Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

شفاء المخلّع في كفرناحوم:

“1 ثُمَّ دَخَلَ كَفْرَنَاحُومَ أَيْضًا بَعْدَ أَيَّامٍ، فَسُمِعَ أَنَّهُ فِي بَيْتٍ. 2 وَلِلْوَقْتِ اجْتَمَعَ كَثِيرُونَ حَتَّى لَمْ يَعُدْ يَسَعُ وَلاَ مَا حَوْلَ الْبَابِ. فَكَانَ يُخَاطِبُهُمْ بِالْكَلِمَةِ. 3 وَجَاءُوا إِلَيْهِ مُقَدِّمِينَ مَفْلُوجًا يَحْمِلُهُ أَرْبَعَةٌ. 4 وَإِذْ لَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَقْتَرِبُوا إِلَيْهِ مِنْ أَجْلِ الْجَمْعِ، كَشَفُوا السَّقْفَ حَيْثُ كَانَ. وَبَعْدَ مَا نَقَبُوهُ دَلَّوُا السَّرِيرَ الَّذِي كَانَ الْمَفْلُوجُ مُضْطَجِعًا عَلَيْهِ. 5 فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ إِيمَانَهُمْ، قَالَ لِلْمَفْلُوجِ: «يَا بُنَيَّ، مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ». 6 وَكَانَ قَوْمٌ مِنَ الْكَتَبَةِ هُنَاكَ جَالِسِينَ يُفَكِّرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ: 7 «لِمَاذَا يَتَكَلَّمُ هذَا هكَذَا بِتَجَادِيفَ؟ مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَغْفِرَ خَطَايَا إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ؟» 8 فَلِلْوَقْتِ شَعَرَ يَسُوعُ بِرُوحِهِ أَنَّهُمْ يُفَكِّرُونَ هكَذَا فِي أَنْفُسِهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ:«لِمَاذَا تُفَكِّرُونَ بِهذَا فِي قُلُوبِكُمْ؟ 9 أَيُّمَا أَيْسَرُ، أَنْ يُقَالَ لِلْمَفْلُوجِ: مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ، أَمْ أَنْ يُقَالَ: قُمْ وَاحْمِلْ سَرِيرَكَ وَامْشِ؟ 10 وَلكِنْ لِكَيْ تَعْلَمُوا أَنَّ لابْنِ الإِنْسَانِ سُلْطَانًا عَلَى الأَرْضِ أَنْ يَغْفِرَ الْخَطَايَا». قَالَ لِلْمَفْلُوجِ: 11 «لَكَ أَقُولُ: قُمْ وَاحْمِلْ سَرِيرَكَ وَاذْهَبْ إِلَى بَيْتِكَ!». 12 فَقَامَ لِلْوَقْتِ وَحَمَلَ السَّرِيرَ وَخَرَجَ قُدَّامَ الْكُلِّ، حَتَّى بُهِتَ الْجَمِيعُ وَمَجَّدُوا اللهَ قَائِلِينَ:«مَا رَأَيْنَا مِثْلَ هذَا قَطُّ!».” (مرقس2: 1-12، متى9: 1-8، لوقا5: 17-26).

تُظهر رواية شفاء المخلّع في كفرناحوم المشتركة بين الأناجيل الإزائية الثلاثة كيف أن يسوع هو محرّر الناس من الخطيئة ومن المرض الذي هو نتيجة عارض لها. ومرة أخرى وُجد يسوع، بعد أيام، في كفرناحوم. النقطة الرئيسية في الحادثة هي كرازة يسوع للكتبة “بأن لابن الإنسان سلطاناً على الأرض أن يغفر الخطايا” (الآية 10). ترد آية أخيرة في رواية متى (9: 8 “فلما رأى الجموع تعجّبوا ومجّدوا الله الذي أعطى الناس سلطاناً مثل هذا”) تسمح لنا أن نستنتج أن رواية الإنجيليين هذه تهدف إلى إرساء سلطة الكنيسة في غفران الخطايا، هذا السلطان الذي أخذته عن مؤسسها.

ليست هذه العجيبة مجرّد نتيجة لمشاركة يسوع ألم المريض. إنما هي تعبير عن سلطانه المسياني الذي به بدأ زمن جديد في الإنسانية، زمن تضعف فيه قوّة الشيطان وتنهزم، ويتحرّر الإنسان من طغيانه وتُؤسَس الكنيسة حيث يذوق المؤمن مسبقاً عن طريق الأسرار خيرات ملكوت الله.

يظهر صدى كرازة يسوع في كفرناحوم من خلال ما جاء في الآية 2 حيث يقول اجتمع عدد كبير من الناس ليسمعوا “كلمة” يسوع الموجود في أحد البيوت حتى امتلأ البيت وأيضاً ما حول الباب.

لقد عرض الإنجيلي بطريقة وصفية (الآيتان 3-4) محاولة أربعة رجال لحمل مخلّع أو مفلوج أمام يسوع: لم يستطع هؤلاء أن يقتربوا من الربّ بسبب الجمع فنبشوا سقف البيت وفتحوا كوّة أنزلوا منها السرير الذي كان عليه المريض (يعتبر بعض المفسرين المعاصرين أنه من المستحيل نبش السقف لأن لمثل هذا العمل نتائج سيئة بالنسبة للموجودين تحته. لذا يزعمون أن المرافقين الأربعة أصعدوا المخلّع على السقف عن طريق سلّم خلفي وحملوه إلى أمام باب البيت حيث كان يسوع يكلم المجتمعين خارج البيت. وفي هذا الإطار، لا تتضمّن بعض النسخ عن مخطوطات بيزنطية مقطع عملية نبش السقف).

يمدح يسوع إيمانهم والأرجح أن هذا الإيمان هو إيمان مرافقي المريض الأربعة بسبب جدّهم وابتكارهم. فالإنسان المؤمن حقاً لا ينثني أمام حواجز تعترض طريقه بل يوجد طرق عمل لكي يحقق هدفه لا من أجل فائدته الروحية الشخصية فحسب بل أيضاً من أجل فائدة الآخرين، خصوصاً عندما يكون هؤلاء الآخرون في حاجة. يتوجه يسوع إلى المخلّع ويناديه “يا بنيّ” (ممّ يُظهر الصلة العائلية الوثيقة التي تتكون داخل الإنسانية الجديدة، داخل الكنيسة التي يؤسسها). يقول له “مغفورة لك خطاياك” (الآية 5): من المستغرب لأول وهلة أن يتكلم يسوع عن مغفرة الخطايا للمريض جسدياً.

هنا يطرح موضوع علاقة الخطيئة بالمرض. حسب يسوع وتعليم العهد الجديد يمكننا القول بما يلي: دخلت الخطيئة في العالم عن طريق آدم كثورة المخلوق على خالقه فكانت النتيجة المرض، الفساد والموت. وجود المرض إذاً في العالم يشكل مظهراً لحالة الخطيئة، لا بمعنى أن كل مرض عند الإنسان نتيجة خطيئة شخصية محددة، لكن بمعنى أن المرض بصورة عامة يدلّ على ضعف الإنسانية وخضوعها لقوّة الشرّ. لا يذكر يسوع شيئاً في الأناجيل على الصعيد النظري عن مشكلة الخطيئة، عن جوهرها أو مصدرها أو نتائجها المؤلمة. لكنه يعتبرها معروفة لدى الجميع ويلتقي بالإنسان الواقع فيها ويحرّره منها. إن زمن المسيّا المنتظر زمن تُمحى فيه الخطيئة مع كل ذيولها. لذلك يوصف المسيح من قبل مؤلفي العهد الجديد كـ “رافع لخطيئة العالم” وماحٍ لأعمال الشيطان. وتعبّر عجائب يسوع الواردة في الأناجيل بصورة دقيقة عن غلبة الله على القوات الشيطانية التي تقبض على الناس وتأسرهم، كما أنها تدلّ على بداية زمن جديد، زمن النعمة والخلاص.

اعتبر الكتبة الحاضرون كلام المسيّا القاطع للمريض عن غفران خطاياه تجديفاً لأنهم لا يعترفون بصفة يسوع المسيانية ولا بسلطانه بل يعتقدون أنه ينسب لنفسه عن طريق التجديف خصائص وسلطة إلهية (الآيات 6-7). لكن يسوع بطريقة فائقة الطبيعة يعرف أفكارهم (الآية 8). ويوبّخهم على أفكارهم الشريرة التي في داخلهم (“كلمة قلب” تدلّ على نشاط الإنسان بكلّيته، الداخلي والذهني والشعوري والإرادي)، ويسأل ما هو الأيسر غفران الخطايا أم الشفاء من المرض الجسدي (الآية 9). طبعاً يعتبر الناس شفاء الجسد أصعب، وغفران الخطايا أسهل، لأنهم لا يستطيعوا رؤية الخطيئة والتحقق منها. أما يسوع فهو ينظر إلى السبب والنتيجة في آن واحد، يحارب العارض المرضي المرئي الذي يمكن أن يراه الجميع ويرفع في الوقت نفسه سبب المرض كابن الإنسان الذي له سلطان على الأرض “لغفران الخطايا” (الآية 10).

الخلاصة:

يوصف الشفاء بطريقة مختصرة في آية واحدة. ما يهمّ الإنجيلي هو جواب يسوع عن أفكار الكتبة والبرهان على سلطانه في مغفرة الخطايا. “ابن الإنسان” ليس فقط ذاك الذي سوف يتألم ويعود بمجد ليدين العالم، بل هو أيضاً المسيّا العامل في الوقت الحاضر فيما بين الناس ومؤسس للكنيسة.

المعاني الرئيسية في الرواية؟

1- لقد غلب يسوع المسيح تسلّط الخطيئة على الناس مع كل ذيولها وإن كانت الخطيئة لا تزال تؤثر على البشر، وهذا يعود إلى أن الدهر القديم مع كل قواته الفاسدة ما زال قائماً إلى جانب الدهر الجديد الذي بدأ مع المسيح وتحقق في الكنيسة ويكتمل في مجيء المسيح الثاني. لا يمكن أن تُقبل الخطيئة في الكنيسة بمعنى أنه غير ممكن لها أن تحصل بل بمعنى أنه يمكن لكل مؤمن أن يتجنّبها. وحتى في حال سقوطه فيها فإن الكنيسة تملك سلطاناً “لغفران الخطايا”.

2- الإيمان شرط ضروري من أجل الخلاص، وله تطلّعات اجتماعية، إذ أن الإنسان المؤمن يشكل محطّاً لخلاص الآخرين. من الملاحظ أن يسوع يمدح إيمان مرافقي المخلّع قبل أن يشفي المريض. لو أخذنا بعين الاعتبار محاولات المرافقين الأربعة في تسهيل إيصال السرير إلى يسوع لعرفنا كم من الابتكار تتطلب عملية الإيمان. أي أن الإنسان المؤمن يفتش عن الطريقة المناسبة لكي يصل إلى هدفه لا من أجل فائدته فقط بل من أجل فائدة أخيه أيضاً.

من خلال حادثة شفاء المخلّع نلاحظ أول صدام بين يسوع ورؤساء اليهود الدينيين (2: 6…)، ممثلي الديانة الناموسية. في الروايات اللاحقة سوف تتصاعد تدريجياً مقاومة الكتبة والفريسيين لعمل يسوع حتى تصل إلى أوجها في القبض عليه وفي صلبه. في الرواية السابقة يفكّر اليهود في قلوبهم دون أن يعبّروا عن أفكارهم التي يعرفها يسوع ويكشفها لنا. في الرواية اللاحقة مباشرة يعبّر الكتبة عن اعتراضاتهم أمام تلاميذه (2: 16)، ويتوجهون إليه بالسؤال (2: 18، 24)، وفي النهاية يقرّرون إيجاد سبيل للقبض عليه وإماتته (3: 6)، الأمر الذي تمّ في الآخر. إن محبة الله تسمح بتسليم يسوع إلى الموت حتى تظفر في النهاية محبة الله عن طريق غلبة الموت والقيامة.

في الآية 10 يستعمل اللقب الخريستولوجي “ابن الإنسان” (اللقب الخاص بالمسيح). هذا هو التعبير الذي يستعمله يسوع للدلالة على نفسه، ولا ترد على لسان الآخرين في تسميتهم له بما فيهم الإنجيليون. ولا تأتي العبارة في مكان آخر من العهد الجديد خارج الأناجيل (ما عدا في أعمال الرسل 7: 56).

تأتي العبارة من الأدب اليهودي الرؤيوي وخاصة من كتاب دانيال (7: 13-14) ومن أخنوخ الحبشي (37-71) حيث تظهر شركة قديسي العليّ الأخرويّة (أي التي تكون في آخر الأيام) والتي تصل في أوجها عند شخص واحد هو رمز الإنسانية الجديدة. لقد ساد تفسير العبارة الشخصي مع الزمن في اليهودية وأخذ يعني المخلّص المنتظر في الآخرة، القاضي الآتي من السماء للدينونة. هذا الانتظار الأخروي لديّان سماوي تواجد في اليهودية مع انتظار مسياني أخر لمسيّا – ملك آتٍ من صلب داود.

يعتبر بعض المفسرين البروتستانت الجدد أن عبارة ابن الإنسان لا يستعملها يسوع بل المجتمع المسيحي هو الذي وحّد يسوع مع ابن الإنسان ووضع العبارة على لسانه. لا يمكن أن نقبل بهذا المفهوم للسبب التالي: ليست من عادة الكنيسة الأولى أن تطلق على يسوع اسم ابن الإنسان ولا نجدها تتلكم عن ابن الإنسان، الأمر الذي يفترض وجوده في حال قَبِلنا بالنظرية السابقة. لكن على كل حال كلما رأينا العبارة مستعملة في الأناجيل تراها على لسان يسوع متكلماً عن نفسه. لقد حفظ الإنجيليون إذاً في ذاكرتهم هذه الصفة المميّزة والمستعملة من قبل يسوع نفسه. بينما لو استعملها الإنجيليون أولاً لرأينا وجودها في أماكن أخرى من أنجيلهم.

وكذلك نرفض وجهة نظر A. Schweitzer ومن بعده Horn، bornkmann، Bultmann القائلة: صحيح أن يسوع يستعمل هذه العبارة إلا أنه يقصد، عن طريق نفسه، شخصاً أخر غيره سوف يأتي في آخر الأيام.

تُقسم أقوال يسوع، حيث ترد العبارة “ابن الإنسان”، عادة إلى ثلاثة أقسام:

  •  أ- الكلام الذي يتوجّه نحو مجيء ابن البشر الآتي في المستقبل.
  •  ب- الكلام عن ابن الإنسان وقيامته.
  •  ج- الكلام عن نشاطه الحاضر.

والرواية الأخيرة تنتمي إلى القسم الثالث.

دعوة العشّار لاوي وجلوس يسوع للطعام مع العشارين والخطأة:

“13 ثُمَّ خَرَجَ أَيْضًا إِلَى الْبَحْرِ. وَأَتَى إِلَيْهِ كُلُّ الْجَمْعِ فَعَلَّمَهُمْ. 14 وَفِيمَا هُوَ مُجْتَازٌ رَأَى لاَوِيَ بْنَ حَلْفَى جَالِسًا عِنْدَ مَكَانِ الْجِبَايَةِ، فَقَالَ لَهُ: «اتْبَعْنِي». فَقَامَ وَتَبِعَهُ. 15 وَفِيمَا هُوَ مُتَّكِئٌ فِي بَيْتِهِ كَانَ كَثِيرُونَ مِنَ الْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ يَتَّكِئُونَ مَعَ يَسُوعَ وَتَلاَمِيذِهِ، لأَنَّهُمْ كَانُوا كَثِيرِينَ وَتَبِعُوهُ. 16 وَأَمَّا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ فَلَمَّا رَأَوْهُ يَأْكُلُ مَعَ الْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ، قَالُوا لِتَلاَمِيذِهِ:«مَا بَالُهُ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ مَعَ الْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ؟» 17 فَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ قَالَ لَهُمْ:«لاَ يَحْتَاجُ الأَصِحَّاءُ إِلَى طَبِيبٍ بَلِ الْمَرْضَى. لَمْ آتِ لأَدْعُوَ أَبْرَارًا بَلْ خُطَاةً إِلَى التَّوْبَةِ».” (مرقس2: 13-17، متى9: 9-13، لوقا5: 27-32).

يتحدث هذا المقطع عن دعوة العشار لاوي إلى العمل الرسولي. لا يبغي الإنجيلي هنا، من خلال دعوة تلميذ خامس، أن يستمر على نفس الأسلوب الذي استخدمه في روايته 1: 16-20 عن دعوة التلاميذ الأربعة الأول. فهو لا يذكر شيئاً عن طريقة دعوة التلاميذ الباقين. إنما يريد فقط أن يعطينا مثالاً عن طاعة أحد العشارين لدعوة يسوع.

في إحدى المخطوطات يُدعى العشار المذكور يعقوب (ربما لعلم أنه كان ابن حلفى، أنظر3: 18). أما عند متى 9: 9 فيدعى متى. وفي بعض الأحيان تميّز الكنيسة في التقليد الليتورجي بين متى ولاوي ولكن، في الحقيقة، الشخص نفسه يحمل اسمين. الكلمة متى تعني هبة الله. ولا نعرف شيئاً آخر من الأناجيل عن هذا التلميذ. يذكر بعض الكتّاب الكنسيين نشاط متى الرسولي في الحبشة.

تم لقاء يسوع مع لاوي في مكان الجباية في كفرناحوم. وجد المكان في تلك المدينة لأنه كان بين مقاطعتي هيرودس انتباس وفيلبس. ما يميّز دعوة التلميذ هو أنه يأتي من طبقة العشّارين المكروهة. سمعتهم سيئة لأنهم كانوا ظالمين، سارقين ومتقلبين إلى حدّ أن الكلمتين “خاطئ” و “عشار” أصبحتا في النهاية مترادفتين. لقد كان المؤمنون بشكل خاص يتجنبونهم، ومنهم الفريسيين، وكانوا يعتقدون أن غضب الله سوف يحلّ عليهم، فلم يكن باستطاعتهم أن يفهموا كيف يمكن أن تظهر محبة الله. يبرهن يسوع، بتصرفه هذا تجاههم، وبتقبل الشركة معهم التي من أجلها وصف بأنه “أكول وشريب خمر محب للعشارين والخطأة” (متى11: 19)، أن محبة الله تتوجه إلى الجميع وخاصة إلى هؤلاء الذين في حاجة أمسّ إليها. استعمل مثلاً شائعاً في ذلك الزمن “لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى” (الآية 17) ليبرّر مثل هذا الموقف كطبيب يتوجّه إلى “المرضى” لا إلى “الأصحاء”، لأن الفريسيين كانوا يعتبرون أنفسهم مقتدرين أصحاء، لكن في الواقع لا يختلفون عن العشارين لأنهم لا يقبلون بدعوة يسوع إلى التوبة. يواجه يسوع هذا المقياس لتمييز البشر بين صالحين وخطأة تبعاً لقبولهم أو إنكارهم للدعوة الإلهية. من يتقبّل كرازة يسوع للتوبة، مهما كانت الفئة التي ينتمي إليه، يصبح ابناً للملكوت. أما من يصرّ على إنكاره فهو ينغلق على نفسه خارج الخلاص الممنوح دون أن يعطّل مسيرة عمل الله الخلاصي الذي تمّ في المسيح.

في هذه الحادثة يمكننا أن نتحقق من مفهوم القداسة في المسيحية بالقياس إلى مفهوم الفريسيين لها. الفريسي يتجنب الاختلاط مع الخطأة حتى لا يتدنّس، فهو ينغلق على نفسه ولا يمكنه هكذا أن يتمم وصية المحبة. هو إذاً مراءٍ لأنه يعتبر نفسه قديساً بينما في الواقع تنقصه المحبة وليس بقديس. حسب إعلان يسوع، القداسة تكمن في معاشرة الخطأة بهدف تحوّلهم وتوبتهم وخلاصهم. لا تخشى القداسة الشرّ بل تسعى إلى تحويله وتغيير شكله.

السؤال عن الصوم:

“18 وَكَانَ تَلاَمِيذُ يُوحَنَّا وَالْفَرِّيسِيِّينَ يَصُومُونَ، فَجَاءُوا وَقَالُوا لَهُ:«لِمَاذَا يَصُومُ تَلاَمِيذُ يُوحَنَّا وَالْفَرِّيسِيِّينَ، وَأَمَّا تَلاَمِيذُكَ فَلاَ يَصُومُونَ؟» 19 فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ:«هَلْ يَسْتَطِيعُ بَنُو الْعُرْسِ أَنْ يَصُومُوا وَالْعَرِيسُ مَعَهُمْ؟ مَا دَامَ الْعَرِيسُ مَعَهُمْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَصُومُوا. 20 وَلكِنْ سَتَأْتِي أَيَّامٌ حِينَ يُرْفَعُ الْعَرِيسُ عَنْهُمْ، فَحِينَئِذٍ يَصُومُونَ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ. 21 لَيْسَ أَحَدٌ يَخِيطُ رُقْعَةً مِنْ قِطْعَةٍ جَدِيدَةٍ عَلَى ثَوْبٍ عَتِيق، وَإِلاَّ فَالْمِلْءُ الْجَدِيدُ يَأْخُذُ مِنَ الْعَتِيقِ فَيَصِيرُ الْخَرْقُ أَرْدَأَ. 22 وَلَيْسَ أَحَدٌ يَجْعَلُ خَمْرًا جَدِيدَةً فِي زِقَاق عَتِيقَةٍ، لِئَلاَّ تَشُقَّ الْخَمْرُ الْجَدِيدَةُ الزِّقَاقَ، فَالْخَمْرُ تَنْصَبُّ وَالزِّقَاقُ تَتْلَفُ. بَلْ يَجْعَلُونَ خَمْرًا جَدِيدَةً فِي زِقَاق جَدِيدَةٍ».” (مرقس2: 18-22، متى9: 14-17، لوقا5: 33-39).

يُسأل يسوع (ولا يقال من هو السائل) لماذا لا يصوم تلاميذه كما يفعل تلاميذ يوحنا والفريسيين (الآية 18). فيجيبهم مفسراً: أنهم لا يصومون لأن “العريس” (1) معهم. أي أنه يربط الصوم بغياب العريس. إن “بني العرس” المدعوّين إليه لا يمكن أن يصوموا. سيأتي أوان “يخطف” عنهم العريس حينئذ يصومون “في تلك الأيام” (الآيتان 19-20). للصوم إذاً طابع حزن، والصوم تعبير عن توبة الإنسان أمام الله، لذلك لا ينسجم مع الطابع الاحتفالي لحضور المسيّا على الأرض. إن وصف المسيّا بالعريس غير معروف في اليهودية، بينما يُستعمل هكذا في العهد الجديد (أنظر مثل العذارى العشر، ورؤيا يوحنا وغيرها). يمكننا أولاً أن نذكر في العهد القديم وصف الأنبياء لعلاقة الزواج بين الله والشعب الإسرائيلي (أنظر هوشع 1-3، حزقيال 16: 7… و 23:” 4، أشعيا 50: 1، 54: 4 …)، وكذلك نظرة الربانيين إلى زمن الشريعة في سيناء كزمن عربون وإلى زمن المسيّا كزمن زواج.

بعبارته “فحينئذ يصومون في تلك الأيام”، يعتقد بعض المفسرين أن يسوع يشير على يوم الصلب، ويرى كثيرون من آباء الكنيسة في هذه الجملة مصدراً لنظام الصوم نهار الجمعة أو في اليوم الذي صُلب فيه يسوع. في الواقع تُذكّر أيام الصوم المحددة من قبل الكنيسة بآلام المسيح.

طبعاً في اليهودية كان الصوم تعبيراً عن الحزن والانسحاق. فإلى جانب أيام الصوم المحدّدة لكل الشعب، مثلاً يوم التكفير وأيام الحزن أو فترات الصعوبة الطارئة (الجفاف، هجوم الجراد، خطر آخر)، كانت هناك أيضاً أصوام خصوصية يفرضها الواحد على نفسه لفترة ما حتى يستجيب الله لطلبه أو لأسباب أخرى. ونعلم أن في أوساط الفريسيين يصومون مرتين في الأسبوع.

في المسيحية وُضع نظام الصوم على أسس جديدة. ليس هو مجرد “رقعة” جديدة موضوعة على ثوب عتيق، ولا خمرة جديدة مسكوبة في زقاق قديمة، بل هو يفترض تحوّل الإنسان بكامله، هذا التحول الذي يتم بالصليب وبقيامة المسيح. هذا هو معنى الآيات اللاحقة 21-22: فيما تشكّل اليهودية تعبيراً عما هو قديم فإن المسيحية تحمل الجديد. لا يمكن للجديد أن يقترن بالقديم “كرقعة” تخاط على ثوب عتيق أو كخمر جديدة توضع في زقاق قديمة، بل تفترض وجود زقاق جديدة وقوية. إن تعليم يسوع الذي هو “تعليم جديد كمن له سلطان” هو مختلف بالكلّية عن التعليم اليهودي القديم وعن المظاهر اليهودية القديمة. إنه جديد ويتطلب أشكالاً تعبيرية جديدة. ولقد ساد الصوم في الكنيسة المسيحية استناداً إلى مبدأ جديد كلي، إلى تفسير جديد: الصوم يذكر بآلام المسيح. إن الوضع الجديد الذي دخل العالم بواسطة يسوع لا يرتبط بالمفاهيم الدينية القديمة، لا يقبل مثلاً بتمييز الناس إلى خطأة وصدّيقيين استناداً إلى حفظ الناموس، لا يقبل بالأشكال الدينية العتيقة، لا يعترف ببطالة السبت بالمعنى السائد عند اليهود كما يظهر من المقطع التالي.

المعنى الحقيقي للسبت:

“23 وَاجْتَازَ فِي السَّبْتِ بَيْنَ الزُّرُوعِ، فَابْتَدَأَ تَلاَمِيذُهُ يَقْطِفُونَ السَّنَابِلَ وَهُمْ سَائِرُونَ. 24 فَقَالَ لَهُ الْفَرِّيسِيُّونَ:«انْظُرْ! لِمَاذَا يَفْعَلُونَ فِي السَّبْتِ مَا لاَ يَحِلُّ؟» 25 فَقَالَ لَهُمْ:«أَمَا قَرَأْتُمْ قَطُّ مَا فَعَلَهُ دَاوُدُ حِينَ احْتَاجَ وَجَاعَ هُوَ وَالَّذِينَ مَعَهُ؟ 26 كَيْفَ دَخَلَ بَيْتَ اللهِ فِي أَيَّامِ أَبِيَأَثَارَ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ، وَأَكَلَ خُبْزَ التَّقْدِمَةِ الَّذِي لاَ يَحِلُّ أَكْلُهُ إِلاَّ لِلْكَهَنَةِ، وَأَعْطَى الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ أَيْضًا». 27 ثُمَّ قَالَ لَهُمُ:«السَّبْتُ إِنَّمَا جُعِلَ لأَجْلِ الإِنْسَانِ، لاَ الإِنْسَانُ لأَجْلِ السَّبْتِ. 28 إِذًا ابْنُ الإِنْسَانِ هُوَ رَبُّ السَّبْتِ أَيْضًا».” (مرقس 2: 23-28، متى 12: 1-8، لوقا 6: 1-5).

تظهر حرية التعليم الجديد بالنسبة إلى التعليم القديم من خلال موقف يسوع من قضية السبت. فيما يلي حادثتان :

أولاً: سير يسوع مع تلاميذه بين الزروع (مرقس 2: 23-28).

ثانياً: شفاء الذي كانت يده مشلولة (مرقس 3: 1-6).

أولاً: اجتاز يسوع مع تلاميذه حقلاً في يوم سبت. فأخذ هؤلاء يقطفون سنابل (لأنهم كانوا جائعين كما يشرح متى). اعتبر الفريسيّون هذا العمل إلغاء لعطلة السبت. إن هذا العمل (المسموح به حسب تثنية 23: 26) يُعتبر من بين الممارسات الممنوعة يوم السبت. يعرف الفرّيسيون ذلك، ولذلك يدفعون يسوع إلى المناقشة حول الموضوع. هل اعترض الفريسيون أيضاً على مخالفة المسافة المسموح باجتيازها نهار السبت؟ هذا لم يُذكر في النص.

يجيب يسوع عن انتقادات الفريسيين بأسئلة (“أما قرأتم قط ما فعله داوود”…) مستشهداً بالحادثة الواردة في سفر الملوك الأول 21: 1-7 حين وُجد داود في حاجة مع الذين معه فطلب من رئيس الكهنة أبيملك (وهو والد ابيتار المذكور عند مرقس فقط) أرغفة التقدمة المقدسة، التي هي 12 حسب وصية اللاويين 24: 5-9، تُحفظ لمدة أسبوع في مسكن الشهادة ويأكلها الكهنة. وحسب تقليد الربّانيين تحصل هذه العملية نهار السبت. فيأتي يسوع لينسب إلى نفسه وإلى تلاميذه هذه الحرية التي سمح بها داود، ويبرّر هذه الحرية قائلاً بحسب إنجيل متى: إن ههنا أعظم من الهيكل”. إن كان الكهنة يأكلون خبز التقدمة وهم “أبرياء”، فكم بالأحرى المسيّح، وهو “بريء”، هو بحسب النظرة اليهودية الأخروية ربّ الهيكل؟!

تنتهي المناقشة بجملتين تشكلان محور الحادثة كلّها: الجملة الأولى: “السبت إنما جُعل لأجل الإنسان لا الإنسان لأجل السبت”، يذكرها مرقس وحده. أما الجملة الثانية “ابن الإنسان هو ربّ السبت أيضاً” فهي مذكورة أيضاً في الإنجيلين الإزائيين الآخرين. تشدّد هذه الجملة على سيادة المسيّا على السبت وبالتالي سيادة كل من تبعه.

{ثانياً: يتبع في الإصحاح التالي… (الشبكة)}


(1) باليوناني nymphios العريس أو الخَتَنْ …..

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
arArabic
انتقل إلى أعلى