Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

د- رفض يسوع من قبل إسرائيل. تحوّله إلى الوثنيين، إعلان ملكوت الله لهم أيضاً 6 :1 – 8: 26

في 6: 1 – 8: 26 عندنا سلسلة من روايات لا ترتبط فيما بينها زمنياً أو من حيث الفحوى، وهي تتصل بنهاية نشاط يسوع في الجليل، مع أنه يتكلم عن خروج يسوع إلى نواحي صور (7: 24) أو إلى منطقة المدن العشر (7: 31). لدينا هنا مجموعة من الأحداث تتكلم عن نشاط يسوع في الجليل وفي المقاطعة حوله قبل سيره إلى أورشليم من أجل الآلام. ومن الغريب أن نرى لوقا الذي يتبع عادة سلسلة مرقس ينتقل فجأة من الآية 6: 44 إلى 8: 27 (لوقا 9: 17 و18)، مهملاً بصورة كاملة الروايات الواردة في المقطع (مرقس 6: 45-8: 26) والتي لا نعود نجدها في مكان آخر من إنجيله. ربّما لم يجدها لوقا في نص مرقس الذي استخدمه، وهذا ما يظنّه بعض المفسرين (*a).

ملاحظة أخرى تختصّ بهيكلية الإنجيل هي الآتية: في المقطع 6: 34-7: 37 وفي المقطع 8: 1-26 توجد روايات متشابهة. يبدأ المقطعان بعجيبة تكثير الخبزات، وينتهيان كلاهما بعجيبة شفاء (الأصم الأعقد للأوّل والأعمى للثاني). والعلاقات بين المقطعين هي الآتية:

6: 34-44 إشباع الـ 5 آلاف 8: 1-9 إشباع الـ 4 آلاف
6: 45-56 المشي على البحر 8: 10 الإبحار إلى دلمانوثة
7: 1-23 مناقشة مع الفرّيسيين عن الطهارة 8: 11-13 مناقشة مع الفرّيسيين حول “الآية”
7: 24-30 عن الخبز والسمك 8: 14-21 عن الخبز وخمير الفرّيسيين
(شفاء ابنة المرأة السورية الفينيقية)    
7: 31-37 شفاء الأصم الأعقد 8: 22-26 شفاء الأعمى

إن حاول أحد أن يتبع تفكير الإنجيلي عن طريق سلسلة الروايات هذه سوف يلمس بصورة عامة ما يلي: أن يسوع لم يقبله اليهود مواطنوه (6: 1-27) ولا يفهمه تلاميذه (6: 52، 7: 18، 8: 4 و14) يتوجّه إلى الوثنيين (7: 24- 8: 9).

رفض يسوع في الناصرة:

1 وَخَرَجَ مِنْ هُنَاكَ وَجَاءَ إِلَى وَطَنِهِ وَتَبِعَهُ تَلاَمِيذُهُ. 2 وَلَمَّا كَانَ السَّبْتُ، ابْتَدَأَ يُعَلِّمُ فِي الْمَجْمَعِ. وَكَثِيرُونَ إِذْ سَمِعُوا بُهِتُوا قَائِلِينَ:«مِنْ أَيْنَ لِهذَا هذِهِ؟ وَمَا هذِهِ الْحِكْمَةُ الَّتِي أُعْطِيَتْ لَهُ حَتَّى تَجْرِيَ عَلَى يَدَيْهِ قُوَّاتٌ مِثْلُ هذِهِ؟ 3 أَلَيْسَ هذَا هُوَ النَّجَّارَ ابْنَ مَرْيَمَ، وَأَخُو يَعْقُوبَ وَيُوسِي وَيَهُوذَا وَسِمْعَانَ؟ أَوَلَيْسَتْ أَخَوَاتُهُ ههُنَا عِنْدَنَا؟» فَكَانُوا يَعْثُرُونَ بِهِ. 4 فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ:«لَيْسَ نَبِيٌّ بِلاَ كَرَامَةٍ إِلاَّ فِي وَطَنِهِ وَبَيْنَ أَقْرِبَائِهِ وَفِي بَيْتِهِ». 5 وَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَصْنَعَ هُنَاكَ وَلاَ قُوَّةً وَاحِدَةً، غَيْرَ أَنَّهُ وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى مَرْضَى قَلِيلِينَ فَشَفَاهُمْ. 6 وَتَعَجَّبَ مِنْ عَدَمِ إِيمَانِهِمْ. وَصَارَ يَطُوفُ الْقُرَى الْمُحِيطَةَ يُعَلِّمُ. (مرقس6: 1-6، متى 13: 53-58، لوقا4: 16-30).

ليس وطن يسوع بيت لحم حيث وُلد بل الناصرة حيث نشأ. إن الرواية المختصرة هذه حول زيارة يسوع إلى الناصرة ورفضه هناك من قبل أهل بلده تدلّ على أنه لقي المصير المأساوي نفسه الذي لقيه أنبياء العهد القديم. فرغم العجائب التي صنعها يسوع، ورغم التعليم الحكيم الذي أعطاه في مجمع الناصرة، لم يقتنع سكان البلدة بشخصيته المسيانية. لكنهم يعبّرون عن شك و “عدم إيمان”. ويفكّرون هكذا: لا يمكن للمسيا أن يكون شخصاً عادياً كيسوع النجار (أو “ابن النجار” حسب متى)، ابن مريم (لم يُذكر يوسف لأنه ربما كان قد مات)، الذي له إخوة معروفون من قبل الجميع بأسمائهم و “أخواته ههنا عندنا” (ربّما لأنهن لم يتزوجن بعد).

إن إخوة يسوع: يعقوب ويوسي ويهوذا وسمعان، هم أولاد يوسف من زواج سابق (*b). يحملون أسماء آبائية: يعقوب “العمود” المعروف في كنيسة أورشليم، يوسي الاسم اليوناني ليوسف، يهوذا الذي عاش أحفاده في زمن دومتيانوس (18-96 بعد المسيح) وكانوا معروفين كأقرباء للربّ (أنظر التاريخ الكنسي لإفنسافيوس 3، 9)، وسمعان خليفة يعقوب في أورشليم (أنظر الكتاب نفسه 3، 11). كان عدم إيمان أهل الناصرة السبب في عدم اجتراح يسوع عجائب فيها: “امتنع عن صنع العجائب عندهم، يقول المفسّر ثيوفيلكتوس، حتى لا يغالون في أحكامهم وفي إدانتهم عندما يرون الآيات ولا يؤمنون”. ومع ذلك شفى بعض المرضى الذين عرف أنهم قد لا يشاطرون سكان قريتهم آرائهم (عن أخوة يسوع أنظر سيوتو1950, M. Siotou).

إرسال الاثني عشر إلى الجليل:

7 وَدَعَا الاثْنَيْ عَشَرَ وَابْتَدَأَ يُرْسِلُهُمُ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ، وَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً عَلَى الأَرْوَاحِ النَّجِسَةِ، 8 وَأَوْصَاهُمْ أَنْ لاَ يَحْمِلُوا شَيْئاً لِلطَّرِيقِ غَيْرَ عَصاً فَقَطْ، لاَ مِزْوَداً وَلاَ خُبْزاً وَلاَ نُحَاساً فِي الْمِنْطَقَةِ. 9 بَلْ يَكُونُوا مَشْدُودِينَ بِنِعَال، وَلاَ يَلْبَسُوا ثَوْبَيْنِ. 10 وَقَالَ لَهُمْ:«حَيْثُمَا دَخَلْتُمْ بَيْتاً فَأَقِيمُوا فِيهِ حَتَّى تَخْرُجُوا مِنْ هُنَاكَ. 11 وَكُلُّ مَنْ لاَ يَقْبَلُكُمْ وَلاَ يَسْمَعُ لَكُمْ، فَاخْرُجُوا مِنْ هُنَاكَ وَانْفُضُوا التُّرَابَ الَّذِي تَحْتَ أَرْجُلِكُمْ شَهَادَةً عَلَيْهِمْ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: سَتَكُونُ لأَرْضِ سَدُومَ وَعَمُورَةَ يَوْمَ الدِّينِ حَالَةٌ أَكْثَرُ احْتِمَالاً مِمَّا لِتِلْكَ الْمَدِينَةِ». 12 فَخَرَجُوا وَصَارُوا يَكْرِزُونَ أَنْ يَتُوبُوا. 13 وَأَخْرَجُوا شَيَاطِينَ كَثِيرَةً، وَدَهَنُوا بِزَيْتٍ مَرْضَى كَثِيرِينَ فَشَفَوْهُمْ. (مرقس6: 7-13، متى9: 35-10: 9، لوقا9: 1-6).

تشكل هذه الآيات برنامجاً موجزاً للعمل الرسولي في بداية المسيحية. يعتبر بعض المفسرين هذه الآيات دلائل على المسيح القائم للتلاميذ يفترضها الإنجيلي في حياة يسوع الأرضي. ولكننا لا نملك أي سند في النص لمثل هذا الافتراض (بل نرى العكس في الآية 12). لقد أُرسل التلاميذ اثنين اثنين. هذا العدد في بشارة التلاميذ وخدام الكلمة الآخرين يشكّل عنصراً شائعاً في الكنيسة الأولى (أنظر مثلاً أعمال السل 8: 14، 15: 22، 11: 22، 15: 39 وغيرها).

إضافة إلى سلطتهم على الأرواح الشريرة، يعطيهم الرب يسوع الإرشادات التالية: أ- ألا يأخذوا معهم أطعمة أو ألبسة أو مالاً، بل أن يحملوا فقط عصاً ونعالاً (أنظر على العكس متى10: 10، لوقا 9: 3 “ولا عصا” (*c))؛ ب- أن يمكثوا في ذلك البيت في القرية حيث هم موجودون ولا يطلبوا آخر (ربنا بيت أفضل)؛ ج- إن لم يقبلهم أحد في مكان ما، فليخرجوا منه وينفضوا الغبار الذي تحت أرجلهم دالّين على قطع الشركة معه، لأن ذلك المكان رفض الكرازة بالملكوت فانفصل عنه.

يتمم التلاميذ الرسالة التي أُوكلت إليهم كارزين بالتوبة نظراً إلى اقتراب ملكوت الله (أنظر متى 10: 7، لوقا9: 3، 10: 9)، محرّرين الناس من الشياطين الساكنة فيهم، وشافين المرضى بدهنهم بالزيت. كان الزيت معتبراً منذ القديم سبيلاً للشفاء. هنا على يد التلاميذ يأخذ معنى نقل معونة الله وقوّته الإلهية. يُذكر دهن المرضى بالزيت هنا وفي رسالة يعقوب 5: 14 فقط (1). إن التلاميذ عن طريق هذا العمل يتابعون وينشرون عمل معلّمهم البشاري والشفائي بينما كان اسمه يشتهر في كل المنطقة. هكذا يفسّر كلام هيرودس الوارد في المقطع التالي.

نهاية القديس يوحنا المعمدان:

14 فَسَمِعَ هِيرُودُسُ الْمَلِكُ، لأَنَّ اسْمَهُ صَارَ مَشْهُوراً. وَقَالَ:«إِنَّ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانَ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ وَلِذلِكَ تُعْمَلُ بِهِ الْقُوَّاتُ». 15 قَالَ آخَرُونَ:«إِنَّهُ إِيلِيَّا». وَقَالَ آخَرُونَ:«إِنَّهُ نَبِيٌّ أَوْ كَأَحَدِ الأَنْبِيَاءِ». 16 وَلكِنْ لَمَّا سَمِعَ هِيرُودُسُ قَالَ:«هذَا هُوَ يُوحَنَّا الَّذِي قَطَعْتُ أَنَا رَأْسَهُ. إِنَّهُ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ!»،17 لأَنَّ هِيرُودُسَ نَفْسَهُ كَانَ قَدْ أَرْسَلَ وَأَمْسَكَ يُوحَنَّا وَأَوْثَقَهُ فِي السِّجْنِ مِنْ أَجْلِ هِيرُودِيَّا امْرَأَةِ فِيلُبُّسَ أَخِيهِ، إِذْ كَانَ قَدْ تَزَوَّجَ بِهَا. 18 لأَنَّ يُوحَنَّا كَانَ يَقُولُ لِهِيرُودُسَ:«لاَ يَحِلُّ أَنْ تَكُونَ لَكَ امْرَأَةُ أَخِيكَ» 19 فَحَنِقَتْ هِيرُودِيَّا عَلَيْهِ، وَأَرَادَتْ أَنْ تَقْتُلَهُ وَلَمْ تَقْدِرْ، 20 لأَنَّ هِيرُودُسَ كَانَ يَهَابُ يُوحَنَّا عَالِماً أَنَّهُ رَجُلٌ بَارٌّ وَقِدِّيسٌ، وَكَانَ يَحْفَظُهُ. وَإِذْ سَمِعَهُ، فَعَلَ كَثِيراً، وَسَمِعَهُ بِسُرُورٍ. 21 وَإِذْ كَانَ يَوْمٌ مُوافِقٌ، لَمَّا صَنَعَ هِيرُودُسُ فِي مَوْلِدِهِ عَشَاءً لِعُظَمَائِهِ وَقُوَّادِ الأُلُوفِ وَوُجُوهِ الْجَلِيلِ، 22 دَخَلَتِ ابْنَةُ هِيرُودِيَّا وَرَقَصَتْ، فَسَرَّتْ هِيرُودُسَ وَالْمُتَّكِئِينَ مَعَهُ. فَقَالَ الْمَلِكُ لِلصَّبِيَّةِ: «مَهْمَا أَرَدْتِ اطْلُبِي مِنِّي فَأُعْطِيَكِ». 23 وَأَقْسَمَ لَهَا أَنْ «مَهْمَا طَلَبْتِ مِنِّي لأُعْطِيَنَّكِ حَتَّى نِصْفَ مَمْلَكَتِي». 24 فَخَرَجَتْ وَقَالَتْ لأُمِّهَا:«مَاذَا أَطْلُبُ؟» فَقَالَتْ:«رَأْسَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ». 25 فَدَخَلَتْ لِلْوَقْتِ بِسُرْعَةٍ إِلَى الْمَلِكِ وَطَلَبَتْ قَائِلَةً:«أُرِيدُ أَنْ تُعْطِيَنِي حَالاً رَأْسَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ عَلَى طَبَق». 26 فَحَزِنَ الْمَلِكُ جِدّاً. وَلأَجْلِ الأَقْسَامِ وَالْمُتَّكِئِينَ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَرُدَّهَا. 27 فَلِلْوَقْتِ أَرْسَلَ الْمَلِكُ سَيَّافاً وَأَمَرَ أَنْ يُؤْتَى بِرَأْسِهِ. 28 فَمَضَى وَقَطَعَ رَأْسَهُ فِي السِّجْنِ. وَأَتَى بِرَأْسِهِ عَلَى طَبَق وَأَعْطَاهُ لِلصَّبِيَّةِ، وَالصَّبِيَّةُ أَعْطَتْهُ لأُمِّهَا. 29 وَلَمَّا سَمِعَ تَلاَمِيذُهُ، جَاءُوا وَرَفَعُوا جُثَّتَهُ وَوَضَعُوهَا فِي قَبْرٍ. (مرقس6: 14-29، متى14: 1-12، لوقا9: 7-9).

قبل خبر عودة التلاميذ من رحلتهم التبشيرية (6: 30-33)، يورد الإنجيلي مرقس النقاش حول شخص يسوع في أوساط هيرودس أنتيبا والرواية حول نهاية حياة المعمدان. هذه الرواية هي حتماً من تقاليد أوساط تلاميذ يوحنا، وهي هنا ترافق الحديث عن نشاط يسوع وتلاميذه، إذ أن هيرودس كان يعتقد أن يوحنا المعمدان المقطوع رأسه قد قام في شخص يسوع. وكان هذا الاعتقاد شائعاً عند الكثير من اليهود، بينما كان البعض الآخر ينتظر عودة إيليا (ملاخي 3: 23…)، وآخرون أيضاً كانوا يقولون أنه واحد من الأنبياء. إن وجهة نظر هيرودس المذكورة تشهد على توبيخ ضميره له لقتله يوحنا. يذكّر المؤرخ يوسيفوس أن المقتولين من هيرودس كانوا يحومون حوله كالشياطين.

بمناسبة سماع هيرودس عن أخبار يسوع، يسرد هنا الإنجيلي خبر قطع رأس يوحنا المعمدان (2) (أنظر أيضاً متى 14: 1-12). لا يعرض الإنجيلي لوقا الخبر بل يكتفي بما يذكره في لوقا 9: 7-9 عن خبر قطع يوحنا من قبل هيرودس ورغبته في رؤية يسوع. وكذلك يذكر في لوقا 3: 19-20 باختصار خبر سجن يوحنا المعمدان.

يوحنا هو واحد من سلسلة أنبياء العهد القديم. كما أن إيليا سبّب غضب ايزابيل وازدراءها عندما وبّخ زوجها الملك آخاب (1ملوك19: 1… و20: 17…)، هكذا فإن يوحنا يوبّخ هيرودس بشدّة لزواجه من هيروديا زوجة أخيه فيلبس (3) (الزواج هذا محرّم في الشريعة؛ أنظر سفر اللاويين 18: 16، 20: 21…)، مما حداها إلى التخلّص منه. وقد اصطدمت رغتها هذه برأي زوجها هيرودس عنه، وقد ذكر “أنه رجل بارّ وقديس”. فأُعطيت لها الفرصة في عيد مولد هيرودس، بحضور العظماء وقواد الألوف ووجوه الجليل، حتى رقصت ابنتها سالومي، فوعد هيرودس الصبية بأن يحقق لها رغبتها أيّاً كانت “حتى نصف مملكته”. فاتفقت سالومي مع أمّها وطلبت رأس يوحنا المعمدان على طبق. “حزن” هيرودس ولكنه لم يستطع أن يعود عن قَسمه فأرسل سيّافاً (Spéculateur) قطع رأس يوحنا في السجن وأتى به على طبق. إن السرعة التي تمّ فيها تنفيذ الأمر جعلت بعض المفسّرين يرون أن الاحتفال حصل في قصر ماخيراس الشهير (شرقي البحر الميت) حيث كان يوحنا المعمدان محبوساً حسب المؤرخ يوسيفوس (كتابه Ioud. pol. 7,6,2 وArch.18,5,2). ويجعل البعض الآخر الاحتفال في الجليل. إلا أنه يصعب التأكد بدقة من هذا الموضوع.

على كل حال، لا يهدف مرقس إلى سرد تاريخي، أي أن يعطينا معلومات حول نهاية يوحنا رغم أنه بدأ إنجيله بظهور يوحنا وكرازته. والأرجح أنه عرض نهاية يوحنا كتهيئة سابقة لموت المسيح المسيا.

أما بالنسبة لقتل المعمدان فقد أشار المؤرخ يوسيفوس (Arch.18,5,2) إلى أسباب سياسية. كان يخشى هيرودس من حركة ثورية نتيجة كرازة يوحنا. ربّما كان ذلك صحيحاً إلى جانب صحة ما ورد عند الإنجيلي. يعرض مرقس الأسباب الأخلاقية، والمؤرخ يوسيفوس الأسباب السياسية (أنظر أيضاً التفسير الرمزي لحدث قطع رأس يوحنا المعمدان من قبل المفسّر ثيوفيلكتوس؛ موسوعة مين P.G. Migne 123.553).

إشباع الخمسة آلاف:

30 وَاجْتَمَعَ الرُّسُلُ إِلَى يَسُوعَ وَأَخْبَرُوهُ بِكُلِّ شَيْءٍ، كُلِّ مَا فَعَلُوا وَكُلِّ مَا عَلَّمُوا. 31 فَقَالَ لَهُمْ:«تَعَالَوْا أَنْتُمْ مُنْفَرِدِينَ إِلَى مَوْضِعٍ خَلاَءٍ وَاسْتَرِيحُوا قَلِيلاً». لأَنَّ الْقَادِمِينَ وَالذَّاهِبِينَ كَانُوا كَثِيرِينَ، وَلَمْ تَتَيَسَّرْ لَهُمْ فُرْصَةٌ لِلأَكْلِ. 32 فَمَضَوْا فِي السَّفِينَةِ إِلَى مَوْضِعٍ خَلاَءٍ مُنْفَرِدِينَ. 33 فَرَآهُمُ الْجُمُوعُ مُنْطَلِقِينَ، وَعَرَفَهُ كَثِيرُونَ. فَتَرَاكَضُوا إِلَى هُنَاكَ مِنْ جَمِيعِ الْمُدُنِ مُشَاةً، وَسَبَقُوهُمْ وَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ. 34 فَلَمَّا خَرَجَ يَسُوعُ رَأَى جَمْعاً كَثِيراً، فَتَحَنَّنَ عَلَيْهِمْ إِذْ كَانُوا كَخِرَافٍ لاَ رَاعِيَ لَهَا، فَابْتَدَأَ يُعَلِّمُهُمْ كَثِيراً. 35 وَبَعْدَ سَاعَاتٍ كَثِيرَةٍ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ تَلاَمِيذُهُ قَائِلِينَ:«الْمَوْضِعُ خَلاَءٌ وَالْوَقْتُ مَضَى. 36 اِصْرِفْهُمْ لِكَيْ يَمْضُوا إِلَى الضِّيَاعِ وَالْقُرَى حَوَالَيْنَا وَيَبْتَاعُوا لَهُمْ خُبْزاً، لأَنْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ مَا يَأْكُلُونَ». 37 فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ: «أَعْطُوهُمْ أَنْتُمْ لِيَأْكُلُوا». فَقَالُوا لَهُ:«أَنَمْضِي وَنَبْتَاعُ خُبْزاً بِمِئَتَيْ دِينَارٍ وَنُعْطِيَهُمْ لِيَأْكُلُوا؟» 38 فَقَالَ لَهُمْ:«كَمْ رَغِيفاً عِنْدَكُمُ؟ اذْهَبُوا وَانْظُرُوا». وَلَمَّا عَلِمُوا قَالُوا:«خَمْسَةٌ وَسَمَكَتَانِ». 39 فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا الْجَمِيعَ يَتَّكِئُونَ رِفَاقاً رِفَاقاً عَلَى الْعُشْبِ الأَخْضَرِ. 40 فَاتَّكَأُوا صُفُوفاً صُفُوفاً: مِئَةً مِئَةً وَخَمْسِينَ خَمْسِينَ. 41 فَأَخَذَ الأَرْغِفَةَ الْخَمْسَةَ وَالسَّمَكَتَيْنِ، وَرَفَعَ نَظَرَهُ نَحْوَ السَّمَاءِ، وَبَارَكَ ثُمَّ كَسَّرَ الأَرْغِفَةَ، وَأَعْطَى تَلاَمِيذَهُ لِيُقَدِّمُوا إِلَيْهِمْ، وَقَسَّمَ السَّمَكَتَيْنِ لِلْجَمِيعِ، 42 فَأَكَلَ الْجَمِيعُ وَشَبِعُوا. 43 ثُمَّ رَفَعُوا مِنَ الْكِسَرِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ قُفَّةً مَمْلُوَّةً، وَمِنَ السَّمَكِ. 44 وَكَانَ الَّذِينَ أَكَلُوا مِنَ الأَرْغِفَةِ نَحْوَ خَمْسَةِ آلاَفِ رَجُلٍ. (مرقس6: 30-44، متى14: 13-21، لوقا9: 10-17).

تذكر حادثة تكثير الخبز والسمك مع إشباع الشعب الكثير العدد مرتين في إنجيل مرقس، أولاً في هذا المقطع ثم بعده بقليل في مرقس 8: 1-9 (ومتى15: 32-38). تحصل العجيبة هنا عندما يعود “الرسل” من رحلتهم التبشيرية ويخبرون “بكل ما فعلوا وبكل ما علّموا” (نلاحظ أن التلاميذ يُدعون “رسلاً” فقط في هذا المقطع عند مرقس). يدعوهم يسوع إلى مكان قفر “خلاء” لكي يستريحوا قليلاً (الآية 31). الراحة ضرورية لعمّال الإنجيل لكي يتابعوا عملهم بقدرة متجدّدة. عندما تكون مقتضيات العمل كثيرة يضطر العامل إلى أن يستغني حتى عن راحته الضرورية.

أدرك الجمع التلاميذ الذاهبين مع يسوع إلى البرّية فجاؤوا إليهم “من جميع المدن” (الآيتان 32-33). عندما رأى يسوع الجمع الكثير “تحنن عليهم إذ كانوا كخراف لا راعي لها” (أنظر سفر العدد 27: 17)، وبدأ يعلّمهم. وبعدها لاحظ التلاميذ مرور الساعات الكثيرة والمكان المقفر فاقترحوا صرف الجمع، لكن يسوع أجابهم بصيغة الأمر: “أعطوهم أنتم ليأكلوا” (مرقس6: 37).

أمام هذا الاقتراح المفاجئ للمعلّم يجيب التلاميذ أن ليس عندهم سوى خمس خبزات وسمكتين، وهذا الأساس في الطعام لسكان فلسطين. فهو يأمر بأن يُجلِسوا الجمع على العشب صفوفاً، مئة مئة وخمسين خمسين. وفي الآية 41، يستخدم الإنجيلي أفعالاً (فأخذ، ورفع نظره إلى السماء، وبارك، وكسر، وأعطى) تذكّرنا بالعشاء الأخير، وتدفعنا إلى تفسير شكري أفخارستي (4) للعجيبة سوف نتكلم عنه فيما بعد. ومن المميّز في هذه العجيبة أننا نرى التلاميذ يشتركون بصورة فعّالة: يقترح هؤلاء أولاً على يسوع صرف الجمع، ثم يجلبون الطعام المتوفّر إلى المعلّم، وبعدئذ يوزعون الطعام على الجميع ويجمعون ما تبقى منه. هذه المساهمة الفعّالة ليست بدون علاقة مع التفسير الشكري للمقطع. ويتكوّن لدينا الانطباع أن العجيبة حصلت من أجل التلاميذ لا من أجل الجموع، علماً بأن الإنجيلي لا يذكر أبداً تعجّب الجمع لمثل هذا الحدث العجيب كما يحصل في روايات عجائبية أخرى.

في الآيات 42-43 يؤكّد على أن الكلّ أكلوا و”شبعوا” ومن جهة أخرى جُمعت 12 “قفة” (أي سلّة) ممتلئة مما تبقى من الكسر والسمك. ربّما بهذا العدد يشير الإنجيلي إلى قبائل إسرائيل الاثني عشر مريداً أن يُظهر عن طريق هذه العجيبة أن يسوع هو المسيا الذي أطعم شعب الله بمثل هذا الفيض حتى أنه جمع كسراً كثيرة. يقدّر الإنجيلي العدد بـ 5 آلاف. إن ما جاء في الآية 45 عن إرسال يسوع التلاميذ بالسفينة إلى الجانب المقابل من البحيرة ليصرف الجمع يكتمل بمقطع يوحنا 6: 14-15 الذي يتكلم عن حماس الشعب المسياني بعد العجيبة، الحماس الذي أراد يسوع أن يتجنّبه. ومن جهة ثانية يهيئ كلام يسوع إلى تلاميذه للرواية التالية مباشرة حول ظهور يسوع ماشياً على الماء وتسكين العاصفة. هذه العجيبة (عجيبة تكثير الخبز والسمك) تحتل مكانة خاصة في تقليد المسيحية الأولى، لأنها ترد مرتين عند مرقس ومتى، ومرّة واحدة عند لوقا (9: 10-17)، ومرّة واحدة عند يوحنا (6: 1-16). عند الإنجيلي الأخير تشكّل إحدى العجائب القليلة التي أوردها مشتركة مع الأناجيل الإزائية. ولكن لماذا هذه الأهمية؟

قبل أن يعطى الجواب على السؤال، يجب أن نبرر بعض الخصائص التي تتميّز بها هذه العجيبة بالنسبة إلى العجائب الأخرى. يشدّد مرقس عادة أكثر من غيره على اندهاش الجمع أمام كل معجزة (أنظر مثلاً مرقس 2: 12، 4: 31، 5: 20 و42 وغيرها)، بينما في المقطع السابق لا يبدي الجمع أية ردة فعل على الحدث العجائبي. يبدو أن العجيبة حصلت من أجل التلاميذ لا من أجل الجمع. وهذا يقودنا إلى الانطباع الآخر حول اشتراك للتلاميذ فعّال في إخراج العجيبة. لقد بادروا أولاً إلى طلب صرف الجمع (حسب الرواية الأولى)، فيجيبهم يسوع بأمر مباشر مستغرب لأول وهلة “أعطوهم أنتم ليأكلوا”، فيعبّر التلاميذ عن حريتهم، ثم بعد مباركة الخبز يوزّعونه على الجمع، وفي النهاية يجمعون “12 قفة مملؤة”. إن لهذا الاشتراك الكثيف معنى جوهرياً.

يسود اليوم التفسير المسياني لعجيبة تكثير الخبز: يبرهن يسوع، من خلال إشباع الجموع، أنه المسيا المنتظر الذي، حسب رواية يوحنا 6: 14-15، بعد العجيبة حاول الجمع أن يخطفوه بالقوّة لكي يعلنوه ملكاً. وكثيرون أيضاً من المفسّرين يتبنون التفسير الشكري للعجيبة، مؤكدين على علاقتها برواية العشاء الأخير (مرقس 14: 22-25)، ونحن نتبنى هذا التفسير كونه أكثر صحة من غيره. ما هي العناصر التي تدعم مثل هذا التفسير بين الروايتين عند مرقس؟

1- الشبه اللغوي الموجود بين الروايتين (مرقس 6: 34-44 و8: 109). وهذا برهان لغوي كاف لتأثير عمل الكنيسة الأفخارستي (5) على الشكل الخارجي اللغوي الذي اتخذته الروايتان.

2- عند الإنجيلي يوحنا، بعد رواية تكثير الخبز مباشرة (يوحنا 6: 1-15) وبعد السير على الماء (يوحنا 6: 16-21)، يتكلم يسوع مطوّلاً عن الافخارستيّا الإلهية (يوحنا 6: 22-71). وتأتي العجيبة زمنياً قبل الفصح بقليل (ربما يذكر “العشب الرطب” في يوحنا6: 39 ليذكر بتلك الأيام الربيعية). هذا ما يدل على أنه في نهاية القرن الأول (6) ساد وبكل وضوح التفسير الشكري لعجيبة تكثير الخبز من قبل يسوع، هذا التفسير الذي علينا أن نعتبره قائماً في تقليد الكنيسة قبل تأليف إنجيل مرقس.

3- ذكر الإنجيلي في الرواية الأولى أن يسوع “تحنّن” على “الجمع الكثير” “كخراف لا راعي لها”. يرمي هذا الخبر إلى إبراز رسالة يسوع كراع لشعب الله الجديد، للكنيسة. والأخبار التي كانت تتكلم عن شعب الله القديم في البريّة كافية لهذا الغرض، إذ أن المكان القفر الذي تمّت فيه العجيبة يذكّر بالبرية التي اجتازها إسرائيل، والخبز كثّره يسوع يذكر بالمنّ الذي أعطاه الله بطريقة عجائبية إلى شعبه، والسمك يذكر بالسلوى المعطاة بالطريقة العجائبية نفسها (أنظر العدد11: 4…). إذاً يسوع هو موسى الجديد الذي يقود الشعب الجديد ويطعمه.

لدينا من جهة ثانية إشارة كافية في الآيات 39-40 إلى شعب الله في البرية الذي اتكأ “صفوفاً صفوفاً، مئة مئة وخمسين خمسين”، مما يذكر بتنظيم شعب الله بالصحراء.

4- لقد شدّدنا سابقاً على مساهمة التلاميذ الفعّالة في حدث العجيبة: يعطون الخبزات للجمع، ثم يجمعون الكسر، ومن جهة أخرى يأمرهم يسوع بصورة مميّزة “أعطوهم أنتم ليأكلوا” (الآية 37). كلّ هذه النقاط تبشر بمكانة التلاميذ الرئاسية التي سوف يأخذونها في الكنيسة. لقد أخذوا من الربّ خلال العشاء السرّي الوصية “اصنعوا هذا لذكري” (لوقا 22: 19)، ويتممون (استناداً إلى هذه الوصية) سرّ الافخارستيا في الكنيسة.

5- أخيراً يعطى هذا التفسير الشكري أيضاً من خلال الأيقونة الأرثوذكسية. ومن المميّز وجود السمك في الرموز الظاهرة في الافخارستيا الإلهية في دهاليز (catacombes) الكنيسة الأولى (في روما مثلاً).

ظهور المسيح ماشياً على البحر:

45 وَلِلْوَقْتِ أَلْزَمَ تَلاَمِيذَهُ أَنْ يَدْخُلُوا السَّفِينَةَ وَيَسْبِقُوا إِلَى الْعَبْرِ، إِلَى بَيْتِ صَيْدَا، حَتَّى يَكُونَ قَدْ صَرَفَ الْجَمْعَ. 46 وَبَعْدَمَا وَدَّعَهُمْ مَضَى إِلَى الْجَبَلِ لِيُصَلِّيَ. 47 وَلَمَّا صَارَ الْمَسَاءُ كَانَتِ السَّفِينَةُ فِي وَسْطِ الْبَحْرِ، وَهُوَ عَلَى الْبَرِّ وَحْدَهُ. 48 وَرَآهُمْ مُعَذَّبِينَ فِي الْجَذْفِ، لأَنَّ الرِّيحَ كَانَتْ ضِدَّهُمْ. وَنَحْوَ الْهَزِيعِ الرَّابِعِ مِنَ اللَّيْلِ أَتَاهُمْ مَاشِياً عَلَى الْبَحْرِ، وَأَرَادَ أَنْ يَتَجَاوَزَهُمْ. 49 فَلَمَّا رَأَوْهُ مَاشِياً عَلَى الْبَحْرِ ظَنُّوهُ خَيَالاً، فَصَرَخُوا. 50 لأَنَّ الْجَمِيعَ رَأَوْهُ وَاضْطَرَبُوا. فَلِلْوَقْتِ كَلَّمَهُمْ وَقَالَ لَهُمْ:«ثِقُوا! أَنَا هُوَ. لاَ تَخَافُوا». 51 فَصَعِدَ إِلَيْهِمْ إِلَى السَّفِينَةِ فَسَكَنَتِ الرِّيحُ، فَبُهِتُوا وَتَعَجَّبُوا فِي أَنْفُسِهِمْ جِدّاً إِلَى الْغَايَةِ، 52 لأَنَّهُمْ لَمْ يَفْهَمُوا بِالأَرْغِفَةِ إِذْ كَانَتْ قُلُوبُهُمْ غَلِيظَةً. 53 فَلَمَّا عَبَرُوا جَاءُوا إِلَى أَرْضِ جَنِّيسَارَتَ وَأَرْسَوْا. 54 وَلَمَّا خَرَجُوا مِنَ السَّفِينَةِ لِلْوَقْتِ عَرَفُوهُ. 55 فَطَافُوا جَمِيعَ تِلْكَ الْكُورَةِ الْمُحِيطَةِ، وَابْتَدَأُوا يَحْمِلُونَ الْمَرْضَى عَلَى أَسِرَّةٍ إِلَى حَيْثُ سَمِعُوا أَنَّهُ هُنَاكَ. 56 وَحَيْثُمَا دَخَلَ إِلَى قُرىً أَوْ مُدُنٍ أَوْ ضِيَاعٍ، وَضَعُوا الْمَرْضَى فِي الأَسْوَاقِ، وَطَلَبُوا إِلَيْهِ أَنْ يَلْمِسُوا وَلَوْ هُدْبَ ثَوْبِهِ. وَكُلُّ مَنْ لَمَسَهُ شُفِيَ. (مرقس6: 45-56، متى 14: 22-36).

ترتبط عجيبتا تكثير الخبزات وظهور يسوع ماشياً على البحر ارتباطاً وثيقاً في الأناجيل الإزائية وفي إنجيل يوحنا. فحالاً بعد إشباع الخمسة آلاف، يرسل يسوع تلاميذه في السفينة إلى الجانب المقابل للبحيرة تجاه بيت صيدا (أي بيت الصيد)، حتى يصرف الجمع الذي حضر عجيبة تكثير الخبزات والسمك. لو أخذنا بعين الاعتبار ما جاء في يوحنا 6: 14-15، حيث يتظاهر الشعب بحماسة مقتنعاً بأن يسوع هو المسيّا المنتظر المانح طعاماً بطريقة عجائبية إلى الشعب الجائع، لأمكننا حينئذ أن نفهم أكثر التدابير التي اتخذها يسوع مباشرة بعد العجيبة: 1- ألزم تلاميذه الهرب بالسفينة لأنه كان يعرف على أغلب الظنّ أنهم يشاركون الشعب مفاهيمه المسيانية الخاطئة، لذلك أراد أن يبعدهم عنه؛ 2- صرف الجمع؛ 3- صعد إلى الجبل ليصلي على انفراد.

كثيراً ما يقدّم الإنجيليون يسوع معتزلاً من أجل الصلاة خاصة في اللحظات الصعبة والمهمّة في حياته. ربّما كان مضمون صلاته يدور حول التجربة المسيانية (7) التي خلقتها التظاهرات الشعبية الحماسية، أو يدور حول إيجاد طريقة تربوية لمواجهة تمنياتهم. يُعتبر الجبل في لغة الكتاب المقدس كمكان قربى من الله. وكثير من الحوادث المهمّة في العهد القديم والجديد تقع على الجبل، مثلاً: تسليم الله الناموس إلى موسى، “الموعظة على الجبل”، اختيار التلاميذ الاثني عشر، التجلي وغيرها.

بينما كان يسوع على انفراد في الجبل يصلّي، أخذ المركب الذي يحمل التلاميذ يواجه وسط البحيرة أحولاً جدّية صعبة، يناطح الأمواج. إلى جانب يأس التلاميذ المرجّح من عدم تجاوب معلّمهم مع تظاهرات الشعب الحماسية المسيانية، يضاف الآن الخوف من الهلاك من جراء مخاطر عناصر الطبيعة. لكن المسيح لم يترك تلاميذه طويلاً وحدهم وبدون معونة. يظهر لهم ماشياً على البحر في “الهزيع” الرابع من الليل أي ما بين الساعة 3 و6 صباحاً، وفقاً لتقسيم الليل الروماني إلى أربعة أقسام يتناوب فيها الحرّاس مداورة (أنظر مرقس 13: 35، الأسماء الشعبية التي أعطيت للأقسام الأربعة: المساء، نصف الليل، صياح الديك والصباح).

أمام اضطراب التلاميذ وظنهم أنهم يرون “خيالاً”، يأتي معلمهم وينقذهم قائلاً: “ثقوا، أنا هو، لا تخافوا” (الآية 50). صوت يسوع هذا المشجّع فعل هذا العجب الذي داخلهم، ثم دوّنوه في الأناجيل. وإلى جانب هذا الإحساس عند التلاميذ أمام عبارة يسوع، لا بدّ أن نرى فيها أيضاً وعداً منه ينطوي على أنه سوف يوحد باستمرار إلى جانب سفينة الكنيسة التي عليها ألا تخاف وألا تتخلى عن مروءتها في أوان العواصف وأنواء الحياة التي تتقاذفها وتزعزعها في العالم.

بعد هدوء الريح دخلت السفينة إلى جنيسارت (أنظر أرض جنيسارت عند متى). هكذا يُدعى السهل الصغير الخصب الذي يقع إلى غرب بحيرة طبريا والمنبسط بينها وبين كفرناحوم. ربّما أخذت البحيرة اسمها جنيسارت من هذا السهل، وهي تدعى عادة بحيرة طبريا أو بحر الجليل أو البحيرة. انتشر خبر حضور يسوع في المنطقة، فقدّموا إليه “حيث سمعوا أنه هناك” المرضى لكي يشفيهم عندما “يلمسون ولو هدب ثوبه” (الآيات 53-56).

الخلاصة:

تشكّل عجيبة تسكين العاصفة وسير يسوع على البحر من الناحية اللاهوتية ملحقاً للعجيبة السابقة: عن طريق تكثير الخبزات وإشباع الجموع، يظهر يسوع المعطي خبز الحياة (المنقذ من الجوع)، وكذلك عن طريق سيادته على عناصر الطبيعة وخاصة على البحر، يظهر غالباً الموت خصوصاً وأن البحر في مفاهيم ذلك العصر كان صورة للموت ورمزاً للقوّات الشيطانية.


(*a) {نرى أنه من المفيد هنا، أن نقتبس مايقوله الدكتور أسد رستم، وهو الذي له مساهمات في علم التأريخ وليس مؤرخاً فقط:

“الاجتهاد السلبي هو ما عبر عنه المناطقة بقولهم: “السكوت حجة”. ومعناه أن يتمكن المؤرخ من القول بأن كذا وكذا حدث أو لم يحدث لأن الأصول ساكتة خالية. وهو أمر خطير للغاية. فقد يكون السكوت حجة وقد لا يكون. ولا بد من التثبت من أمور ثلاثة قبل التذرع بمثل هذه الحجة. وهي أن يكون المؤرخ على يقين جازم من أمر إطلاعه على جميع الأصول وأن لا يعتريه شط في أن ما لديه من هذه المراجع الأولية هو جميع ما دونه السلف في الموضوع الذي يبحث وأنه لم يضع منها شيء. [والآن هذه هي الملاحظة التي تدخل في موضوعنا] وثالثاً أن يتأكد من استحالة سكوت الأصول عن الموضوع الذي يبحث. وهكذا فإن حجة السكوت لا تتم إلا إذ اقترن بالرواي حالتان لا تنفصلان: أولهما أن تكون الوقائع التي يمكن أن يكون قد سكت عنها وقائع يهتم بها اهتماماً شديداً. والثانية أن يكون الراوي قد صمم على تدوين جميع الأخبار التي أحاط بها علماً”. (كنيسة مدينة الله أنطاكية العظمى، الجزء الأولى، صفحة 28-29)

وهكذا نرى أن هذا الاستدلال ينقصه الموضوعية، إذ يفترض أن هذه المقاطع كانت يجب أن تُكتب في إنجيل لوقا. في حين أن هذا ليس أمراً قاطعاً لأن الإنجيليين لاهوتيين قبل أن يكونوا مؤرخين. فأي حدث يروى فالغاية منه لاهوتية قبل أن تكون تاريخية. فلذلك لم يكن لزاماً على القديس لوقا أن يقتبس هذه المقاطع، لأنها لا تخدم ما يرمي إليه أثناء التدوين. ونقول هنا مع القديس يوحنا: 20: 30 وَآيَاتٍ أُخَرَ كَثِيرَةً صَنَعَ يَسُوعُ قُدَّامَ تلاَمِيذِهِ لَمْ تُكْتَبْ فِي هَذَا الْكِتَابِ. 31 وَأَمَّا هَذِهِ فَقَدْ كُتِبَتْ لِتُؤْمِنُوا أَنَّ يَسُوعَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ وَلِكَيْ تَكُونَ لَكُمْ إِذَا آمَنْتُمْ حَيَاةٌ بِاسْمِهِ.}…. (الشبكة)

(*b) هذا رأي ضمن الآراء، ولكن الرأي الأكثر ترجيحاً في الكنيسة الأرثوذكسية هو أن أخوة يسوع هم أقرباء له في الجسد إما من طرف أمه السيدة العذراء، أو عن طريق قرابتهم ليوسف النجار.. للمزيد راجع (شرح إنجيل متى للقديس يوحنا الذهبي الفم، ترجمة وتعليق الدكتور عدنان طرابلسي، الجزء الثاني، الدراسة الرابعة: دراسة في أخوة الرب، صفحة 369-410)… (الشبكة)

(*c) {النصوص الإزائية هنا تبدو لوهلة أنها متناقضة. ولكن قراءة لهذه النصوص مع آباء الكنيسة، أو المفسرين الأرثوذكسيين الجدد (لاحظ أن هذا الكتاب، هو شرح قُدم لدارسي اللاهوت ولذلك هو يطرح أسئلة كلما أجاب على سؤال، لكي يكون هناك دائماً حافزاً للمعرفة أكثر، فهذا أسلوب أكثر متعة للدارس)، سنجد أن الثلاثة يتفقون بأن السيد يطلب منهم ألا يتدخروا شيئاً للغد. ولكن كل من القديسين يصف الحادثة بمنظور مختلف، لكن غير متناقض. فيقول القديس متى لا يجب أن يقتني أحداً أي شيء، ولا حتى عصا، مقابل الموهبة المعطاة له وخدمته للكنيسة. في حين يقول القديس مرقس أنه على الكارز أن يعي احتياجاته الآنية الهامة، فيتدبرها، بإرشاد الرب، ولا يكون كسولاً. لكن دون أن يكون تدبره عن طريق أخذ مقابل. ويؤكد القديس لوقا هاتين النظرتين في النص الموازي لمرقس ومتى مع نص لوقا 22: 35-36.

ويقول الأب متى المسكين في تفسيره لنص القديس لوقا: “ولو أن ق. مرقس يوردها وحدها -أي العصا- للطريق: «لا يحملوا شيئاً للطريق غير عصاً فقط» (مر 8:6)، إلاَّ أن ق. لوقا يلغيها. ويبدو أن ق. مرقس قصد بها الاستناد عليها في المشي فقط، ولكن ق. لوقا رفضها باعتبارها كسلاح للدفاع عن النفس”. ويقول في تفسيره لنص القديس متّى: “والمعنى هو أن لا تقتنوا لا كميات كبيرة ولا صغيرة ولا ”فكة“، لأن هذا معناه أنكم تنوون الاعتماد على العالم، لأن هذه تختص بالعالم. أمَّا أنتم فخدمتكم تختص بملكوت الله، والله لا يتعامل بالذهب والفضة والنحاس، والله سيكون هو المتكفِّل بأعواز الحياة”}… (الشبكة)

(1) هناك شهادة في رسالة يعقوب 5: 14 لمسحة الزيت لصحة النفس والجسد.

(2) يتلى المقطع في الكنيسة في يوم عيد قطع رأس يوحنا المعمدان (29 آب)، وهو يوم صوم.

(3) حسب المؤرخ يوسيفوس لم تكن هيروديا زوجة فيلبس بل زوجة أخ آخر لهيرودس انتيبا يدعة هو أيضاً هيرودس. وكانت هيروديا قد حصلت منه على ابنتها سالومي التي فيها بعد تزوّجت من فيلبس. أمّا هيرودس انتيبا فكان متزوجاً من ابنة ملك النبطيين الحارث التي طلّقها لكي يأخذ هيروديا مما جرّه إلى حرب ضد الملك الحارث وقد عُلب فيها. وانتقل هيرودس انتيبا لاحقاً إلى روما لكي يطالب بلقب ملك (كان قبلاً رئيس ربع)، لكن الأمبراطور كاليغولا بدلاً من إعطائه اللقب نفاه إلى ليون في فرنسا وتبعته إلى هناك هيروديا، وبعدها ذهب إلى اسبانيا حيث توفي سنة 41 بعد المسيح.

(4) أي له علاقة بسرّ الشكر، بسرّ الافخارستيا أي القداس الإلهي والمناولة.

(5) أي ممارسة الكنيسة لسرّ الافخارستيا، سر الشكر أي القداس الإلهي.

(6) كُتب إنجيل يوحنا في نهاية القرن الأول أي بعد تأليف الأناجيل الإزائية.

(7) نذكّر أن الشعب كان يريد أن يعلنه ملكاً حسب رواية الإنجيلي يوحنا.

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
arArabic
انتقل إلى أعلى