Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

تجلي يسوع:

2 وَبَعْدَ سِتَّةِ أَيَّامٍ أَخَذَ يَسُوعُ بُطْرُسَ وَيَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا، وَصَعِدَ بِهِمْ إِلَى جَبَل عَال مُنْفَرِدِينَ وَحْدَهُمْ. وَتَغَيَّرَتْ هَيْئَتُهُ قُدَّامَهُمْ، 3 وَصَارَتْ ثِيَابُهُ تَلْمَعُ بَيْضَاءَ جِدًّا كَالثَّلْجِ، لاَ يَقْدِرُ قَصَّارٌ عَلَى الأَرْضِ أَنْ يُبَيِّضَ مِثْلَ ذلِكَ. 4 وَظَهَرَ لَهُمْ إِيلِيَّا مَعَ مُوسَى، وَكَانَا يَتَكَلَّمَانِ مَعَ يَسُوعَ. 5 فَجَعَلَ بُطْرُسُ يَقولُ لِيَسُوعَ:«يَا سَيِّدِي، جَيِّدٌ أَنْ نَكُونَ ههُنَا. فَلْنَصْنَعْ ثَلاَثَ مَظَالَّ: لَكَ وَاحِدَةً، وَلِمُوسَى وَاحِدَةً، وَلإِيلِيَّا وَاحِدَةً». 6 لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ إِذْ كَانُوا مُرْتَعِبِينَ. 7 وَكَانَتْ سَحَابَةٌ تُظَلِّلُهُمْ. فَجَاءَ صَوْتٌ مِنَ السَّحَابَةِ قَائِلاً:«هذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ. لَهُ اسْمَعُوا». 8 فَنَظَرُوا حَوْلَهُمْ بَغْتَةً وَلَمْ يَرَوْا أَحَدًا غَيْرَ يَسُوعَ وَحْدَهُ مَعَهُمْ. (مرقس9: 2-8، متى 17: 1-8، لوقا 9: 28-36). (1)

حصلت حادثة التجلّي “بعد ستة أيام” (الآية 2). أي بعد مرور ستة أيام على اعتراف بطرس، وقد رمى بها يسوع إلى تحضير التلاميذ لتقبل الآلام المزمعة “لكي يفطنوا أن آلامك طوعاً باختيارك، ويكرزوا للعالم أنك أنت بالحقيقة شعاع الآب” (حسب قنداق العيد).

تحصل حادثة التجلي أمام ثلاثة من تلاميذه، بطرس ويعقوب ويوحنا، على “جبل عالٍ” (“جداً” حسب المخطوطة السينائية والترجمات اللاتينية القديمة)، يعتبر التقليد الكنسي أنه جبل ثابور (بينما يفضل المفسّرون الأجانب حرمون لأنه أقرب إلى قيصرية فيلبس).

في الآية 3 يصوّر الإنجيلي التجلّي بطريقة مختصرة ولافتة للنظر، فيقول “صارت ثيابه تلمع بيضاء” (“كالثلج” حسب النص الكنسي للمخطوطة D والترجمات اللاتينية والسريانية)، وبيضاء جداً حتى “لا يقدر قصّار على الأرض أن يبيّض مثل ذلك”. نور ساطع يلف يسوع لا تعرفه خبرة التلاميذ. للحظة، كما يفسّر شميد (J. Schmid)، “يغزو العالم السماوي حياة يسوع الأرضية”.

إن ظهور موسى وإيليا (كممثلين للناموس والأنبياء) وهما يتكلمان مع يسوع (الآية 4) يعني أن العهد القديم بأكمله يقود إلى المسيح ويتنبأ عن الآلام (أنظر لوقا 9: 31 حيث قال أنهما “كانا يتكلمان عن خروجه الذي كان عتيداً أن يكمّله في أورشليم”).

حسب التوقعات اليهودية كانوا ينتظرون ظهور إيليا في الأزمنة المسيانية (ملاخي 3: 22-23). وهناك تقليد ربّاني مشابه يختص بموسى.

إذ كان التلاميذ “معاينين لتلك العظمة” (2 بطرس 1: 16) اعتراهم الخوف فأخذ واحد منهم وهو بطرس يرغب في التخلّي عن مجد المظلّة العظيمة فاقترح على المعلم أن يجعلوا ثلاث مظال يمكثون فيها (الآيتان 5-6). وكان الجواب أن ظلّلتهم سحابة وسُمع صوت خارج منها. والسحابة كما نعلم في العهد القديم ترافق ظهور الله دالة على حضوره وفي الوقت نفسه حاجبة رؤياه (خروج 16: 10، 19: 9، 24: 15 التجلي، عدد 11: 25 العنصرة وغيرها). الصوت من السحابة هو صوت الله الآب “هذا هو ابني الحبيب، له اسمعو” (الآية 7). هذا يذكّرنا بصوت الله الذي سُمع عند معمودية يسوع (مرقس 1: 11 أنظر أيضاً مزمور 2: 6-7، 2 بطرس 1: 17، أشعيا 42: 1)، فها إن الله الآب للمرة الثانية يدعو يسوع “ابناً حبيباً”. لو أخذنا بعين الاعتبار عبارة المزمور 2 “أنا أقمت منه ملكاً على صهيون… الرب قال لي أنتَ ابني وأنا اليوم ولدتك. سَلْني فأعطيك الأمم ميراثاً لك. وأملّكك جميع أقاصي الأرض”، وهي العبارة المستعملة عند تنصيب الملك، لأمكننا القول أن يسوع يُنصَّب هنا كمسيّا. ليس كملك ارضي بل كمسيّا بالمعنى الذي نجده في الجواب المُعطى في الآية 8: 31… (“وابتدأ يعلّمهم أن ابن الإنسان ينبغي أن يتألم كثيراً”)، وفي اعتراف بطرس: المسيّا الذي عرشه سوف يكون الصليب ومجده الآلام والقيامة.

إن تجلّي المسيح والنور المرافق أخذا في ما بعد أهمية خاصة في الكنيسة الأرثوذكسية ولاهوتها.

المناقشة عند نزولهم من الجبل:

9 وَفِيمَا هُمْ نَازِلُونَ مِنَ الْجَبَلِ، أَوْصَاهُمْ أَنْ لاَ يُحَدِّثُوا أَحَدًا بِمَا أَبْصَرُوا، إِلاَّ مَتَى قَامَ ابْنُ الإِنْسَانِ مِنَ الأَمْوَاتِ. 10 فَحَفِظُوا الْكَلِمَةَ لأَنْفُسِهِمْ يَتَسَاءَلُونَ:«مَا هُوَ الْقِيَامُ مِنَ الأَمْوَاتِ؟» 11 فَسَأَلُوهُ قَائِليِنَ:«لِمَاذَا يَقُولُ الْكَتَبَةُ: إِنَّ إِيلِيَّا يَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ أَوَّلاً؟» 12 فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ:«إِنَّ إِيلِيَّا يَأْتِي أَوَّلاً وَيَرُدُّ كُلَّ شَيْءٍ. وَكَيْفَ هُوَ مَكْتُوبٌ عَنِ ابْنِ الإِنْسَانِ أَنْ يَتَأَلَّمَ كَثِيرًا وَيُرْذَلَ. 13 لكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ إِيلِيَّا أَيْضًا قَدْ أَتَى، وَعَمِلُوا بِهِ كُلَّ مَا أَرَادُوا، كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنْهُ». (مرقس9: 9-13، متى 17: 9-13).

عند نزولهم من الجبل، يمنع يسوع تلاميذه من أن ينشروا الحدث. وإلى طريقة يسوع التربوية المعروفة حتى الآن من خلال روايات أخرى أيضاً (أنظر سرّية المسيّا) يضاف الآن عنصر جديد: هذا التحفظ في نشر الأحداث الذي يدوم حتى قيامة ابن البشر من بين الأموات. بعدها يمكن للتلاميذ أن يتكلّموا عنه بحرّية. إن الكلام عن القيامة يحيّر التلاميذ الذين يتساءلون “ما معنى القيام من الأموات؟”، ولا يستطيعون أن يفهوم آلام ابن الإنسان (الآية 12 ب). ثم يسألون يسوع عن إيليا المنتظر من قبل اليهود. فيجيبهم أن إيليا قد أتى بشخص يوحنا المعمدان (أنظر أيضاً متى 17: 13) وحصل الاستقبال المعروف عنه. العبارة “كيف هو مكتوب عنه” (الآية 13) غير واضحة لأن العهد القديم لايذكر شيئاً عن آلام إيليا المنتظَر، هذا في حال لا يقصدُ يسوع (أو الإنجيلي) من كلامه آلام إيليا في عصره (3 ملوك 19: 2-10).

يوافق بعض المفسرين على أن إيليا قد جاء في شخص يوحنا المعمدان، دون أن يقبلوا بمجيئه عند ظهوره في حادثة التجلّي (مرقس 9: 2-8)، قائلين إنه يشير في الآية 13 إلى ظرف آخر (أنظر متى 11: 14 “إن أردتم أن تقبلوا فهذا هو إيليا المزمع أن يأتي”).

شفاء الصبي المصاب بالصرع:

14 وَلَمَّا جَاءَ إِلَى التَّلاَمِيذِ رَأَى جَمْعًا كَثِيرًا حَوْلَهُمْ وَكَتَبَةً يُحَاوِرُونَهُمْ. 15 وَلِلْوَقْتِ كُلُّ الْجَمْعِ لَمَّا رَأَوْهُ تَحَيَّرُوا، وَرَكَضُوا وَسَلَّمُوا عَلَيْهِ. 16 فَسَأَلَ الْكَتَبَةَ:«بِمَاذَا تُحَاوِرُونَهُمْ؟» 17 فَأَجَابَ وَاحِدٌ مِنَ الْجَمْعِ وَقَالَ :«يَا مُعَلِّمُ، قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكَ ابْنِي بِهِ رُوحٌ أَخْرَسُ، 18 وَحَيْثُمَا أَدْرَكَهُ يُمَزِّقْهُ فَيُزْبِدُ وَيَصِرُّ بِأَسْنَانِهِ وَيَيْبَسُ. فَقُلْتُ لِتَلاَمِيذِكَ أَنْ يُخْرِجُوهُ فَلَمْ يَقْدِرُوا». 19 فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ:«أَيُّهَا الْجِيلُ غَيْرُ الْمُؤْمِنِ، إِلَى مَتَى أَكُونُ مَعَكُمْ؟ إِلَى مَتَى أَحْتَمِلُكُمْ؟ قَدِّمُوهُ إِلَيَّ!». 20 فَقَدَّمُوهُ إِلَيْهِ. فَلَمَّا رَآهُ لِلْوَقْتِ صَرَعَهُ الرُّوحُ، فَوَقَعَ عَلَى الأَرْضِ يَتَمَرَّغُ وَيُزْبِدُ. 21 فَسَأَلَ أَبَاهُ:«كَمْ مِنَ الزَّمَانِ مُنْذُ أَصَابَهُ هذَا؟» فَقَالَ: «مُنْذُ صِبَاهُ. 22 وَكَثِيرًا مَا أَلْقَاهُ فِي النَّارِ وَفِي الْمَاءِ لِيُهْلِكَهُ. لكِنْ إِنْ كُنْتَ تَسْتَطِيعُ شَيْئًا فَتَحَنَّنْ عَلَيْنَا وَأَعِنَّا». 23 فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ:«إِنْ كُنْتَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُؤْمِنَ. كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ لِلْمُؤْمِنِ». 24 فَلِلْوَقْتِ صَرَخَ أَبُو الْوَلَدِ بِدُمُوعٍ وَقَالَ:«أُومِنُ يَا سَيِّدُ، فَأَعِنْ عَدَمَ إِيمَانِي». 25 فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ أَنَّ الْجَمْعَ يَتَرَاكَضُونَ، انْتَهَرَ الرُّوحَ النَّجِسَ قَائِلاً لَهُ:«أَيُّهَا الرُّوحُ الأَخْرَسُ الأَصَمُّ، أَنَا آمُرُكَ: اخْرُجْ مِنْهُ وَلاَ تَدْخُلْهُ أَيْضًا!» 26 فَصَرَخَ وَصَرَعَهُ شَدِيدًا وَخَرَجَ. فَصَارَ كَمَيْتٍ، حَتَّى قَالَ كَثِيرُونَ: «إِنَّهُ مَاتَ!». 27 فَأَمْسَكَهُ يَسُوعُ بِيَدِهِ وَأَقَامَهُ، فَقَامَ. 28 وَلَمَّا دَخَلَ بَيْتًا سَأَلَهُ تَلاَمِيذُهُ عَلَى انْفِرَادٍ:«لِمَاذَا لَمْ نَقْدِرْ نَحْنُ أَنْ نُخْرِجَهُ؟» 29 فَقَالَ لَهُمْ:«هذَا الْجِنْسُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَخْرُجَ بِشَيْءٍ إِلاَّ بِالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ». (مرقس9: 14-29، متى 17: 14-20، لوقا9: 37-43).

ينزل يسوع إلى الشعب بوجه لامع فيندهش الجمع عند رؤيته. هذا يذكّرنا بصورة أخرى من العهد القديم حين ينزل موسى من جبل سيناء: “فإذا أديم وجهه مشعٌّ فخافوا أن يدنوا منه” (خروج 34: 30). ويمكننا أن نقيم المقارنة التالية: كما أن يسوع حرّر شعب الله من عبودية مصر، كذلك يسوع يحرّر الإنسان من عبوديته للشيطان “منذ صباه”. هذا ما يؤكد عليه الإنجيل في أماكن عدّة وخاصة في هذه الرواية التي تلي مباشرة حادثة التجلي، وهي رواية شفاء الشاب المصاب بالصرع.

ينزل يسوع من جبل التجلّي ليقابل تعاسة الناس الواقعين تحت عبودية الشيطان. يتقدم الكتبة والجمع والتلاميذ إلى يسوع بهذا الانحطاط النفسي. وتشكل رواية الشاب المصاب بالصرع مع الرواية السابقة للتجلّي تضادّاً مأساوياً، فهنالك مجد المسيح المتجلّي مقابل تعاسة البشر مع عدم إيمانهم وسكنى الشياطين فيهم. ويُدخل الإنجيلي مرقس في الآية 14، أي فيما بين هاتين الصورتين المتناقضتين، تفصيلاً بارزاً: أن التلاميذ التسعة الباقين يتحاورون مع الكتبة. لا يستطيع رؤساء اليهود الدينيون أن يتبعوا يسوع في مجده ولا أن يلبّوا ويشفوا عاهات العالم الملحّة وتعاسته، فيلتجئون إلى مناقشات نظريّة مع التلاميذ قد تكون حول عدم إمكان التلاميذ أن يشفوا المريض.

“واحد من الجمع” يسرع لكي يقدّم له ابنه المريض، ويخبره بألمٍ أنَّ مثل هذه المبادرة مع تلاميذه لم تجدِ نفعاً لأن تلاميذه لم يستطيعوا أن يخرجوا “الروح الأخرس” الذي كان في ابنه المريض (الآيتان 17-18) . ويصف الأب أعراض المرض الرهيب. وتشير هذه الأعراض إلى مرض الصرع Épilepsie (الذي يوصف عند متى بأنه مرض الصرع بالهلّة عندما يهلّ القمر).

يعبّر يسوع عن سخطه أمام الجيل غير المؤمن الذي يراه أمامه ويشمل بعبارته هذه الأبَ الضعيف الإيمان والتلاميذ الذين لم يستطيعون أن يشفوا المريض والكتبة المستفيدين من مثل هذا الفشل. وكذلك الجمع الذي ينجذب بسهولة وراءهم (الآية 19). يعيد هذا السخط إلى أذهاننا تألم أنبياء العهد القديم لرسالتهم وسط شعب فاسد غير ثابت. لا يصرّ يسوع على تفجير غضبه، بل يبادر إلى إعانة مثل هذا الجيل المتألم. يطلب أن يقدّموا له الشاب المريض الذي يصاب أمام الجميع بنوبة جديدة فيتدحرج على الأرض ويزبد (الآية 20). عندها يتوجه يسوع بالسؤال إلى أبيه عن زمن بداية مرضه، لا ليستفسر عن الأمر وكأنه يجهله، بل ليُظهر عن طريق جواب الأب أن الإنسان يعاني “منذ صباه” من النتائج الرهيبة والمؤلمة لعبوديته للشيطان (الآية 21).

بعد استكمال صف مرض ابنه، يطلب الأب معونة يسوع معبِّراً عن شكّه في قدرة يسوع، ربّما آخذاً بعين الاعتبار صعوبة الموضوع وحالة المريض اليائسة “إن كنت تستطيع شيئاً فتحنن عليه وأعنّا”. عندها، وأمام شكّ الأب المتكلم، يقابله يسوع بقدر الإيمان الكليّ’ مريداً أن يقول له: “ليس السؤال إن كنتُ أنا أستطيع أن أتمم الشفاء المطلوب، بل هو فيما إذا كنتَ أنتَ تستطيع أن تؤمن”. إذاً عبارة الأب “إن كنتَ أنت تستطيع” يقابلها جواب يسوع “كل شيء مستطاع للمؤمن” (الآيتان 22-23). في كل الروايات الإنجيلية لا تتم العجائب من أجل إبراز الإيمان أو من أجل إعطاء الانطباع الباهر، بل تأتي نتيجة إيمان أصحاب الشأن. يفسّر شارح معاصر جواب الأب المتألم: “أؤمن يا سيّد فأعن عدم إيماني” (الآية 24) هكذا: تفعل كلمات يسوع في الذي يتكلم معه بشكل مزدوج إذ تخلق فيه الإيمان بقدرة المسيا وفي الوقت نفسه تكشف عن عدم إيمانه. من هنا صراخ الأب ودموعه، هذا الأب الذي يتنازعه صراع داخلي: فهو يعترف بإيمانه الذي لا يأتي من داخله بل نتيجة لكلام يسوع معه، ولكنه في الوقت نفسه يعترف بعدم إيمانه الذي يشاركه فيه كل جيله. يصارع بين الإيمان وعدم الإيمان، بين رغبته في إظهار إيمانه وتأكيده أن إيمانه ناقص.

يرى يسوع أن الجمع “يتراكضون” فيأمر بقدرته المسيانية الروح النجس أن يخرج نهائياً من المريض وألاّ يدخل فيه من جديد. بعد خروج الروح الشرير يتعرّض المريض لنوبة أخيرة تعطي الانطباع للذين لم يحضروا قبلاً أنه مائت كلّياً (هذا الانطباع الذي يؤكد على ما وُصف به هذا الجيل من عدم إيمان قبل يسوع). ولكن الرب يمسك بيد الذي هو “كميت” وينهضه (الآيات 25-27).

وبعد أن ينصرف الجميع (الجمع والأب والشاب المعافى)، يذكر الإنجيلي حديث يسوع مع تلاميذه على انفراد في أحد البيوت، يجيب فيه عن سؤالهم “لماذا لم نستطيع نحن أن نخرجه؟”، ويقول: “هذا الجنس لا يمكن أن يخرج بشيء إلاّ بالصلاة والصوم” (مرقس 9: 29). إن طرد الشياطين من الناس عمل صعب، وهو يتم بقدرة الله التي يمتلكها أساساً المسيا، ويمكن للناس أن يحصلوا عليها بعد صلاة وصوم. كان التلاميذ على الأرجح يعتمدون على قدراتهم الخاصة ولا يطلبون بإيمان قدرة الله. وفي الرواية المشابهة عند متى، يقول يسوع لتلاميذه بوضوح أنهم لم يستطيعوا أن يشفوا المريض لقلّة إيمانهم (أنظر متى 17: 20).

المعاني الرئيسية للرواية السابقة:

1- إنّ المسيا الكارز والمحقق في ذاته ملكوت الله، يوصف في الأناجيل، وخصوصاً في مرقس، بمحرّر الناس من الشياطين الساكنة فيهم. بكلمته فقط، وبأمره المسياني القاطع، يُخضع الشياطين فتخرج من الناس. هذه العجائب تعنى غلبة ملكوت الله على سيادة الشيطان. وقد يقول أحدنا: إن مفهوم نسبة الأمراض، وعلى الأخص النفسانية منها، إلى سكنى الشياطين في الناس، قد ولّى اليوم بسبب تقدّم الطبّ. لكن مظاهر إنسان اليوم التي تدلّ على استعباده للشيطان هي كثيرة ومتنوّعة إلى درجة أننا، حتى لو لم نقبل بوجهة النظر التي كانت سائدة في أيام يسوع والتي تقول إن الأمراض عائدة إلى الشيطان، إلا أنه يبقى هنالك مظاهر للإنسان كثيرة العدد و”شيطانية” تشهد لسكنى الشيطان في الإنسان. يسوع المسيح هو محرّر العالم الذي يسود فيه الشيطان. إن لم يقبل الإنسان الحرّية التي يقدّمه المسيح فهو حتماً أسير للشيطان. لأنه ولو افتخر بحرّيته يبقى دائماً أسيراً لشخص ما أو لشيء ما.

2- ينقل الإيمان من عالم المنطق النسبي إلى عالم النعمة الفائق الطبيعة. إن “نقل الجبال” يشكّل عملاً لا يُدرك من قبل الإنسان الاختباري، لكن بالنسبة للمؤمن ما هو صعب ظاهرياً ومنطقياً يصبح واقعاً.

3- الإيمان يحوّل العالم ويبدّل الشقاوة إلى مجد. يملك الإيمان قدرة تفوق حدود الفرد والمؤمن. والجدير بالملاحظة أن المقطع لا يذكر شيئاً عن إيمان الابن المريض بل عن إيمان أبيه. إذاً يشكّل الإنسان المؤمن بيت خلاص حتى لقريبه.

4- الصلاة والصوم يصهران الرباط بين الإنسان والله ويقوّيان الإيمان الذي، عندما يكون حقيقياً وحيّاً، يصبح أيضاً عجائبياً.

التنبؤ الثاني عن الآلام:

30 وَخَرَجُوا مِنْ هُنَاكَ وَاجْتَازُوا الْجَلِيلَ، وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَعْلَمَ أَحَدٌ، 31 لأَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُ تَلاَمِيذَهُ وَيَقُولُ لَهُمْ:«إِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي النَّاسِ فَيَقْتُلُونَهُ. وَبَعْدَ أَنْ يُقْتَلَ يَقُومُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ». 32 وَأَمَّا هُمْ فَلَمْ يَفْهَمُوا الْقَوْلَ، وَخَافُوا أَنْ يَسْأَلُوهُ. (مرقس9: 30-32، متى 17: 22-23، لوقا 9: 44-45).

بعد تلك العجيبة عبر يسوع الجليل محاولاً أن يهرب من الشهرة ومتطلّعاً بصورة خاصة إلى تحضير تلاميذه لآلامه الوشيكة. فأخذ للمرّة الثانية يتنباّ عن آلامه لتلاميذه قائلاً أن ابن الإنسان سيُسلم إلى “أيدي البشر”. وينظر مفسِّر حديث إلى هذا القول بألم عميق: أن يُسلم يسوع إلى أيدي الشياطين يمكن أن يحظى بتفسير ما، لكن أن يُسلّم إلى أيدي الناس الذين أحسن إليهم وشفاهم طيلة حياته يعبّر عن تناقض كبير في التاريخ. إن التعبير المستعمل هنا للتنبؤ عن آلام يسوع يذكّر بلا شك بأناشيد العبد المتألم عند أشعيا 53: 7-8: “مثل خروف سيق إلى الذبح وكحمل بريء أمام الذي يجزّه هكذا لا يفتح فاه”. بعبارة أخرى، يعرف يسوع أنه، كابن الإنسان، يتوجه إلى الآلام محققاً مشيئة الله كما جاءت في العهد القديم.

يسوع يحث تلاميذه:

 41 لأَنَّ مَنْ سَقَاكُمْ كَأْسَ مَاءٍ بِاسْمِي لأَنَّكُمْ لِلْمَسِيحِ، فَالْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ لاَ يُضِيعُ أَجْرَهُ. 42 «وَمَنْ أَعْثَرَ أَحَدَ الصِّغَارِ الْمُؤْمِنِينَ بِي، فَخَيْرٌ لَهُ لَوْ طُوِّقَ عُنُقُهُ بِحَجَرِ رَحًى وَطُرِحَ فِي الْبَحْرِ. 43 وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ يَدُكَ فَاقْطَعْهَا. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ أَقْطَعَ مِنْ أَنْ تَكُونَ لَكَ يَدَانِ وَتَمْضِيَ إِلَى جَهَنَّمَ، إِلَى النَّارِ الَّتِي لاَ تُطْفَأُ. 44 حَيْثُ دُودُهُمْ لاَ يَمُوتُ وَالنَّارُ لاَ تُطْفَأُ. 45 وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ رِجْلُكَ فَاقْطَعْهَا. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ أَعْرَجَ مِنْ أَنْ تَكُونَ لَكَ رِجْلاَنِ وَتُطْرَحَ فِي جَهَنَّمَ فِي النَّارِ الَّتِي لاَ تُطْفَأُ. 46 حَيْثُ دُودُهُمْ لاَ يَمُوتُ وَالنَّارُ لاَ تُطْفَأُ. 47 وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ عَيْنُكَ فَاقْلَعْهَا. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللهِ أَعْوَرَ مِنْ أَنْ تَكُونَ لَكَ عَيْنَانِ وَتُطْرَحَ فِي جَهَنَّمَ النَّارِ. 48 حَيْثُ دُودُهُمْ لاَ يَمُوتُ وَالنَّارُ لاَ تُطْفَأُ. 49 لأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُمَلَّحُ بِنَارٍ، وَكُلَّ ذَبِيحَةٍ تُمَلَّحُ بِمِلْحٍ. 50 اَلْمِلْحُ جَيِّدٌ. وَلكِنْ إِذَا صَارَ الْمِلْحُ بِلاَ مُلُوحَةٍ، فَبِمَاذَا تُصْلِحُونَهُ؟ لِيَكُنْ لَكُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ مِلْحٌ، وَسَالِمُوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا». (مرقس9: 33-50).

يتوجّه الكلام في الآيات 33-50 إلى التلاميذ خاتماً نشاط يسوع في الجليل. يسود الرأي عند جميع المفسرين الحديثين تقريباً أن الإنجيلي يجمع هنا أقوال كانت مهملة ومستقلة عن بعضها البعض، ولا نجد صلة منطقية فيما بينها، أي أنها لا ترتبط بمحتوى مشترك بل بشكل خارجي فقط: هكذا ترتبط الآيات 33-41 فيما بينها بالعبارة المشتركة “باسمي”، وترتبط الآيات 42-48 بالأفعال: “اعثر” و”اعترتك”، وترتبط الآيات 49-50 بما سبقها عن طريق كلمة “نار”. ويمكننا التأكد من هذه النظرية بعد دراسة مقارنة لهذه الأقوال مع تلك الموازية لها عن متى ولوقا. هذا بالنسبة إلى القسم الأول، أمّا القسم الثاني فعليه اعتراضات جدّية.

الإنجيليون الشريفون هم أوّل مفسّرين ملهمين من الله لأقوال يسوع وأعماله. وإن جمعوا أقولاً لمعلّمهم، فهم لا يفعلون ذلك لمجرّد أن كلمة اصطلاحية تربط فيما بينها بل لأنهم يجدون وحدة في المحتوى. طبعاً لا يستطيع الواحد أن يطلب وحدة منطقية بالمفهوم الأوروبي الحديث، بل هناك وحدة في الهدف الذي يتطلع إليه يسوع في توجهه إلى تلاميذه وكذلك عند الإنجيلي الناقل أقواله. أولاً تشكل تهيئة التلاميذ للآلام الاهتمام الرئيسي للمعلّم. من هنا الفكرة السائدة في الآيات التي نتكلم عنها: وهي روح التضحية والآلام. إن كان يسوع يسير نحو الآلام كنهاية مطاف عمله وكقمّة له، فلا يمكن أن يكون نصيب تلاميذه مختلفاً. إن الطريق الذي ينتظرهم هو طريق الآلام، طريق التضحية والحرمان. ومن جهة أخرى نلاحظ أن الآيات 33-50 تتبع مباشرة الآيات 9: 30-32 حيث يتنبأ للمرّة الثانية عن آلام يسوع. في نطاق روح التضحية، يخدم المرشد إخوته، يتخلّى عن أمجاده، يحرم نفسه من الوجوه الصديقة والأمور الضرورية إن كانت تشكل سبباً لتشكيك الآخرين. سنتحقق من هذه الفكرة الرئيسية عندما سنتفحص الآيات بالتفصيل.

نجد الأقوال الواردة في الآيات 9: 33-37 عند متى 18: 1-5 ولوقا 9: 46-48، والأقوال في الآيات 9: 38-40 فقط عند لوقا 9: 49-50، والآية 41 عند متى 10: 42، والأقوال في الآيات 42-48 عند متى 18: 6-9 ولوقا 17: 1-2، والأقوال في الآيات 49-50 عند متى 5: 13 ولوقا 14: 34-35. تشكل أغلبية هذه الأقوال إذاً جزءاً مِمَّا يسمى بالخطاب الكنسي (أي الحديث عن الحياة في الجماعة) في متى 18، بينما تأتي أقوال أخرى إمّا في الموعظة على الجبل وإمّا في وصية يسوع لتلاميذه المرسلين إلى الكرازة.

أ – روح التضحية والخدمة:

33 وَجَاءَ إِلَى كَفْرِنَاحُومَ. وَإِذْ كَانَ فِي الْبَيْتِ سَأَلَهُمْ:«بِمَاذَا كُنْتُمْ تَتَكَالَمُونَ فِيمَا بَيْنَكُمْ فِي الطَّرِيقِ؟» 34 فَسَكَتُوا، لأَنَّهُمْ تَحَاجُّوا فِي الطَّرِيقِ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ فِي مَنْ هُوَ أَعْظَمُ. 35 فَجَلَسَ وَنَادَى الاثْنَيْ عَشَرَ وَقَالَ لَهُمْ:«إِذَا أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَكُونَ أَوَّلاً فَيَكُونُ آخِرَ الْكُلِّ وَخَادِمًا لِلْكُلِّ». 36 فَأَخَذَ وَلَدًا وَأَقَامَهُ فِي وَسْطِهِمْ ثُمَّ احْتَضَنَهُ وَقَالَ لَهُمْ: 37 «مَنْ قَبِلَ وَاحِدًا مِنْ أَوْلاَدٍ مِثْلَ هذَا بِاسْمِي يَقْبَلُنِي، وَمَنْ قَبِلَنِي فَلَيْسَ يَقْبَلُنِي أَنَا بَلِ الَّذِي أَرْسَلَنِي». (مرقس 9: 33-37، متى 18: 15، لوقا 9: 46-48).

ترد هذه الأقوال في الأناجيل الإزائية مباشرةً بعد شفاء الشاب المصاب بالصرع وبعد التنبؤ الثاني عن الآلام. يتوجّه يسوع إلى التلاميذ، الزعماء المستقبلين لكنيسته التي هو مزمع أن يؤسسها بموته على الصليب وقيامته. وبالنظر إلى آلامه يهيء تلاميذه قائلاً لهم: إن الطريق نحو الأوّلية هي التضحية بالنفس والتواضع والخدمة. يردّد الإنجيليون هذه الأقوال مراراً مريدين على الأرجح أن يشدّدوا على رسالة الرؤساء في الكنيسة. الكبير والأول هو ذاك الذي يستخدم مركزه القيادي من أجل خدمة مرؤوسيه حسب نموذج المسيح الذي يقدّم حياته على الصليب ليخلّص البشر ويفديهم من عبودية الشيطان. ليس الرئيس الحقيقي ذاك الذي يتسلّط على الآخرين، بل هو الذي يخدمهم ويقدّم خدماته للمحتاجين والودعاء والضعفاء من أبنائه. يأخذ يسوع ولداً ويعانقه (أنظر الحدث والقول المشابه عند مرقس 10: 13-16، متى 19: 13-15، لوقا 18: 15-17)، ويتخذه مثالاً للتواضع علينا أن نتشبه به لكي ندخل ملكوت الله، ورمزاً للضعفاء الذين يجب على الرئيس أن يعتني بهم. هكذا يكون كل مسيحي أراد أن يصبح كبيراً وأوّلاً في ملكوت الله. يقول تقليد لاحق إن هذا الولد هو القديس إغناطيوس المتوشح بالله (أنظر التاريخ الكنسي 2: 35 لنيكيفورس كالستوس وسنكسار 20 كانون الأول). لا يقدم يسوع الولد فقط كهدف موضوعي يعمل من أجله التلاميذ، بل أيضاً كمثال شخصي على المؤمنين أن يقتدوا به. إن الولد الذي لا يستطيع بسبب ضعفه أن يتكل على نفسه، يثق كليَّاً بالذين هم أكبر منه، منتظراً كل شيء منهم، ومشكلاً هكذا مثالاً للتواضع. نلاحظ أن معاصري يسوع يرون في الولد ذاك الذي سوف يصبح راشداً (وعلى هذا الأساس فقط يعطونه قيمة)؛ يأتي يسوع على العكس، حسب ملاحظة غروندمن (Grundmann) الدقيقة، ويرى في الإنسان الراشد الولد الضائع الذي يجب أن نوجده من جديد حتى نستطيع أن يواجه الله كأب ويقبل منه بثقة وشكران هبة الملكوت.

ب – الحياد غير المسموح به:

38 فَأَجَابَهُ يُوحَنَّا قِائِلاً:«يَا مُعَلِّمُ، رَأَيْنَا وَاحِدًا يُخْرِجُ شَيَاطِينَ بِاسْمِكَ وَهُوَ لَيْسَ يَتْبَعُنَا، فَمَنَعْنَاهُ لأَنَّهُ لَيْسَ يَتْبَعُنَا». 39 فَقَالَ يَسُوعُ:«لاَ تَمْنَعُوهُ، لأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يَصْنَعُ قُوَّةً بِاسْمِي وَيَسْتَطِيعُ سَرِيعًا أَنْ يَقُولَ عَلَيَّ شَرًّا. 40 لأَنَّ مَنْ لَيْسَ عَلَيْنَا فَهُوَ مَعَنَا. (مرقس 9: 38-40، لوقا 9: 49-50).

يرتبط هذا المقطع ارتباطاً ضعيفاً بما سبقه عن طريق العبارة المشتركة “باسمي”، ويتكلم فيه يوحنا تلميذ يسوع كما يفعل نادراً في الأناجيل. المناقشة هذه مذكورة عند لوقا وليس عند متى الذي تكلم مع ذلك عن أُناس يُخرجون شياطين باسم المسيح (متى 7: 22 “باسمك نُخرج شياطين”). إن الرأي الذي يقول أن متى أغفل ذكر كلام يسوع هذا لأنه أورد كلاماً ليسوع مناقضاً له في متى 12: 30 غير صحيح، مع العلم أن لوقا يورد أيضاً الكلام نفسه في لوقا 11: 23. من جهة لا تقود مقارنة مرقس 9: 40 مع متى 12: 30 (أو لوقا 11: 23) إلى تثبيت التضاد الظاهر الحاصل بين المقطعين. لنرَ ما هي العلاقة بينهما:

في متى 12: 30 يقول يسوع: “من ليس معي فهو عليّ ومن لا يجمع معي فهو يفرّق” (وكذلك لوقا 11: 23). يجيب يسوع هنا على اتهامات اليهود السّيئي النية المدعين أنه بالتعاون مع رئيس الشياطين يُخرج الشياطين، ويقول لهم أن عمله لا يتوافق مع عمل الشيطان المهلك. في هذا الصراع ينبغي على الناس ألاّ يبقوا على الحياد، فإما أن يكون الواحد مع المسيح “فيجمع” أي يساهم في عمل تشكيل شعب الله، الكنيسة، أو أنه يفرّق مع الشيطان، طالما أن الموقف الحيادي غير وارد. يمكن أن يقال هذا الكلام أيضاً عن عبارة مرقس 9: 40 “من ليس علينا فهو معنا”، مَن لا يكون ضدّ المسيح على مثال الذي يُخرج الشياطين ويصنع العجائب باسم الرب هو إذاً معه. تعبّر إذاً عبارتا متى 12: 30 ومرقس 9: 40 بجمل مختلفة لا تتناقضان فيما بينهما لأن كلتيهما تعلّمان أن على كل واحد أن يتخذ موقفاً واضحاً مع المسيح أو ضدّه لأن الحياد غير مسموح به.

كيف نستطيع أن نربط هذه الآيات بما سبق؟ نعتقد أن الصلة هي التالية: بينما نرى التلاميذ، ومنهم يوحنا، في حماسهم يعدّون ميولاً في أنفسهم على مثال العبيد في مَثَل الزؤان، يوجّه يسوع انتباههم إلى آلامه المقبلة وإلى روح التضحية الذي يجب أن يتحلّوا به من الآن وصاعداً. من خلال جوابه ليوحنا ومنه لكل التلاميذ، يريد أن يقول أن لحظة الآلام الآتية والدقيقة لا تعطي مجالاً لانتقاد الآخرين بل يجب بالأحرى أن تقودهم ليعوا ضرورة تجميع قواهم من أجل خدمة العالم. يجب علينا ألاَّ ندين الآخرين ونمنعهم عن العمل باسم الرب لأنهم ليسوا ضدّه. إنهم مرشّحون ليصيروا أعضاء عاملين في الكنيسة إن رأوا أمامهم موقف خدمة وإعانة من قبل التلاميذ.

ج – التصرّف تجاه «الصغار»:

41 لأَنَّ مَنْ سَقَاكُمْ كَأْسَ مَاءٍ بِاسْمِي لأَنَّكُمْ لِلْمَسِيحِ، فَالْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ لاَ يُضِيعُ أَجْرَهُ. 42 «وَمَنْ أَعْثَرَ أَحَدَ الصِّغَارِ الْمُؤْمِنِينَ بِي، فَخَيْرٌ لَهُ لَوْ طُوِّقَ عُنُقُهُ بِحَجَرِ رَحًى وَطُرِحَ فِي الْبَحْرِ. (مرقس 9: 41-42، متى 18: 6-7، 10: 42، لوقا 17: 1-2).

هنا العبارتان “لأن مَنْ” و”باسمي” تربطان المقطع مع الآية السابقة. من ناحية المعنى يمكن أن نلحظ الرابط التالي: لم يرفض الرب الذي أخرج الشياطين باسم المسيح لأنه، لم يكن من حلقة التلاميذ الاثني عشر، إلاّ أنه يقدِّم خدمة لعمل يسوع المناهض للشيطان. كل خدمة تُقدّم للعمل الإلهي تُعتبر تقدمة من أجل المسيح. حتى أن تقدمة كأس ماء إلى التلاميذ في عملهم الرسولي لن تكون بلا أجر. هنا يتكلّم عن التلاميذ لأن هذا الكلام وارد عند متى في الموعظة للتلاميذ المرسَلين إلى الكرازة (متى 10: 42 “ومن سقى أحد هؤلاء الصغار كأس ماءٍ بارد فقط باسم تلميذ فالحق أقول لكم أنه لا يضيع أجره”).

لكن فيما يُكافأ التصرّف الإيجابي تجاه التلاميذ، يُعاقب التصرّف المعاكس تجاههم كوضع العثرات أمامهم مثلاً (الآية 42). هذه الآية وإن كانت ترتبط لغوياً بما يليها (43-48)، حيث يدور الحديث أيضاً عن العثرات، إلاّ أننا نربطها بالآية 41 لأن الإنجيلي في كلا الآيتين يتكلّم عن موقف الناس تجاه التلاميذ: موقفهم الإيجابي في الآية الأولى والسلبي في الثانية. يتضّح في الآية 41 ما هي التقدمة (تقدمة كأس ماء) لكننا لا نعرف في الآية 42 ما هو الذي يُعثر.

ويُطرح السؤال: هل يتوجّه يسوع بصورة خاصة إلى الاثني عشر، أم أنه يقصد المسيحيين بصورة عامة؟ تجعلنا الملاحظتان التاليتان نميل إلى وجهة النظر الثانية: أ – في الكلام المشابه عند متى 10: 42 بدل “سقاكم” نقرأ “سقى أحد هؤلاء الصغار” أو “الضعفاء” (حسب المخطوطة D). الصغار والضعفاء، كما سنرى فيما يلي، هم صفة مميّزة للمسيحيين بصورة عامة؛ ب – تذكّرنا العبارة “لأنكم للمسيح” بتعابير بولسية مشابهة (“الذين هم اللمسيح”: غلا 5: 24، 3: 29، 1كور 1: 12، 3: 23، 2كور 10: 7) تشيرإلى الذين ينتمون إلى المسيح أي المسيحيين. ينطلق فكر يسوع بشكل واضح من التلاميذ الاثني عشر الذين سوف يتابعون العمل عن طريق الكرازة إلى الحلقة الواسعة لأتباعه الذين سوف يؤلفون الكنيسة. يجب بالأحرى أن نحسب أنّ يسوع يتوجه إلى التلاميذ الذين يحاورهم في الآية 33 وما يليها، لكن الإنجيلي مرقس يضيف أقوالاً موجّهة إلى المؤمنين كلّهم دون أن يبتعد عن تفكير يسوع وقصده.

تُستعمل مثل هذه التعابير في مواضع أُخرى من الأناجيل، وهي تشير إلى المسيحيين الذين لا يتّكلون على قواهم الخاصة بل يعتمدون بكل ثقة على الله الآب. هكذا يوصفون مثلاً “بالمساكين بالروح”، “بالأخوة الصغار”، أخوة ابن الإنسان. ويدلّ التعبير المستعمل في الآية 41 “الصغار المؤمنين بي” على أنه لا يقصد الصغار سنّاً ولا التلاميذ عموماً بل كل من هو غير معتبر في عين الناس، المسيحيين المزدرى بهم من قبل الفريسيين أو من قبل أقوياء هذا العالم.

في مثل هذه الحالة يتساءل الواحد إن كان الكلام في الآية 42 يتوجّه إلى التلاميذ رؤساء الكنيسة وينبّههم على ألاّ يضعوا العثرات في وجه الصغار المؤمنين الضعفاء، أم أنه يتوجّه إلى المؤمنين الآتين من الخارج. يبدو أنه يقصد على الأرجح المؤمنين الغرباء لأنه يتكلّم في الآية 41 عن كأس ماء يأتي ممن هم في الخارج. لكن علينا أن نميّز قدر المستطاع بين كلام يسوع الأوّل وتفسيره أو تطبيقه من الإنجيلي أو من الكنيسة. لدينا حالات أخرى في الأناجيل يتوجّه فيها كلام يسوع ضدّ الفريسيين (مثلاً كلام المرشد الأعمى في متى 15: 14)، ويفسَّر في مكان آخر بأنه يخصّ المسيحيين (الكلام نفسه عن المرشد الأعمى يشير إلى الرؤساء المسيحيين في لوقا 6: 39). هكذا يستطيع الواحد هنا أيضاً أن يقول أن كلام يسوع عن وضع العثرات يشير أصلاً إلى الاضطهادات الآتية من الذين هم في الخارج، الذين يعاكسون العمل البشاري. لكن هذا الكلام يَعبُر في حياة الكنيسة وبقلم الإنجيلي، ويطبّق على رؤساء الكنيسة الذي ينَّبهون إلى عدم اضطهاد المسيحيين البسطاء الوديعين. تصحّ هذه الأفكار بالأحرى إن أخذنا بعين الاعتبار أن متى يعرض هذا الكلام في الخطاب الكنسي في الفصل 18 (الآية 6 “ومن أعثر أحد هؤلاء الصغار المؤمنين…”) ويكرر في الآية 18: 10 “أنظروا لا تحتقروا أحد هؤلاء الصغار” (“المؤمنين بي” مضافة في بعض المخطوطات)، ثم يأتي متى مباشرة على ذكر مَثَل الخروف الضائع الذي وُجد (18: 12-14)، المَثل الذي يتوجّه فيه إلى الرؤساء المسيحيين، وينتهي بالعبارة “هكذا ليست مشيئة أبيكم… أن يهلك من هؤلاء الصغار” (أو “أحد من هؤلاء الصغار” حسب المخطوطة والنص الكنسي).

خلاصة:

يأتي إذاً كلام الآيتين 41-42 تابعاً للحديث عن الإنسان الغريب الذي يُخرج الشياطين وعن قضية الأوّلية. ينبّه يسوع التلاميذ إلى توجيه أنظارهم إلى طريق الخدمة، إلى روح التضحية والآلام، متجنبين الرأي القائل أنهم وحدهم يصنعون العجائب باسم المسيح حتى وإن لم يكن ينتمي إلى حلقة التلاميذ (ورغم انزعاجهم منه). يدلّ هذا الموقف على أنه ليس ضدّ المسيح بل معه. معه أيضاً هو كل من يقدم كأس ماء (“بارد” كما يضيف متى مؤكداً على قيمة العطاء هذا في بلاد فلسطين الحارة) إلى المبشرين المسحيين لأنه يسهّل عملهم. بينما يَحسن بالأحرى أن يُعاقب كل من يعيق الحياة العادية أو نشاط المسيحيين الرسولي عن طريق وضع العثرات أمامهم. أيضاً يجب معاقبة الرؤساء المسيحيين الذي بمواقفهم أو بلا مبالاتهم يضعون العثرات أمام أخوتهم المسيحيين الصغار الضعفاء.

د – تخطّي العثرات عن طريق التضحية:

43 وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ يَدُكَ فَاقْطَعْهَا. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ أَقْطَعَ مِنْ أَنْ تَكُونَ لَكَ يَدَانِ وَتَمْضِيَ إِلَى جَهَنَّمَ، إِلَى النَّارِ الَّتِي لاَ تُطْفَأُ. 44 حَيْثُ دُودُهُمْ لاَ يَمُوتُ وَالنَّارُ لاَ تُطْفَأُ. 45 وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ رِجْلُكَ فَاقْطَعْهَا. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ أَعْرَجَ مِنْ أَنْ تَكُونَ لَكَ رِجْلاَنِ وَتُطْرَحَ فِي جَهَنَّمَ فِي النَّارِ الَّتِي لاَ تُطْفَأُ. 46 حَيْثُ دُودُهُمْ لاَ يَمُوتُ وَالنَّارُ لاَ تُطْفَأُ. 47 وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ عَيْنُكَ فَاقْلَعْهَا. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللهِ أَعْوَرَ مِنْ أَنْ تَكُونَ لَكَ عَيْنَانِ وَتُطْرَحَ فِي جَهَنَّمَ النَّارِ. 48 حَيْثُ دُودُهُمْ لاَ يَمُوتُ وَالنَّارُ لاَ تُطْفَأُ. (مرقس 9: 43-48، متى 18: 8-9، 5: 29-30، لوقا 14: 34-35).

معنى هذه الآيات هو التالي: على الإنسان أن يتخطّى أيّة عثرة تتأتّى من داخله أو من أشيائه أو من أعضائه وتعيقه من دخول ملكوت الله، ويتمّ ذلك عن طريق التضحية وتعيقه من دخول ملكوت الله، ويتمّ ذلك عن طريق التضحية أي عن طريق التحرّر من قيوده. ويلاحظ المفسّر ثيوفيلكتوس: “إن كان شيء يخصّك، يتعلّق بك ويفيدك مثل دمك ويعثرك، اقطعه عنك، أي اقطع صداقتك معه، صلته بك”. أما النار والدود الوارد ذكرهما في المقطع فيعطيهما المفسّر عينه معناً وجودياً متميّزاً إذ يقول: “الدود والنار اللذان يعاقبان الخطأة هما ضمير كل واحد وذكر كل ما فعلناه في الحياة من أعمال ردئية، هي كالدود الذي يتآكلنا والنار التي تحرقنا”.

هـ – التضحية هي الصفة الجوهرية للتلميذ:

49 لأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُمَلَّحُ بِنَارٍ، وَكُلَّ ذَبِيحَةٍ تُمَلَّحُ بِمِلْحٍ. 50 اَلْمِلْحُ جَيِّدٌ. وَلكِنْ إِذَا صَارَ الْمِلْحُ بِلاَ مُلُوحَةٍ، فَبِمَاذَا تُصْلِحُونَهُ؟ لِيَكُنْ لَكُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ مِلْحٌ، وَسَالِمُوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا». (مرقس 9: 49-50، متى 5: 13، لوقا 14: 34-35).

تتكلم نهاية هذه المجموعة من الأقوال الواردة في الفصل التاسع (9: 13-50) أيضاً عن روح التضحية. ما هو بالضبط معناها الحقيقي؟ لا نستطيع هنا أن ننطلق من معنى الملح المستعمل بصورة عامة في لغة ذلك العصر حين كان يدلّ على قوّة الاستمرار، على القيمة وعلى القدرة الإلهية. كما أننا لا نستطيع أن نستخدم أوّلاً فائدته في العبادة إذ يُستعمل لتلميح خبز الذبيحة، مشيراً هكذا إلى فضيلة الله. يأتي كلام الإنجيلي ضمن إطار لا نستطيع تجاهله. يتكلم المقطع بصورة عامة عن روح التضحية بالنظر إلى الآلام التي تقود يسوع إلى أورشليم. إذ نأخذ هذا المعنى بعين الاعتبار، نتقبل الملح كعنصر جوهري عند التلميذ: الملح هو روح التضحية وإنكار الذات. بدونه يشبه التلميذ “الملح بلا ملوحة” الذي لا يُفيد شيئاً في العالم. التلميذ الذي يفقد هذه الصفة لا يستحق أن يُتابع عمل ابن الإنسان الذي ضحّى بنفسه على الصليب وتألّم من أجلنا. يتطلّب دخول ملكوت السماوات تضحية. أمّا حياة العالم فهي تقدِّم للتلميذ كل ظروف الشك والعثرات. لا يستطيع أحد أن يهرب من التجربة القاسية: “لأن كل واحد يملَّح بنار”. ليست النار في الآية 49 نار جهنم التي يتكلم عنها في الآيات السابقة بل هي عمل المسيا الأخروي الذي ابتدأ في العالم، إنها عمل تطهيري وخلاصي. عن طريق هذا العمل الأخروي وعن طريق نار التضحية والآلام سوف يعبر التلميذ الذي يريد أن يكون نافعاً في الكنيسة وفي العالم. الذي لا “يُملَّح” بروح التضحية ولا يحمل صليبه يشبه الملح الذي فقد ملوحته. إن كان لأحد روح تضحية لا يمكن له أن يركض وراء المراكز الأولى ولا يناقش حول “من هو الأعظم” بل يسعى وراء خدمة الجميع ويسالم الجميع (“ليكن لكم في أنفسكم ملح وسالموا بعضكم بعضاً”).

يرد الكلام عن الملح وبالمعنى نفسه عند الإنجيليين الآخرين. عند لوقا يتوجّه يسوع إلى الجمع الذي يتبعه قبل الكلام عن الملح بقليل ويقول لهم: “إن كان أحد يأتي إليّ ولا يبغض آباه وأمه وامرأته وأولاده وأخوته حتى نفسه أيضاً فلا يقدر أن يكون لي تلميذاً” (لوقا 14: 25-26). ثم يأتي الكلام عن مَثلين صغيرين، عن الذي يبني برجاً دون أن يقدّر سابقاً كلفته، وعن الملك السائر إلى الحرب دون أن يقدّر قوّات العدوّ (14: 28-32). ثم يقول بصورة واضحة: “كل واحد منكم لا يترك جميع أمواله لا يقدر أن يكون لي تلميذاً” (لوقا 14: 33). ثم يتكلّم عن الملح في الآيتين 34-35 حيث يشير بالضبط إلى روح التضحية وإنكار الذات وهما ميزتا التلميذ الحقيقي الذي بعد تقدير الصعاب يباشر عمله الرسولي. يؤكد لوقا على جدّية أقواله بهذه الجملة: “من له إذنان للسمع فليسمع”.

أمّا متّى فيذكر هذه الأقوال عن الملح في الموعظة على الجبل مباشرةً بعد تطويب المضطهدين من أجل البرّ والمضطهدين والمعيَّرين من أجل اسم المسيح (متى 5: 10-12). الاضطهاد والتعيير يميّزان التلاميذ الذين لا يساومون مع العالم بل يبقون على إيمانهم بروح التضحية. إن التلاميذ ككل، أي الكنيسة، هم ملح الأرض (“أنتم ملح الأرض”)، ويحفظون العالم عن طريق أعمالهم الصالحة. إن توقفوا عن الأعمال الصالحة، وبالتالي توقف اضطهادهم “من أجل البرّ”، عندئذ يشبهون الملح الفاسد الذي فقد ميزته الرئيسية.

في عرض الموضوع مِنْ قِبَلْ متّى يستند آباء الكنيسة ويشدّدون على قدرة الملح في المحافظة على الأطعمة. ويتكلّمون عن مثل هذه الوظيفة التي يتخذها التلاميذ حاملين البشارة في العالم (“إن كنا نوراً، يقول القديس الذهبي الفم، وإن كنّا خميرة وأنواراً وملحاً، علينا أن نضيء لا أن نظلم، أن نجمع لا أن نفرّق…”). وهم يعتبرون التلاميذ ملح الأرض “محققين الفضائل التي ذُكرت في التطويبات”. يعتبر القديس كيرلّس الإسكندري بمثابة الملح “هذه الأقوال الإلهية الخلاصية التي إن احتقرناها نصبح جُهّالاً طائشين وغير نافعين بالكليّة”.


(1) شرح “مرقس 9: 1” تجدها في شرح الإصحاح الثامن… (الشبكة)

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
arArabic
انتقل إلى أعلى