ليكن الأخُ الذي يقيمُ معك مثلَ ابنٍ وتلميذٍ، وإن هو أخطأ وأفسدَ شيئاً فعظه واكشف له خطأه لكي ما يرجع عنه، وإن هو كتجربةٍ نيَّح آخرَ أكثرَ منك، فلا تحزن، فلعل الله أراد ذلك. فاصطبر لكلِّ محنةٍ لأنه بالصبرِ على الأحزانِ نقتني أنفسَنا، وبالأحزانِ نشارك يسوعَ في أوجاعهِ، وإذا شاركناه في أوجاعهِ، فإننا نشاركه في مجدِه. كذلك عظ ابنَك بخوفِ الله، صافحاً عن خطايا أخيك، ألا تعلم أنه إنسانٌ تحت التجارب، والله يعطيكما طقسَ السلامةِ بخوفهِ. اعلم أن الشيطان يريدُ أن يبلبلك بالغضبِ بسببِ الأخِ الذي معك قائلاً لك: «إذا كلَّمتَه مرةً ومرتين فاتركه يعمل حسبَ هواه وكن بلا همٍ كما قال الآباء».
فاعلم أن هذا الفكرَ ليس بحسبِ مشيئةِ الله، لأن ما تجمعه وتستزيده في أيامٍ كثيرةٍ، تفرغ الكيسُ منه في لحظةٍ واحدةٍ فتبقى مفلساً. أما طولُ الروحِ الذي بحسب مشيئةِ الله، فهو بالصبرِ إلى التمامِ بدون قلقٍ، وأما طولُ الروحِ الكاذب الذي أصابك من خداعِ الشيطانِ، الذي يولِّد للأخِ سجساً وغضباً، فإنه يصيب قليلي الرأي. وهذا ما أقوله لك، فإذا علمتَ أنك مع تلميذِك مثلُ الأب مع ابنِه، فبدلاً من أن تلكز نيَّة الأخِ دفعةً واحدةً كلَّ يومٍ وتُعرِّفه خطأه كما هو واجبٌ عليك، نراك وقد صيَّرته بسكوتِك لا يعلم غَلَطَه، وبعد أن تطيلَ روحَك عليه أياماً كثيرةً، إذا بك تلكزه لكزةً واحدةً في موضعٍ يصيبُ منه مقتلاً، فتنزع روحَه منه. فاعلم يا أخي أنك مخدوعٌ، إذ تقول إن خطايا الأخ كائنةٌ حقاً، فقل لي: إذا كنتَ تعلم باستقصاءٍ أن خطاياه حقٌ، فهل وصفتَ له العلاج ليصِحَّ منها؟ أليس هذا من الإعجابِ والكبرياءِ؟ وأيضاً بشأنِ أيِّ الخطايا قال الربُّ: إن لم تتركوا للناسِ خطاياهم، لا يترك لكم أبوكم خطاياكم. أليس بشأنِ الخطايا الحقانية؟ فكيف تدين أنت أخاك من أجلِ ما لا صحة له، فأنت بذلك تُلقي نفسَك في أشدِّ العذاب. لأنك إذا طالبتَ أخاك هكذا، طالبَك الله بشأنِ خطاياك، فأما المكتوب فهو: لا تدع الشمسَ تغرُب على غيظِكم، واحملوا ثِقلَ بعضِكم بعضاً. وكيف يخدمك الأخ؟ أليس في شأنِ الله؟ فإذا قرعت فكرَه، فأمسك أنت لفكرِك، ولا تحسب نفسَك شيئاً وأنت تتنيح، وقاتل الأفكار التي تجلب لك السجسَ وأنت تُعان.
سؤال: «إني قد وعظتُ الأخَ بحبِّ الله، وقد تسجستُ بسببِ كونهِ لم يقبل مني، فماذا أفعل»؟
الجواب: «أنت لا تفهم ما تقول، فإن كنتَ من أجلِ الله وعظتَه فكيف تسجَّستَ؟ لأن العظةَ من أجلِ اللهِ لا تدع الإنسانَ يتسجس، حتى ولو وقع الموعوظُ في الواعظِ لاحتمل ثقلَه ولم يتسجس، وإنما كلُّ عظةٍ تدع السجس يدخلُ في قلبِ الإنسانِ فهي ليست في ذاتِ الله، لكنها شيطانيةٌ، مختلطةٌ بتزكيةِ الذاتِ. فقد بان إذن أن الأمرَ تجربةٌ، ولكن اللهَ يُبطلها عنكما ويمنحكما معرفةً لتفهما حيلَ العدو، وينجيكما منه، فصليا من أجلي».
سؤال: «يا أبي، إن الأخ يحتقرني جداً، وأحبُّ أن أُبدِّله بتلميذٍ آخر، أو أبقى وحدي، لأن فكري يقول لي: لو كنتَ وحدك ما كنت تحزن».
الجواب: «لا يجب أن تقبل تزكيةَ نفسِك، ولا تقل: لو كنتُ وحدي ما كنتُ أحزن، لأنه لا يكون خلاصٌ بدونِ أحزان، لأنك بقولِك هذا تُبطل الكتابَ القائل: كثيرةٌ هي أحزان الصديقين ومن جميعِها ينجيهم الربُّ. وأيضاً: كثيرةٌ هي جلدات الخطاة. فإن كنتَ صدِّيقاً أو كنتَ خاطئاً، فواجبٌ عليك قبول الأحزان، وليست هناك أشياء يتساوى الأمر في فائدتِها مثلَ الأحزان، لأن الأحزانَ هي مقدمة الخلاص، لأن الرسولَ يقول: إننا بأحزانٍ كثيرةٍ ندخل ملكوت السموات. فالذي يطلبُ النياحَ في كلِّ شيءٍ ليسمع: إنك قد أخذتَ خيراتك في حياتِك. فإن كان ربنا قد صبر من أجلِنا على الأوجاعِ، فواجبٌ علينا أن نصبرَ على الأحزانِ لنكونَ شركاءَه في آلامهِ المحيية. أما بخصوص استبدال تلميذك بتلميذٍ آخر، فالأمر واحدٌ، لأنك إذا اتخذتَ آخر، وصادفك منه ما يحزنك، فماذا عملتَ؟ فيجب عليك إذن احتمال التلميذ الذي لك، وسياسته، ويلزمه هو القبول منك، على أن تحتمل أنت ثقله بخوفِ الله».
من أجلِ العملِ الداخلي، قال: «العملُ الداخل هو وجعُ القلبِ الذي يجلبُ الطهارةَ، والطهارةُ تلد سكوتَ القلبِ الحقاني، وهذا السكوتُ يلدُ التواضعَ، والتواضع يصيِّر الإنسانَ مسكناً لله. وهذه السكنى تطرد الأعداءَ الأشرارَ مع كافةِ الأوجاعِ الوسخةِ، وتحطم الشيطانَ رئيسَها، فيصير الإنسانُ هيكلاً لله طاهراً مقدساً مستنيراً فرحاً ممتلئاً من كلِّ رائحةٍ طيبةٍ وصلاحٍ وسرورٍ، ويصبح الإنسانُ لابساً لله، نعم، ويصير إلهاً، لأنه قال: أنا قلتُ إنكم آلهةٌ، وبني العليِّ تُدعَون. وحينئذ تنفتح عينا قلبهِ، وينظر النورَ الحقاني، ويفهم أن يقولَ: إني بالنعمةِ تخلصت بالرب يسوع المسيح. فالذي يريد أن يُرضي الله، فليقطع هواه لأخيه ومعلمِه، لأنه إذا فعل ذلك فهو يجد نياحاً بالربِ».
سؤال: «كيف أعرف الفكرَ الذي من الله والفكرَ الذي من الطبيعةِ والفكرَ الذي من الشيطان»؟
الجواب: «إفراز هذه المسألة إنما يكون للذين قد بلغوا إلى التمامِ، لأنه إن لم تَطهُر العينُ الداخلةُ بالعرقِ والعناءِ الكثير، فلا تقدر أن تفرزَ، فاقطع هواكَ للهِ في كلِّ شيءٍ وقل: ليس كما أريدُ أنا، بل ليكن ما تريده أنت يا ربي وإلهي، وهو يعمل معك كهواه. فاسمع الآن فرزَ هذه الأفكارِ الثلاثةِ: إذا تحرَّك في قلبِك فكرٌ في ذاتِ الله، ووجدتَ فرحاً، وحزناً يساوي هذا الفرح، فاعلم أن ذلك الفكرَ هو من اللهِ، فداوم فيه. فإن جاء عليك فكرٌ طبيعيٌ الذي هو الهوى الجَسَداني فادفعه، وأتمم القول القائل: أن تكفرَ بنفسِك، أي أنك تكفر بالمشيئات الطبيعية وتقطع هواك الجَسَداني. وأما أفكار الشيطان فتكون مبلبلِةً وممتلئةً أحزاناً، وهي تجرُّ إلى الخلفِ، فكلُّ أمرٍ تفكر فيه وتحس في قلبك ببلبلةٍ ولو بمقدارِ شعرةٍ، فاعلم أن ذلك من الشياطين واعلم أن ضوءَ الشياطين آخره ظلمةٌ».
وقال أيضاً: «الذين يريدون أن يسلكوا طريقاً ما، فإن لم يمشوا مع من يُريهم الطريقَ من أولهِا إلى آخرها، فلن يستطيعوا بلوغَ المدينةِ، فإن لم يترك التلميذُ هواه خلفَه ويخضع في كلِّ شيءٍ ويتضع، فلن يبلغَ مدينةَ السلامِ».
سؤال: «ما هو الاتضاع»؟
الجواب: «الاتضاع هو أن يحسبَ الإنسانُ نفسَه تراباً ورماداً، ويقول: أنا من أنا، ومن يحسبني أنا شيئاً، ومالي أنا مع الناسِ، لأني عاجزٌ. ولا يقول عن أمرٍ: ماذا؟ أو ماذا يكون هذا؟ ويكون ماشياً بخضوعٍ كثيرٍ في طرقِهِ، ولا يساوي نفسَه بغيرِه، وإذا اُحتقر ورُذل لا يغضب».
سؤال: «أخبرني يا أبي كيف يقتني الإنسانُ الاتضاعَ الكاملَ والصلاةَ الحقانية»؟
الجواب: أمّا كيف يقتني الإنسانُ الاتضاعَ الكاملَ، فالربُ قد علَّمنا ذلك بقولِه: «تعلَّموا مني فإني وديعٌ ومتواضعُ القلبِ، فستجدوا راحةً لنفوسِكم». إن كنتَ تريدَ أن تقتني الاتضاعَ فافهم ماذا عَمِلَ وتأمَّل صبرَه، واصّبر مثلَه، واقطع هواكَ لكلِّ أحدٍ، لأنه قال: «إني ما نزلتُ من السماءِ لأعمل مشيئتي، بل مشيئةَ مَن أرسلني». هذا هو الاتضاعُ الكامل، أن نحتملَ الشتيمةَ والعارَ وكلَّ شيءٍ أصاب مُعلِّمَ الفضيلةِ ربنا يسوع المسيح. وأما الصلاةُ الحقانية فهي أن يكونَ الإنسانُ مخاطباً للهِ بلا طياشةٍ، ناظراً إليه بجملتِه وأفكارِه وحواسِه والذي يسوقُ الإنسانَ إلى ذلك، هو أن يموتَ من كلِّ إنسانٍ، ومن العالمِ وكلِّ ما فيه، ويُصوِّر في عقلِه أنه قائمٌ قدام الله وإياه يُكلِّم. وهكذا يكون قد انفلتَ من الطياشةِ وانعتق منها وصار عقلُه فرحاً مضيئاً بالربِّ. وعلامته إذا وصل إلى الصلاةِ الكاملةِ، فإنه لا يتسجس البتة، ولو سجَّسه كلُّ العالمِ، لأن المصلي بالكمالِ، قد مات من العالمِ ونياحِه كلِّه، وكلُّ شيءٍ يعمله من أمورِه يكون فيه بلا طياشةٍ.
سؤال: «كيف أقدر أن أُمسكَ بطني وأن آكلَ دون حاجتي، لأني لا أستطيعُ صبراً»؟
الجواب: ليس أحدٌ يفلِتُ من هذا الأمرِ، إلا الذي بلغ إلى مقدارِ ذلك الذي قال: «إني نَسيْتُ أكْلَ خبزي من صوتِ تنهدي، وقد لَصِقَ لحمي بعظمي». فمَن كانت حالهُ هكذا، فإنه يأتي بسرعةٍ إلى قلةِ الطعامِ لأن دموعَه تصيرُ له مثلَ الخبزِ، ويبدأ إذ ذاك يتغذى من نعمةِ الروحِ القدس. صدقني يا أخي، إني أعرفُ إنساناً يعلم الربُّ أنه قد بلغ إلى هذا المقدارِ الذي ذكرتُ، حتى أنه كان لا يأكل في كلِّ أسبوعٍ مرةً أو مرتين، وكان مراراً كثيرةً يُسبى في النظرِ الروحاني، ومن حلاوةِ ذلك كان ينسى أكْلَ الطعامِ المحسوس، وكان إذا أراد أن يأكلَ يشعر كأنه شبعانٌ، ولا يجدُ لذّةً للطعامِ، وكان يأكلُ بدونِ شهوةٍ، لأنه كان يشتهي أن يكونَ دائماً مع الله، وكان يقول: «أين نحن»؟
فقال الأخُ السائل: «أنا أطلبُ إليك يا أبي أن توضِّحَ لي قوةَ هذا الأمرِ، وكيف يصيرُ الإنسانُ إلى ما ذكرتَ، فإني أجهلُ ذلك، وإذا أنا بدأتُ أقلِّل طعامي، فما يدعني الضعفُ حتى أعودَ إلى المقدارِ الأولِ، وأنت قلتَ لي إن الذي يبلغُ إلى المقدارِ الذي قيل فيه: إن لحمي لصق بعظمي من صوتِ تنهدي، هذا يصير إلى قلةِ الطعام، فبيِّن لي هذا الأمرَ»؟
قال الشيخ: هذا هو التصاقُ اللحمِ بالعظمِ، أن تصيرَ جميعُ أعضاءِ الإنسانِ ملتصقةً، أي أن تكونَ أفكارُ الإنسانِ كلُّها فكراً واحداً بالله، عند ذلك يلتصق الجَسَداني ويصير روحانياً، ويلحق الجسدُ بالفكرِ الإلهي، وحينئذ يصيرُ الفرحُ الروحاني في القلبِ يُغذِّي النفسَ ويُشبعُ الجسدَ، ويقوى كلاهُما حتى لا يكون فيهما ضعفٌ ولا ملل، لأن ربَنا يسوعَ المسيح إذ ذاك يكون الوسيطَ ويوقف الإنسانَ بالقربِ من الأبوابِ التي ليس داخلها حزنٌ ولا وجعٌ ولا تنهد. وحينئذ يتمُّ القولُ: «حيث يكون كنزُك، فهناك يكون عقلُك». فالذي يبلغُ إلى هذا المقدارِ فقد اقتنى الاتضاعَ الكاملَ بيسوعَ المسيحِ ربنا الذي له المجد إلى الأبد آمين.
من كلام القديس سمعان العمودي: «إذا كانت حُمَّى الجسدِ تمنعه من أن يعملَ أعمالَه الجَسَدَانية، كذلك مرضُ النفسِ بالخطيةِ يمنعها من ممارسةِ أعمالِ الحياةِ الروحانية، فالله يريدُ من النفسِ أن تحبَّه وتطلبه بحرصٍ، فإذا أحبَّته وطلبته بكلِّ قوَّتِها، فحينئذ يسكنُ فيها ويملك على أفكارِها فيهديها إلى ما يريدُ لها».
قال شيخٌ: «إنَّ الله يطالبُ الإنسانَ بثلاثةٍ: العقلَ، الكلامَ الروحاني، والعملَ به. المجدُ الباطل يتولَّد من ثلاثةٍ: طلب التعليم، وطلب الاتساع في الأشياءِ، وطلب الأخذ والعطاء. وثلاثةٌ تسبقُ كلَّ خطيةٍ: الغفلة، النسيان، والشهوة. حاملُ الأمواتِ يأخذُ الأجرةَ من الناسِ، وحاملُ الأحياءِ، أعني المحتمل، يأخذُ الأجرةَ من الله».
سأل أخٌ الأنبا بيمين قائلاً: «كيف ينبغي للراهبِ أن يجلسَ في قلايتهِ»؟ فقال له: «أما الظاهر من الجلوسِ في القلايةِ فهو أن تعملَ بيدِك، وتأكلَ مرةً واحدةً فقط كلَّ يومٍ، والهذيذ في الزبور وقراءة الكتب والتعليم، أما غيرُ الظاهرِ والسرِّي من الأمور فهو أن تلوم نفسَك في كلِّ أمرٍ تصنعه وحيثما توجهتَ، وفي ساعة صلاتك لا تتوانَ من جهةِ أفكارك، وإن أردتَ أن تقوم من عمل يديك إلى الصلاةِ، فقم وأكمل صلاتك بلا سجس، وتمام هذا كله أن تسكن مع جماعةٍ صالحةٍ، وتتباعد من جماعة السوء».
وقال له أخٌ: «إني خاطئ فماذا أعملُ»؟ فقال له: «مكتوبٌ: خطيئتي أمامي في كلِّ حينٍ، فأنا أهتمُّ بآثامي وأعترفُ بذنبي، فقلتُ أكشف خطيئتي أمامَ الربِّ وهو يغفرُ لي نفاقَ قلبي». وقال: «من يضبط فَمَه فإن أفكارَه تموت، كالجَرَّةِ التي يوجد فيها حياتٌ وعقارب وسُدَّ فمها فإنها تموت».
وسُئل: «أيهما أصلحُ، الكلامُ أم الصمت»؟ فقال: «إن الصمتَ من أجلِ الله جيدٌ، كما أن الكلامَ من أجلِ اللهِ جيدٌ كذلك». وقال: «من يُكثر من الاختلاطِ بالناسِ، لا يمكنه أن ينجوَ من النميمةِ». وقال كذلك: «إن اللجاجةَ والحسدَ يتولَّدان من السُبحِ الباطل، لأن الإنسانَ الذي يطلبُ مجدَ الناسِ فإنه يناصبُ الذي يعملُ وينجحُ ويُمجَّد، ويحسده. والاتضاعُ هو دواءُ ذلك».
سُئل القديس باسيليوس: «كيف يكون حالُ من صَعُبَ عليه إتمام قانونِ التوبةِ»؟ فأجاب وقال: «حالُ ذاك يجب أن يكونَ كحالِ ابنٍ مريضٍ وفي شدةِ الموتِ بالنسبةِ لأبيه الخبير بصناعةِ الطبِّ والذي يرغب في مداواته، فلمعرفتِه بصعوبةِ وصفِ الأدويةِ والتعبِ الكثير في صناعتها، وبخبرةِ أبيه في الطبِ، ولأن قلبَه يطيبُ بمحبةِ أبيه له، ولرغبتهِ كذلك في الشفاء، فكلُّ هذه العوامل تجعله يرسخ لمداواته، فيمكِّنه من نفسِه ليتداوى ويحيا، لذلك من يَصْعُب عليه قانون التوبةِ، فليترك الأمرَ بين يدي معلمهِ».
وسُئل أيضاً: «كيف ينبغي للإنسانِ أن ينتهرَ»؟ قال: «كما ينتهرُ الأب ابنَه، وكالطبيبِ الذي يقصد شفاءَ المريض».
كما سُئل: «كيف يجب أن يُقبل الانتهار»؟ فقال: «كما يَقبل الولدُ تأديبَ والدِهِ، والمريضُ مداواةَ طبيبهِ».
وسُئل كذلك: «كيف ينبغي للإنسان أن يحبَّ قريبَه»؟ فقال: «كالمكتوبِ: تحب قريبَك مثلَ نفسِك، وأيضاً ما من حبٍ أعظمُ من هذا أن يبذلَ الإنسانُ نفسَه عن أحبائِهِ».
وأيضاً سُئل هكذا: «ما هي الكلمةُ البطالة التي نعطي عنها جواباً»؟ فقال: «هي تلك التي ليست للبنيان، كقول الرسولِ: كلُّ كلمةٍ قبيحةٍ لا تخرجُ من أفواهكم، بل الكلمةُ الصالحةُ التي تكون للبنيان، وتُعطي نعمةً للذين يسمعونها».
وقال أيضاً: «إن الصومَ الحقيقي هو سجنُ الرذائل، أعني ضبطَ اللسانِ، وإمساكَ الغضبِ، وقهرَ الشهواتِ الدنسة. الذي يُصالح نفسَه خيرٌ من الذي يُصالح الغضوبين، والذي يُدبِّر نفسَه خيرٌ من الذي يُدبِّر غيرَه. ابتداءُ المحبةِ حُسنُ الثناءِ، وابتداءُ البُغضَةِ الوقيعةُ. عوِّد جسدَك طاعةَ نفسِك، ونفسَك طاعةَ اللهِ. ما لا ينبغي أن تفعله لا تفكر فيه ولا تذكره. إن أردتَ أن تكونَ معروفاً عندَ الله، فاحرص ألا تكون معروفاً عندَ الناسِ. عاتب نفسَك فهذا أفضلُ من أن تعاتبَ غيرَك. ابتعد من نظرِ وسماعِ ما لا يفيد، فتتخلص من فِعلِ ما لا يفيد. جيدٌ ألا تخطئَ، وإن أخطأتَ فجيدٌ ألا تؤخرَ التوبةَ، وإن تُبتَ فجيدٌ أن لا تعاودَ الخطيةَ، وإذا لم تعاودها فجيدٌ أن تعرفَ أن ذلك بمعونةِ اللهِ، وإذا عرفتَ ذلك فجيدٌ أن تشكرَه على نعمتِهِ وتلازمَ سؤاله في إدامة معونته. إن كان ليس بجيدٍ أن تستشهد بإنسانٍ شريفٍ على أمرٍ حقيرٍ، فكم بالحري الله تعالى. علامةُ الخوفِ من الله، الهربُ من العيوبِ الصغارِ، حذراً من الوقوعِ في الذنوبِ الكبارِ. علامةُ مَن غلبَ الشيطانَ أن يحتملَ شرَّ أخيه ولا يدينه. علامةُ الخلوةِ مع الله هي الابتعادُ من القلقِ، والبغضةُ لسيرة العالم. علامةُ التكبِر قنوعُ الإنسانِ برأي نفسه. عمومُ الناسِ يظنون أن الله في الهياكلِ فقط، فيحسِّنون سيرتَهم فيها فقط، وذوو المعرفةِ يعلمون أن اللهَ في كلِّ موضعٍ، فينبغي أن يحسِّنوا سيرتَهم في كلِّ موضعٍ. كما أن الجسديين لا يقدرون أن يَغضبوا بحضرةِ الملك، كذلك الذين يتدبرون بالروحانيةِ يمنعهم من الغضبِ الخوفُ من اللهِ الملك المعقول الناظر إليهم دائماً. الحكيمُ لا يتقي غيرَ المخوفِ، ولا يرجو غيرَ المدرَكِ، ولذلك لا يخافُ الآلام ولا يرجو دوام اللّذات العالمية، لأنها سريعةُ الزوالِ، فإذ لا يخاف هذه الآلام احتملها، وإذ لا يرجو هذه الّلذات فلا يطلبها».
قال شيخٌ: «إذا قوتِلَ راهبٌ بالزنى وحفظ بطنَه ولسانَه وغربتَه، فلي إيمانٌ أنه لا يسقط بمعونةِ اللهِ».
قال أخٌ لشيخٍ: «لستُ قادراً على إتمامِ الطاعة الكاملة». فقال له: «اعمل بقدرِ قوتِك، وأنا أؤمن أن اللهَ يحسبك مع من يُكمِل الطاعةَ». وقد قال: «لا تختنق إذا سقطتَ، بل انهض وتُب. فقد قال سليمان الحكيم: إنَّ الصديقَ إذا سقطَ سبعَ مراتٍ في اليومِ فهو يقوم سبعَ مراتٍ».
قال شيخٌ: «إذا شَتَمَ الراهبُ أخاه بذكرِ شيءٍ من الخطأِ مثل أن يقول: يا زانٍ، يا سارق، ويا كذاب، فإن سَكَتَ المشتوم وغفر للشاتم وقال في نفسِه: بالحقيقة إني خاطئ؛ فإن تلك الخطية التي شُتم بذِكرها والتي أشار إليها بقولِهِ: بالحقيقةِ إني خاطئٌ، تُغفر له، وتصبح على الشاتم له بذِكرها، لأنه ترك الاعترافَ بخطيئتهِ وأظهر خطيةَ أخيه، ولكون المشتوم احتمل إشهار خطيئتهِ فحُسب له اعترافاً، ولكونه غفر لأخيه نال المغفرةَ».
ثلاثةٌ من الرهبانِتآخوا في الربِ، فاختار أحدُهم الصلحَ بين الناسِ كقولِ الربِّ: «طوبى لصانعي السلام فإنهم بني الله يُدعَوْن». واختار الآخرُ خدمةَ المرضى وتعاهدهم كقوله: «كنتُ مريضاً فتعهدتموني». أما الأخير فقد اختار لنفسِه الوحدةَ ليتفرغَ لخدمةِ الربِّ وحده والصلاةِ كلَّ حينٍ كقولِ الرسول. فأما الأول فإنه ضجر من خصومةٍ الناسِ ولم يقدر أن يرضيهم كلَّهم، فلما تعب مضى إلى صاحبهِ الذي يفتقدُ المرضى فوجده قد ضجر هو الآخر مما هو فيه، فقاما معاً وأتيا إلى المتوحدِ، وأعلماه بحالِهما واستخبراه عن حالهِ، فسكت قليلاً، ثم سكب ماءً في إناءٍ وقال لهما: «تأمَّلا هذا الماء»، فتأمَّلاه مضطرباً ولم ينظرا فيه شيئاً. وبعد أن سكن الماءُ قال لهما: «انظرا الآن». فنظرا، وإذا الماءُ يريهما وجهيهما مثل المرآةِ. فقال لهما: «هكذا تكون حالُ من يكون بين الناسِ، فإنه لأجل اضطرابهم لا يمكنه أن ينظرَ ما فيه، أما إذا انفرد ولا سيما في بريةٍ، فحينئذ يرى نقائصَه».
قيل إن شيخاً كان يأكلُ أثناءِ تأدية عمله، فسُئل عن ذلك فقال: «إني لا أؤثر أن أجعلَ الطعامَ عملاً يُتفرغ له، حتى لا تحس نفسي بتلذذ في الطعامِ». وهو قال: «ليس شيءٌ يغسلُ دنسَ الزنى مثل دموعِ التوبةِ، لأن الزنى يخرج من الجسد والقلب، وكذلك الدموع تخرج من الجسد والقلب».
قال شيخٌ: «يجبُ أن نحاسبَ نفوسَنا كلَّ يومٍ ونفتقد حياتنا بالتوبةِ».
وقال أيضاً: يجبُ أن نشكرَ الله على الأوجاعِ الجسمانية، فإن الرسولَ يقول: «إذا ما فسد إنسانُنا الخارجي، فإن الداخلي يتجدد يوماً فيوماً». فلن نشاركَ المسيحَ في مجدِه إلا إذا شاركناه في أوجاعِه، ولا نقدر أن نشاركه في أوجاعِه، إلا بالصبرِ على الشدائدِ. الشكرُ في الشدةِ يعينُ على الخلاصِ منها. ينبغي ألا نرغب في نياح هذا العالمِ لئلا يُقال لنا: «قد أخذتَ خيراتك في حياتك». لا تظن أنك أكملتَ شيئاً من الخيرِ، فيُحفَظ لك أجرُ برِّك. لا تحسب نفسك أنك شيءٌ، فتكون أفكارُك هادئةً. إن الشياطين يخفون شرَهم وراءهم، ونورُهم آخره ظلامٌ، فلا تعمل شيئاً بغير مشورةِ الآباءِ العارفين بقتالهم. الزم الصلاةَ في التجارب، فإن الربَّ قد قال: «الله ينتقم لعبيدهِ الصارخين إليه». ينبغي للمجاهدِ أن يبتعدَ عن كلِّ امتلاءٍ، ولو من الخبزِ والماء، وأن يجمعَ عقلَه في صلاتِه، ليكمل قربانَه الروحاني، ويتذكر خطاياه دائماً ويحزن عليها، وليكن كلَّ ما يعمله ويقوله من أجلِ مرضاة الله لا من أجلِ مجدِ الناس، وأن يفحصَ تدبيرَه دائماً، لكي لا تكون سكناه في البريةِ على غيرِ مذهب الرهبنة، فإنه قد سكن البريةَ كثيرٌ من اللصوصِ وهي مأوى للوحوشِ والطيورِ المؤذية، أما الراهب فإنه يسكنها هرباً من سجسِ العالم الذي يشغل عن عبادةِ الله التامة، كما ينبغي أن يصبرَ على البلايا ويكلِّف نفسَه في كلِّ شيءٍ، وأن يقدِّم حبَّ الله على حبِّ القريب، وحبَّ القريبِ على حبِّ نفسه، وحبَّ نفسه على حبِّ كلِّ ما سواها، وليكن له إيمانٌ قويٌ بالله ورجاءٌ واتضاع وإمساكٌ وصمتٌ وصلاةٌ دائمة وتهاونٌ بالأرضيات وتذكر الموت والمجازاة، وقراءة الكتب وتمييز كلِّ الأمور وحفظُ العقلِ والقلبِ، وطاعةٌ للآباء والوصايا من أجلِ الله.
قال أحدُ الإخوةِلشيخٍ من الرهبان: «يا أبي، إني أطلبُ إلى الشيوخِ فيكلموني فيما هو لخلاصِ نفسي، ولكني لستُ عاملاً بشيءٍ مما يقولون لي، فما الذي أنتفعُ به من هذا الأمر، وأنا ممتلئٌ من الوسخِ». وكان عند الشيخ كوزان فارغان، فقال له الشيخ: «أحضر أحدَ هذين الكوزين وصبّ فيه ماءً وخضخضه». فجعله الشيخ يغسل الكوزَ مراتٍ كثيرةً ثم قال له: «ضعه عند الكوز الآخر». ففعل، وبعد ساعةٍ قال له: «أحضر الكوزين معاً، وانظر أيَّ الكوزين أنقى». فقال له الأخُ: «الذي صببنا فيه الماءَ أنقى». قال له الشيخ: «كذلك تكون نفسُ من يسأل الشيوخَ ولا يعمل بما يقولونه، أنقى من نفسِ من لا يسأل ولا يعمل معاً».
قال شيخٌ: «ينبغي للمتوحدِ في قلايتهِ أن يكون له إفرازٌ ومعرفةٌ وحرصٌ وتيقظٌ، كما يكون ضابطاً لحواسهِ حافظاً لعقلِه، لا يفكر في إنسانٍ، ولا يَفْتُر في الصلاةِ والقراءةِ».
قال أحدُ الشيوخِ: «إن الإفرازَ الحقيقي، لا يكون إلا من الاتضاع، والاتضاع هو أن نكشف لآبائِنا أفكارَنا وأعمالَنا، ولا نثق برأينا، بل نستشير الشيوخَ المجرَّبين الذين نالوا نعمةَ الإفرازِ، ونعمل بكلِّ ما يشيرون به علينا، فالذي يكشفُ أفكارَه الرديئة لآبائهِ فإنها تخف عنه، وكما أن الحيةَ إذا خرجت من موضعٍ مظلمٍ إلى ضوءٍ تهرب بسرعةٍ، كذلك الأفكارُ الرديئةُ إذا كُشفت تبطل من أجلِ فضيلةِ الاتضاع. وإذا كانت الصناعات التي نبصرها بعيوننا ونسمعها بآذاننا ونعملها بأيدينا، لا نقدر أن نمارسها بذواتنا إن لم نتعلمها أولاً من معلميها، أفليست إذن جهالةً وحماقةً ممن يريد أن يمارسَ الصناعةَ الروحانية غيرَ المرئية بغير معلمٍ؟، علماً بأنها أكثر خفاءً من جميعِ الصنائعِ، والغلط فيها أعظمُ خسارة من كلِّ ما عداها»؟
قال شيخٌ: «من اجتمع يإخوةٍ عمَّالين، فلو كان هو غيرَ عمَّالٍ فإن لم يتقدم إلى قدام، فلن يتأخر إلى وراء، كذلك من يجتمع بإخوةٍ متهاونين فلو كان عمَّالاً، فإن لم يخسر، فلن يربح. الساقطُ فلينهض لئلا يهلك، والقائمُ فليتحفظ لئلا يسقط».
وقال آخر: «إذا مشيْتَ مع رفيقٍ صالحٍ من قلايتك إلى الكنيسة، فإنه يقدِّمك ستة أشهر، وإذا مشيتَ مع رفيقٍ رديء من قلايتك إلى الكنيسة فهو يؤخرك سنةً».
سأل أخٌ شيخاً قائلاً: «يا أبي، لماذا لا يثبت جيلُنا هذا في أتعابِ الآباء الأولين»؟ فأجابه الشيخ قائلاً: «لأنه لا يحبُّ الله ولا يفرُّ من الناسِ ولا يبغض قشاش العالم، إن كلَّ شخصٍ يفرُّ من الناسِ ومن المقتنيات فإن تعبَ الرهبنةِ يأتيه قبلَ سِنهِ، فكمثل إنسانٍ يريدُ أن يطفئ ناراً قد اشتعلت في بقعةٍ، فما لم يسبق ويبعد القشَ من قدام النار، لا يمكنه إطفاءَها، كذلك الإنسان، إن لم يذهب إلى موضعٍ لا يجد فيه الخبزَ والماءَ إلا بشدةٍ، فلا يستطيع أن يقتني تعبَ الرهبنةِ، لأن النفسَ ما لم تبصر فلا تشتهي سريعاً».