Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
Email
☦︎
☦︎

القديس إيريناوس أو صانع السلام – كما يعني اسمه – هو أشهر آباء القرن الثاني في شهادته للإيمان الرسولي ودفاعه عن العقيدة المسيحية في مواجهة البدع الغنوسية. ولذلك يستحق أن يُلقب بمؤسس علم اللاهوت المسيحي، ولُقب أيضاً بـ”أبو التقليد”.

نشأته:

من الصعب تحديد تاريخ ميلاد إيرينيوس بالضبط، ولكن علماء الآباء يرجحون أنه وُلد ما بين 135 – 145م، إذ يخبرنا إيريناوس نفسه أنه في شبابه المبكر عرف القديس بوليكاربوس الذي كان تلميذاً ليوحنا الرسول، وأن القديس يوحنا الرسول هو الذي أقام بوليكاربوس أسقفاً على كنيسة سميرنا أو أزمير(1)، إذ سجل لنا يوسابيوس المؤرخ من بين ما سجل من كتابات القديس إيرينيوس الرسالة التي كتبها القديس إيريناوس إلى فلورينوس:

[ لأنني لما كنت صبياً رأيتك في آسيا السفلى مع بوليكاربوس تتحرك في عظمة الحاشية الملكية، ومحاولاً أن تنال رضاه. وإنني أتذكر حوادث ذلك الوقت بوضوح أكثر من حوادث السنوات الأخيرة. لأن ما يتعلّمه الصبيان يرسخ في عقولهم. كذلك ففي إمكاني وصف نفس المكان الذي كان يجلس فيه المغبوط بوليكاربوس وهو يلقي أحاديثه، ودخوله وخروجه، وطريقة حياته، وهيئة جسمه، وأحاديثه للشعب، والوصف الذي قدمه عن عِشرته ليوحنا، والآخرين الذين رأوا الرب، ولأن بوليكاربوس كان متذكراً كلماتهم، وما سمعه منهم عن الرب وعن معجزاته وتعاليمه لاستلامها من شهود شهدوا بأعينهم كلمة الحياة، فقد روى كل شيء بما يتفق مع الأسفار المقدسة. وإذ أصغيت إلى هذه الأمور برحمة الله بانتباه كبير مسجلاً إياها ليس على ورقٍ بل في قلبي صرتُ أرددها على الدوام بأمانة بنعمة الله](2).

ومن هذه الكلمات يتضح تماماً أن إيرينيوس اتصل بالعصر الرسولي عن طريق القديس بوليكاربوس، وهذا ما أعده لكي يكون شاهداً أميناً للتقليد الرسولي الذي استلمه بواسطة بوليكاربوس الذي كان تلميذاً وصديقاً للقديس يوحنا الرسول وآخرين غيرهم من الذين رأوا الرب. وبعد عدة سنوات من استشهاد القديس بوليكاربوس في سنة 156م، رحل إلى الغرب متجهاً إلى بلاد الغال (فرنسا حالياً)، وربما يكون قد مكث بعض الوقت في روما وهو في الطريق إلى فرنسا، وقد يكون تتلمذ لبعض الوقت لمعلّمين مثل يوستينوس الذي كان في روما في تلك الفترة قبل استشهاده. ثم بعد ذلك انتهى به المطاف إلى الغال.

وفي سنة 177م أرسله شهداء كنائس ليون وفيينا، الذين كانوا في السجن، إذ كان قسيساً لكنيسة ليون، للتوسط في الصراع الذي نشأ بخصوص بدعة مونتانوس في آسيا الصغرى. وكان يحمل رسالة كنائس فيينا وليون إلى كنائس آسيا وفريجية، والتي يرى بعض العلماء أنها من قلم إيريناوس نفسه، وقد حُفظت أجزاء من هذه الرسالة في تاريخ يوسابيوس الكتاب الخامس: 1-3.

كما أن كنائس ليون وفيينا أرسلت رسالة أخرى إلى إليفثريوس أسقف روما (175-189) بواسطة إيرينيوس، وقد شهد هؤلاء المعترفون من السجن الشهادة التالية عن إيريناوس في هذه الرسالة: [ أيها الأب إليفثريوس إننا مرة أخرى نرجو لك السلام من الله على الدوام. ولقد طلبنا من أخينا ورفيقنا إيرينيوس أن يحمل هذه الرسالة إليك، ونتوسل إليك أن توقره وقاراً كبيراً لأنه مملوء غيرةً على وديعة المسيح وعهده. فلو كان المركز يُضفي براً على أي واحد لكنا أوصينا، فهو به أول من يستحقون التوصية لكونه قسيس الكنيسة وهذا هو مركزه](3).

وبعد أن رجع إيريناوس من روما، فإن أسقف ليون المُسن فوتيوس توفى شهيداً، وصار إيرينيوس أسقفاً لليون خلفاً له.

إيريناوس ومشكلة الأربعشرية (أي تعييد الفصح يوم 14 نيسان العبري):

في سنة 190م حدث خلاف بين كنائس آسيا الصغرى وبين فيكتور الأول أسقف روما حول ميعاد تعييد الفصح المسيحي. وعقد فيكتور مجمعاً في روما حرّم فيه أساقفة آسيا بسبب تعييدهم عيد القيامة يوم 14 نيسان. وطلب أسقف روما من كل كنائس العالم أن تتبع تقليد كنيسة رومية بخصوص عيد الفصح وهو أن يكون العيد المسيحي في الأحد التالي للفصح اليهودي، في حين أن كنائس آسيا الصغرى كانت تُعيّد عيد القيامة مع اليهود في اليوم الرابع عشر من نيسان العبري، في أي يوم اتفق من أيام الأسبوع. قائلين إنهم تسلموا هذا التقليد من بوليكاربوس، وأنه بدوره استلمه من يوحنا الرسول.

وفي هذا الموقف الصعب في هذا العصر برز إيرينيوس وقام بدور هام لحفظ سلامة الكنيسة، فكتب عدداً من الرسائل إلى الأساقفة في آسيا وإلى فيكتور أسقف روما نفسه، يحث فيها الجميع على السلام أو بحسب تعبير يوسابيوس المؤرخ فإنه قال: [ إن سر قيامة الرب يجب أن يُحفظ فقط في يوم الرب]. ويضيف يوسابيوس قائلاً: [حقاً فعل (إيريناوس) إذ نصح فيكتور بألاّ يقطع كنائس الله برمتها وهي حافظة تقليد عادة قديمة… وهكذا صار إيرينيوس صانعاً للسلام، وهذا هو معنى اسمه، إذ قدم النصائح وأرسل الرسائل اللازمة على هذا الوجه من أجل سلام الكنائس](4).

بعد هذا الموقف الذي ظهر فيه دور إيريناوس الرسولي في إعادة السلام بين الكنائس مما جعل جيروم يسميه “الأسقف الرسولي والشهيد” وذلك في سياق تفسيره لسفر إشعياء. ويذكر كواستن(5) أنه بعد هذا الدور البارز لصانع سلام الكنيسة كلها لم يرد ذكر لإيرينيوس في المصادر التاريخية إلى أن ذكره غريغوريوس أسقف تور (573-594)(6)، الذي ذكر أنه مات شهيداً سنة 202م. وهكذا يكون القديس إيريناوس قد شهد خراب مدينة ليون الذي حدث سنة 197م.

{jb_bluebox}للمزيد حول هذه المشكلة وكيفية حلها راجع: مشكلة عيد الفصح{/jb_bluebox}

 

كتابات إيرينيوس:

بالإضافة إلى عمل إيريناوس الرعائي كأسقف لإيبارشية، فإنه كرّس جزءً كبيراً من وقته لمهمة دحض الهرطقات الغنوسية بواسطة الكتابات الكثيرة التي كتبها لهذا الغرض. وتظهر براعته وموهبته في دحض التعاليم المنحرفة بنوع خاص في الكتاب المشهور والضخم الذي كتبه القديس إيرينيوس وعُرِف باسم “ضد الهرطقات” في خمس كتب. هذا ولقد جمع إيريناوس بين معرفة واسعة وشاملة لمصادر الإيمان والتقليد مع روح جادة وحماس ديني كبير. فإن معرفته الشاملة بالتقليد الكنسي التي يدين بها لعلاقته بالقديس بوليكاربوس وغيره من تلاميذ الرسل الآخرين، هذه المعرفة بالتقليد الكنسي كانت مصدر قوة عظيمة جداً في كفاحه ضد الهراطقة.

ومما يُؤسف له أن كتاباته باللغة اليونانية فُقدت في وقت مبكر. ولم يتبق من كتاباته وأعماله الكثيرة التي كتبها بلغته اليونانية سوى كتابان:

1 – أحد هذين الكتابين هو كتابه الذي يفوق كل الكتب الأخرى في أهميته من جهة الإيمان. وهذا الكتاب هو ما اشتهر باسم “ضد الهرطقات”، ولكنه لم يصلنا في لغته اليونانية الأصلية التي كُتب بها بل في ترجمة لاتينية وهي ترجمة حرفية. وهذا الكتاب يتكون من جزءين رئيسيين. الجزء الأول يكشف أصول وتفاصيل الهرطقة الغنوسية. ويذكر فيه أسماء الهراطقة الغنوسيين ويعتبره العلماء أفضل مصدر لمعرفة الغنوسية وتاريخها. والجزء الثاني يدحض فيه تعاليم الغنوسيين خاصة فالنتينوس وماركيون، كما يوضّح عقيدة الكنيسة عن الآب والابن، وكل عقائد الإيمان الأساسية المُسلّمة من الرسل.

2 – والكتاب الثاني الهام الذي كتبه القديس إيرينيوس هو “شرح الكرازة الرسولية” ولسهول الاستعمال سنذكره بعنوان “الكرازة الرسولية”. هذا الكتاب كان أصله اليوناني مفقوداً طوال القرون الماضية. ولم يكن لدينا سوى اسمه فقط، وقد حُفظ اسمه في كتاب تاريخ الكنيسة ليوسابيوس (الكتاب الخامس فصل26)، وفي سنة 1904م أراد الله أن يُكتشف هذا الكتاب الهام كاملاً في ترجمة باللغة الأرمينية، والذي اكتشفه هو “تيرمكيرتشيان” (Ter -Mekerttschian) الذي قام بنشره للمرة الأولى سنة 1907م.

 

 


(1) انظر Against The Heresies (=AH) 3:3:4، وأيضاً يوسابيوس القيصري، تاريخ الكنيسة.

(2) يوسابيوس القيصري: تاريخ الكنيسة، ترجمة القمص مرقس داود، ك5 فصل5:20-7، الطبعة الثانية، مكتبة المحبة القاهرة 1970، ص272-273.

(3) يوسابيوس القيصري، تاريخ الكنيسة، 2:4:5، ص 247.

(4) يوسابيوس القيصري، تاريخ الكنيسة11:24:5، 18.

(5)Quasten, Patrology Vol. I, 288.

(6)انظر Historia Francorum, !, 27، وانظر Murray Dictionary of Christian Biography, Vol. 2, p. 771, London 1880.

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
انتقل إلى أعلى