Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

” لأن غضب الله معلن من السماء على جميع فجور الناس وإثمهم الذين يحجزون الحق بالإثم ” (18:1).

1ـ لاحظ الطريقة التي يتكلم بها الرسول بولس، فبعدما نصح هؤلاء بممارسة الأمور الأكثر نفعًا، تحول بحديثه إلى الأمور المخيفة. لأنه بعدما قال إن البشارة هي سبب الخلاص والحياة، كما أنها إعلان لقوة الله وأنها تقود إلى الخلاص وإلى البر، نجده يتكلم عن الأمور التي من الممكن أن تسبب خوفًا لأولئك الذين لا يحترسون. لأن العديد من الناس في كثير من الأحيان لا ينجذبون إلى حياة الفضيلة عن طريق الوعد بالخيرات الآتية ولا عن طريق الترهيب من الأمور المخيفة والمحزنة، بل إن ما يجذبهم فقط هو كلا الأمرين معًا. وبهذا فإن الله لم يعد البشر بالملكوت فقط، بل حذّر بالعقاب في جهنم. وهكذا تكلم الأنبياء إلى اليهود مشيرين إلى الأمرين معًا، فدائمًا ما كانوا يذكرون الخيرات والدينونة. ولذلك ليس مصادفة أن يغيّر الرسول بولس أسلوب حديثه، وقد فعل ذلك بترتيب ولياقة، لأنه يذكر أولاً الأمور النافعة، ثم بعد ذلك يتحدث عن الأمور المحزنة، موضحًا أن الأمور النافعة تأتي من الله. بينما الأمور المحزنة تأتي من المتهاونين المتغافلين، هكذا أيضًا نجد أن إشعياء النبي يشير أولاً إلى الخيرات ثم بعد ذلك إلى الأمور المحزنة قائلاً: ” إن شئتم وسمعتم تأكلون خير الأرض. وإن أبيتم وتمردتم تؤكلون بالسيف لأن فم الرب تكلم” [1] . وهو ما أشار إليه القديس بولس أيضًا (عندما تحدث أولاً عن الخيرات ثم تبع ذلك بالحديث عن الدينونة). لاحظ أن المسيح أتى لكي يهب الغفران والبر والحياة، لا بالكلام، بل بصليبه. إذًا فالأمر العظيم والذي يدعو إلى الإعجاب، ليس أنه قدم كل هذه العطايا، بل لأنه عانى آلام الصليب.

فلو إنكم ازدريتم بهذه العطايا، فإنكم ستتعرضون للدينونة. وانتبه كيف يواصل حديثه إذ يقول ” لأن غضب الله مُعلن من السماء”. فغضب الله يمكن أن يُستعلن مرات كثيرة هنا في الحياة الحاضرة، مثلما يحدث في المجاعات، والأمراض، والحروب، حيث يُعاقب الجميع بشكل فردي وجماعى أيضًا. وهل في هذا ما يدعو للدهشة؟ إن العقاب فيما بعد سيكون أكبر وأشمل، فما يحدث الآن يهدف إلى التصحيح والتقويم، لكن فيما بعد يكون العقاب “الدينونة”، الأمر الذي عرضه الرسول بولس قائلاً:” ولكن إذ قد حكم علينا نؤدب من الرب لكي لا ندان” [2] . وإن كان بعض الناس الآن يعتقدون أن أمورًا كثيرة محزنة تحدث في الحياة بسبب سلوك الناس السيء وليس بسبب غضب الله. لكن في الدينونة الأخيرة سيكون عقاب الله علني، عندما يأمر الديان المخوف الجالس علي عرشه، بطرح البعض في البحيرة المتقدة بالنار، والبعض إلى الظلمة الخارجية، وآخرين لعقوبات أخرى أشد وأصعب.

          ولأي سبب لم يتكلم القديس بولس بوضوح ويقول إن ابن الله سيأتي مع ملائكة كثيرين، ويجازي كل أحد بحسب أعماله؟ بل قال: ” لأن غضب الله معلن”. لأن المستمعين إليه كانوا من المعمدين الجدد. ولهذا فإنه يوجههم أولاً من خلال الأمور التي آمنوا بها وقبلوها. وأيضًا يبدو لي أنه يتوجه بكلامه كذلك إلى الوثنيين، ولذلك فمن هنا يبدأ كلامه عن (غضب الله المعلن). بينما فيما بعد يوجه كلامه إلى موضوع الدينونة فيقول ” على جميع فجور الناس واثمهم الذين يحجزون الحق بالاثم ” هنا يوضح أن طرق الاثم كثيرة، بينما طريق الحقيقة واحد، لأن الخداع متنوع ومتعدد الأشكال وغير واضح، بينما الحقيقة هي واحدة.

ولما كان قد تكلم عن الأمور الخاصة بالإيمان، نجده الآن يتكلم عن أمور هذا العالم “الحياة”، مشيرًا لفجور الناس ومظالمهم. لأن المظالم أيضًا كانت كثيرة ومتنوعة. بعضها متعلق بالمال، مثلما يحدث عندما يظلم أحد قريبه ويسلب هذا المال، والبعض الآخر يتعلق بالنساء، حينما يترك الرجل امرأته ويقوض زواج الآخر بأن يطمع في زوجة الآخر. وهذا يسميه الرسول بولس طمع قائلاً: ” أن لا يتطاول أحد ويطمع على أخيه في هذا الأمر لأن الرب منتقم لهذه كلها” [3] ، والبعض الآخر يتعلق بالنساء والمال معًا، وهم بهذا يدمرون حياة القريب. وهذا يعد ظلمًا، لأنه بالحقيقة ” الصيت أفضل من الغنى العظيم والنعمة الصالحة أفضل من الفضة والذهب” [4] . لكن البعض يقول إن هذا أيضًا (أي الحديث عن مظالم الناس) قد قاله الرسول بولس من جهة الأمور الإيمانية، لكن لا يوجد ما يمنعه أن يقوله من جهة الأمور الإيمانية والعملية. ومعنى قوله ” يحجزون الحق بالإثم” توضحه الآية اللاحقة ” لأن معرفة الله ظاهرة فيهم لأن الله أظهرها لهم” لكن هذا المجد (الخاص بمعرفة الله باطنيًا) نسبوه إلى الخشب والحجارة.

2ـ مثل ذاك الذي استؤمن على أموال الملك، ولديه أوامر أن ينفقها لأجل مجد الملك، فلو أنه أنفقها على لصوص، ونساء ساقطات، وأناس مخادعين وجعلهم في مظهر مبهر بأموال الملك، فإنه يُعَاقب لأنه بسلوكه الشائن هذا يكون قد ظلم الملك جدًا. هكذا هؤلاء أيضًا قد اقتنوا معرفة الله ومجده، ثم بعد ذلك نسبوها إلى الأوثان، وبالظلم يحجزون الحق، فهؤلاء اذًا قد صنعوا الظلم، لأنهم لم يستخدموا المعرفة في الأمور التي كان ينبغي لهم أن يستخدموها فيها. إذًا ما معنى كل هذا؟ يعني أن معرفة الله قد وضعها الله في البشر منذ البداية، لكن هذه المعرفة نسبها عبدة الأوثان لخشب وحجارة، وهكذا حجزوا الحق، لأن الحقيقة تظل ثابتة، لأن مجدها أيضًا ثابت غير متغير. فمن أين عرفت يا بولس أن الله قد وضع معرفته فيهم؟ لأنه يقول:

” إذ معرفة الله ظاهرة فيهم ” (رو19:1)

غير أن هذا لا يعتبر دليل بقدر ما يمثل هذا دينونة عليهم. لكن وضح لي كيف أن معرفة الله كانت ظاهرة فيهم، وأنهم بإرادتهم قد احتقروها، من أين إذًا يتضح أنها كانت ظاهرة؟ هل نادى إليهم من السموات؟ لم يحدث هذا، لكن الله الذي استطاع أن يجذب هؤلاء بواسطة أقواله، قد وضع أمامهم الكون حتى أن الحكيم والجاهل، السكيثي والبربري، يستطيع أن يرى بعيونه ويفهم جمال الأشياء المرئية. وهذا كله يقوده إلى معرفة الله ولهذا قال:

” لأن أموره غير المنظورة تُرى منذ خلق العالم مدركة  بالمصنوعات قدرته السرمدية ولاهوته ” (20:1).

إن كان النبي  قد نطق قائلاً: ” السموات تحدث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه” [5] . فماذا سيقول إذًا عبدة الأوثان يوم الدينونة الأخيرة؟ هل سيقولون إننا لم نكن نعرفك؟ أو إننا لم نصغ لصوت السماء حينما تحدثت بمجد الله؟ إنه صوت النظام الكوني المتناسق، الذي ينادى بقوة أعظم من صوت النفير. ألم تروا قوانين الليل والنهار، فهي باقية في ثبات وبشكل مستمر، ونظام الشتاء والربيع والصيف والخريف الذي هو ثابت وغير متحرك؟ ألا يسبحه البحر بكل هذه الأمواج؟ إن كل شيء يتم في نظام، وبجمال وعظمة لتمجيد الخالق. كل هذا وأكثر منه، يلخصه الرسول بولس قائلاً: ” لأن أموره غير المنظورة ترى منذ خلق العالم، مدركة بالمصنوعات قدرته السرمدية ولاهوته حتى أنهم بلا عذر” وعلى الرغم من أن الله لم يخلق الكون لهذا الهدف (أي لكي يُعلن عن وجوده)، إلاّ أن هذا الهدف قد تحقق، ولا أنه أيضًا قد منحهم المعرفة الكثيرة لكي يحرمهم من كل عذر، ولكن الهدف هو أن يعرفوه جيدًا. ثم بعد ذلك يوضح كيف أنهم (أي عبدة الأوثان) فقدوا كل عذر فيقول لهم:

” وأنهم لما عرفوا الله لم يمجدوه أو يشكروه كإله بل حمقوا في أفكارهم” (21:1).

إنها أول مخالفة، حيث أن عبدة الأوثان لم يمجدوا الله وهذا إثم عظيم، والثانية أنهم سجدوا للأوثان، والتي بسببها اتهمهم إرميا قائلاً: ” هذا الشعب عمل شرّين. تركوني أنا ينبوع المياه الحية لينقروا لأنفسهم آبارًا مشققة لا تضبط ماء” [6] . ثم بعد ذلك يقدم دليلاً على أنهم عرفوا الله، لكنهم لم يستخدموا هذه المعرفة كما ينبغي. ولذلك فإنه يقدم الدليل على أنهم عرفوا آلهة أخرى. ومن أجل هذا أضاف  ” لأنهم لما عرفوا الله لم يمجدوه”.

ويشير إلى السبب في ذلك، أي السبب الذي لأجله سقطوا في الحماقة. وما هي هذه الحماقة؟ هي إنهم أخضعوا كل شيء لأفكارهم. ثم بعد ذلك، وجّه لهم ضربة قوية، لأنه قال: ” حمقوا في أفكارهم واظلم قلبهم الغبي ”.

وكما يحدث في ليلة غير مقمرة لو شرع شخص في السير في طريق غير معروف، أو في أن يصارع أمواجًا، فإنه لن يصل إلى هدفه بل بالحري يضيع تمامًا. هؤلاء أيضًا بعدما شرعوا في السير في الطريق الذي يقود إلى السماء، أطفأوا النور بأنفسهم، وتخلّوا عن الله، ووثقوا في أنفسهم، وبدلاً من الثقة في الله خضعوا لأفكارهم غير المستقيمة لأنهم حاولوا أن يحصروا الغير جسدي في أشكال وتماثيل. والغير محدد في شكل معين، وضعوا له أشكال محددة [7] . ولذلك سقطوا في هوة عقيمة. وبالإضافة إلى كل ما ذكره، يشرح سبب آخر لرؤيتهم الخاطئة قائلاً:

” وبينما هم يزعمون أنهم حكماء صاروا جهلاء ” (22:1).

لأنهم تخيلوا أنفسهم في وضع عظيم، ولم يقبلوا أن يسيروا في الطريق الذي حدده الله لهم، واستسلموا لأفكارهم الغبية. ثم بعد ذلك يشرح ويصف الأنواء والاضطرابات، كيف أنها مخيفة، وأن المتسببين فيها سيُحرمون من الغفران قائلاً:

” وأبدلوا مجد الله الذي لا يفنى بشبه صورة الإنسان الذي يفنى والطيور والدواب والزحافات ” (23:1).

3ـ إن أول مخالفة أنهم لم يعرفوا الله، والثانية أنهم لم يعرفوه رغم أن الشواهد على وجوده كثيرة وواضحة، والثالثة أنهم لم يعرفوه على الرغم من أنهم وصفوا أنفسهم بأنهم حكماء، والرابعة أنهم لم يكتفوا بعدم معرفته، بل أنزلوه إلى مستوى التماثيل والخشب والحجارة. وهنا نجد أن بولس الرسول قد قضى على افتخارهم ـ كما في الرسالة إلى أهل كورنثوس ـ وإن لم يكن بنفس الأسلوب لأنه في تلك الرسالة قال: ” لأن جهالة الله أحكم من الناس” [8] أما هنا فبدون أي مقارنات، يسخر من حكمتهم هذه، مظهرًا أنها تافهة وسخيفة وتدل على تكبرهم وافتخارهم.

ولكي تعلم أنه على الرغم من أن معرفة الله ظاهرة فيهم، إلاّ أنهم خانوا هذه المعرفة، قال “أبدلوا”، وهذا يعني أنه كان لديهم شيئًا أرادوا إبداله بشيء آخر، فهم إذًا قد أرادوا أن يحصلوا على شيء أكثر، ولم يقبلوا النواميس التي أعطيت لهم. ولهذا خسروا هذه النواميس، لأنهم ارتأوا أمورًا أخرى بعيدة عن الحق الإلهي.

إن مثل هذه الأفعال نجدها منتشرة بين الفلاسفة اليونانيين، فلقد كانوا مقاومين بعضهم لبعض، فأرسطو وقف في وجه أفلاطون، والرواقيون غضبوا من أفلاطون، والواحد صار عدوًا لغيره وبناء عليه لا ينبغي أن نعجب بهم من أجل ما ينادون به من حكمة بشرية، بل ينبغي أن ندير لهم ظهورنا. لأن أولئك الذين وثقوا في منطق هؤلاء الفلاسفة وأفكارهم وحكمتهم، صاروا حمقى وعانوا كل هذه المعاناة. إذ أن الذين يبدّلون “مجد الله الذي لا يفنى بشبه صورة الإنسان الذي يفنى والدواب والزحافات” هؤلاء يستحقون السخرية. فبأي شيء أبدلوا مجد الله، ولمَن نسبوا هذا المجد؟ لقد تخيلوا أن المادة إله وأنها ضابط الكل، وخالقهم، وهي تهتم بهم وترعاهم. أرأيت إذًا لمَن نسبوا هذا المجد. ليس للبشر، بل لتماثيل بشبه صورة الإنسان الذي يفنى. ولم يقفوا عند هذا الحد بل وصلوا إلى مستوى الحيوانات المتوحشة أو بمعنى أفضل إلى صور هذه الحيوانات. لكن من فضلك انتبه إلى حكمة الرسول بولس، حيث أشار إلى الطرفين المتباعدين تمامًا، ونعني حديثه عن الله غير الموصوف الذي لا يُعبّر عنه، وحديثه عن الزحافات، لكي يُبيّن إلى أي حد وصل جنونهم وحماقتهم. لأن المعرفة التي كان ينبغي عليهم اقتناؤها عن ذاك الذي لا يقارن بأي شيء في الوجود، قد نسبوها للمخلوقات الدنيئة.

وقد يتساءل المرء ما هي علاقة هذه الأمور بالفلاسفة؟ العلاقة واضحة حيث أن كل الأمور التي ذكرناها مرجعها نظريات الفلاسفة. لأن هؤلاء الفلاسفة اتخذوا المصريين الذين علّموا بعبادة الأوثان معلّمين لهم. حتى أفلاطون الذي يبدو أنه الأفضل، كان مولعًا بهذه الأمور، وكان معلّمه [9] متأثرًا بهذه الأوثان. لأنه هو الذي نصح بأن تقدم ذبيحة من الطيور في معبد الأسكليبيوس [10] .

إن المرء يستطيع أن يرى في هذا المعبد أيقونات لحيوانات متوحشة وزحافات، بل إنهم  كانوا يقدمون العبادة لكل من أبوللو وديونيسيوس مع هذه الزواحف. كما أن بعض الفلاسفة رفعوا من مكانة الثيران والعقارب وحيوانات أسطورية أخرى إلى مستوى الآلهة. وهكذا نجد في كل مكان أن الشيطان يهتم بأن يُسقط البشر في عبادة تماثيل وصور الزحافات بل وأن يخضعهم  لهذه الحيوانات غير العاقلة مع أن هؤلاء البشر هم أولئك الذين أراد الله أن يرفعهم أعلى من السموات. وليس هنا فقط، بل في مواضع أخرى، سترى أن هذا الفيلسوف (أفلاطون) ـ الذي يُعَد قمة بين الفلاسفة ـ هو مسئول عن هذه الأمور التي ذُكرت. وهو (أي أفلاطون) عندما يستشهد بأقوال الشعراء، وينادى بضرورة أن يؤمن الإنسان بأفكارهم عن الله، لأن لديهم معرفة كبيرة وجيدة ـ حسب رأيهم ـ فهو لا يقدم شيئًا آخر سوى حماقة هؤلاء الشعراء. وهذه الأمور المضحكة، يطالبنا بأن نعتبرها أمورًا حقيقية.

” لذلك أسلمهم الله أيضا في شهوات قلوبهم إلى النجاسة لإهانة أجسادهم بين ذواتهم ” (رو24:1)

ما يذكره الرسول بولس هنا، يُظهر أن الإفتقار إلى التقوى قد صار سببًا للإنحراف ولمخالفة قوانين الطبيعة. وكلمة ” أسلمهم” هنا تعني تركهم. فكما أن قائد الجيش إذا ترك جنوده في الساعة التي يشتد فيها وطيس المعركة، فإنه بهذا يسلمهم إلى الأعداء، لا لأنه هو الذي دفعهم بين أياديهم، بل لكونه قد حرمهم من مساعدته. هكذا يحرم الله من عطاياه، أولئك الذين لا يقبلوا كل ما هو له. فهو قد منحهم عقلاً وفكرًا وفهمًا يستطيعون من خلاله إدراك الصواب، غير أنهم لم يستخدموا شيئًا من كل هذا لأجل خلاص نفوسهم، بل استخدموا هذه المنح في أمور غير لائقة بالمرة.

إذًا هل كان هناك شيء ينبغي على الله أن يفعله؟ هل يجذبهم إليه بعنف وقوة؟ هذا لا يفعله ولا حتى البشر الأتقياء. لكنه تركهم، الأمر الذي صار بالفعل حتى يتجنبوا على الأقل هذه الحماقة، كي يتعلموا من خبراتهم الشهوانية السيئة. فلو قرر ابن للملك أن يعيش مع قطّاع طرق وقتلة ونباشى قبور، مهينًا بهذا أباه ومفضلاً غنائمهم عن خيرات بيت أبيه، فإن أباه سيتركه حتى يستطيع ـ من خلال هذه الخبرة السيئة ـ أن يدرك حجم ما اقترف من حماقة.

4ـ ولكن لماذا لم يشر بولس الرسول إلى خطية أخرى مثل القتل والشراهة وباقي الخطايا المشابهة، لكنه أشار فقط إلى النجاسة بقوله: “وأسلمهم الله أيضًا في شهوات قلوبهم إلى النجاسة لإهانة أجسادهم بين ذواتهم” [11] . يبدو لي أنه يقصد المتلقين للرسالة والمستمعين إليها في ذلك الوقت. ثم يقول ” لإهانة أجسادهم بين ذواتهم” لاحظ كيف يهاجم بقوة أمورًا أخرى، إذ أنهم اشتهوا النجاسات التي سلمها لهم الأعداء، هذه فعلوها لإهانة ذواتهم. ثم بعد ذلك يفحص السبب ويقول: ” الذين استبدلوا حق الله بالكذب وعبدوا المخلوق دون الخالق” [12] .

لاحظ أن الأمور التي تثير السخرية يُصنفها بحسب نوعها، بينما تلك التي يعتبرها أكثر وقار من تلك الأمور، يشير إليها بشكل شامل، وفي كل هذا يظهر أن الإنسان الذي يعبد ” المخلوق دون الخالق” هو متأثر بالأعراف اليونانية. انتبه لطريقة عرضه، لأنه لم يقل فقط “عبدوا المخلوق” لكنه أضاف ” دون الخالق” مشددًا في كل موضع على خطيتهم هذه، ويستبعدهم بهذه العبارة من نوال الصفح.

” الذي هو مبارك إلى الأبد آمين ” (رو25:1)

هنا يقول إن الله لا يناله أي أذى، ولا يطاله شيء مما يفعل البشر لأنه مبارك في كل الدهور. الله لا يدافع عن نفسه، لأنه حتى لو أنهم تصرفوا وسلكوا بشكل مهين، فإن الله لا يُهان، ولا يفقد شيء من مجده، بل يظل مباركًا على الدوام.

فإن كان الإنسان الذي يسلك بحكمة لا يُصاب بأي أذى من قِبل مَن يوجه له الإهانة، فبالأولى لا يمكن تصور أن الخالق يُهان من أمور مثل هذه. فمجد الله ثابت غير مُتغير ودائم. والبشر الحكماء يصيرون مشابهين لله في هذا الشأن، إذ هم أيضًا لا يعانون شيئًا عندما يساء إليهم ولا تلحق بهم الإهانة عندما يُشتمون، ولا يُصابوا بأي أذى من الهجوم عليهم، ولا يصيرون محتقرين عندما يحتقرهم الآخرون.

وقد يتساءل المرء كيف يحدث هذا؟ بالطبع يحدث هذا وأكثر منه عندما لا نتضايق أو نحزن من هذه الإهانات، وكيف يمكن ألاّ يتضايق الإنسان؟ أخبرني إذًا هل تعتبر تجاوز ابنك في حقك إهانة؟ أبدًا، وهكذا ينبغي أن نسلك بمحبة تجاه القريب، وعندما نسلك هكذا فلن يُصيبنا أي ضرر أو ضيق. لأن المُسيئين هم حمقى، ولا ينبغي أيضًا أن نطالبهم بالكف عن إهانتنا، وعند احتمالنا لهذه الإهانات نكتسب فخرًا وكرامة واكليلاً يتوج هاماتنا. ألا ترى أن الماس لا يُخدش عند احتكاكه بشيء صلب؟ فهذه هي طبيعته وخاصيته، وأنت تستطيع أن تصير مثل هذا الماس بإختيارك وبكامل إرادتك الحرة. ألم تر الفتية الثلاثة في آتون النار وهم لا يحترقون؟ ودانيال الذي لم يُصب بأي أذى في جب الأسود؟ فبالأولي جدًا أن يحدث أمر مثل هذا الآن. فإنه يوجد بالقرب منا أسود مخيفة، أي الغضب والشهوة ولها أسنانًا قوية تفتك بذاك الذي يسقط فريسة لها. فلتكن مثل دانيال، ولا تسمح للشهوات أن تخدش نفسك الثمينة, لكن قد يقول قائل إن دانيال كانت ترافقه نعمة الله. هذا صحيح، لكن رغبته وإرادته النقية كانت قد سبقت هذه النعمة. وبناء عليه لو أردنا أن نصير مثل دانيال، فإن النعمة ستكون حاضرة الآن أيضًا، حتى ولو كانت الوحوش جائعة فلن تقترب منا. فإذا كانوا قد احترموا جسد العبد (دانيال) [13] ، فبالحري لن تقترب منا، لأننا صرنا أعضاء جسد المسيح. لكن لو حدث وهاجمتنا الأسود فهذا يرجع إلى إرتكاب الآثام. لأنه بالحقيقة هناك أناس ارتبطوا بنساء ساقطات وقوضوا زيجات، ومن أجل هذا لاقوا انتقام الأعداء، لكن هذا لم يحدث لدانيال، ولن يحدث لنا إن أردنا، فالأسود لم تُصب دانيال بأذى، ونحن أيضًا لو كنا نحيا في الروح، فإن إهانة أولئك الذين يضمرون لنا الشر وظلمهم سيعود بالفائدة علينا.

وهكذا صار الرسول بولس أكثر شهرة من أولئك الذين أرادوا أن يصيبوه بضرر وأضمروا له الأذى، وأيوب أيضًا تجاوز التجارب الكثيرة التي ألمّت به، وإرميا جاز الجب المملوء قذارة، ونوح أُنقذ من الطوفان، وهابيل صار معروفًا من خلال المكيدة التي دُبرت له وأدت إلى قتله، وموسى النبي أيضًا تحمّل تذمر وعصيان اليهود، كما أن اليشع وكل هؤلاء الأنبياء العظام لم يلبسوا الأكاليل المشرقة كنتيجة للراحة والتمتع، لكنهم جازوا ضيقات وتجارب كثيرة. ولهذا قال السيد المسيح لتلاميذه ” في العالم سيكون لكم ضيق ولكن ثقوا أنا قد غلبت العالم ” [14] . فيجب علينا إذًا أن نُصارع مع التجارب حتى المنتهي، والله قادر أن يسند الجميع ويمد يده لخلاص الكل، ولنتمتع بإشراقة المنتصرين ونحصل على الأكاليل الأبدية بالنعمة ومحبة البشر اللواتي لربنا يسوع المسيح الذي يليق به المجد والقوة والكرامة مع الآب  والروح القدس الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور آمين.


[1] إش19:1ـ20.

[2] 1كو32:11.

[3] اتس6:4.

[4] أم1:22.

[5] مز1:19.

[6] إر13:2.

[7] ربما يقصد الأوثان التي أقامها البشر لأنفسهم ثم عبدوها.

[8] 1كو25:1.

[9] معلّم أفلاطون هو الفيلسوف اليونانى المعروف سقراط الذي وُلد سنة 469 قبل الميلاد. ويُعد سقراط هو مؤسس “علم الأخلاق” كما يقول أرسطوتاليس، وأول مَن وضع عدة تساؤلات حول “ماهية الفضيلة” و”من أى شيء يتألف الصلاح”. وقد تعلّم أفلاطون في مدرسة سقراط لمدة تسعة سنوات كاملة.“ qrhskeutik» kaˆ hqik» egkuklopa…deia “ Aq¾na 1963, tomoj 11,sel 618-621.

[10] أسكليبيوس (asklhpiÒj) هو إله الطب عند اليونان. وكان طبيب بارع ومتميز في عمله. وقد أٌُقيم لهذا الإله العديد من المعابد في كل أنحاء اليونان وخارجها أيضًا، حيث كانت توجد في آسيا الصغرى في مدينتى سميرنا، وبرغامس، وفي إيطاليا أيضًا وخاصةً في مدينتي تارندا وروما.  وكانت الاحتفالات تُقام في هذه المعابد بتقديم الذبائح تكريمًا لهذا الإله. بالإضافة إلى ممارسة مهنة الطب فيها، والأرجح أن هذه الممارسة كانت تتم في غرف ملحقة بالمعبد، كان يقيم فيها المرضى طوال فترة علاجهم. “ qrhskeutik» kaˆ hqik» egkuklopa…deia “ Aq¾na 1963, tomoj 3, sel 379.

[11] رو24:1.

[12] رو25 :1.

[13] إذ أن دانيال عاش قبل تجسد المسيح الذي حررنا من العبودية ووهبنا نعمة التبني وصيّرنا أعضاء في جسده.

[14] يو33:16.

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF

معلومات حول الصفحة

عناوين الصفحة

محتويات القسم

الوسوم

arArabic
انتقل إلى أعلى