Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

يقول داود النبي “انفخوا في رأس الشهر بالبوق ليوم عيدنا المبهج” (1). إن الوصايا الخاصة بتعليم الملهم من الله (داود النبي) هي على أية حال، قانون لكل من يسمع. إذاً فلأن يوم احتفالنا المفرح قد أتى، فيجب علىّ أنا أيضاً أن أطبق هذا القانون، وأصير نافخاً بالبوق لهذا اليوم المقدس. إن بوق الناموس كما يشير الرسول بولس هو الكلمة. لأنه يقول لا ينبغي أن يكون صوت البوق غير واضح (2). بل يجب أن تكون الأصوات مميزة، لكي تكون واضحة لكل مَن يسمعها. إذاً لندع نحن أيضاً أيها الأخوة صوتاً بهياً يُسمع في الأفق البعيد، وهو ليس بأقل أبداً من صوت البوق القرني. يرجع ذلك أيضاً لأن الناموس الذي سبق ورسم الحقيقة من خلال رموز وظلال، شرّع أمراً بإطلاق صوت الأبواق في يوم عيد المظال(3). وموضوع هذا الاحتفال (أي الاحتفال بميلاد المسيح) هو سر عيد المظال الحقيقي. في هذا الاحتفال اتحدت الخيمة البشرية بذاك الذي لأجلنا لبس الجسد الإنساني. وأجسادنا التي تتحلل بالموت تعود مرة أخرى إلى حالتها، بواسطة ذاك الذي أقام مسكننا منذ البداية. لنُردد نحن أيضاً كلام المزمور متهللين معاً، بصوت داود العظيم “مبارك الآتي باسم الرب “(4).

وكيف يأتي؟ بالطبع ليس كما بسفينة أو بعربة، لكنه عبر إلى الحياة الإنسانية ووهبها حياة نقية بلا فساد. ” الرب هو الله وقد أنار لنا. أوثقوا الذبيحة يُربط إلى قرون المذبح “(5).

وعلى أية حال نحن لا نجهل أيها الأخوة، السر المختفي في هذه الكلمات، أن كل الكون هو مسكن لخالق الكون. عندما دخلت الخطية، أُغلقت أفواه أولئك الذين سادت عليهم، وصمت صوت الفرح، وتوقفت الترنيمة اللائقة بالاحتفالات، طالما أن الجنس البشرى لم يحتفل مع القوات السمائية، ولهذا أتت أبواق الأنبياء والرسل، والتي دعاها الناموس (قرنيات)، لأنها تصنع من القرن الحقيقي لحيوان وحيد القرن. هذه الأبواق بُوّقت بكلمة الحقيقة بقوة الروح، حتى ينفتح السمع الموصود بالخطية، ويقام احتفال لائق، هذا الذي من خلال الإعداد أو التهيئة لمظلة الكون كله، يمكن للمحتفلين فيه أن يعزفوا أو يرنموا معاً، بالاشتراك مع القوات السمائية التي تقف حول المذبح السمائي. لأن قرون المذبح العقلي هي القوات الفائقة والمتميزة للطبيعة العاقلة، رئاسات، وسلطات، وعروش، وربوبيات. هذه القوات تشترك في بهجة هذا الاحتفال بانضمامها إلى الطبيعة الإنسانية في ثوبها الجديد، الذي تجدد بتغيير الأجساد في القيامة. لأن كلمة (puk£zomai) تعنى أتجمل أو أرتدي شيئاً جديداً، كما يفسرها كل من يعرف هذه الأشياء. إذاً هلم ننهض أنفسنا للنشوة الروحية، ولنضع داود في بداية الخورس كقائد وقمة هذا الخورس الخاص بنا، ولنقل معاً تلك الآية العذبة الإيقاع، التي صلينا بها منذ قليل، لنكررها مرة أخرى ” هذا هو اليوم الذي صنعه الرب نبتهج ونفرح فيه”(6). في هذا اليوم يبدأ الظلام في التراجع وينحصر ذلك الليل الممتد أمام النور الغامر انحصارا دائماً. إن هذا التدبير المتعلق بهذا الاحتفال، حيث تستعلن الحياة الإلهية داخل الحياة الإنسانية في هذه اللحظة، لا يكون من قبيل المصادفة يا اخوتى ولا هو أمر تلقائي، أن الكون بكل ما فيه من ظواهر يروى سراً لأكثر الناس فطنة، وكأنه يصرخ ويقول لذاك الذي يمكن أن يسمع ما يريد أن يقول له في هذا اليوم الذي تعظّم بمجيء الرب، إذ الليل قد انقطعت أوصاله أو بُتر. وأنا أعتقد أنني أسمع الكون يروى شيئاً مثل هذا. أيها الإنسان، وأنت ترى كل هذا، فلتفكر في الأمر المختفي الذي تُعلنه لك تلك الظواهر الكونية. أرأيتم الليل (ليل الخطية) الذي تمادى حتى أحلك فترات ظلامه، لقد توقف هناك عن المضي، وبدأ مرة أخرى في التراجع؟ ضع في اعتبارك أن ليل الخطية الرديء لم يعد قادراً اليوم على المضي قدماً، ذلك بعد أن بلغ مداه في الاتساع، ووصل إلى أقصى درجات الشر، من خلال ابتداع جميع أنواع الشرور، التي ستضطر من الآن فصاعداً، إلى الانكماش والاختفاء.

لماذا لم يظهر الرب متجسداً منذ البداية؟

أرأيت أن إشراقه النور، تمتد أكثر، وأن الشمس تشرق بصورة تفوق المعتاد؟ فكر في استعلان النور الحقيقي، الذي يُنير بأشعة البشارة كل المسكونة. وحيث إن الرب لم يستعلن من البداية، لكنه في هذه الأزمنة الأخيرة منح الإنسانية إعلان ألوهيته، فإن ذلك قد يجعل المرء يفكر منطقياً في هذا السبب، وهو أن ذاك الذي كان ينبغي أن ينزل إلى داخل الحياة الإنسانية، للقضاء على الخطية، كان يجب عليه أن ينتظر بالضرورة حتى يكتمل نبت الخطية التي زرعها العدو، وحينئذٍ دعا إلى وضع الفأس على أصل الشجرة كما يقول الإنجيل(7). فالأطباء المتميزون في عملهم، لا يقدمون للمريض أي مساعدة من خلال الأطعمة حتى عندما يزداد ارتفاع درجة حرارة الجسم إلى الحد الأقصى. أما عندما تختفي أعراض المرض وتتضح مسبباته فيبدأ الأطباء في ممارسة عملهم، ورويداً رويداً يتشدد المريض ويتعافى من مسببات المرض التي تبدأ في التراجع. هكذا المسيح أيضاً، ذاك الذي يداوى جميع الذين أصاب المرض نفوسهم، فقد انتظر حتى تظهر جميع علل الشر الذي أسر طبيعة البشر، حتى لا يبقى أي شر من الشرور ـ التي كانت مختبئة بلا شفاء ـ وإلاّ فكان سيعالج فقط المرض الظاهر. إن الإنسانية لم تكن قد فسدت بالكامل وسقطت في شرورها حتى في زمن نوح ولذلك فلو كان الرب قد ظهر في تلك الفترة لما كان قد شفى الإنسانية بالكامل، ذلك لأن نبتة شرور سدوم لم تكن قد نبتت بعد. ولم يُستعلن الرب أيضاً في زمن هلاك سدوم، لأن شرور كثيرة كانت لازالت مختبئة داخل الطبيعة الإنسانية. حقاً فأين كان فرعون المقاوم لله؟ أين كانت شرور المصريين الغير المروضة أو التي لم تُقمع؟

وأيضاً لم تكن هذه اللحظة وأقصد زمن شرور المصريين هي اللحظة المناسبة لإصلاح كل شيء، أن يتحد الكلمة بحياتنا، بل كان لابد أن تظهر شرور الإسرائيليين. وأيضاً كان يجب أن تستعلن وتظهر إلى الوجود مملكة الأشوريين، وتباهي نبوخذ نصر الذي كان يشتعل خفية. كان ينبغي أن يسقط ـ مثل شيء خبيث ـ ذلك الخداع المؤدي لقتل الأبرار، وأن تسقط كل أشواك النبات، من جذرها الشيطاني. كان ينبغي أن يشتد نباح اليهود ضد قديسي الله، هؤلاء الذين قتلوا الأنبياء، ورجموا المرسلين، وأخيراً ارتكبوا جريمة حمقاء حيث قتلوا زكريا بين الهيكل والمذبح(8). ثم تُضاف إلى هذه القائمة، الجرائم والقتل الذي ارتكبه هيرودس ضد أطفال بيت لحم. إذاً فبعد أن استعلنت كل قوة الشر بكل جذرها الخبيث وازدادت الوقاحة في رغبات الغنوسيين الشريرة والمتنوعة والممتدة في كل جيل، عندئذٍ، كما يقول الرسول بولس لأهل أثينا، تغاضى الله عن أزمنة الجهل، وأتى في أواخر الأيام(9)، عندما لم يكن هناك أحد لديه معرفة، أو لديه رغبة البحث عن الله. فعندما فسد الجميع ورجسوا(10)، عندما انتشر الشر في كل مكان(11) وكثر الظلم، عندما بلغت ظلمة الخطية أقصى حد لها، عندئذٍ استعلنت النعمة. وهنا أشرقت أشعة النور الحقيقي علينا، وأشرق شمس البر على الجالسين في الظلام وفي ظلال الموت(12)، وقتها قصف رؤوس كثيرة للتنين، مُسقطاً إياه بقدمه، وسحقه وطرحه أرضاً. ولا ينبغي لأحد وهو ينظر إلى الشرور الحالية، أن يعتقد أن الكلام الذي يقول، إن الرب في أواخر الأزمنة أشرق كالشمس في حياتنا، هو كلام كاذب.

بماذا نفسر عمل الشيطان بعد مجيء الرب؟

ربما سيقول المعترض على هذا الكلام، إن ذاك الذي انتظر طوال هذه الفترة حتى يُستعلن الشر ويزداد، ثم ينتزعه من جذوره، من الطبيعي له أن يقضي عليه كليةً، وألا يبقى له أي بقية في حياتنا. إلاّ أنه لا يزال القتل يُرتكب بجرأة وأيضاً السرقة والزنا بل وأسوأ الجرائم. غير أن شكوك مَن يقول هذا الكلام يمكن أن تتبدد بمثال من الأمثلة المعروفة. فمثلاً عندما نقتل ثعباناً، فإننا نرى أنه لا يموت كليةً عندما يموت رأسه، فبينما يموت الرأس، يظل باقي الجسد حياً ويعلن عن غضبه، دون أن تنقصه القوة، هكذا صنع ذاك الذي قتل التنين. فإن الله سحق رأس التنين عندما نمى الوحش وتضخم في كل الأجيال، بمعنى أنه سحق القوة المبطلة للصلاح والتي لها رؤوس كثيرة، ولكنه لم يتكلم بعد عن باقي الجسد، وسمح أن تبقى الحركة في الوحش الميت، كدافع للأجيال القادمة لممارسة الفضيلة. فما هي الرأس التي سحقت؟ هو هذا الذي أحضر الموت إلى البشر، بواسطة مشورته الشريرة، والذي بلدغته، قطّر في الإنسان سمه المميت.

إذاً فالرب قد نقض سلطان الموت، وسحق قوة رأس الحية، كما يقول النبي، أما باقي جسد الوحش فلا يزال منثوراً داخل حياة الإنسان ويجعل حياتنا باستمرار مُجمدة، ببثور الخطية، على قدر ما يتواجد الإنسان داخل مجالات الشر. إن قوته بالطبع هي بعد ميتة، بعد أن صار الرأس بلا نفع. ولكن عندما يعبر أو يمر الزمن وتتوقف الأجزاء المتحركة عن الحركة عند نهاية هذه الحياة، عندئذٍ يبطل وينتهي الذيل وآخر جزء للعدو، وهذا هو الموت. وهكذا سيتم الاختفاء التام للشر، طالما أن الجميع سيدعون إلى الحياة بالقيامة من الموت. الأبرار سينتقلون إلى الحياة السمائية الطوباوية، بينما الخطاة الأشرار سيُسلمون إلى جهنم.

بشارة فرح يوم الميلاد:

لنعد إلى فرح اليوم الذي بشر به الملائكة الرعاة، والتي أخبرت به السموات المجوس، هذا اليوم الذي يعلو فيه صوت النبوة الذي يُنادي بأمور كثيرة ومختلفة، حتى أن المجوس صاروا مبشرين لعهد النعمة. لأن ذاك الذي يُشرق شمسه على الأبرار والظالمين، والذي يُمطر على الصالحين والطالحين، حمل نور المعرفة وندى الروح، إلى الأفواه الغريبة أيضاً، حتى أن مع شهادة المتضادات أو المتقابلات، تصير الحقيقة لدينا مؤكدة. اسمع بلعام المنجّم وهو يُبشر الأجناس الأخرى بإلهام فائق قائلاً: “يبرز كوكب من يعقوب”(13). رأيت المجوس الذين انسحبوا من بني جنسهم، وتبعوا النجم الجديد في المشرق بحسب نبؤة أجدادهم، ذلك النجم الذي يختلف وحده عن طبيعة بقية النجوم، والذي تحرك وتوقف، بحسب ما يريد هو، فتارة يريد شيئاً وتارة أخرى يريد شيئاً آخر. بينما بالنسبة للنجوم الأخرى هناك مجموعة منها موضوعة في فلك غير سيّار، في وضع ثابت، والنجوم الأخرى لا تتوقف إطلاقاً عن الحركة، هذا النجم تحرك وقاد المجوس، وتوقف حيث أشار إلى المكان (حيث كان الصبي) اسمع إشعياء وهو يصرخ قائلاً: “لأنه يولد لنا ولد ونُعطى ابناً “(14).

العذراء تصير أماً وتبقى عذراء:

فلتعرف من النبي نفسه، كيف وُلد الولد وكيف نُعطى ابناً. ترى، هل ولد حسب الناموس الطبيعي؟ يُجيب إشعياء النبي بالنفي. فخالق الطبيعة لا يصير عبداً لها. أخبرني إذاً كيف ولد الولد. ها هو يقول ” ها العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل”(15). يا للعجب ما هذه المعجزة! العذراء تصير أماً وتبقى عذراء.

أرأيت تجديد الطبيعة. فبالنسبة للنساء الأخريات، مَن هي عذراء، لا تعتبر أماً، أمّا عندما تصير أماً فإنها لا تحمل بعد صفة عذراء. إلاّ أن الصفتين هنا (أي في حالة العذراء مريم) تتفقان وتلتقيان. هي نفسها أم وعذراء، فلا البتولية أعاقت الميلاد، ولا الميلاد أبطل البتولية. كان ينبغي لذاك الذي أتى إلى حياة الإنسان، لكي يجعل الجميع بلا فساد أو لكي يُطهر الجميع، أن يبدأ بتطهير أو تنقية تلك التي خدمت ميلاده. العادة لدى البشر أن يدعوا تلك التي ليست لها خبرة الزواج “بالعفيفة”.

العليقة والعذراء:

هذا هو ما يبدو لي، قد فهمه أولاً موسى العظيم، بالظهور الإلهي الذي حدث له في العليقة المشتعلة عندما اشتعلت فيها النار ولم تحترق. لأنه قال: “أميل الآن لأنظر هذا المنظر العظيم”(16). أعتقد أنه لا يُعلن بكلمة “أميل” عن حركة مكانية، بل يعنى بها عبور الزمن. بمعنى أن هذا الذي اُستعلن آنذاك في هذه المعجزة من خلال النار والعليقة، بعدما عبر الزمن المتوسط، ظهر هذا السر بوضوح في العذراء. فكما أن العليقة كانت مشتعلة آنذاك إلاّ أنها لم تحترق، هكذا هنا أيضاً العذراء تلد النور، لكنها لا تُصاب بأي ضرر.

الآن إن كانت العليقة هي انعكاس لجسد العذراء، فلا تخجل أو تستحي لأجل هذا اللغز. لأن كل جسد يتقبل الخطية، هو خطية بالضبط من حيث أنه هو جسد فقط(17)، إذ الخطية في الكتاب تأخذ اسم الشوكة.

ولادة يوحنا المعمدان قبل ميلاد المسيح وشهادة زكريا:

والآن قد يكون الوقت قد حان لنُشير إلى زكريا الذي قُتل بين الهيكل والمذبح، كشاهد للأم العفيفة أو النقية. فزكريا كان كاهناً، وليس فقط كاهناً، لكنه كان يحمل موهبة النبوة(18)، التي أُعلنت قوتها في الإنجيل. فعندما أعدت النعمة الإلهية الناس لكي لا يعتبروا ولادة العذراء للكلمة أمراً مستحيلاً، فقد هيئ لقبول هذا الأمر لدى غير المؤمنين بواسطة معجزات قليلة، مثلما حدث على سبيل المثال مع العاقر المسنة التي أنجبت ولداً (أليصابات). وكان ذلك مقدمة لمعجزة العذراء (أن العذراء تلد). وكما أن أليصابات لم تَصْر أماً بقوتها الطبيعية إذ أنها كانت قد بلغت سن الشيخوخة دون أن تنجب ولداً، فإن ولادة الولد تُنسب إلى الإرادة الإلهية، هكذا فإن ألم البطن العذراوية التي لا تُصدق صارت مُصدقة بالإشارة إلى التدبير الإلهي.

إذاً فلأن الولد الذي أتى من العاقر سبق ذاك الذي أتى من العذراء، هذا الابن الذي ارتكض بابتهاج في بطن أمه حين سمعت صوت تلك التي حملت الرب في أحشائها، فقد إنفك آنذاك صمت زكريا بواسطة الإلهام النبوي عندما وُلد السابق للكلمة. وكل ما قاله زكريا شكّل نبوءة للمستقبل. إذاً فذاك الذي قاده الروح النبوي لمعرفة الأمور المخفية، قد فهم سر البتولية في الميلاد الذي بلا فساد، لم يعزلها أو يفرز الأم البتول وهي داخل الهيكل، من المكان المُعد سابقاً للعذارى من قبل الناموس، أراد أن يُعلّم اليهود بأن خالق الكل وملك الكون، بالإضافة لكل الأمور الأخرى، قد وضع على نفسه التزاماً تجاه الطبيعة الإنسانية ليوجهها وفق إرادته، وكما يرتأى له، ولا تسود عليه هذه الطبيعة، إذ أن في سلطانه وفي قدرته أن يخلق ميلاداً جديداً. هذا الميلاد لن ينزع عن تلك التي صارت أماً صفة البتولية أي أنها تبقى عذراء. ولهذا لم يفرزها أو يعزلها داخل الهيكل من مكان سكنى العذارى. وهذا المكان، كان هو الموضع بين الهيكل والمذبح. إذاً لأنهم سمعوا (أي اليهود) أن ملك الكون سيولد كإنسان بحسب التدبير، قتلوا ذاك الذي أعطى الشهادة (أي زكريا) لهذا الميلاد، الكاهن الذي كهن بالقرب من نفس المذبح(19)، بسبب الخوف من أن يصيروا عبيداً لملك. لقد ابتعدنا عن موضوعنا قليلاً، بينما كان ينبغي لحديثنا أن يتوجه نحو بيت لحم حيث بشارة الفرح. لو أننا بالحق رعاة حقيقيون مُتيقظون ونسهر من أجل خدمة رعيتنا، فحينئذٍ سيكون صوت الملائكة الذي بشّر بهذا الفرح العظيم مُوجه لنا(20).

تسبيح الملائكة:

إذاً لنرفع نظرنا إلى الجند السمائي، لننظر خورس الملائكة، ولنسمع تسبيحهم الإلهي. وما هو تسبيح المحتفلين؟ هو أن يصرخوا “المجد لله في الأعالي”. ولماذا تُسبّح الملائكة الله الذي تراه في سموه؟ لأنهم يقولون إن السلام قد حلّ على الأرض. قد صاروا ممتلئين بالفرح لأنهم رأوا “على الأرض السلام”. هذه الأرض التي لُعنت سابقاً، التي أنبتت شوكاً وحسكاً، التي صارت مكاناً للتشاحن والنزاع وموضعاً لنفي المحكوم عليهم، هذه الأرض استقبلت السلام. يا للعجب ما هذه المعجزة! “الحق من الأرض نبت والبر من السماء يطلع”(21). إن هذا الثمر قد أثمرته أرض البشر. وهذا قد حدث لكي تستعلن الإرادة الصالحة تجاه البشر، الله اتحد بالطبيعة الإنسانية، لكي يسمو الإنسان إلى سمو الله. وإذ نسمع هذه الأمور لنذهب إلى بيت لحم، ولنرَ هذا المشهد الجديد، كيف تفرح العذراء لأجل هذا الميلاد، كيف أن تلك التي ليس لها علاقة بالزواج، هي الآن ترعى الطفل المولود. أولاً من تكون هذه، ومن أي مصدر سنسمع عن الأمور المتعلقة بها، ومن سيرويها لنا.

قصة عن نشأة مريم العذراء:

سمعت قصة منحولة تروى الآتي: والد العذراء كان معروفًاً بحياته الصارمة وفقاً للناموس، ومعروفاً بفضائله. ووصل إلى مرحلة الشيخوخة دون أن ينجب ولداً، لأن إمرأته لم تكن في وضع يسمح لها بالولادة. والناموس كان يُكرّم الأمهات، وهذا التكريم لم تكن العاقرات يحظين به. هذه المرأة سارت في خُطى أم صموئيل كما تحكيها الروايات. تدخل إلى قدس الأقداس، تتضرع إلى الله، ألا تفقد بركات الناموس، دون أن تكون قد خالفت الناموس أبداً، بل أن تصير أماً وتكرس ابنها لله. تشددت وتقوت بالعلاقة الإلهية وأخذت النعمة التي طلبتها. وعندما ولدت الطفلة سمتها مريم، لكي تُعلن بهذا الاسم أنها كانت عطية إلهية. عندما كبرت مريم قليلاً بحيث لم تعد تحتاج إلى رضاعة، سلمتها أمها على الفور لله، لكي تفي بوعدها، وأودعتها الهيكل. وتعهد الكهنة مريم داخل الهيكل، كما كان صموئيل، وعندما كبرت فكروا فيما ينبغي أن يفعلوه بهذا الجسد المقدس حتى لا يخطئوا إلى الله، بأن يلزموها أو يقيدوها بالناموس الطبيعي، وأن يخضعوها عن طريق الزواج، لذاك الذي سوف يأخذها، إلاّ أن هذا سيكون أمراً غير مقبول على الإطلاق. لأنه كون إنسان ما يصير سيداً على إنسانة نُذرت لله فهذا يُعد تدنيساً للمقدسات، إذ أن النواميس حددت أن الرجل هو سيد المرأة. غير أنه بالنسبة للكهنة لم يكن الشرع يسمح بأن تعيش امرأة معهم داخل الهيكل أو تخالطهم، وأن يرونها في المقدسات، ولكن التقوى أو الورع لم يغب عن هذا الأمر بجملته. وبينما هم يُفكرون فيما ينبغي أن يُقرروه تجاه هذه الأمور، أتاهم إرشاد من الله أن يُعطونها لشخص،على أن تكون مخطوبة له، أما هذا الإنسان فيجب أن يكون لائقاً بالمحافظة على بتوليتها. وجدوا أن ما طلبوه كان يتوفر في يوسف، من نفس سبط العذراء، وخُطبت مريم حسب نصيحة الكهنة. وظلت العلاقة في إطار الخطوبة. عندئذٍ استقبلت مريم البشارة السرية من جبرائيل.

سلام لك أيتها الممتلئة نعمة:

وكلام البشارة كان يحمل بركة “سلام” يقول: “سلام لك أيتها الممتلئة نعمة. الرب معك”(22). والكلام للعذراء الآن هو عكس الكلام الذي قيل لحواء. فحواء أُدينت لأجل خطيتها بالألم والوجع في الولادة(23)، بينما في حالة العذراء فقد طرد الفرح الحزن. بالنسبة لحواء سبقت الأحزان ألم الولادة، أما في حالة العذراء فإن الفرح يُبعد الألم. يقول لها الملاك “لا تخافي” لأن انتظار الألم يُثير الخوف بالنسبة لأية امرأة، كما أن الوعد بأن يكون ألم المخاض سهلاً، يطرد الخوف. قال لها “ها أنت ستحبلين وتلدين ابناً وتسمينه يسوع” وسيخلّص شعبه من خطاياه. وبماذا أجابت مريم؟ اسمع كلام العذراء الطاهرة النقية. الملاك بشرها بالولادة وهى قد ثبتت على بتوليتها، مُقررة أنه أمر أفضل لها أن تبقى عذراء نقية، لكنها لم تظهر شك تجاه بشارة الملاك، ولا المعرفة قد غابت عنها. وقالت إنها لم تعرف رجلاً ” كيف يكون لي هذا وأنا لست أعرف رجلاً”.

كلام مريم هذا هو يعد دليلاً لأولئك الذين حكوا القصة المنحولة، لأنه لو أن يوسف كان قد تزوجها، فكيف تفاجأ أو تدهش عندما يخبرها الملاك بالميلاد، مادام كان من المنتظر أن تصبح مريم أماً في وقت ما بحسب الناموس الطبيعي؟ ولكن لأن الجسد الذي خصص لله، كان ينبغي أن يُحفظ دون أن يمسه شيء، مثل نذر مقدس لله، فإن لسان حالها كما لو كان قد قال لجبرائيل: حتى ولو كنت ملاك، وحتى ولو أتيت من السماء، وأن ما أراه لا ينتمي إلى عالم الإنسان، إلاّ أنني لم أعرف رجلاً لأن هذا مستحيل. وكيف سأصبح أماً بدون معرفة رجل؟ أما يوسف فقد عرفته كخطيب، وليس كرجل.

الروح القدس يحلّ عليك وقوة العلى تظلّلك:

فماذا قال جبرائيل؟ وأية غرفة عرس سيقدم لهذا الزواج النقي؟ “الروح” يقول الملاك ” الروح القدس يحل عليك وقوة العلىّ تُظللك”. آه أيتها الأحشاء الطوباوية التي جذبت الخيرات الكثيرة للنفس الإنسانية بسبب تلك النقاوة الوفيرة. إن النفس النقية هي فقط التي يمكنها أن تقبل حضور الروح القدس بالنسبة لسائر البشر الآخرين، أما هنا (في حالة العذراء)، فالجسد صار إناء للروح القدس. “قوة العلى تظللك” ماذا يعنى هذا الكلام السري؟ يعنى أن “المسيح هو قوة الله وحكمة الله”(24) كما يقول الرسول بولس. إذاً فقوة الله العلى، الذي هو المسيح يكوّن جسداً لنفسه في بطن العذراء بحلول الروح القدس عليها. بمعنى أنه كما أن ظل الأجسام يأخذ شكل الجسم الذي يسبق، هكذا فإن ملامح وصفات ألوهية الابن ستُستعلن في حينها، ستظهر في قدرته عندما يولد، فالصورة والختم والظل وبهاء المصدر سيُستعلن بأعمال معجزية.

نعود لنراقب أسرار المذود:

غير أن الخبر المفرح الذي حمله الملاك، يحثنا على أن نعود إلى بيت لحم ونرصد أو نراقب أسرار المذود. وما هو هذا السر؟ هو أن هناك طفلاً مُقمطاً في لفائف، مُضطجعاً في هدوء وراحة داخل المذود، والعذراء التي ظلت عذراء حتى بعد الولادة، تلك الأم العفيفة، ترعى طفلها. ولنردد نحن مع الرعاة كلام النبي “كما سمعنا هكذا رأينا في مدينة رب الجنود في مدينة إلهنا”(25). هل حدثت هذه الأحداث مصادفةً، كما هي هكذا وصارت تُروى عن المسيح، أم أن للقصة بعداً آخراً؟ ما المعنى بالنسبة للكلمة من حيث أن أخذ المغارة مأوى له، واضطجع في مذود، ودخل الحياة الإنسانية وخاصةً في الوقت الذي تتم فيه عملية تعداد للسكان بهدف جمع الضرائب؟ صار واضحاً أنه كما حررنا من لعنة الناموس بأن صار هو نفسه لعنة لأجلنا(26)، وحمل على نفسه جراحاتنا، لكي نُشفى نحن بجراحاته(27)، هكذا حدث مع الدين الذي كان علينا، لكي يحررنا من قيود الخطية التي قيدت الجنس البشرى، الذي كان مُداناً بالموت. ولكنه عندما تتطلع نحو المغارة حيث ولد المسيح، ضع في ذهنك شكل الحياة المظلمة التي كان البشر يحيون فيها، تلك التي كانت في القباء أو السراديب، حتى جاء ذاك الذي ظهر للسالكين في الظلمة والجالسين في ظلال الموت(28). ذاك الذي حمل أرتال خطايانا، قمط جيداً في لفائف. إن المذود حيث ولد الكلمة، هو اسطبل للحيوانات غير العاقلة، حيث يعرف الثور قانيه والحمار معلف صاحبه(29). الثور هو ذاك الخاضع لنير الناموس، بينما الحمار هو ذلك الحيوان الذي يحمل وينقل الأشياء، ذلك المحمّل بخطايا العبادة الوثنية.

وبالطبع فإن أنسب طعام وحياه بالنسبة للحيوانات هو العشب الأخضر “المنبت عشباً للبهائم”(30)، هكذا يقول النبي، بينما الحيوان العاقل يأكل الخبز ولهذا فإن خبز الحياة الذي نزل من السماء، وُضع في المذود، والذي هو مأوى الحيوانات غير العاقلة، لكي يتناول الغير العاقلين طعام عقلي ويصيروا عاقلين أو حكماء. إذاً فقد صار الرب داخل المذود بين الثور والحمار (أي بين اليهود والأمم) وسيطاً للاثنين، لكي ينقض حائط السياج المتوسط أي العداوة، ويخلق الاثنين في نفسه إنساناً واحداً جديداً(31)، مُبطلاً النير الثقيل للناموس، ومُبطلاً نير ناموس الأمم أيضاً مُحرراً إياهم من ثقل العبادة الوثنية. لنرفع أعيننا نحو العجائب السمائية، لأنه ليس أنبياء وملائكة فقط قد أخبرونا بهذا الخبر المفرح، بل السموات أيضاً بمعجزاتها تُرنم ترنيمة المجد من أجل هذه البشارة المفرحة.

بين اليهود والمجوس:

المسيح طلع من سبط يهوذا لأجلنا(32) كما يقول الرسول بولس، أما اليهود فلم يستنيروا بذلك الذي أشرق عليهم. لم يكن للمجوس صلة أو علاقة بعهود الموعد، وكانوا غرباء عن بركة الآباء، لكنهم سبقوا الشعب الإسرائيلي في المعرفة وعرفوا دلالة النجم السمائي، ولم يجهلوا طبيعة الملك الذي كان في المذود. لقد حمل المجوس معهم هدايا، بينما هؤلاء (أي اليهود) تآمروا عليه. المجوس سجدوا له، بينما الآخرون طاردوه. المجوس فرحوا عندما وجدوا ذاك الذي كانوا يبحثون عنه. والآخرون اضطربوا عند ولادة ذاك الذي تنبأ عنه الأنبياء. لأن متى البشير يقول “حتى جاء ووقف حيث كان الصبي. فلما رأوا النجم فرحوا فرحاً عظيماً جداً”(33) بينما هيرودس لما سمع “اضطرب وجميع أورشليم معه”(34). المجوس قدموا له لباناً كما لإله، كرموه بذهب، إشارة إلى المقام الملوكي، والألم الذي ينتظره بحسب التدبير، أعلنوا عنه بالمر، وفقاً للنبوات. بينما الآخرون حكموا عليه بالإعدام طوال فترة طفولته، وهو الأمر الذي لأجله، قد أدانهم كما يبدو لي أنه، لا بسبب قساوتهم فقط، بل من أجل حماقتهم أيضاً.

قتل أطفال بيت لحم:

فلأي سبب حدث قتل الأطفال (أطفال بيت لحم)؟ ما الهدف الذي لأجله تجرأوا على ارتكاب تلك الجريمة الحمقاء؟ لأن الإنجيل يُخبرنا بأن ظاهرة سمائية معجزية جعلت المجوس يدعون المولود ملكاً “أين هو المولود ملك اليهود”. ماذا إذاً؟ ألا تؤمن أن العلامة التي أخبرت عن مكان ولادة المسيح هي علامة حقيقية، أم أنك تعتبر أن كل ما قيل لا صحة له؟ فإن كان قد جعل السموات تخضع، فإن هذا لا يُعد البتة أمراً يفوق قدرتك وفهمك، فإن كان قد أعطاك سلطاناً على حياته (على الأرض) وموته، فإن الخوف منه لا مُبرر له. لأن ذاك الذي سلك أو تصرّف هكذا حتى يكون خاضعاً لسلطانك، لأي سبب يتآمرون عليه؟ لماذا صدر هذا الأمر الشنيع، هذا القرار البشع ضد أطفال بيت لحم، بأن يُعدم الأطفال المولودون حديثاً؟ أي ظلم اقترفوا؟ أي سبب قد أعطوا لكي يرتكب الموت أو العقاب في حقهم؟ جريمتهم الوحيدة، هي أنهم ولدوا ورأوا النور. ولهذا كان يجب أن تمتلئ المدينة بالجلادين وأن يجتمع حشد من الأمهات والرضع، وجمع من الأقارب قد أتى لكي يقفوا إلى جوارهم ويشددهم، وهو أمر طبيعي أن يأتي هذا الجمع ليساندوا الوالدين في هذه الكارثة. مَن يستطيع أن يصف هذه المصائب؟ مَن يستطيع أن يروي لنا هذه الحالة المأساوية ويضعها أمام أعيننا؟ مَن يمكنه أن يصف هذه المشاعر الحزينة المختلطة، والمناحة التي حدثت بسبب قتل الأطفال، وموقف الأمهات والأقارب والآباء المستحقين للشفقة وهم يصرخون أمام تهديد الجلادين؟ كيف يمكن للمرء أن يرسم صورة للجلاد وهو يقف بالقرب من الرضيع ويحمل سيفه مستلاً من جرابه، بنظرة مملوءة شراً وقتلاً ويسحب الطفل نحوه بيد، وباليد الأخرى يرفع السيف ليهوي به على عنقه، بينما من الجهة الأخرى نرى الأم وهي تجذب طفلها نحوها، وتضع عنقها هي تحت سيف الجلاد بدلاً من طفلها، لكي لا ترى يد الجلاد وهي تقتل طفلها أمام عينيها؟

أيضاً كيف يمكن للمرء أن يقص أو يروى الاختبارات التي جازها الآباء؟ نداء أبنائهم المرتفع بالصراخ، واحتضانهم لأبنائهم بشدة، وأشياء أخرى مثل هذه فعلوها معاً؟ مَن يستطيع أن يصف لنا هذه النكبة كثيرة الأبعاد، وآلام المخاض المضاعفة للأمهات اللاتي ولدن للتو، والطبيعة المكتوية بالآلام؟ كيف كان الطفل التعس ملتصق بثدي أمه، وكيف استقبل في أحشائه الضربة المميتة؟ كيف يمكن وصف الأم الحزينة وهى تعطي ثديها للطفل، وابنها يُسفك دمه وهو على صدرها؟ ومرات كثيرة عندما كان الجلاد يهوي بسيفه على الطفل، كان السيف يُصيب الأم مع طفلها، ويصنع الدم مجرى له من جرّاء إصابة الأم وجرح الطفل المميت. وكان الأمر الأحمق الذي أصدره هيرودس هو ألا يطبق قرار القتل على الأطفال المولودين حديثاً فقط، بل والأطفال من سن عامين(35)، (لأنه كُتب من سن عامين فيما دون)، كارثة أخرى يريد أن يُركز عليها النص الإنجيلي، لأن كما هو معروف، مرات كثيرة خلال فترة العامين يمكن أن تصير المرأة ذاتها أم لطفلين. مشهد فظيع هنا أيضاً، حيث اثنان من الجلادين ينشغلان بأم واحدة، فجلاد يسحب الطفل الذي يركض حول أمه، والآخر ينزع عنها رضيعها الذي في أحضانها. ما هو الطبيعي في هذا الأمر ألا تُعاني هذه الأم التعيسة؟ ألا يتمزق قلبها بين طفليها ويعتصر الألم أحشائها أيضاً على طفليها، وهي لا تعرف أياً من الجلادين تُلاحق، حيث الواحد يسحب طفل إلى هذه الجهة والآخر يسحب الطفل الآخر إلى جهة أخرى لكي يذبحه؟ هل ستركض نحو المولود حديثاً؟ فبكاءه لم يعد له جدوى ولا ينم عن تعبير معين. لكنها تسمع الطفل الآخر وهو يصرخ نحوها باكياً، وبصوت متقطع. ماذا تفعل؟ كيف تتجاوب؟ وإلى أي صرخة تستجيب؟ ومع أي صرخة توّحد صرختها؟ وعلى أي موت تنوح وتحزن، طالما أن طبيعتها تكتوي بالتساوي لمقتل الاثنين؟ (وأمام هذه المشاهد الحزينة يبزغ نور جديد ويظهر في الأفق خبر يبعث على الفرح العظيم ويُنسينا الآلام).

لنفرح بالميلاد وإشراق شمس البر:

فلنُبعد أسماعنا عن النواح والعويل من أجل ذبح الأطفال، ولنتوجه بأذهاننا نحو أفكار أكثر بهجة وفرحاً، تلك التي تتناسب بالأكثر مع بهاء هذا الاحتفال، وإن كانت راحيل تصرخ بشدة كما يقول النبي(36)، تبكي وتنوح لأجل ذبح أولادها. إلاّ أننا في هذا اليوم (الميلاد) الذي نحتفل فيه يقول سليمان الحكيم، يجب أن ننسى المصائب. فأي احتفال هو أكثر فرحاً من احتفالنا اليوم؟ الذي فيه يبدد شمس البر، ظلام الشر الذي للشيطان، ويُنير الكون بنفس الطبيعة التي لنا، فكل ما سقط في هذه الطبيعة يجعله يقوم، وكل من هو في حرب يُقاد للسلام، والمرذول أو المرفوض يعود إلى الشركة، وكل من سقط من الحياة، يعود إلى الحياة مرة أخرى، وكل من خضع لنير العبودية وسُبي يعود إلى مقامه الملوكي، وكل من كان مقيداً بقيود الموت يعود محرراً إلى كورة الأحياء. الآن وبحسب النبوة، تُسحق أبواب الموت النحاسية(37). وتُقطّع عوارض الحديد، التي أمسكت الجنس البشري في سجن الموت، الآن كما يقول داود النبي يفتح باب البر(38). اليوم يسمع جميع المحتفلين في كل المسكونة ترانيم مفرحةً. فبإنسان واحد دخل الموت إلى العالم، وبإنسان أتى الخلاص. الأول سقط في الخطية، والثاني أقام ذاك الذي سقط. المرأة دافعت عن المرأة. الأولى فتحت الباب للخطية، والثانية (العذراء) خدمت الطريق المؤدي إلى البر. الأولى قبلت مشورة الحية، والثانية منحتنا المقدرة على سحق الحية أو إبطالها، وولدت خالق النور. الأولى أتتنا بالخطية بواسطة الأكل من الشجرة، والثانية بواسطة الخشبة أتتنا بالخلاص بدلاً من الخطية.

الميلاد والآلام:

الخشبة أعنى بها الصليب. ثمر هذه الخشبة، لم يغب مطلقاً، وصار لأولئك الذين تذوقوه حياة لا تذبل. ولا ينبغي لأحد أن يعتقد أن سر البصخة (أي العبور من الموت للحياة)، هو فقط الذي يليق به الشكر. ولنعلم أن سر البصخة يأتي في نهاية التدبير الإلهي. وكيف تأتي النهاية إن لم تسبقها البداية؟ أيهما أسبق من الآخر؟ بالطبع الميلاد هو أسبق من تدبير الآلام.

ميلاد المسيح هو بداية كل الخيرات التي تتبعه:

والذين يمتدحون البصخة هم جزء من أولئك الذي يمتدحون الميلاد. ولو عدّد المرء الإحسانات التي أشارت إليها الأناجيل، وإذا رُويت معجزات الشفاء، ومعجزة إشباع الجموع بقليل من الطعام، وقيامة الأموات من القبور، وتحويل الماء إلى خمر، وطرد الشياطين، وشفاء الأمراض الجسدية المستعصية، مثل شفاء العرج، وتفتيح عيون العمى، أيضاً التعاليم الإلهية، ومعرفة الأسرار الفائقة بواسطة الأمثال، سيجد أن كل هذه الأمور هي عطية هذا اليوم (ميلاد المسيح). لأنه منذ هذا اليوم صارت البداية لكل الخيرات التي لحقته أو تبعته. “لنفرح” إذاً “ولنبتهج”(39). وعلينا ألا نخشى اتهامات البشر، وألا نُهزم من محاولاتهم لإهابتنا، كما يحثنا النبي على ذلك. هؤلاء يسخرون أو يتهكمون على الكلام عن التدبير، ويقولون إنه من غير اللائق أن يأخذ الرب جسداً إنسانياً (كما يدّعون)، ويدخل الحياة الإنسانية بواسطة الميلاد، متجاهلين كما هو واضح، سر الأمور غير المعلنة كما دبرتها الحكمة الإلهية من أجل خلاصنا. لقد بعنا أنفسنا اختياراً بواسطة خطايانا، واستعبدنا أنفسنا لعدونا مثل عبيد تم بيعهم.

ماذا تريد أن يقدم لك إلهنا أكثر من هذا؟ ألا يكفي أن تُعفى من النكبة؟ ولما التدقيق في الطريقة؟ لماذا تشرّع قوانين للمشرّع، دون أن تفهم إحساناته؟ مثلما يرفض أو يصد أحد الطبيب، ويوبخ تدخله النافع، لأنه تمم الشفاء بهذه الطريقة، وليس بطريقة أخرى.

عظمة التدبير الإلهي:

لو أن فضولك يدفعك للبحث عن معرفة مقدار عظمة التدبير الإلهي، يكفيك فقط أن تعرف أن الأمر الإلهي ليس محصوراً فقط في بعض الخيرات أو أنه صلاح محدود، بل كل ما هو ممكن أن تصل إليه، من قدرة، وبر، وصلاح، وحكمة، وكل الألقاب والقيم التي تحمل معنى لائقاً ومناسباً لهذا الأمر الإلهي، فذاك هو (هذا الصلاح). إذاً فلنتنبه ربما أن كل ما قلناه لم يصل إلى مستوى الإحسان الذي صار لنا، متمثلاً في الصلاح والحكمة، والقدرة، والبر. فهو كصالح أحب العاصي، وكحكيم وجد طريقة لعودة المستعبدين، وكبار لا يقمع ذاك الذي استعبد الآخر وامتلكه وفقاً لقانون السوق، لكنه قدم ذاته عوضاً عن المستعبدين، حتى أنه يتعهد المدين كضامن له، ويحرر السجين. وكقادر لم يُمسك من الجحيم، وجسده لم يرى فساداً. وأيضاً لم يكن ممكناً أن يهزم رئيس الحياة من الفساد أو الفناء. ولكن هل قبوله الميلاد بحسب الجسد، وخبرة الآلام الجسدية، يعد أمراً يدعو للخجل؟ إن قبوله كل هذا هو إفراط في الإحسان.

حقاً لأنه إذ لم يكن ممكناً أن يتخلص الجنس البشري من هذا القدر الكبير من المآسي والشدائد، فقد قبل الملك طبيعتنا الإنسانية المائتة، وأن يُبدل مجده الذاتي بحياتنا. هكذا اخترق النقاء حياتنا الملوثة، بينما لم يستطع التلوث أن يمس هذا النقاء، كما يقول الإنجيل “والنور يضيء في الظلمة والظلمة لم تدركه”(40). الظلام تلاشى بظهور النور، والشمس لا يسود عليها الظلام، والمائت أُبتلع من الحياة(41) كما يقول الرسول بولس، وانهزم الموت أمام الحياة. وكل ما فسد خلُص في ذاك الذي لا يفنى. والفساد لا يستطيع أن يؤثر في الخلود، ولهذا صار تسبيح الكون كله، تسبيحاً مشتركاً، حيث الجميع يرفعون معاً تمجيداً لخالق الكون. إن كل فم سمائي، وأرضي، وأسفل الأرض، يصرخ أن يسوع المسيح مخلّصنا هو رب لمجد الله الآب، وينبغي أن يُبارك إلى أبد الآبدين آمين.

هذا الكتاب من ترجمة الكنيسة القبطية: وهذا يعني أن ليس كل ما جاء في تعليقات المترجم أو المعد نتفق معه وأحياناً نختلف معه وأحياناً في ترجمة متن النص. فالرجاء تنبيهنا في حال وجود شيء من هذا القبيل أو غير مفهوم… وقد حاولنا العثور على نص هذه العظة باللغة الإنجليزية، لكن دون جدوى.

ألقى القديس غريغوريوس النيسى شقيق القديس باسيليوس الكبير هذه العظة على ميلاد المسيح في الاحتفال بعيد الميلاد الذي جاء موافقاً ليوم 25 ديسمبر سنة 386م. ويقول البروفيسور جوهانز كواستن عالِم الآباء الشهير في مجلده الثالث لعلم الآباء Patrology III أن هذه العظة لها أهمية كبيرة جداً من جهة تاريخ تعييد عيد الميلاد.

ورغم أن أحد الباحثين الحديثين أنكر نسبتها إلى ق. غريغوريوس إلاّ أن غالبية علماء الآباء يؤكدون أصالتها ونسبتها إليه. الأصل اليونانى لهذه العظة موجود بالمجلد رقم 46 مجموعة مينى Migne اليونانية (P.G 46, 1128-1149).

 

نقلاً عن كتاب:
مــيــلاد الـمخلّص
للقديسين غريغوريوس النيسى وايرونيموس

المـركز الأرثـوذكـسى
للدراسات الآبائية بالقاهرة
نصوص آبائية ـ 84
يناير 2005

وهذه العظة::
تُرجمت عظة ميلاد المسيح للقديس غريغوريوس النيسى عن:

P.G 46, 1128-1149

ترجمة: د. سعيد حكيم
مراجعة: د. نصحى عبد الشهيد
4 ديسمبر 2004م

تم النقل بتصرف، لكن دون المساس بمتن النص أو الشواهد -إلا فيما يتعلق بحرفي “ى” و”ي”، إذ أن الكتابة بالطريقة المصرية تجعل الحرفين المذكورين مترادفين- وإنما فقط في الترتيب وفي حذف بعض المقدمات. والعظة الثانية من الكتاب والتي هي للقديس ايرونيموس مدرجة أيضاً كعظة مستقلة يمكن الرجوع لها هنا.

 

 


(1) مز3:81.

(2) 1كو7:14.

(3) لا24:23.

(4) مز26:118.

(5) مز27:118.

(6) مز24:118.

(7) مت10:3.

(8) مت35:23.

(9) أع30:17.

(10) مز2:14.

(11) رو3:3.

(12) إش2:9.

(13) عد17:24.

(14) إش6:9.

(15) إش14:7.

(16) خر3:3، مت22:13.

(17) 2مل6:23.

(18) لو3:1.

(19) مت25:23.

(20) لو10:2.

(21) مز12:85.

(22) لو26:1.

(23) تك16:3.

(24) 1كو24:1.

(25) مز8:48.

(26) غل13:3.

(27) إش5:53.

(28) إش2:9.

(29) إش3:1.

(30) مز14:104.

(31) أف14:2.

(32) عب14:7.

(33) مت10:2.

(34) مت3:2.

(35) مت16:2.

(36) إر15:31.

(37) مز16:107.

(38) مز19:118.

(39) مز24:118.

(40) يو5:1.

(41) 2كو4:5.

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF

معلومات حول الصفحة

عناوين الصفحة

محتويات القسم

الوسوم

arArabic
انتقل إلى أعلى