Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

أمثال الملكوت: معلومات عامة عن الأمثال:

في الفصل الرابع يعطي الإنجيلي مرقس ثلاثة أمثال وبعض الأقوال بمثابة أمثال كلّها تتعلّق بملكوت الله. تشكّل الأمثال ثلث تعاليم يسوع المدوّنة في الأناجيل الإزائية. هنا يُطرح السؤال: لماذا فضل يسوع تعليم الشعب بواسطة الأمثال؟ قبل أن نبدأ بتفسير المثل الأول الذي يرد في الفصل الرابع، سنحاول أولاً الإجابة عن هذا السؤال وتحليل ما جاء في الآيات 10-12 حيث يوضح يسوع معنى الأمثال استجابة لسؤال التلاميذ.

“10 وَلَمَّا كَانَ وَحْدَهُ سَأَلَهُ الَّذِينَ حَوْلَهُ مَعَ الاثْنَيْ عَشَرَ عَنِ الْمَثَلِ، 11 فَقَالَ لَهُمْ:«قَدْ أُعْطِيَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا سِرَّ مَلَكُوتِ اللهِ. وَأَمَّا الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَارِجٍ فَبِالأَمْثَالِ يَكُونُ لَهُمْ كُلُّ شَيْءٍ، 12 لِكَيْ يُبْصِرُوا مُبْصِرِينَ وَلاَ يَنْظُرُوا، وَيَسْمَعُوا سَامِعِينَ وَلاَ يَفْهَمُوا، لِئَلاَّ يَرْجِعُوا فَتُغْفَرَ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ».” (مرقس 4: 10-12، متى 13: 10-15، لوقا 8: 9-10).

عادة تُعطى الأجوبة التالية:

1 – تشكّل الأمثال وسيلة معروفة في زمن يسوع، وهي مستعملة كثيراً عند الربّانيين. لذا يتبع يسوع طريقة تعليم كانت معروفة آنذاك، ولكنه يعطي هذا التعليم مضموناً جديداً.

2 – يعتبر يسوع الأمثال، التي يستمدها من الحياة اليومية، سبيلاً جيداً لإفهام الشعب كرازته. من المعروف أن الصور تترك أثراً أبقى في الذاكرة وتُدرك بسهولة أكثر من المعاني المجرّدة. ويلاحظ القديس يوحنا الذهبي الفم أن يسوع “يتكلم بالأمثال لكي يبرز كلامه أكثر ويثبت الأفكار بإشراك الذاكرة والنظر. هكذا يفعل أيضاً الأنبياء”

3 – كان يسوع يتوقع أن تدخل الأمثال مباشرة إلى أذهان السامعين بدون جهد خاص يبذلونه. لكن ما حصل، حسب رواية الإنجيليين، هو العكس: لم يفهم “الذين حوله مع الاثني عشر” (مرقس 4: 10). مثل الزارع، بل سألوا يسوع مباشرة عن معناه فأجابهم: “قد أُعطيَ لكم أن تعرفوا سرّ ملكوت الله. وأمّا الذين هم في خارج فبالأمثال يكون لهم كل شيء…” (مرقس 4: 12). من هذا الكلام نستنتج أن الأمثال تكشف من جهة التلاميذ عن سرّ ملكوت الله، وفي الوقت نفسه تخفيه عمن هم في خارج صحابة يسوع. ترتبط هذه الملاحظة بما يدعى “سرية المسيّا”، لا بمعنى نظرية W. Wrede التي تقول كما ذكرنا سابقاً أن الكنيسة المسيحية كانت تؤمن بمسيانية يسوع بينما هو لم يكن يعي مسيانيته، بل بمعنى أن يسوع اتخذ موقفاً تربوياً متحفظاً أمام سامعيه. إن المسيّا يعمل ويعلم “كمن له سلطان”، وفي الوقت ذاته يتجنب الاعتراف العلني به من قبل الجمع. يكشف تدريجياً عن ملكوت الله بواسطة الأمثال، وأيضاً يخفيه عن طريق الأمثال نفسها، حتى يتجنب التفاسير الخاطئة إمّا من قبل الذين لديهم مفاهيم غامضة حول المسيّا والملكوت، وإمّا من قبل الرومان الذين يفهمون كلمة ملكوت بطريقة أخرى. إن مجابهة المفاهيم الخاطئة السائدة وجهاً لوجه لن تكون لها النتيجة المرجوّة. يتكلم إذاً “بالأمثال” بطريقة تستدعي اهتمام السامعين وتكشف بالتالي معناها لعدد محصور منهم. يشبّه الأستاذ Tremblelas، بصورة موفّقة، الأمثال بعمود الغمام الذي كان يرافق الشعب الإسرائيلي والذي كان يسدل جانبه المظلم نحو المصريين بينما كان ينير إسرائيل من الجانب الآخر (1).

تنير الأمثال “سرّ الملكوت” للتلاميذ، بينما تظلله للذين لا يهتمّون به أو للذين يعادونه. هكذا فإن إخفاء السرّ لا يبقى إخفاءً دائماً بل إلى حين ليثير اهتمام السامع. يلاحظ القديس يوحنا الذهبي الفم قائلاً: “إن المثل يفصل بين المستحق وغير المستحق. لأن المستحق يفتّش عن معنى الأقوال التي سمعها بينما غير المستحق يهملها… يكفي إذاً أن يُطلب تفسير الأمثال عندما يبدو معناها خفياً. من أجل ذلك استخدمها المسيح وتكلّم بالأمثال منهضاً الساقطين وموقظاً النائمين إلى رغبة الاستماع إليه، ومع ذلك لم يصغوا كلهم إليها. بينما استرعت انتباه التلاميذ… فأخذهم الرب جانباً لكي يشرح لهم الأمثال”.

يُستعلن سرّ الملكوت للذين يهتمون به كما فعل التلاميذ عندما طلبوا تفسيره. فإنه يتحقق عبر صعوبات كثيرة يجب أن لا تحطّ من عزيمتهم أو أن تسبب ميولاً حماسية لتثبيت الملكوت بصورة نهائية، هل العمل الذي هو من شأن الله. هذا أيضاً لأن هناك نزاعاً بين تدشين الملكوت التاريخي في الحاضر واستكماله في المستقبل.

إن التعبير “سر الملكوت” أو “أسرار الملكوت” في المؤلفات اليهودية وكذلك في مخطوطات مجموعة قمران الأسّانية يدلّ على برامج الله ومشيئاته التي تختص بالأيام الأخيرة. مشيئاته غير معروفة عند الكثيرين، لكنها مستعلنة من الله لمختاريه. في العهد الجديد يرتبط السرّ بشخص يسوع المسيح. معرفة ذلك السرّ تعني الاعتراف بيسوع كمسيّا، وبأن في المسيح يبدأ تحقيق ملكوت الله. ويلاحظ المفسّر Lohmeyer عن حق، من أقوال يسوع وبقلم الإنجيليين، أن “معنى السرّ خرج عن نطاق الأحلام الرؤيوية ليسلك سبيل الأحداث التاريخية العسير”.

أخيراً الكلمة “لئلا” في الآية 12، المأخوذة من أشعيا 6: 10، لا تعني التهديد بل العودة المرغوب فيها للسامعين غير المبالين بكرازة يسوع، بحيث يحصلون على غفران خطاياهم. وهذا ما نجده ليس فقط عن مفسّرين حديثين بل أيضاً عند مفسّري الكنيسة القدماء. وفي هذا الصدد يكتب القديس يوحنا الذهبي الفم: “ويقول ذلك وهو يجذبهم ويحثهم ويبين لهم أنه عند عودتهم سوف يشفيهم… يُظهر أن العودة ممكنة، وأن التوبة تجلب الخلاص، وأنه لا يتصرف لمجد نفسه بل لخلاصهم يصنع كل شيء. لو لم يُرد أن يسمعوا ويخلصوا لكان صمت ولم يتكلم بالأمثال. وبتكلّمه بأقوال خفيّة (بالأمثال) يحضّهم على السمع والتوبة”.

مما سبق نستنتج أن هدف تعليم يسوع بالأمثال هو من جهة إعلان سرّ ملكوت الله في الكنيسة للتلاميذ، ذلك الملكوت المحقَّق والمنتظر في آن واحد، ومن جهة أخرى إخفاء ذلك السر مرحلياً، بكلمات مخفية عن الذين هم في الخارج، بطريقة تجلب اهتمامهم حتى يتقبلوا بتوبة كرازة الملكوت.

إن الأمثال التي يقدّمها الإنجيليون ترتبط بطريقة مباشرة بشخص يسوع المتفوّه بها. وهي تدخلنا إلى قلب كرازته حول ملكوت الله. بها تنكسر كرازة يسوع كما بمنشور (prisme) لتكشف لنا عن جوانب مميزة لسرّ الملكوت الحاضر والعامل في العالم، وكذلك، وفي الوقت نفسه، الملكوت المنتظر بكماله في المستقبل.

في تاريخ اللاهوت المسيحي، استعملت أحياناً بتطرّف الطريقة الرمزية لتفسير الأمثال، مما أدى إلى حجب معناها الحقيقي. هذا يعود إلى رغبة المفسّرين في الغوص أكثر وراء كل نقطة تفصيلية في رواية المثل. ومما ساعد في هذا النهج أن التفسير الرمزي للأساطير القديمة كان شائعاً في العالم اليوناني، كما كانت طريقة التفسير الرمزية قد خلقت مدرسة في العالم اليهودي الهلّيني (فيلون). إن نتيجة طريقة تحليل الأمثال الرمزية أدّت إلى عدد كبير من التفاسير المتعلقة بنواحٍ تفصيلية من المثل. هذا مع العلم أن التشبيه الرمزي (metaphore) يختلف عن المثل (parabole). لأن كل نقطة تفصيلية في التشبيه الرمزي تعني حقيقة أخرى غير مذكورة بصورة واضحة في الرواية، بينما يوجد في المثل معنى رئيسي يوجِّه كل الرواية، ولا تشكل التفاصيل إلا إطاراً للوحة بكاملها. يلاحظ القديس يوحنا الذهبي الفم “من غير الضروري أن نحلّل كل كلمة واردة في الأمثال، بل عندما نتعرف إلى الهدف الذي من أجله أُعطيَ المثل، نكون قد وصلنا إلى مبتغانا، ولا حاجة بنا للتوسّع أكثر من ذلك”.

إلى جانب ذلك يجب أن نلاحظ أن بعض الأمثال في الأناجيل فيها عناصر رمزية. وفي العصر الحديث (نهاية القرن التاسع عشر) كان A. Jülicher أوّل مفسّر اهتم علمياً بأمثال العهد الجديد، وهو الذي وقف ضدّ التفسير الرمزي مشدداً على أن كل مثل يحتوي على معنى رئيسي واحد وعلى حقيقة أخلاقية عامة واحدة. جاء بعده المفسّران J. Jeremias وC.H. Dodd اللذان اهتمّا بالأمثال الإنجيلية، وتشكل أعمالهما محطة هامة في تاريخ تفسير الأمثال. فقد درسا كلاهما الأمثال الإنجيلية واضعين إياها ضمن نطاق نشاط يسوع التبشيري كعمل أخير لله افتقد بواسطته شعبه وخلّصه. انطلقت التفاسير التالية من هذا الخط، وذلك بالارتباط مع طريقة الأشكال التاريخية (Formgeschichte).

إن موضوع الأمثال الإنجيلية الرئيسي هو، استناداً لما سبق، ملكوت الله كتدخل الله المقرر في التاريخ وذلك في شخص المسيح. هدفه خلاص البشر ودعوتهم إلى التوبة حتى يصيروا أبناء الملكوت. وفي أمثال أخرى يُنتظر الملكوت كحدث مستقبلي، ويُدفع المسيحي أن يسهر بصورة مستمرة من أجل إقتباله. وحري بنا القول أن كل مثل يُظهر جانباً مميزاً لسرّ ملكوت الله ويشدّد عليه. هكذا مثلاً في بعض الأمثال يشدّد على مجيء الملكوت بصورة مفاجئة وعلى الحاجة إلى السهر من قبل الناس، على الحركية الكامنة في الملكوت، ميزة الملكوت الفريدة والوحيدة، حتى أن الإنسان يترك كل شيء لكي يحصل عليها. وفي أمثال أخرى يشدّد على ضرورة التوبة وعلى عدم ارتباط النعمة ومحبة الله بأعمال الإنسان، وأيضاً على أن محبة كل إنسان لقريبه انعكاس لمحبة الله له، المحبة كأساس الدينونة الأخيرة إلخ. يمكننا القول أن كرازة يسوع بالملكوت تنكسر كما بمنشور (prisme) وتقدّم لنا عبر كل مثل لوناً من ألوانه الممّيزة، ومجموعة الألوان والصور تشكّل السرّ بأكمله، سرّ ملكوت الله الحاضر في المسيح وفي الكنيسة كما في الوقت نفسه المنتظر بملئه في الأيام الأخيرة.

مراجع عن الأمثال:

  • A. Jülicher، Die Gleichnisreden Jesu،Tome 1: 1888; Tome 2: 1910.

  • C. H. Dodd، The Parables of the Kingdom، London، 1935.

  • J. Jeremias، Die Gleichnisse Jesu، Göttingen، 1947; 7th edit. 1965.

  • L. Karavidopoulos، Ai Parabolai tou Izsou، Thessaloniki، 1970.

مثل الزارع:

“1 وَابْتَدَأَ أَيْضًا يُعَلِّمُ عِنْدَ الْبَحْرِ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ جَمْعٌ كَثِيرٌ حَتَّى إِنَّهُ دَخَلَ السَّفِينَةَ وَجَلَسَ عَلَى الْبَحْرِ، وَالْجَمْعُ كُلُّهُ كَانَ عِنْدَ الْبَحْرِ عَلَى الأَرْضِ. 2 فَكَانَ يُعَلِّمُهُمْ كَثِيرًا بِأَمْثَال. وَقَالَ لَهُمْ فِي تَعْلِيمِهِ: «اسْمَعُوا! هُوَذَا الزَّارِعُ قَدْ خَرَجَ لِيَزْرَعَ، 4 وَفِيمَا هُوَ يَزْرَعُ سَقَطَ بَعْضٌ عَلَى الطَّرِيقِ، فَجَاءَتْ طُيُورُ السَّمَاءِ وَأَكَلَتْهُ. 5 وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى مَكَانٍ مُحْجِرٍ، حَيْثُ لَمْ تَكُنْ لَهُ تُرْبَةٌ كَثِيرَةٌ، فَنَبَتَ حَالاً إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُمْقُ أَرْضٍ. 6 وَلكِنْ لَمَّا أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ احْتَرَقَ، وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ جَفَّ. 7 وَسَقَطَ آخَرُ فِي الشَّوْكِ، فَطَلَعَ الشَّوْكُ وَخَنَقَهُ فَلَمْ يُعْطِ ثَمَرًا. 8 وَسَقَطَ آخَرُ فِي الأَرْضِ الْجَيِّدَةِ، فَأَعْطَى ثَمَرًا يَصْعَدُ وَيَنْمُو، فَأَتَى وَاحِدٌ بِثَلاَثِينَ وَآخَرُ بِسِتِّينَ وَآخَرُ بِمِئَةٍ». 9 ثُمَّ قَالَ لَهُمْ:«مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ، فَلْيَسْمَعْ»”. (مرقس 4: 1-9، متى 13: 3-9، لوقا 8: 4-8).

يرد مثل الزارع في الأناجيل الإزائية الثلاثة. وهو أوّل الأمثال وأكبرها، مما يدلّ على أنه كان يحتل مكانة مهمة في ضمير الكنيسة الأولى وكرازتها. يؤكد ذلك التفسير الذي يلي المثل والموجّه إلى التلاميذ الذين سألوا عن معناه.

إن هذا المثل، ككثير غيره من الأمثال التي قالها يسوع، مأخوذ من ظروف حياة فلسطين الزراعية المعروفة لدى السامعين. من أجل أن نفهم أكثر بعض تفاصيل صورة مثلنا هذا، يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن الزرع يسبق الفلاحة.

تزرع مساحة الحقل كلّها مع كل عدم استواءاته (أرض صخرية، أشواك، ممرّات إلخ.)، وبالتالي تتبع الفلاحة. هكذا يفسر كيف أن جزءاً من الزرع المبذور يضيع ولا يعطي ثمراً.

توحي رواية المثل بأن ثلاثة أرباع عمل الزارع يلقى أرضاً غير مثمرة بينما الربع فقط يصادف “أرضاً جيّدة”، مع العلم إنه لم تحدَّد ضرورة اتساع رقعة الأرض الجيّدة بالنسبة إلى الأرض المجدبة. على كل حال تصف معظم آيات المثل فشل الزرع. وفي الوقت نفسه علينا أن نلاحظ أن ثمار الأرض الجيّدة لا تأتي في كل السنوات على نفس المستوى من الخصب، لأن النتاج يتفاوت ويبلغ القمة كل ثلاث أو أربع سنوات. يؤكد آباء الكنيسة بصورة خاصة على التدرّج في خصب ثمار الأرض الطيّبة إلى حدّ يعطي الانطباع بأن محور المثل يدور حول السنة المخصبة لا سنوات القحط.

بعد هذه الملاحظات يُطرح السؤال التالي: ما هو معنى أو هدف المثل الرئيسي؟ يريد يسوع، عن طريق هذا المثل، أن يعلّم أن كرازة الإنجيل لا بدّ أن تلقى العثرات والفشل، وهكذا يهيئ تلاميذه بصورة مناسبة لكي لا ييأسوا من الفشل بل أن يتابعوا عملهم بإيمان وصبر. وهنالك ناحية أخرى يلفتنا إليها المثل وهي التذكير بالثمار الأخيرة للأرض الجيّدة والتي تفوق كل توقع سابق وكل قياس بشري.

إن الفكرتين السابقتين موجودتان في المثل. لكن ما يريد يسوع أن يعلّمه بصورة رئيسية هو التالي: أن نجاح كرازته، وبالتالي كرازة الكنيسة، يتعلق في النهاية باستعداد السامعين وتجاوبهم. إن كلام الإنجيل لا يثمر دائماً، فهذا يعود إلى نفوس الناس التي لا تشكّل كلّها “أرضاً جيدة”. لا يعود فشل الكرازة الجزئي (وليس الكلي) إلى ضعف الزرع أو إلى ضعف نشاط الزارع بل إلى نوعية الأراضي التي يُلقى فيها الزرع.

من جهة ثانية تدلّ عبارة الآية 9، “من له أذنان للسمع فليسمع”، على أن كلام يسوع يخفي في العمق معنى سرّياً: إن إثمار الزرع في نفوس الناس هو سرّ. هو يفترض صليب المسيح وقيامته، وطبعاً خبرة الصليب والقيامة عند الناس.

يتبنى آباء الكنيسة هذا التفسير (على مثال القديس يوحنا الذهبي الفم، ثيوفيلكتوس إلخ)، ويمكن أن نستنتجه من التفسير الذي يعطيه يسوع لتلاميذه (الآيات 13-20). في الواقع لا يوضح يسوع من هو الزارع ومتى يحصل الحصاد. يقول فقط “إن الزرع هو كلمة الله”، وبعدها يعطي شرحاً موسّعاً بعبارات عن الفئات الأربع للسامعين كلام الله.

إن سبب عدم إثمار الفئات هو: أ- الشيطان، ب- الاضطهادات والشدائد، ج- الاهتمام بالغنى وملذّات العيش. الى الحالة الأولى ينتمي، حسب ثيوفيلكتوس، الذين “لا ينتبهون”، إلى الثانية “صغيرو النفس” وإلى الثالثة “المتنعمون” طبعاً إلى جانب الفئات الثلاث التي يضعها يسوع، إن في المثل أو في تفسيره، يمكن ان نُلحق بها أنواعاً اخرى من الناس الذين لا يثمرون وفقاً لظروفهم.

إن النتائج التي تفوق كل توقع سابق به، و”آخر بمئة” والتي تصدر عن الذين يكونون الأرض الجيدة، تدل على أن عمل زارع كلمة الله يجب أن لا يتوقف من جرّاء فشل الحالات الأولى بل عليه ان يتابع توقعاً لأثمار الأرض الجيدة المنتظرة.

إن هذا المثل، الذي يتكلم عن عمل يسوع كزارع أول لكلمة الله، وبالتالي عن عمل التلاميذ الذين سوف يتابعوا عمله، يحتل عن حق مكانة خاصة في حياة الكنيسة الليتورجية. انه يقرأ في بداية السنة الكنسية رامزاً الى عمل الزرع الذي تقوم به الكنيسة بواسطة عمّالها، مؤكداَ على طلب الاثمار من قبل المسيحيين.

أقوال بمثابة أمثال عن السراج وعن الكيل وغيرها:

” ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: «هَلْ يُؤْتَى بِسِرَاجٍ لِيُوضَعَ تَحْتَ الْمِكْيَالِ أَوْ تَحْتَ السَّرِيرِ؟ أَلَيْسَ لِيُوضَعَ عَلَى الْمَنَارَةِ؟ لأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ خَفِيٌّ لاَ يُظْهَرُ وَلاَ صَارَ مَكْتُوماً إلاَّ لِيُعْلَنَ. إِنْ كَانَ لأَحَدٍ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ!» وَقَالَ لَهُمُ: «انْظُرُوا مَا تَسْمَعُونَ! بِالْكَيْلِ الَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ وَيُزَادُ لَكُمْ أَيُّهَا السَّامِعُونَ. لأَنَّ مَنْ لَهُ سَيُعْطَى وَأَمَّا مَنْ لَيْسَ لَهُ فَالَّذِي عِنْدَهُ سَيُؤْخَذُ مِنْهُ». (مرقس 4: 21-25).

هذه الأقوال موجودة في أماكن مختلفة في الأناجيل الازائية (انظر من 10: 26، 13: 12، 7: 2، 25: 29، لوقا 6: 38، 12: 1، 19: 26) فقط عند لوقا 8: 17- 18، حيث يتبع الإنجيل ترتيب مرقس، نجد الأقوال الواردة في الآيات 22- 25. وبصورة عامة تسود وجهة النظر القائلة ان هذا المقطع يشكل وحدة من الأقوال ألفها مرقس في البداية وحده. ولذلك نجدها متفرقة لدى الإنجيليين الآخرين.

لندرس أولاً الكلام حول “السراج” . يرد هذا الكلام أيضاً في متى 5: 15 حيث يتوجه يسوع الى تلاميذه (هؤلاء هم ملح الأرض، نور العالم، المدينة الموجودة على جبل، السراح الذي يضيء للجميع) كما يرد هذا الكلام عن السراج عند لوقا مرتين : في لوقا 8: 16 مباشرة بعد تفسير مثل الزارع (كما عند مرقس) وفي لوقا 11: 33 حيث يتضح انه يشير الى عمل يسوع وسط جيل شرير يطلب آيات. ان الفحص الدقيق لهذه المقاطع الأربعة التي تتكلم عن السراج عند الإنجيليين يجعلنا نستنتج ما يلي: يشير هذا الكلام في الاصل الى عمل يسوع المسياني (لوقا 11: 33) وبالتالي الى “السراج” بصورة مميزة للكرازة عن الملكوت، ولكلام الله (كما في مقطع مرقس ومقطع لوقا 8: 16) وأخيراً للكارزين بكلام الله، التلاميذ، أبناء الملكوت (متى 5 : 15).

لم يوجد السراج لكي يوضع تحت المكيال بل على المنارة لكي ينير. ماذا تعني بالضبط صورة السراج المضاء والموضوع تحت المكيال أو الذي (يغطيه إناء) (لوقا 8: 16)؟ كثيراً ما تفسّر هذه الصورة بأنها تشير الى اخفاء السّراج حتى لا يصبح نوره ظاهراً للآخرين. لكن دراسة النصوص الربّانية والمعرفة الدقيقة للعادات المحلية في ذلك الزمن تدلان على التفسير التالي الذي تبناه أولاً المفسّر jermias من ثم تبناه كثيرون: إن اطفاء السراج لا يتم بالنفخ الذي يشكل خطراً بسبب الحريق ويخلق جواً خانقاً في البيوت الفلسطينية التي كانت غالباً بدون نوافذ وتتألف من غرفة واحدة. بل يتم اطفاء السراج بوضع اناء بيتي فوقه عادة هو “المكيال” الذي يستخدم لكيل القمح وبالتالي هو متوفر في كل البيوت. إذا يوضع السراج تحت المكيال أو “يغطيه اناء” من أجل اطفائه. ما معنى هذا الكلام إذاً؟

انه يعني ان لا احد يشعل سراجاً لكي يطفئه فور، وهذا التصرف غير معقول، بل يضعه على المنارة. وظيفة السراج المضاء، أي كلام الله والكرازة بالملكوت، هي انارة الجميع.

ترتبط الآية 22 بصورة وثيقة بما سيق بكلمة “لأنه” التي تُبرر هكذا وظيفة السراج في العالم والحاجة اليه، لكي يظهر بالنهاية ما هو خفي وقتياً. يأتي هذا القول أيضاً عند لوقا (8: 17) بالترتيب الذي ورد عند مرقس أي بعد مثل الزارع ومباشرة بعد الحديث عن السراج (“لأنه ليس خفي لا يظهر ولا مكتوم لا يُعلم ويعلن”)، وكذلك عند متى (10: 26) في حديث يسوع لتلاميذه المرسلين الى الكرازة (“لان ليس مكتوم لن يُستعلن ولاخفي لن يُعرف”) هذا القول على ما يبدو، كان مأثوراُ في الأوساط الغنوصية (2) فهو يرد ثلاث مرات في إنجيل توما الغنوصي (القول 5: “قال يسوع لتعرف ما هو امام عينيك ان كان مخفياً سيظهر لأن كل خفي سوف يظهر”؛ القول 6: ” سأله تلاميذه وقالوا : أتريد أن نصوم؟ وكيف نصلي، وكيف تعمل عمل الرحمة، وماذا علينا أن نحفظ عندما نتناول العشاء؟ قال يسوع: لا تكذبوا، وما تكرهونه لا تعملوه. كل ما هو تحت السماء سوف يعلن لأنه ليس من خفي إلا سيظهر ولا من مكتوم إلا سيعلن”؛ القول 108: ” قال يسوع الذي يشرب من فمي يتحد بي وأنا به وكل ما هو خفي يعلن له”).

 “الخفي” في الاية 22 يرتبط بوضوح بسرّ ملكوت الله الذي، وإن كان الوقت الحاضر “يعطى” فقط للتلاميذ، إلا أنه لن يظل مخفياً بل سوف يعلن بواسطة عمل التلاميذ “كأنوار” في العالم. وعلى التلاميذ ألا ييأسوا بسبب العثرات والصدمات التي سوف تعترضهم. هذا ما يشدّد عليه متى (10: 26) . من جهة ثانية، لهذا القول، الوارد في الاية 22، ثقل هام خاصة لكل عمل تدبير الله في العالم ومساهمة التلاميذ فيه. هذا ما يتضح من جملة مرقس: “ان كان لأحد اذنان للسمع فليسمع” (مرقس 4: 23) تشكل هذه الجملة دعوة لأعضاء الكنيسة لكي يتحدوا ويفهموا جيداً كلام الله الى جميع اقاصي المسكونة . أي أن الآيات 21 – 23 تشدّد على عمل الكنيسة البشاري الرسولي. فالكنيسة عندما لا تحيا بالروح الرسولية، تشبه سراجاً بدل أن يُنير العالم يوضع تحت المكيال او تحت السرير.

استناداً الى متى 10: 26 بشكل خاص يفسر آباء الكنيسة كلام الرب في هذه الاية بارتباط برسالة التلاميذ في العالم. فعلى هؤلاء ألا يخافوا بسبب اضطهادهم أو التجديف عليهم لأن فضيلتهم سوف تشرق مع مرور الزمن يقول المفسر ثيوفليكتوس: “بل تشجعوا لأن الحقيقة لن تخفى بل سوف يُظهر الزمن فضيلتكم وشرّ مضطهديكم، لأن ليس من خفي إلا سيعرف، حتى ان الذين يتهمونكم سوف يعترفون بكم”.

تسبق عبارة “وقال لهم” القول الوارد في الاية 24 وتقدّم له. يليها التحذير: “انظروا ما تسمعون”، الذي يهدف إلى جلب انتباه السامعين. ثم يليها مباشرة القول: “بالكيل الذي به تكيلون يكال لكم ويزاد لكم أيها السامعون”. هذا القول متّصل بتعليم الأمثال (4: 10 – 12) وربما جاء مباشرة قبله في الايات 21 – 22. إن الكيل الذي يتكلم عنه هو مقياس اهتمام السامع بكلام الله واتخاذه كسراج مساهماً في اظهار سرّ ملكوت الله الخفي. إن المفسرين ثيوفليكتوس وزيغافنوس يشرحونه عن حق، إذ يقول الأول: “إن كان السامع ينصت بانتباه كثير يعطيه الله افادة كبيرة”. ويقول الثاني: “بالكيل الذي يقاس به الانتباه الى كلام الله، بالكيل نفسه تقاس معرفتنا، وبقدر ما ننتبه بقدر ما تعطى لنا معرفة. مَنْ عنده انتباه يُعطى معرفة. ومن لا يملك سمعاً وانتباهاً يجرّد من بذور المعرفة التي عنده”. إن الإنجيليين الآخرين، في الموعظة على الجبل عند متى، وفي موضع سهل عند لوقا، يقولان القول نفسه عن المكيال (متى 7: 1 -2، لوقا 6: 37 – 38).

ترد الاية 25 “لأن من له سيُعطى…” في أماكن مختلفة عند متى ولوقا، وذلك مرتين، أولاً في سياق شبيه بسياق مرقس (عند لوقا مباشرة بعد قوله عن كل خفي سوف يظهر وعند متى بعد مثل الزارع وتفسيره للتلاميذ وسؤالهم ليسوع لماذا يتكلم بالأمثال)، وثانياً في مثل الوزنات أو الأمناء (متى13: 12، لوقا8: 18، متى25: 29، لوقا19: 26).

ما معنى هذا القول؟ في سياق تعليم الأمثال يفسّر الآباء هذا الكلام بقولهم: إن “من له” يشير إما الى الرغبة، أو الجهاد، أو إلى البحث والانتباه لسماع كلمات يسوع، وإما الى الإيمان. ومن جهة ثانية يربطون الاية 24 بالاية 25. وهنا يكتب القديس يوحنا الذهبي الفم : “يكمن كثير من عدم الوضوح في ما يقال، لكنه يحتوي عدالة لا توصف. لأن كل ما يقال هكذا يكون. الذي عنده الرغبة والجهاد يُعطى هذا الحماس أيضاً من قبل الله وكل شيء آخر. أمّا إذا كان فارغاً منه ولا يفتّش عنه عندئذ لن يعطيه الله إياه. لأنه يقول: الذي له أيضاً يؤخذ منه، ليس لأن الله يأخذه بل لأنه بات غير مستحق لما يملك” ويقول ثيوفليكتوس: “الذي عنده من الجهاد هذا يعطى معرفة ويزاد، والذي ليس عنده جهاد ومعرفة جديرة فالذي عنده يؤخذ منه. لأنه لا يغذيها بالروح وبالأعمال الصالحة” ويقول زيغافنوس: “الذي عنده من الإيمان يُعطى أيضاً معرفة الأسرار بصورة ملموسة”.

و بهذه الطريقة أيضاً يفسر الآباء القديسون القول الذي يرد في مثل الوزنات أو الأمناء: “من له” بأنه هو الذي له سلطة في الكنيسة والذي عنده موهبة الكلام والتعليم أو أية موهبة أخرى. يقول الذهبي الفم: “الذي عنده موهبة الكلام والتعليم لما يفيد الاخرين، ولا يستعمله، فإنه يفقدها. امّا الذي يجتهد في تنميتها فتزداد عنده” ويقول زيغافنوس “لأن كل من عنده جدّ واجتهاد يعطى أجراً وأكثر مما يستحق، والذي ليس عنده من الجد والعمل حتى ما عنده يؤخذ منه لأنه لا يستعمله”.

 مثل الزرع الذي ينمو:

” وَقَالَ: «هَكَذَا مَلَكُوتُ اللَّهِ: كَأَنَّ إِنْسَاناً يُلْقِي الْبِذَارَ عَلَى الأَرْضِ وَيَنَامُ وَيَقُومُ لَيْلاً وَنَهَاراً وَالْبِذَارُ يَطْلُعُ وَيَنْمُو وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ كَيْفَ لأَنَّ الأَرْضَ مِنْ ذَاتِهَا تَأْتِي بِثَمَرٍ. أَوَّلاً نَبَاتاً ثُمَّ سُنْبُلاً ثُمَّ قَمْحاً مَلآنَ فِي السُّنْبُلِ. وَأَمَّا مَتَى أَدْرَكَ الثَّمَرُ فَلِلْوَقْتِ يُرْسِلُ الْمِنْجَلَ لأَنَّ الْحَصَادَ قَدْ حَضَرَ»”. (مرقس 4: 26 – 29).

يشكل هذا المثل إحدى الروايات النادرة التي انفرد مرقس بسردها. يشبه ملكوت الله بعمل زارع صبور يلقي البذار ثم “ينام” و”يقوم” منتظراً زمن الاثمار، ولا يتدخل في تنشيط الزرع لأنه “لا يعلم كيف”. تأتي الثمار في أوانها بالاستقلال عنه. طبعاً هذا لا ينفي الاعمال الزراعية الأساسية التي لا بد منها بل يضع جانباً كل اهتمام من قبل الزارع لكي يسرع يسوع في اعطاء الثمار. ان الجهد الذي يبذل قبل اوانه وعدم صبر الانجيل ان يخرّب عمل الله في العالم. إضافة الى ذلك يدل الموقف على عدم الثقة بالله الذي ألقى البذار في العالم في طريق المسيا.سوف يثمر هذا الزرع في الوقت المناسب، ومحاولات الناس أياً كانت لا تستطيع أن تؤثر لا إيجاباً ولا سلباً في تنشيط الزرع أو تبطيء الإثمار.

إن ملكوت الله الذي وُضع في العالم كزرع، وهو في الوقت الحاضر مخفي في قلوب الناس كما ورد في مرقس 4: 22، سوف يسود من تلقاء ذاته بشكله الكامل. لا بد للإنسان المؤمن أن يمتلك إيماناً لا يتزعزع وثقة كاملة بالله، وأن ينتظر أوان تحقيق مشروعه الخلاصي. لا يأخذ هذا الانتظار طابع الكسل والحياة البطّالة. على الإنسان أن يبذل استطاعته ولكن لا يعتقدنّ أنه بعمله سوف يعجّل في مجيء الملكوت، فذلك من شأن عمل الله.

يتوجه هذا المثل بشكل واضح الى الناس الواثقين بقدراتهم والمؤمنين بأن أعمالهم هي التي سوف تعجّل في مجيء الملكوت. وأفضل مثال لهؤلاء هم (الغيورون) (zilotes) الذين كانوا يريدون عن طريق العنف أن يرفعوا النير الروماني ويفرضوا حكم المسيا. ولا نعلم بالضبط إن كان يسوع في هذا المثل يتوجّه الى مثل هؤلاء كما يزعم بعض المفسّرين. هذه النظرية ممكنة. حينئذ ان تحمل الطابع الايجابي الكامن في المثل. على كل حال لا يهمّنا أن نعرف الى من توجّه المثل أصلاً، بل ما نريده هو الطابع الدائم الذي يحتوي عليه مثل والذي يتوجّه الى الناس في كل العصور.

الخلاصة:

قبل كل شيئ يشدد مثل الزرع الذي ينمو على ان عمل المسّيا الخلاصي الذي بدأ في العالم سوف يصل الى كماله بدون أي شك وبصورة مؤكدة. أمّا من جهة الناس فيُطلب منهم الصبر والإيمان.

 مثل حبة الخردل:

” وَقَالَ: «بِمَاذَا نُشَبِّهُ مَلَكُوتَ اللَّهِ أَوْ بِأَيِّ مَثَلٍ نُمَثِّلُهُ؟ مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مَتَى زُرِعَتْ فِي الأَرْضِ فَهِيَ أَصْغَرُ جَمِيعِ الْبُزُورِ الَّتِي عَلَى الأَرْضِ. وَلَكِنْ مَتَى زُرِعَتْ تَطْلُعُ وَتَصِيرُ أَكْبَرَ جَمِيعِ الْبُقُولِ وَتَصْنَعُ أَغْصَاناً كَبِيرَةً حَتَّى تَسْتَطِيعَ طُيُورُ السَّمَاءِ أَنْ تَتَآوَى تَحْتَ ظِلِّهَا». (مرقس 4: 30 – 33، متى 13: 31- 33، لوقا 13: 18 – 21).

يأتي مثل حبة الخردل عند متى ولوقا قبل مثل الخمير الذي يشبهه. إن صورة الخردل على أنها “أصغر البذور التي على الأرض” ولكن عندما تنمو وتصير شجرة تعطي “أغصاناً كبيرة”، هذه الصورة تبرّر العنوان (أمثال النمو) الذي أطلقه المفسر Dahl على كل الروايات المثلية المشابهة. وفي الواقع يرى تقليد الآباء التفسيري في هذه الصورة نموّ الكرازة بملكوت الله على الأرض وانتشارها. إن القوّة الكامنة في الكرازة بالملكوت هي كبيرة الى حدّ أنها قادرة على تحويل المسكونة بأسرها. حسب القديس يوحنا الذهبي الفم، يعلّم يسوع تلاميذه عن طريق هذا المثل “مرشداً اياهم الى الإيمان ومؤكداً لهم أن الكرازة فيهم تنمو بصورة دائمة … ومع كونهم مرضى وضعفاء إلا أنه بالقوة الكبيرة الكامنة فيهم انتشرت الكرازة الى جميع المسكونة”.

تكشف التفاسير المختلفة التي أعطيت لهذا المثل عن صدى لنظريات كل من المفسّرين فالبعض يشدّد على المرحلة الأخيرة الكاملة القوية التي سوف يصل اليها ملكوت الله الذي يتخذ في الوقت الحاضر مظهراً صغيراً لا أهمية له. والبعض الاخر يستنتج هذه المرحلة الأخيرة لملكوت الله من خلال حقيقته الواقعية الحاضرة داخل العالم. هذا التفسير الأخير هو لـ Dodd الذي يتكلم عن “الأخروية المحقّقة في العالم”. أما التفسير الأول فهو يأتي عند غالبية المفسرين البروتستانت المعاصرين. يستند هؤلاء الى صورة الزرع ونموه كرمز للموت والقيامة، كما يرد في أماكن أخرى من العهد الجديد (يوحنا 12: 24، 1كور 15: 35 ……) وهم يؤكدون على التضاد بين وضع الملكوت الحاضر وسيادته المجيدة في آخر الأيام . ويعتبرون أن هذه المرحلة الأخيرة لا تأتي نتيجة نمو طبيعي بل نتيجة عمل الله العجيب.

إن المفسّرين الأرثوذكسيين القدماء والحديثين وكثيراً من المفسّرين الكاثوليك يتبنون نظرية ملكوت الله التدريجي، ويتكلمون عن انتشاره في كل المسكونة. هذا لا يعني أنهم ينفون أن المرحلة الأخيرة هي من عمل الله، وأنهم ينكرون التضاد الموجود بين حالته الحاضرة وحالته الأخيرة المكتملة. انهم يجدون محور المثل كائناً في فكرة النمو التدريجي وانتشار ملكوت الله في العالم. والتعبير الذي يستعمله الآباء االقديسون المفسّرون، بدون أن يكونوا أتباعاً لنظرية Dodd “الأخروية الملحقة”، يدل على أنهم يعتبرون هذا الحدث الأخير مُحققاً. هكذا مثلاً يقول ثيوفيلكتوس عن كرازة يسوع والرسل أنها زُرعت في الأرض “وانتشرت ونمت حتى طيور السماء، أي كل الذين سَمَوا في أفكارهم ومعرفتهم، يستقرّون عليها. كم من الحكماء تركوا حكمتهم اليونانية وانضموا إلى الكرازة !؟ لقد نمت الكرازة إلى حد كبير وأعطت أغصاناً كبيرة” ويكتب في مكان آخر: “حبة الخردل أي الكرازة المعمولة من الرسل القليلي الخبرة وصلت إلى كل المسكونة”.

تنتهي وحدة الفصل الذي يتكلم عن الأمثال بملاحظة الانجيلي أن يسوع كان يتكلم كثيراً بأمثال (الآية 33)، أي أن الإنجيلي يعرف أن تقليد الكنيسة حول الأمثال هو أوسع وأغنى بكثير مما دوّنه. ومن الاية 34 يميّز بين الدائرة الواسعة للسامعين ودائرة التلاميذ الذين “كان يفسّر لهم على انفراد كل شيء” (انظر تفسير الايات 4: 10 – 12).

 السيادة على قوات الطبيعة:

وَقَالَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَمَّا كَانَ الْمَسَاءُ: «لِنَجْتَزْ إِلَى الْعَبْرِ». فَصَرَفُوا الْجَمْعَ وَأَخَذُوهُ كَمَا كَانَ فِي السَّفِينَةِ. وَكَانَتْ مَعَهُ أَيْضاً سُفُنٌ أُخْرَى صَغِيرَةٌ. فَحَدَثَ نَوْءُ رِيحٍ عَظِيمٌ فَكَانَتِ الأَمْوَاجُ تَضْرِبُ إِلَى السَّفِينَةِ حَتَّى صَارَتْ تَمْتَلِئُ. وَكَانَ هُوَ فِي الْمُؤَخَّرِ عَلَى وِسَادَةٍ نَائِماً. فَأَيْقَظُوهُ وَقَالُوا لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ أَمَا يَهُمُّكَ أَنَّنَا نَهْلِكُ؟» فَقَامَ وَانْتَهَرَ الرِّيحَ وَقَالَ لِلْبَحْرِ: «اسْكُتْ. ابْكَمْ». فَسَكَنَتِ الرِّيحُ وَصَارَ هُدُوءٌ عَظِيمٌ. وَقَالَ لَهُمْ: «مَا بَالُكُمْ خَائِفِينَ هَكَذَا؟ كَيْفَ لاَ إِيمَانَ لَكُمْ؟» فَخَافُوا خَوْفاً عَظِيماً وَقَالُوا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «مَنْ هُوَ هَذَا؟ فَإِنَّ الرِّيحَ أَيْضاً وَالْبَحْرَ يُطِيعَانِهِ!». (مرقس 4: 35- 41، متى 8: 18 و23 – 27، لوقا 8: 22 – 25).

بعد أمثال الملكوت، يورد الإنجيلي بعض عجائب التي تؤكد على سيادته على الطبيعة (مرقس 4: 35- 41)، وعلى الشياطين المتسلّطين على الناس (مرقس 5: 1 – 20) وعلى المرض (مرقس 5: 25- 34) وعلى الموت (مرقس 5: 21 – 24 و35- 43)

تظهر سيادة يسوع على قوّات الطبيعة من خلال الآيات 4: 35- 41 حيث يسكّن الريح العاصفة التي هبّت عند اجتيازه البحيرة، مباشرة بعد التعليم بالأمثال. لقد ارتعد التلاميذ من شدّة العاصفة وعظم الأمواج، فتوجهوا إلى يسوع الذي كان نائماً في مؤخرة المركب. فزجر الرب الريح والبحر بقدرته المسيانية قائلاً “اسكت، ابكم” (الآية 39). لقد أصدر يسوع مثل هذا الأمر أيضاً للشيطان المخفي في مريض كفرناحوم “اخرس واخرج منه” (مرقس 1: 25) علينا ألا نتعحب من هذه المقارنة لأنه، حسب مفاهيم ذلك العصر، كانت تكمن قوّات شيطانية وراء عناصر الطبيعة المهدّدة، خاصة وأن البحر يخرج مثل هذه القوات المعادية لله. لذلك نجد العهد القديم يتكلم كثيراً عن سيادة الله على البحر (انظر أيوب 38: 8، أمثال 8: 29، اشعيا 50: 2، عاموس 5: 8، مزامير 106: 9، 114 :3، 139: 9، 148: 7 …) أما في رؤيا يوحنا (12: 1) فيقول إنه لا يوجد بحر حول أورشليم الجديدة.

يملك يسوع المسيح ابن الله سلطة على القوّات الشيطانية، فهو يأمر عناصر الطبيعة ويهدئها. طبعاً من أجل ذلك ينام في مؤخرة السفينة ويوبّخ التلاميذ الخائفين على ضعف نفوسهم (قلة إيمانهم) : “ما بالكم خائفين هكذا لا إيمان لكم” فاستشعر التلاميذ بالرهبة أمام سلطة معلمهم، وتعجبوا من طاعة الريح والبحر لأمره (الآية 41).

لا يقصد يسوع إظهار قوته لتلاميذه عن طريق هذه العجيبة، بل يقصد تقوية إيمانهم. وهذا هو الفرق بين الرواية الإنجيلية والروايات العجائبية الأخرى التي كانت شائعة في العالم اليوناني القديم بحيث تهدف العجيبة، عن طريق الأعمال الباهرة، إلى إظهار القوّة. أما يسوع فيفترض عادة الإيمان قبل إتمام العجيبة، وفي بعض الأحيان كما في العجيبة التي نحن بصددها يسعى إلى تقوية إيمان تلاميذه.


(1) أنظر تفسيره لإنجيل مرقس ص 74.

(2) الغنوصية حركة فلسفية دينية في القرون الأولى ترتكز على المعرفة (gnosis).

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
arArabic
انتقل إلى أعلى