقصر فرعون نجد أيضاً أفكار موقف ابراهيم.
(3) نفي موسى وإعلان اسم الله له: ويقتل موسى الرجل المصري ويهرب إلى أرض مدين (خروج 2: 11- 15). لقد أقدم موسى على ذلك من تلقاء نفسه وقبل الأوان ولم ينتظر أمر الله لذلك يجب أن يهرب ويقضي أياماً كثيرة منفياً في مدين. ثم يعلن يهوه ذاته لموسى في جبل حوريب (سيناء) في العليقة الملتهبة وغير المحترقة (خروج 3: 1- 17) “نزلت لأنقذ شعبي من أيدي المصريين. تعال أبعثك إلى فرعون”: إذاً ليس الإنسان ينقذ بل الله. إن حادث العليقة الملتهبة أساسي جداً يدخلنا في سر الله، إنه ظهور لله (Theophanie) وعلامة لحضرته. النار غير المادية تمثل نار اللاهوت: “فتجلى له ملاك الرب في لهيب نار من وسط العليقة”. هذا إعلان عميق، خطوة جديدة نحو التجسد، رسم للعذراء مريم ولتجسد الله في بطنها. ثم هذا الإعلان المنظور يكتمل بإعلان الكلمة: الله يتكلم من وسط العليقة منادياً “موسى موسى” فيجيب موسى “هاأنذا”.
لقد رأينا في ابراهيم هذه الحضرة الثابتة أمام الله حين أمره بذبح ابنه اسحق. كان ابراهيم قد خرج من أرضه مطيعاً الله في الانطلاق والمسير. أما عند موسى، فنصادف أولاً الـ “هاأنذا” ثم يأمره الله بالخروج من مصر فيطيع حينئذ ويستسلم. لكنه لا يستسلم بادئ الأمر بدون تردد وخوف إنه يطلب ضمانات ويسأل الله عن اسمه، فيجيب الله “أنا هو الكائن.. كذا قل لبني إسرائيل الكائن أرسلني إليكم”.
إن الله هنا يقبل أن يسمي ذاته، وهذا شيء هائل. إن الاسم عند العبرانيين يرمز لأعمق شيء في المسمى، فعندما يسمي آدم الكائنات فإنه يعطيهم الكيان تقريباً وكأنه عامل مع الله ومعاون له في الخلق، إن الاسم يعلن “جوهر” الكيان، وعندما يقول أحد اسمه للآخر يدخل معه في علاقة خاصة: أصبح يسمى، فيرتبط بالآخر، “إن أنت عرفت اسمي أمكنك أن تناديني وأنا مضطر أن أجيب…” أما الله فهو سر يفوق كل معرفة وإدراك. ولكنه عندما يعلن اسمه لموسى يدخل موسى في علاقة مع الله. وبالتالي فإن بداية العهد هي في إعلان اسم الله. ويسمى الله نفسه قائلاً: “أنا هو الكائن” ذلك لأن الله لا يستطيع أن يحدد ذاته بكائن آخر غير نفسه ولكن هناك تفسيراً آخر وأعمق لاسم الله الذي أعلنه لموسى.
لقد كتبت التوراة الاسم في أربعة أحرف ساكنة فقط (يهوه I.H.v.h. ) مكتفية بها للتعبير عن حضرة الله الرهيبة. إن الاسم البشري حضرة أيضاً ولكنها حضرة بشرية لا فعالية لها بينما اسم الله فعال. فكان اليهود يخشون اسمه ولذا اختصروه بحروفه الساكنة (1). فالأحرف الأربعة يمكن قراءتها بما معناه “أنا هو الكائن” أو “أنا الأزلي” وأيضاً “أنا من سيكون” أو “أنا من يأتي”: فيكون في هذا تلميح لكل تدابير الله الآتية حتى مجيئه الثاني. إننا نقرأ في سفر الرؤيا: “أنا الألف والياء، البداية والنهاية، الإله الكائن والذي كان والذي يأتي” (رؤ 1: 8). وبالتالي فإن إعلان الله في العليقة يخفي سر التجسد، سر الله الذي سيأتي.
ب- الفصح: إنها المرحلة العظيمة، قلب العهد القديم، نقترب فيه أكثر الاقتراب من سر العهد الجديد. سر الفصح يعني سر التحرير والعتق والخلاص. وهذا كله شفاف جداً للفصح الحقيقي، المسيح، “فصحنا” (1كو 5: 7). إن الفصح يطبع إسرائيل بطابع أبدي فيبقى حياً في ذاكرته وكيانه: الله يخلص شعبه. إنه يخلصهم مادياً من عبودية تاريخية معينة هي عبودية المصريين ولكنه أيضاً رسم وظل لفصح أكثر نوراً، لفصح أبدي. ذلك لأن الشعب سيقع في عبوديات أخرى وتحت نير شعوب أخرى غير المصريين. ونرى في مرحلة الفصح التدرج التالي:
(1) الضربات العشر وتعني تدخل الله المتتالي: إن فرعون يرفض إجابة طلب موسى عبد الله للخروج من مصر ولكن هذا لا يمنع صبر الله بل هو يعطي علامات عديدة لإرادته قبل إنزال القصاص النهائي. إن الضربات العشر بمثابة علامات من الله للمصريين. ولكنها أيضاً علامات لليهود إذ أنهم بالرغم من تألمهم من نير المصريين لم يكونوا راغبين حقاً في الخروج من مصر: “فكلم موسى بذلك بني إسرائيل فلم يسمعوا لموسى لضيق أرواحهم وعبوديتهم الشاقة” (خروج 6: 2-9).
كثيراً ما يجري هذا معنا: عندما نكون في أوقات التعب سكارى ومثقلين بالخطيئة يبدو لنا الإصغاء لكلام الله مستحيلاً، بينما هو ينتظر منا إشارة فقط لينهضنا. إننا نبقى في فترات الجفاف هذه لكثرة الضيق ولا نريد أن نخرج. هذه فترات قاسية حقيقة نمر فيها في الليل واليأس ولكنها مباركة، إذ فيها يطلب الله منا أن تأتي عملاً كله منا تقريباً، في أوقات الراحة والتعزية نحن كالأطفال نسير بنعمة الرب ولا ندري، ولكن عندما يفطمنا يخرجنا من الطفولة “إن ابراهيم صنع عيداً عندما فطم ابنه اسحق”. أيام الطفولة سعيدة ولكنها قصيرة، فلا بد، بعد مدة، من السير لوحدنا، لا بد من العزم والتصميم. وبعدئذ تثبتنا النعمة فنصبح كالأطفال: لا أطفالاً بل كالأطفال كما يقول الرب. نكتسب النضج والتمييز ولكن نبقى متضعين، نصير محركين من الله كالأطفال ولكن واعين لذلك. إن ضربات مصر إذاً تجعل موسى والشعب أيضاً يقررون الخروج سامعين لكلام موسى. إن القديس غريغوريوس النيصصي يذكر هنا أن موسى لم يصبح صالحاً لمخاطبة الشعب وقيادته إلا بعد أن تقوى ورأى نور الله، وقد اقتضى ذلك مدة طويلة من التأمل والنسك هي الأربعين سنة التي قضاها منفياً في مدين (2).
(2) الاحتفال بالفصح: إن بني إسرائيل يستعدون الآن للخروج من مصر ويحتفلون بالفصح. يأكلون الحمل الفصحي أثناء الضربة الأخيرة التي يضرب بها الله أبكار المصريين فيموتون (خروج 12: 12). أما الإسرائيليون فتحفظهم علامة الدم على عتبة أبوابهم العليا، التي هي رمز للصليب (ونرى علامة الصليب أيضاً في حزقيال 4:9 علامة نجاة وخلاص: “ارسم تواء (T) على جباه الرجال..”) ففي الفصح إذاً فكرة أساسية هي فكرة “العبور”، عبور الملاك لأبكار المصريين ونجاة الإسرائيليين منه.
ثم الفصح هو “العبور” أيضاً أو الخروج من مصر في تلك الليلة. إنهم يأكلونه في هندام سفر: “أحقاؤكم مشدودة ونعالكم في أرجلكم وعصيكم في أيديكم وكلوه بعجلة إنه فصح للرب” (خروج 12: 11). وهكذا يعود إسرائيل إلى وضعه الأول الأساسي: إنه مسافر لا يتوقف. أما توقفه في أي مكان فيعني العبودية في ذلك المكان “أيها الأحباء أسألكم كالغرباء والنزلاء..” (1بطرس 2: 11). فالفصح إذاً يذكر العبرانيين بفصح أعمق هو فصح بقائنا مسافرين على هذه الأرض، وهذا ما كان إسرائيل قد نسيه. ولكن إلى أين يجب أن يسير؟ يجب أن يصنع إرادة الله، إنه الشعب الذي انطلق تقوده كلمة الله إلى حيث تقوده. علينا ألا ننسى ذلك أبداً.
إن أرض الميعاد التي يتجه إليها هي في سبيل خدمة الرب. المسافر هو خادم للرب، فيجب أن يكون دائماً مستعداً للخدمة (إن الله قاصص فرعون لأنه قاوم القصد الإلهي وليس فقط لأنه عذب الشعب المختار). ولذا يعيد الفصح كل عام: “ويكون هذا اليوم لكم ذكراً فتعيدونه عيداً للرب مدى أجيالكم فريضة أبدية” (خروج 12: 14)، حتى يذكر الجميع أنهم أداة لله، عصيهم في أيديهم، على أهبة السفر… ولكن بني إسرائيل لم يتقيدوا بذلك فكانوا يحتفلون بالفصح بالفم فقط بينما القلب غير فصحي لأنه قد توقف على هذه الأرض.
وأخيراً الفصح ليس فقط النجاة والعبور: هنا يقترب إسرائيل من أوج دعوته، لأن الله يرجوه أن يفهم أن عيد الفصح إنما هو رسم لعيد آخر، لفصح كلي هو العبور من الزمن إلى الأبدية. شعب الله شعب مسافر ينتظر الأمر الأخير وهو ترك الحياة الأرضية من أجل الحياة الأبدية، شعب ينتظر العلامة الجديدة، الخروف الفصحي الحقيقي: “المسيح فصحنا” (1كو 5: 7).
(3) عبور البحر الأحمر، الفصح يتم: فيرتل موسى وبنو إسرائيل ترتيلة الظفر: “أسبح الرب لأنه قد تمجد، الفرس وراكبه طرحهما في البحر…” (الإصحاح 15 من سفر الخروج)، الترتيلة التي نرى شبيهتها في المزامير: “احمدوا الرب الذي ضرب المصريين مع أبكارهم. وأخرج إسرائيل من بينهم. بيد مقتدرة، وساعد رفيع.. هللويا” (مز135: 10-12)، وأيضاً في سفر الرؤيا: “يسبحون تسبيحة عبد الله موسى وتسبيحة الحمل قائلين عظيمة وعجيبة أعمالك أيها الرب الإله القدير..” (رؤيا 3: 15) إن الكتاب المقدس بمثابة سمفونية تتحقق ترانيمها في المسيح وفي الأبدية. إن فكرة الفصح تمت إلى فكرة الأبدية، إذ أن الفصح رسماً للعتق الأبدي.
ج- السير في الصحراء: هذه مرحلة تكوين الشعب المختار (Gestation). كما يتكون الطفل في بطن أمه هكذا يتكون الشعب في الصحراء. لا يمكن للنفس أن تولد من الله بدون تأديب وعذاب. هذه سنة عامة لا تقبل استثناء تنطبق على جميع الذين يدعوهم الله لخدمته. لا بد من صحراء، من ليل، من جفاف. على مثال الرب يسوع نفسه (40 يوماً في البرية، ليلة الجسمانية حيث ترك وحده دون الآب). أما الأفكار الثانوية في هذه المرحلة فهي:
(1) المحنة أو الاختبار: إن الحياة في الصحراء من شأنها أن تمتحن الشعب ومدى تعلقه بإرادة الله وحدها. في الصحراء فراغ كلي مناسب لولادة جديدة. أما العبرانيون فكانوا جيلاً متردداً ولذا عند أول صعوبة صاروا يفكرون بمصر وبالعودة إلى مصر(3).
وهكذا نحن، فلأقل حرمان أو عذاب نتذمر ونتمرر ونتمرّد. إنها مرحلة التقدم في حياة الإيمان، وهذا ليس بسهل. إن النفس بعد خروجها من مصر تشعر بنوع من اليأس. إنها ترى الأعداء يهجمون عليها، ولكن هذا اليأس ينقذها، إذ تفهم عجزها وتتجه نحو الله فيساعدها. هذا ما يجب أن تعتاد عليه النفس في سيرها في الصحراء في البداية تعود بها غرائزها إلى الطعام المصري، إلى طلب معونة العالم وتعزياته. إنها لم تعتد بعد أن تعيش من الله وحده. ولا بد من الجهد للوصول إلى ذلك. فنراها تيأس مرة أولى وثانية وثالثة: صعوبة المرور، فقدان الماء، فقدان الخبز. والإيمان هو بالضبط ذلك الجهد الذي تترك النفس بموجبه المعونة البشرية لتتجه نحو الكلمة. والكلمة ينجدها دائماً: فهو يقودها في الصحراء، وهو الصخرة التي تنفجر منها المياه، وهو المن الذي ينزل من السماء.
وتتوالى التجارب والتعزيات حتى تزول تدريجياً الأفراح الحسية ونعتاد على فرح جديد هو “حلاوة الله” (4).
وفي فكرة المحنة هذه فكرة البقية أيضاً: (آباؤنا كلهم أكلوا طعاماً روحياً واحداً. وكلهم شربوا شراباً روحياً واحداً..) (1كور 10: 3)، ولكنهم لم يثبتوا جميعهم بل الاختبار غربلهم، ففني المتمردون ولم يبقَ إلا بقية. إن حادثة العجل الذهبي بليغة في هذا المضمار. إن المرء يعجب كيف أن هارون نفسه لم يصمد في هذه المحنة، هارون رفيق موسى عينه، الرفيق الذي رأى بعينيه كل شيء، رأى الله ورأى العجائب في مصر، ورأى العصا تفرع. وبالرغم من كل ذلك، لما طال غياب موسى عنه في الجبل، وانقلب عليه الشعب كله، انقاد لهم وصنع لهم العجل الذهبي ليعبدوه بدل الله ! والمؤسف أننا جميعاً مثل هارون، ننحرف في تيار الناس!
(2) التكريس: وفي الصحراء يكرس الشعب لله: “والآن إن امتثلتم أوامري وحفظتم عهدي، فإنكم تكونون لي خاصة من جميع الشعوب. وأنتم تكونون لي مملكة أحبار، وشعباً مقدساً” (خروج 19: 5- 6). في التكريس يفرز الإسرائيليون لله. ولكن هذا لا يكفي: يجب أيضاً أن يدنو الله ويعطي ذاته للمفروزين له. فيرش موسى الشعب بدم الذبيحة التي قدمت لله وقبلها (خروج 24: 8). الذبيحة صارت إلهية والله نفسه يُعطى للمكرسين: إنها رسم لذبيحة المسيح الكبرى.
(3) حضرة الله: الله الآن يصبح قائداً لشعبه: “فغطى الغمام الجبل، وحل مجد الرب على جبل سيناء، وصار منظر مجد الرب كنار آكلة في رأس الجبل” (خروج 24: 15- 17). الله هو القائد لا غيره، وهذا يقابل البركة التي بارك الله بها ابراهيم. إن البركة حضرة إلهية، كما رأينا، فتستمر هذه البركة بشكل ملموس: بشكل الغمام والنار وتابوت العهد الخ… وكل هذا ينتهي إلى اليوم الذي يقول فيه الملاك لمريم: “مباركة أنت في النساء ومباركة ثمر بطنك”. البركة تتجسد، تصبح عمانوئيل (“الله معنا”). لنذكر هنا شيئاً هاماً: كان الله في البرية حاضراً مع شعبه “ثم غطى الغمام خباء المحضر، وملأ مجد الرب المظلة.. لأن غمام الرب كان على المظلة نهاراً وكانت النار في الغمام ليلاً” (خروج 40: 34 و38).
إذاً مجد يهوه يرافق الشعب في المظلة. إن مجد الله هو حضرة في المظلة (بالعبرية “شكينة”). إن الشكينة هي مسكن المسافر والنزيل، ولذا تردد الأنبياء في بناء الهيكل. والآن “الكلمة صار وحل فينا”: باليونانية Kataskehosen أي سكن في المظلة. فيسوع الآن يقوم مقام التابوت والمظلة والهيكل، “فيه كل ملء اللاهوت جسدياً” ولذا قال: “سأقيم هذا الهيكل في ثالثة أيام”. ولذا يقول سفر الرؤيا: “ولم أرَ فيها – أورشليم السماوية – هيكلاً، لأن الرب الإله القدير والحمل هيكلها” (رؤ 21: 22).
د- إعطاء الشريعة: إن الله يعطي الشريعة للشعب في الصحراء في جبل سيناء. وفي هذا ثلاث أفكار ثانوية:
(1) التبني والخطبة: إن عطية الشريعة للشعب بموجب ميثاق جبل سيناء تعني أن الله يتبنى الشعب ويخطبه لنفسه بغية اتحاده به كلياً يوم التجسد. إن تدبير الآب والابن ظاهر كما شرحنا ذلك آنفاً وفيه تهيئة وانتظار للعهد الجديد: “وآخذكم من بين الأمم.. وأنفح عليكم ماء طاهراً فتطهرون.. وأعطيكم قلباً جديداً، وأجعل في أحشائكم روحاً جديداً.. وأجعل روحي في أحشائكم”. (حزقيال 36: 24- 27): إنها رموز المعمودية والمناولة.
(2) تسامي الله: لا بد أولاً للشعب من الاغتسال والتطهر للاقتراب من جبل سيناء، وعلى موسى أن يكون نقي القلب وأن يخلع نعليه، أن يترك كل الأهواء والاهتمامات ليستطيع أن يرى الله. إن موسى يرى الله، إنه خليل الله مثل ابراهيم، ولكن الكتاب يذكر بأن موسى رأى قفا الله لأن وجهه لا يُرى. أما قول الكتاب بأن موسى كان يكلم الله وجهاً لوجه (خروج 33: 11 و23) فيعني مباشرة بدون واسطة وليس فيه تناقض. إن من يقترب من الله يجب أن يغطي وجهه (خروج 34: 29- 33)، فإعلان الله هو تغطية في الوقت نفسه، إذ يكلم موسى الشعب ووجهه مغطى، فالإعلان ليس كلياً، بل يكشف أجزاء فقط من النور غير المخلوق. إن إيليا أيضاً ستر وجهه عندما شاهد الله. ولذا فموسى وإيليا يوم تجلي الرب على طور ثابور يشهدان عن مصدر النور الذي أخذاه. هذا ويلاحظ هنا، أن فكرتي الخروج والفصح مرتبطتان في كل الكتاب، فكلما يعلن الله عن ذاته يعبر: يعبر بين قطع الحيوانات في تقدمة ابراهيم، ويعبر أمام موسى في نقرة الصخرة، ويعبر أمام إيليا كنسيم لطيف. وفي التجلي يتكلم موسى وإيليا عن خروج الرب(لو 9: 30- 31) ويعني موته وقيامته، الفصح الحقيقي.
(3) الشريعة ومعناها الروحي: إن أهمية الشريعة التي يعطيها الرب لموسى في سيناء قائمة في كونها كلام الله، من صنع الله. هذه قيمة إيجابية. ثم هي تكشف صبر الله: فالله بإعطائه الشريعة يسلم ذاته للشعب، إذ يترك مصير كلامه للشعب. والشريعة أيضاً “مؤدب” للشعب إلى أن يأتي المسيح. ولها معنى سلبي أيضاً، وهو تذكير إسرائيل بغياب الله: الشريعة تكشف الخطيئة، لا تقتل، لا تزن، لا.. لا.. وعندما يعطي الله ذاته نعتق منها. إن سفر تثنية الاشتراع، يسمي الشريعة “شاهداً على الشعب” (31: 26)، إنها تدين بدلاً من أن تعتق. ففصح الخروج ليس بعد كاملاً، ليس أبدياً. والشريعة موجهة دائماً لأناس غير مستعدين تماماً لسماعها وقبولها: “والآن يا إسرائيل اسمع.. اسمع يا شعبي فأشهد عليك..” (تثنية 4 و 5..) فيجب تحطيم صمم الشعب كي تدخل الشريعة إليهم.. أما عند تجسد الكلمة فلا حاجة بعد للقول “اسمع”، لأن “ناموسك هو في وسط قلبي” يقول الرب (مزمور 39: 7). فالشريعة إذاً مرحلة تتم في المسيح ككل مراحل العهد القديم. “إني لا أنقض عهدي معكم إلى الأبد” (قضاة 2: 1): هذا القول وصف لوضع إسرائيل بعد الخروج، إن عهد الله لا ينقض لأن الله إنما يراه في تحقيقه، في تجسده.
(1) إن كتبة العهد القديم كانوا عند وصولهم إلى اسم يهوه يستعملون ريشة خاصة وحبراً خاصاً ويلفون يمينهم بثوب خاص ويتلون صلاة خاصة ثم يكتبون الاسم دون النظر إليه.
(2) إن العدد 40 يرمز إلى النسك والتوبة كما رأينا: أربعون سنة يقضيها موسى في مدين، أربعون سنة يقضيها الشعب في البرية، أربعون يوماً يقضيها يسوع في الصوم في البرية، ولذا 40 مرة يا رب ارحم في الخدم الكنسية.
(3) إن شعب الله يقضي أربعين سنة في البرية لماذا أربعين سنة ؟ حتى يزول الجيل المتردد.
(4) أنظر كتاب “سيرة موسى” للقديس غريغوريوس النيصصي المقدمة صفحة 38 (Sources Chre’tiennes).