Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

هذا الزمان هو زمان الجسد. إنه زمان الأناقة واللباس والشعر المصبوغ والعطور والديودورانت والمساحيق. إنه زمان التبرّج، وهذه كلها مكلفة، والأعباء الناتجة على صعيد الفرد والمجتمع، عديدة وكثيرة. المتبرجات هنّ من الوجهة السلوكية، متصنّعات.

الإنسان في هذا الزمان، بات عبداً لهواجس جسدية (18) تتأكله وتنخره وتقضّه. والفتاة تتوق أن يقال أنها جميلة وجذابة. والشاب أيضاً يتمنى لو يقال أنه وسيم وأنيق. المسألة كلها أناقة وجمال، كلها مظهر، ولا شيء يحاكي العقل. لا شيء يحاكي الإنسان الداخلي. وفي هذا سذاجة لا نعرف تماماً العواقب الوخيمة التي تترتب عليها بعد عقود.

من هنا فإن أمرين يتحكمان بفلسفة الجسد في هذا الزمان: الشهوة والاستهلاك. أما الشهوة، فلكي يبقى الإنسان عبداً لما يقدمه هذا الزمان، فالمطلوب أن تكون عبداً كي لا تدري ما يحاك ضدك، وما يقال فيك، وما يؤذيك. وعبوديتك واستعبادك، شرط أساسي لفئة تريدك أن ترى دون أن تفكر، وأن تسمع دون أن تفكر، وأن تتكلم دون تفكر. الشهوة ضرورية، على هذا الصعيد، وذلك كي تصبح أنت إنسان شهوات مدمرة تطلبها فتأتي لتميتك. المطلوب أن تنتفض فيك الغرائز وتثور، إلى حد لا تكون معه قادراً أن تلجم نفسك وتكبح جماح أهوائك. وأما الاستهلاك، فلأن أناقة جسدك وجماله وزينته وتبرّجه تحتاج إلى مال كثير. والإنسان يسترخص كل شيء من أجل جسده، من أجل أناه، من أجل عشق الذات ومحبة الذات. وأين هذه إذا كانت الجيوب فارغة؟

وفلسفة الجسد بمفهومها المعاصر، هي ذات بعد اقتصادي، وأيضاً سياسي ينعكس على الإنسان، وذلك بقصد مزيد من عبادة الذات التي تصب في تدمير الذات. لهذا السبب يصدق القائلون أن تزيين الجسد وتجميله هو جزء من إستراتيجية يعتمدها من اعتمدنا تسميته الغرب الصناعي الذي يستهدف العالم الثالث (الدول النامية)، وذلك بقصد تحويله إلى سوق استهلاك للمنتجات الغربية، الأمر الذي قد لا يتحقق قبل تركيع الناس بالمغريات المختلفة. ولن تتحقق أحلام الهيمنة إلا إذا ذابت العقول والنفوس.

وقرأت مرة في جريدة النهار بالذات أن النساء والفتيات في شبه الجزيرة الكورية ينفقن قرابة أربعة مليارات دولار أمريكي سنوياً على الزينة والتبرّج. هذا يعني بالنسبة لتعداد سكان الكوريتيّن الشمالية والجنوبية (67 مليون نسمة) سبعين دولار للفرد سنوياً.

في الواقع إن فلسفة الجسد بمفهومه المعاصر، معقدة للغاية. والمتأمل فيها قد يضيع إذا كان لا يعرف ما يريد. فمن الضرورة بمكان أن نعرف المعايير الأساسية لهذه الفلسفة. كذلك ينبغي أن نعرف وندرك مكانة الجسد في هذه الفلسفة. ومكانة نعومة البشرة، ومكانة الموضة نفسها. ينبغي أن نعرف ما تريده فلسفة الجسد هذه من الإنسان، وأيضاً ما يتوقعه الإنسان منها. ترى كيف تصمد فلسفة الجسد إذا كان الإنسان من تراب؟ هذا السؤال لا تبدو فلسفة هذا الزمان جادة في التأمل فيه والرد عليه.

والآن وبفعل فلسفة الجسد المعاصرة فإن الصيدليات اليوم باتت تختلف عن صيدليات الأمس. بالأمس كانت الصيدليات مركزاً لبيع العقاقير الطبية وحسب، أما اليوم فيتبادر تواً لمن يدخل إلى صيدلية أن الخلط فيها قائماً بين مستحضرات للتجميل والدواء، بين التبرّج والشفاء، بين الزينة والحياة. في الحقيقة لا يجوز الفصل في هذا الزمان بينما ما هو لصحة الجسد وما هو لتزيين الجسد، الأمر الذي سيربك الإنسان لا محال ويضلله. فهو لن يقوى على إغفال الزينة في سعيه إلى الشفاء، بل سيطلب الزينة وأدواتها على أنها أمر لا ينفصل عن طلب الشفاء نفسه. ترى كيف نظر القدماء إلى الجسد؟

السؤال مهم جداً، فهو من جهة يساعدنا على فهم حركة الاهتمام بالجسد عبر التاريخ كما ويساعدنا أيضاً على بلوغ حالة من الوعي الذاتي كي لا نضل ونحن في خضم مغريات الحياة المختلفة. سأوجهكم الآن معي إلى أفلاطون الفيلسوف اليوناني الشهير لأني أرى أن عنده ما يمكن التأمل فيه وسماعه على هذا الصعيد.

عندما نطالع نظرية المثل عند أفلاطون، نجد أنفسنا أمام أمرين ترتكز عليهما نظريته كلها: العالم الروحي (عالم المثل)، والعالم المادي. نظرية المثل عند أفلاطون هي أساس النظرية الأخلاقية والنظرية اللاهوتية إذا جاز التعبير. وكما أن حنين كل شيء هو إلى مصدره، هكذا فالنفس عند أفلاطون، وكما يقول هو نفسه لنا، هي أسيرة الجسد، ولا بد لها أن تنعتق منه كي تأتي إلى حريتها الكاملة. لكن هذا لا يحصل بدون موت الجسد. ما معنى هذا الكلام؟

إنه يعني بحسب أفلاطون أن علاقة النفس بالجسد عابرة، وأن الطلاق بينهما وشيك، مع موت الجسد. من هنا فإن مفهوم الشخص عند أفلاطون غامض، وذلك لأن نظرته إلى الإنسان لا تقوم على تناغم بين ملكات الشخصية الإنسانية التي تحتاج إلى الجسد كي تترجم ذاتيته، وتعبر عن نفسها.

كأني بأفلاطون لا يرى ضرورة للجسد من أجل حياة النفس، الأمر الذي عبر علم النفس المعاصر عن نقيضه بعبارة (سيكو سوماتيك = Psycho-somatic)، أي أن الإنسان هو نفس وجسد.

النفس في نظرية المثل الأفلاطونية قلقة ومضطربة، ولا تنعتق من سجنها، أي الجسد، إلا بالموت. وهذا يعني أن حرية النفس مستحيلة، قبل موت الجسد. من جديد ما معنى هذا الكلام؟

إنه يعني أن الإنسان ما دام في الجسد فهو في اضطراب وقلق. والسؤال المطروح دائماً هو: ألا يستطيع الإنسان أن يكون في سلام وهو في الجسد؟ ما الذي يحول دون عيش السلام الداخلي بدون موت الجسد، وقبل موت الجسد؟ هذا غير ممكن عند أفلاطون، إلا أنه متاح لنا من الوجهة المسيحية. فالرب يقول:”سلامي أعطيكم ليس كما يعطي العالم سلاماً”. وأيضاً: “طوبى لصانعي السلام، فإنهم يعزّون”. لقد عاش القديسون الشهداء والأبرار هذا السلام، وإلا يستحيل أن نفهم صبرهم على ظلم الأعداء. جميعهم طالبوا بمحبة الأعداء أسوة بما فعل سيدهم الذي غفر لصالبيه من على الصليب.

لقد رأى أفلاطون وغيره من القدماء دوراً ثانوياً للجسد في حياة النفس، فكانت النتيجة أن حرية النفس لا تعاش قبل موت الجسد.

إلا أننا وفي الرسالة إلى أهل أفسس نسمع الرسول الإلهي بولس يقول وفي معرض كلامه عن الجسد: “… بل ليغذيه ويربيه كما يعامل المسيح الكنيسة”. بولس، ها هنا، لا يتكلم عن الجسد تحديداً، إنما يشدد على العناية بالجسد، بالمقارنة مع محبة المسيح للكنيسة.

كانت المسيحية، منذ أن كانت، عثرة للعقل اليوناني الذي مازال أعوانه وأتباعه إلى اليوم. وإذا طالعنا فيلوكاليا الآباء الزاهدين التي وضعها القديس بطرس الدمشقي، نجد ما يفسر حاجة النفس إلى الجسد من أجل بلوغ الفضائل (راجع الكتاب المذكور، تعريب المطران حبيب باشا، باب: “الفضائل الجسدية هي أدوات لفضائل النفس”، ص: 55-57 ). كذلك فإن القديس غريغوريوس بالاماس وفي عظة بديعة وضعها عن الصوم، يعلمنا أن جهداً روحياً يبذله الجسد، حاجة النفس إلى الجسد من أجل نهوضها وتقدمها.

الجسدي والنفسي، لا ينفصلان في الإنسان ولا يمكن تخفيض الواحد لإعلاء شأن الآخر، وعلى حساب الآخر. في الحقيقة في التاريخ هناك من تأثر بأفلاطون، وأخذ عنه. أوريجنس مثلاً ذلك العلامة الشهير، الذي اعتقد وعلّم بالوجود السابق للنفس (the pre-existence of the soul). ماذا قال أوريجنس على هذا الصعيد؟

علّم أوريجنس أن النفس البشرية كانت موجودة في مرحلة سبقت خلق العالم. في ذلك الحين كانت النفس تحيا في العالم اللامادي، أي أن النفس بحسب تعليم أوريجنس كانت قبل الجسد، ولم تخلق مع تشكّل الجسد في الحشا. بكلام آخر أن النفوس تنزل إلى الأجساد عند تشكل هذه الأخيرة في الحشا (راجع كتابه الشهير de principe). وهكذا فالخالق ينتظر الذين يتزوجون كي ينزل النفوس إلى أحشاء النساء مع تشكل النطفة في الحشا. وربما تنزل أكثر من نفس عندما يكون في الحشا أكثر من جسد. أما المسيحية فأمنت على هذا الصعيد أن النفس تُخلق في لحظة تشكل الجنين، لا قبل التشكل ولا بعده. والسؤال بعد هذا هو: لماذا تنزل النفوس إلى الأجساد وهي غير مادية؟ ما الذي يدعوها إلى هذا النزول بحسب أوريجنس؟ لماذا لم تبقى فوق حيث كانت تنعم بالطمأنينة والسعادة؟

لقد شأت بعض النفوس، حسب تعليم أوريجنس، أن تبقى في الخير، أما نفوس أخرى كثيرة فقد طرأ تغيير على مشيئاتها، وهذا ما أوجد الشر. أي أن النفوس سقطت وهوت بفعل دخول الشر الذي ضربها عندما كانت في العالم العلوي. ونزول النفوس إلى الأجساد جعلها حبيسة الأجساد، ورهن الأجساد. ولكن لماذا كان دخول النفس إلى الجسد؟

كان نزول النفوس إلى الأجساد، حسب تعليم أوريجنس، من أجل التوبة والتكفير عن الخطايا. وهذا يعني أن أوريجنس يعطي الجسد دوراً في توبة النفس وندامتها. لكن الجسد والتجسد البشري من منظار أوريجنس كان نتيجة لدخول الفساد إلى مشيئات النفوس، الأمر الذي يعني بالتحليل الأخير، أن مشاكل النفس وخطاياها هي التي استتبعت عذاب الجسد، وجهاد الجسد. ولكي يدعم أوريجنس نظريته هذه، شرع يبحث في الكتاب المقدس عن مقاطع تدعم تفكيره، وتخدم مقولته ونظريته، فوجد في النهاية القول التالي: “قبل أن أتواضع ضللت، أما الآن فقد حفظت وصاياك” (مزمور119: 67).

بيد أن الكنيسة لم تقبل تعليم أوريجنس، إنما شجبته في المجمع المسكوني الخامس. (للمزيد راجع ما كتبه المثلث الرحمات الأب يوحنا مايندورف في كتابه: “المسيح في الفكر الشرقي”S.V.S.. وأيضاً: “الشرع الكنسي”، للأرشمندريت حنانيا كساب: ص: 473-474-475-478-479). ماذا نتعلم بمختصر الكلام من تعليم أفلاطون وأوريجنس الذي أوردناه مقتضباً؟

نتعلم أن الجسد ثانوي بالنسبة للنفس. وربما هذه الثانوية التي للجسد عن هذين المفكرين المذكورين هي إحدى العناصر التي أوعزت للعقل البشري المريض والمعطوب أن يستبيح الجسد ويسترخصه للشهوات والرذائل المختلفة.

إلا أن أفلاطون وأوريجنس كما هو معروف من سيرتهما كانا مناقبيين ورصينين، لا بل على درجة من النسك، دفعت أوريجنس إلى استرخاص الحياة من أجل الحقيقة. وهذه مسألة جديرة بالذكر رغم أنها تثير التناقض. ترى ماذا يقول الكتاب المقدس بصدد ثنائية الجسد والنفس؟

الكتاب المقدس لا يتنكّر للجسد، ولا يرفض مادية الوجود البشري. إنه لا يدعو إلى احتقار الجسد مقابل إعلاء الروح. للكتاب المقدس نظرة متوازنة من كل هذه، بحيث أن الجسد ليس محتقر، والنفس ليست ذاتاً هوائية. وفي هذا الصدد يقول الرسول الإلهي بولس في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس: “ألا تعلمون أن أجسادكم هي هيكل للروح القدس الذي فيكم، الذي نلتموه من الله؟” (1كور16: 19). في الحقيقة لا نجد عند الرسول بولس في كل رسائله، ما يشير إلى أن الجسد سجن للنفس، كما هو الحال عند أفلاطون، فالجسد هو هيكل ومستقر للروح القدس. يضاف إلى ذلك، أن وجود النفس في الجسد لا يقترن من الوجهة المسيحية بالتوتر والقلق، بحيث أن التوتر يزول في النفس بموت الجسد، فتنال حريتها. فالنفس تكون حرة ليس من خلال موت الجسد، بل من خلال العيش بمقتضى إرادة الله (غلاطية5: 13-15)، وأيضاً: (غلاطية5: 16-24).

ليس في المسيحية تناقض بين النفس والجسد، فالإنسان المصلي يصلي بجسده كله. المسيحية لا ترى الإنسان مجموعة أجزاء، كما ولا تخفّض الإنسان إلى أجزاء. الإنسان وحدة في المسيح، وهو كله مخلوق على صورة الله.

الإنسان في المسيحية شخص لا مجرد جسد. وصورة الله ليست في النفس فقط، ولا في الجسد فقط. الإنسان ليس هو النفس فقط ولا الجسد فقط. ألا يقول يوئيل النبي: “سأسكب من روحي على كل جسد”؟ في تعبير النبي إشارة إلى أن الإنسان كله وإلا لا معنى لكلامه. إذ يستحيل، ولا يكفي أن ينسكب روح الله على جسد الإنسان فقط، فالإنسان أكثر من جسد.

وهكذ، ليس عندنا في المسيحية كلام وتعليم عن رداءة الجسد، ودونية الجسد. لقد حاربت الكنيسة عبر تاريخها كل من رأى وعلّم أن الجسد محتقر، ففصلت عن الجماعة أولئك الذين رأوا في الزواج تعاطياً مع الفساد والنجاسة. صحيح أن الكنيسة ترى البتولية أسمى من الزواج. لكن ليس بمعنى فساد الزواج ودونيته. الكنيسة لم تقلل يوماً قدسية الزواج، ولم تعلّم في كل تاريخها أن القداسة بعيدة عن نطاق الزوجية (SYZYGY)، فهي ترى دائماً أي الكنيسة، أن الجسد هيكل للروح القدس، وأن الإنسان يغذي جسده، كما يعامل الرب الكنيسة (أفسس5).

– حاجة جسدية بحتة

بيد أننا شرعنا منذ بضعة عقود من السنين نسمع عما يسمى “حاجة جسدية بحتة”. وها نحن الآن، وباسم الحاجة البحتة، وباسم الحرية، نبرز الشهوات ونراها طبيعية وواجبة، لأنها في وعينا، ولا وعينا حاجات بحتة. لقد قبلنا إطلاق الغرائز، وتساهلنا بإزاء الانغماس فيها.

وتمادى الإنسان على هذا الصعيد، فتجذرت في النفوس ضرورة الحرية الجنسية. وتشربها العقل وبدأ سعيه الهادئ شيئاً فشيئاً نحو الممارسات الجنسية الحرة غير المقيّدة promiscuity. ولا أحد حقيقةً يستطيع بنتيجة هكذا حرية أن يتصوّر ما سوف يترتب على المجتمعات الإنسانية من أعباء ونتائج مدمرة على صعيدي الفرد والمجتمع.

والكلام عن حاجات جسدية بحتة وحرية جنسية غير مشروطة، يعني في العمق أن الإنسان يمكن أن يخفّض إلى جسد، أو يكتفي به كجسد، أو يعامل كجسد وحسب. لكن هذا الكلام خطير جداً فالإنسان أكثر من جسد، إنه طاقات نفسية وروحية وجسدية. إنه جملة معقدة من إبداعات وجمالات تتخطى حتماً حدود الجسد البحت. ومن السذاجة القول أنه مجرد لحم وعظم.

هذا ولا تدل معطيات علم النفس المعاصر أن الإنسان مجرد جسد، بل دائماً نسمع كما أسلفنا عبارة: “كائن سيكو سوماتيكي Psycho-somatic ” أي يتألف من جسد ونفس.

ومع ذلك فإن عصرنا يعبث بالجسد، ويدعو أمام الملأ إلى استهلاك الجسد. وفي هذا علامات وعلامات على احتقار الإنسان في جوهره.

عصرنا غريب حقاً فهو من جهة قائم على مانوية حديثة تحتقر الجسد من خلال تشييئه، ومن خلال الدعوة إلى إطلاق غرائزه، وتفجير شهواته، ومن جهة ثانية ينادي هذا العصر أكثر من كل العصور السالفة، بضرورة تجميل الجسد وتبرّجه والاهتمام بلباسه. وكل ذلك ليس إلا لكي يصبح الجسد أكثر جاذبية، وبالتالي أكثر بهاءً ولمعاناً من أجل الشهوات ومن أجل الغرائز. ويرى الإباحيون أن استهلاك الجسد أمر طبيعي لا غضاضة فيه، وذلك لأن شرعية استعمال الجسد تأتي من كون رغبات الجسد قائمة في الجسد. والجسد للإنسان حلال، فهو يستطيع أن يفعل به ما يشاء. لكن السؤال الذي لا يعرف الإباحيون الرد عليه، هو: هل يجوز أن نستبيح كل ما هو طبيعي؟ أليس ما يدعو إلى ضبط النفس من أجل حسن السيرة وهدوء الحياة؟ ألا تقول لنا الخبرة شيئاً؟

العالم المعاصر ومن خلال الحرية الجنسية بالذات نراه بشكل واضح يتنكر لقدسية الجسد ودوره ورسالته في حياة الإنسان وهذا من شأنه أن يربك العقل، ويؤول إلى تشييء الإنسان. إن سوء استعمال الجسد ناتج من مرض الإرادة كما يعلمنا القديس مكسيموس المعترف والإنسان لا أمل له بالعافية إلا إذا انعتق من ربقة الأهواء:

“منذ شبابي أهواء كثيرة تحاربني لكن أنت يا مخلصي أعضدني وسلمني”. لا أمل لنا بالعافية، إلا إذا تقززت نفوسنا من العيوب والانحرافات. ولكن ما يزال قبل الأوان، الكلام عن الانعتاق من الأهواء والشهوات في هذا الزمان. الإعلام شهواني عندنا وهذا أمر خطير، ولا بد من دفع الثمن الكبير قبل أن تستقيم مسيرتنا. إن الانعتاق المنشود، ليس شأن الفرد وحسب، بل هو مهمة مبرمجة تضطلع بها الدولة لتطهير الإعلام من سمومه. وبدونها تبدو المسألة صعبة، وتبدو العافية حلماً بعيداً حتى الساعة.

– هل الجنس حاجة بحتة؟

والآن نأتي إلى نقطة جديرة نثيرها:

هل الجنس حاجة بحتة؟ هل صحيح أن الحاجات الجسدية كلها حاجات بحتة؟ وبالتالي هل صحيح أن الجنس حاجة بحتة؟

كل، ليست الحاجات الجسدية كلها بحتة، وذلك لأن الحاجة البحتة يؤدي مجرد إغفالها إلى الخلل والموت. مثل، العطش حاجة، النوم حاجة، الجوع حاجة، التنفس حاجة، وعيرها. وهذه الحاجات المذكورة، لا بد أن يموت جسدياً من يهملها، إذ يستحيل أن يحيا الإنسان بدون الاستجابة لها أو تلبيتها. لأنه كيف يحيا من لا يتنفس، ومن لا ينام، ومن لا يشرب، ومن لا يأكل؟ لكن الجنس الذي شاء البعض أن يسميه حاجة، ليس كالجوع والعطش والنوم. وهذا يعني أن الإنسان لا يموت إذا لم يعرف الجنس. الرهبنة المسيحية تقود الرهبان بقوة نعمة الله، وبفعل الجهاد الصادق القائم على محبة الله والقريب، إلى التجلي والسمو، بحيث أن القديسين الذين نذروا ذواتهم لله بالكامل، يتطايرون على الدوام بالعشق الإلهي، ويلتهبون بالحب الإلهي الذي يغمرهم. الراهب الوفي لنذور الإنجيل، والذي قطع على نفسه عهداً بالفقر الطوعي، والطاعة الملتهبة بالفرح، والعفة، ونقاوة القلب والجسد، هو إنسان يتجاوز الجنس، ولا يتوقف عنده. والجنس، الذي هو نداء الجسد، يتحول كطاقة كيانية، من طاقة تطلب أرواء الجسد، إلى طاقة ترقى بالإنسان إلى الامتلاء بالحب الإلهي والاكتفاء به.

بيد أن الحياة المعاصرة، أو بالحري فلسفة الجسد المعاصرة، تربك الإنسان وتسعى باستمرار إلى إقناعه، لا سيما عبر الإعلام المعاصر الشديد الإغراء، إن تغييب الجنس، أو إهمال الجنس من الحياة اليومية، هو مسألة لا تطاق، ولا تحتمل، ولا جدوى منها. لا بل أن تغييب الجنس يعني الدخول في الحرمان الذي لا طائل تحته ولا معنى لوجوده.

كأني بالإعلام المعاصر، وكما يبدو لنا من خلال المراقبة، يقول للناس جميعاً: لا يمكنكم أن تعيشوا بدون الجنس، أو بدون جسد المرأة ومفاتنها والشهوات المتفجرة في نطاقها. فالمرأة تلطّف حياتكم، وتنعش كيانكم، وتروي ظمأكم إلى الجمال بكل معانيه. في الواقع تبدو لي الفلسفة المعاصرة جادة أو ماضية نحو أرواء ظمأ الرجال، وذلك من خلال الإفراط في الكلام عن حاجات المرأة، الأمر الذي يعني في أبسط الأحوال أن الفلسفة القائمة ذكورية في مرتكزاتها وأهدافها. وأن المرأة سترتوي إذا ما ارتوى الرجال.

ولما كان الإعلام القائم جنسياً بامتياز، لا بل يسعى إلى جنسنة الذاكرة والعقل والخيال، لذا، فمن الصعب جداً سلوك درب الرصانة والتعقل والانضباط في زماننا. وأذكر يوماً أنني كنب في إحدى المستشفيات فسمعت صراخاً ممزوجاً ببكاء، فلما سألت عن الأمر قيل لي أن من يبكي هو شاب في ربيع العمر أصيب بحادث سيحول دون إمكانية أن يكون له أولاد في المستقبل. لم يقولوا أنه نجا من الموت، بل إنما قالوا: لن بتمكن المسكين من الإنجاب. لقد تجنسنت أحكام الناس. لقد تجنسن تفكيرهم. وهذا مرض وقصر نظر.

وأنا لا أنكر أن الانضباط والرصانة والتعقل هي أمور تبدو اليوم صعبة حقاً وفوق حدود الوصف، وذلك لأن الهجمات الشهوانية على الإنسان كثيرة في هذا الزمان. لكن مع ذلك فالانضباط ممكن كل حين، لا بل تأتي فضيلته أمراً محبباً للنفس المتعطشة للحق والكمال. والإنسان الذي يسعى إلى هدف نبيل، أو قضية مجدية، لا يهاب الصعاب، ولا ينثني عن الجهاد طمعاً في الحياة التي يتوق حقاً أن يلج رحابها ويذوق رحيقها وتعزيتها. تأملوا مثلاً في حالة المضربين عن الطعام كيف أنهم يبدأون المسيرة نحو الموت وذلك من أجل قضية استهوت نفوسهم، فاسترخصوا أجسادهم، لا بل حياتهم من أجلها. وهكذا فإنك تراهم يضربون عن الطعام بقوة وعناد طمعاً بنوعية من الحياة أفضل.

وعليه نحن في زمان تأليه الجنس، وتجميل الجسد، وإبراز المفاتن، وإطلاق المفاتن، ولكن إلى متى يبقى هذا؟ إلى متى يستمر الحريق؟ وفي الحقيقة، إذا افترضنا أن الجنس حاجة لا غنى عنه، ولا تستمر الحياة بدونه، الأمر الذي نراه عند المراهقين اليوم وقد انغرس في كيانهم أن ممارسة الجنس ضرورة، لا بل ضرورة ملحة يعجزون بالكامل عن مقاومته، عندها تصبح الاباحية أمراً واجب، وبالتالي مبرراً. وهذا محال، وغير معقول، فالاستباحة بحد ذاتها كفيلة بأن تقنع الإنسان شيئاً فشيئاً أن الجنس حاجة. و الحاجة هذه كفيلة أن تشدّنا إلى الاستباحة. والاستباحة من شأنها أن تقود إلى الافراط الذي من شأنه أن يرسخ أقدامنا في درب العبودية. وهذا ما يتنافى مع مبدأ نمو وسلامة سيرتنا وتوازن سلوكنا. وخير مثال نراه مقنعاً في هذا الصدد، هو التدخين. التدخين يبدأ ممارسة تأتي لتلبي الشعور بالرجولة، لكن سرعان ما تصبح عادة لا يستطيع الإنسان أن يقلع عنها، فيتمادى و يبرر ويكشف ضعفه إلى أن يصيبه ما يصيبه. ومع الوقت يصبح التدخين حاجة، لأن الحاجة و العادة يؤلفان آلية تستعبد الإنسان فيضيع، ولا يعود قادراً أن يتعامل مع الأمور بتمييز.

ويرى الداعون و المطالبون بالحرية الجنسية، إن رفض الجنس ينطوي على تنكّر للجسد. وإن التنكر للجسد هو في ذاته علامة على احتقار الجسد، فكرامة الأجساد، في نظرهم، تأتي من التعامل معها كيفما اتفق ولمجرد أن هناك أجساداً. أما الذين لا يعرفون الجنس، ولا يمارسون الجنس، أو لم يمارسوا الجنس، فهم في نظر دعاة الحرية الجنسية أناس جهلة، لأنهم يتنكرون لما هو موجود في طبيعتهم، ولأن من يجهل جسده، ولا يتعرف على خفاياه، كما يزعم دعاة الحرية الجنسية، هو إنسان جاهل، وغير متمدن، ولا يتمتع بالانفتاح و الاجتماعية sociability الواجبين في هذا الزمان.

والحق أن كثيرين من الناس يؤخذون بهذا الإدعاء، ويرون الحداثة في بلوغ الانفلاش الجنسي والحرية الكاملة غير المشروطة وغير المضبوطة.

ودعاة الحرية الجنسية هم –مع الأسف- جماعة تحظى بالجمهور، لا بل تبدو هذه الشريحة الكبيرة من الناس ذات واقع و تأثير على عقول العامة وممارساتهم. إلا أن هذه الممارسات غير المضبوطة و القائمة على حرية لا حدود لها ولا قيود، هي مجرد مناورة لا علاقة لها بالحداثة من قريب أو بعيد. فالحجج و الإدعاءات القائمة على حرية غير مسؤولة وغير مقيدة، لا يمكن أن تصمد أمام اختبارات الحياة وتحدياته، وذلك لأن الحياة الرصينة المتوازنة لها شروطها و موازينها. و المتقدمون في السن يعلمون جيداً أن الحياة لا تسلم إلا إذا قامت على الانضباط و التعقل والصبر والتروي وغيرها.

إن مشكلة المطالبين بالحرية الجنسية هي أنهم يرون هذه الحرية هدفاً و غاية، وفي هذا خلل كبير. ومرض كبير.

وهنا لا يسعنا إلا أن نتذكر ما قاله الرسول الإلهي بولس، فلنسمع :”يا أخوة كل شيء مباح لي، ولكن ليس كل شيء يوافق، كل شيء مباح لي، ولكن لا يتسلط علي شيء… الجسد ليس للزنى، بل للرب، والرب للجسد … ألا تعلمون أن أجسادكم هي أعضاء المسيح؟ افآخذ أعضاء المسيح و اجعلها أعضاء زانية؟ حاشى …” (1 كور 6: 12 – 10). ما معنى هذه الكلمات؟

يعلمنا الرسول بولس من خلال المقطع المذكور أن ما في طبيعتنا مخلوق، و بالتالي فإن ما هو مخلوق طبيعي. لكن المشكلة أن ليس ما هو طبيعي مباح، بمعنى حلال. فاستباحة الجسد تولد إساءة للجسد (19) الذي هو هيكل للروح القدس.

وهنا قد يعترض الإباحيون أو المطالبون بالحرية الجنسية على قول الرسول بولس بالمقولة التالية: ولماذا يقول الرسول إن كل شيء يوافق؟ لماذا هناك موافق وغير موافق؟ لماذا هناك غير موافق إذا كنا نتكلم عن أمور طبيعية؟ أليس الطبيعي موافقاً لكونه طبيعياً؟ ألا يؤول إغفال الجنس تباعاً إلى احتقار خليقة الله، لا بل احتقار الله نفسه؟ ألا يعني إغفال الجنس، أننا نرفض عطية الله؟

إن شرعية الحياة الجنسية من الوجهة المسيحية، تأتي من كون الجنس اختراعاً إلهياً غُرس في نسيج كياننا وجسدنا. بيد أن هذه الشرعية إذا جاز التعبير، ترتبط بنواميس يجب أن تراعى كي يكون استخدام الجنس في الخط الذي رسمه خالقه. وممارسة الجنس كيفما اتفق، لا تنبع من حرية عاقلة ومتعقلة.

الحرية المزعومة في هذا الزمان، لا تعني الخروج على نواميس الكون والطبيعة والجسد. المسألة مشروطة، والكلام عن حرية متحررة لا طائل تحته، هو أمر لا معنى له ولا جدوى منه.

نحن في المسيحية لا نحتقر الجنس عندما نذكّر الإباحيين بالنواميس الطبيعية. كما أننا لا نتنكر لروعة الخلق وعظمة الخالق عندما نتكلم عن الانضباط. نحن عندما نجاهد ضد الخطيئة، لا نستعلي على الجسد، إنما نُدخلِهُ في جدة السلوك وجدة الحياة التي في المسيح. وعندما نتذكر أن لكل شيء نواميس تحركه وتسيّره، فهذا يعني أن نكون أُناس نحب أنفسنا وأجسادنا على أعلى درجات الحب، وذلك لأن الإنسان في إيماننا هو هيكل للروح القدس.

والمطالبة بالحرية الجنسية، لا تخدم العافية، وليس فيها صحة، لأن مثل هذه الحرية تقوم فقط على الرغبة في جعل الجسد أداة المتعة ووعاء للمتعة وسلعة للاستهلاك. المسيحية، من جديد، لا تتنكر للجنس عندما تتكلم عن مُباح وغير مُباح. إن مسيحية تنادي بالممنوعات، وترى الجنس في قائمة الممنوعات، ليست في نظري مسيحية جذابة تحتذى. المسيحية لا تعلّم أحداً الخوف من الجسد، كما ولا تعلم الارتماء في شؤون الجسد إلى حد العبادة والعبودية بآن. المسيحية، ومن خلال كلمات الرسول الإلهي بولس تعلّم عن مباح وغير مباح فقط من خلال زاوية رفع الخلط بين مشيئة الله ومشيئة الإنسان. وغاية المسيحية هي باختصار أن تعلّمنا السبيل إلى التعاطي السوي مع كل شيء ضمن النواميس المرسومة لكل شيء. من هنا ليست مشكلة المسيحية مع الجنس بل مع عقول ضربها الإهتراء ونخرتها الشهوات فرأت في الجنس غاية المنى. إن عصرنا هو أبعد العصور عن فهم الحرية، فلينتبه المتهاونون لأن الحرية المزعومة هي كرة من نار. ترى هل الجنس حاجة نموت إذا أقلعنا عنه، أو علّقناها لهدف نبيل، أو حددناها في إطارها المرسوم في النواميس الطبيعية؟ وإذا لم يكن الجنس حاجة، ألا يعني هذا أن الإنسان يستطيع أن يعيش بدون الجنس؟

الجواب على هذا السؤال يتناول أمرين: الجنس حاجة، من جهة، كذلك فإنه ليس حاجة، من جهة ثانية. الجنس حاجة ملحة طالما أنك ترى الأجساد العارية في كل مكان والغواية والإغراء في كل مكان (20).

الجنس حاجة في هذا الزمان لأن الأجساد تُجمّل وتزين وتعطر. الجنس حاجة لأن الفتاة رأت في الحرية الجنسية تعويضاً نفسياً عن دونية عانت منها وما تزال، سواء في بيتها وبيت أهلها، من أخوتها، من أقاربها، من زوجها، ومن كل الذكور. ويأتي هذا التعويض فرصة تدغدغ أعماق الفتاة لتشعرها في العمق أنها ندّ للرجل، وأنها قد أصبحت، وبفضل الحرية الجنسية، قادرة أن ترفع الغبن عن نفسها، لترتاح. بالطبع قد لا تنظر كل فتاة إلى المسألة من هذه الزاوية، ولكن في العادة هناك اقتداء جماعي تمارسه الفتيات يمكن تسميته “الموضة”، أو ما شابه. إلا أن الموضة ليست هكذا وحسب، إنها علاج للقهر الأنثوي من جهة، وتلبية لشهوة الذكور من جهة ثانية.

ويعود الإباحيون أو المطالبون بالحرية الجنسية من جديد ليقولوا إن التنكر للجنس، أو بالأحرى الاستعفاء منه أو إغفاله، من شأنه أن يؤول إلى مرض الجسد، الأمر الذي يعني في نظرهم توقع اضطرابات عضوية كثيرة نتيجة لإغفال الجنس. وهذا يعني من جديد، أن رفع هذه الاضطرابات يستتبع الدخول في الخبرة الجنسية ومعرفة أحاسيس الجسد. وكي يدافع هؤلاء عن أطروحتهم تراهم يصوغون عبارات من قاموس الطب، علّهم بفضلها يفحمون خصومهم، ويدعمون حجتهم ويدافعون عن وجهة نظرهم.

– الخلط بين الحب والجنس

إذا كان الحب لا يفهم بمعزل عن الجنس، لا سيما في هذا الزمان، عندها يصبح لزاماً علينا القول أن كل محبة لا تقترن بالجنس، ولا تتجسد بالفعل الجنسي، هي ناقصة ومبتورة.

ولكن ألا يمكن أن يقوم حب بين إنسانيين بدون الجنس؟ ماذا نقول عن الصداقة مثلاً؟ ماذا نقول عن محبة الأم لأولادها؟ وعن محبة الأب لأولاده؟ ماذا نقول عن محبتنا لأحبتنا الراقدين؟ كيف نفهم محبة الراهب لربه؟ ومحبة الكاهن لرعيته؟ وأخيراً كيف يمكن أن نفهم محبة الله لنا؟

إن وجوب ملازمة الجنس للحب، من شأنه أن يجعل الجنس أمراً نفعياً. ولكن لماذا يكون من الواجب أن يلازم الجنس الحب والحب الجنس طالما أن الأمثلة لا تقترن بالفعل الجنسي؟ تُرى أين يقوم الحب في حالة الاغتصاب (21)؟

وهكذا ليس من السهل القول أن الحب والجنس متلازمان، وأنهما لا ينفصلان، فالدمج الإلزامي بين الحب والجنس غير مبرر، وغير ضروري، ولا طائل تحته.

وواقع الحياة يعلمنا، بكل تأكيد، أن الحب أعمق وأرسخ وأثبت من أن يلازم الجنس، أو أن يعبر عن ذاتيته بالجنس. ومن الغريب حقاً القول بتلازم الحب والجنس لمجرد أن يلتقي رجل وامرأة، شاب أو فتاة.

ما هو الإعجاب؟

إن كل إعجاب بين شاب وفتاة، رجل وامرأة، لا يمكنه أن يقتصر بالضرورة على شؤون الجسد وحسب. إن إعجاباً يتوقف عند حدود الجسد، ويكتفي بالجسد، ويلازم الجسد، ويرتوي من الجسد، هو مبتور وناقص ولا معنى له. الإعجاب المقتصر على الجسد ليس إعجاباً ورغم اشتمال الإعجاب على عناصر جسدية، إلا أنه لا يتوقف عند الجسد ولا يكتفي به. لا يستطيع الإعجاب أن يتوقف عند جمال الجسد وحسن الإطلالة، ولون الشعر والعيون، ونعومة البشرة، رغم انجذاب العين للوجه الجميل والقامة الهيفاء، وذلك لأن الجسد إلى ترهل وشيخوخة. إنه إلى ضمور وتجعد. من هنا يستحيل بناء الإعجاب على عنصر متحول وزائل. الإعجاب في نظري، يجب أن يراعي الإشراق الداخلي، ويستند إليه، ويُبنى عليه. تالياً لا يدوم الإعجاب إلا إذا بُنيَ على الثوابت وقام على عناصر غير متحولة. المحبوب محبوب لا بسبب جسده، بل بسبب كيانه وشخصيته ومواهبه وفرادته. إن إعجاباً يقوم على الجسد وحسب لا يمكنه أن يجدد الحب ويؤمن ديمومته.

في الواقع ثمة تداخل كبير، وتعقيد كبير بين شؤون الجسد من جهة، وشؤون النفس من جهة ثانية. وهذا يعني أن الجنس لا يمكن أن يُفهم في بعده الجسدي البحت، وذلك لأنه يستحيل أن نفهم الجنس إلا إذا فهمنا الإنسان أولاً. والإنسان ليس جسداً فقط حتى نقول أن الجنس جسدي. الجنس يتخطى العنصر الجسدي حتى ولو سعى الإعلام كي يجعله رهينة الجسد أو فعلاً جسدياً بحتاً. ليس الجنس كل الكيان وكل الشخصية. الجنس طاقة بالغة التعقيد لا نفهمها ولا نستطيع أن نتلمس فيمتها ودورها إلا إذا فهمنا الإنسان.

– ممارسة الحب

لقد ألفنا جداً، وفي هذا الزمان، عبارة “ممارسة الحب” = “making love”، أو “لنمارس الحب = let’s make love”، لدرجة أن الحب صار في عقول الكثيرين مجرد ممارسة، أو مجرد شيء يُصنع، كما هي العبارة أعلاه.

في الحقيقة هناك الكثير من هذه العبارة نستطيع التأمل فيه عن كثب. كما وأن هناك عبراً كثيرة يمكن استخلاصها والوقوف عليها. لا بل هناك معانٍ عديدة يمكن التوقف عندها وسبر أغوارها قدر الإمكان.

العبارة المذكورة: “لنمارس الحب = let’s make love”، مألوفة إلى حد أنها باتت بدون معنى إذا جاز التعبير. والتكرار هو الذي أفقدها معناها، ومجرد تردادها جعل المتلفّظ بها وما يزال حتى الساعة، ابن هذا الزمان. أما عدم تكرارها فهو التخلف بعينه.

الحب، في مفهوم هذا الزمان، هو مجرد ممارسة جسدية، وبالتالي لا يمكن أن ينعزل عن الجسد، لأن الممارسة تحتاج على الجسد كي تسمى هكذا، الأمر الذي يعيدنا إلى الموضوع السابق حيث سمعنا عن دعوة البعض إلى ملازمة الجنس للحب.

وعبارة “ممارسة الحب” تعني أن الحب يُصنع. بيد أن صناعة الحب، هي في نظرنا إهانة للحب وللجنس على حد سواء. الحب يُعاش ولا يصنع. الحب يعاش، أما الجنس فيمارس. هكذا فإن العقل اليوم يرى في الجنس مسألة جسد وعبارة جسدية في مدلولها ولا حاجة إلى الوعي والعقل من أجل انجازها. في حين أن الحب لا يعالج إلا في صميم الوعي، ولا يقوم إلا بعد بذل وتضحية.

وممارسة الحب التي تفترض الجسد، لا تفهم ولا تقبل بدون الجسد، وبالتالي لا قيمة للحب عند الكثيرين من أبناء هذا الزمان في غياب الجسد. هذا الكلام يدفعني إلى القول أن الترمل في هذا الزمان قد لا يستمر، قد لا يبقى، وذلك لأن الضعف الجسدي قد يستدعي الارتباط بطرف جديد وفريق جديد. الحب المعاصر، جسداني في الصميم، والجنس والحب يتلازمان، رغم أن حقيقة كل منهما لا تدعو على هكذا تلازم.

أخشى في الواقع أن يكون الإصرار على الحرية الجنسية دعوة إلى ضرب الوفاء عند المترملين والمترملات.

بعد هذا يبدو الجنس في هذا الزمان. أمراً مضخماً أيضاً. بهذا المعنى يحق لنا أن نستنتج أن الجميلات فقط هن اللواتي يحظين بالحب، وبفتي الأحلام، وذلك لأن المحبوب هو الجميل في الجسد. والإنسان لا ينجذب إلا إلى الجميلة.

في هذا الزمان تبدو الجدلية بين الجسد والحب متشابكة مع فكرة الجمال الجسدي، الأمر الذي يجعلنا نرى بنات اليوم يغالين في المساحيق والزينة واللباس. وكأن الجميلة في الملفتة للنظر، أو كأن الجذابة هي أيضاً الملفتة للنظر، وهي وحدها المحبوبة. المسألة كلها مظهر في زماننا. والاهتمام بالمظهر من زينة ولباس وتبرّج هي أمور سهلة المنال، ويكفي أن يكون هناك المال. ومن أين المال إذا لم يكن متوفراً؟ وهكذا فإن الإنسان اليوم مشغول بالخارجي فقط أما الداخلي (22) فمؤجل.

إلا أن السعادة لا تبنى على المظهر وتوابعه، الأمر الذي يعني أن الزيجات المعاصرة محفوفة بالمخاطر، وأن العائلة اليوم قائمة على كف عفريت. كل هذا الكلام يأتي بنا إلى نهاية المطاف إلى قناعة مفادها أن اللواتي لم يحظين بجسد جميل ووجه جميل، يرزحن لا محالة تحت ضغوطات نفسية كبيرة لا يستطيع أحد تعدادها وكشف أبعادها. وتأكيد هذا أن اللواتي حظين بجسد جميل ووجه جميل ينعمن بشيء من الفرفشة والمغناجية على صعيد العلاقات الاجتماعية.

ولما كان زماننا زمان المظهر والزينة والتبرّج، فإن الأمهات خاصة، شرعن يطلقن بناتهن لا بل سمحن لهن بإبراز مفاتن جسدهن، وهذا يعني أنهن رضين بالضغط المادي المترتب على ذلك، وبالتناقضات المترتبة على جو المدرسة و التحصيل العلمي والقدوة البيتية. وكل هذا لأن الفرفشة هذه ملازمة في عقل الأم لمشروع الزواج. أي كأن الأم تريد أن تقول بسلوكها هذا أن ابنتها جاهزة لاستقبال العريس. إن بناء البيت الزوجي على بضعة غرامات من المساحيق، وعلى تغيير تسريحة الشعر وغيره، هي الأمر الذي يجعلني أرى زيجات العقود القادمة أكثر ارتباكاً واضطراباً وإشكالية من زيجات اليوم أو زيجات الأمس. وهكذا فعقل الناس يُعرف من ممارسات الناس. بكلام آخر، المسألة باختصار تبدو كلها مسألة جسد. في هذا تكمن فلسفة كل الزيجات الآتية وذلك لكونها تبنى على اختيار جسدي، لا على قاعدة التفاهم والتجانس والانسجام والقدرة على احتمال الآخر في فرادته، في سلبياته وتربيته وشخصيته وكل عيوبه …

وعليه، يخطئ من يظن أن الجسدانيات هي التي تقود إلى زواج ناجح وأسرة سعيدة. يخطئ من يظن أن الحب، هذه اللفظة الساحرة التي تدغدغ كل ما في الإنسان اليوم، قادرة بحد ذاتها أن تقود العروسين إلى شاطئ الأمان. الحب في عقل المراهقين قائم على الجسد، والجسد المحبوب هو الجسد المثير. الجنس في زماننا ملازم للجسد، ولا يستمد مبرراته من خالقه الذي أطلق قولاً بعيد المرمى وكثي المعاني: “لأنه في السماء لا يزوجون ولا يتزوجون، بل يكونون كملائكة الله …” (متى). الجنس لهذا العالم، أما ذاك فلا حاجة له إلى الجنس.

بيد أن ملازمة الحب للجنس، أو اقتران الحب بالجسد هي فلسفة هشة إذا تأملنا عبر صفحات الحياة اليومية. فالجسد نفسه، ومن خلال الحياة الزوجية بالذات، ليس الأداة الوحيدة للتعبير عن الحب بين الزوجين، لا سيما وأن ارتهان الحب للجسد ولنضارة الجسد من شأنه أن يجعل الحب يموت مع تباشير الشيخوخة، لا بل مع أول علامات الضجر بين الزوجين. والضجر وشيك حتماً. وفي العادة يبدأ اختبار الضجر بعد انقضاء الفصول الأربعة الأولى من الزواج. وربما هناك متزوجون حالفهم سوء الطالع فعرفوه بعد الزواج بقليل. وربما هناك متزوجون عرفوا الضجر بُعيد شهر العسل. وآخرون، عرفوه أثناء شهر العسل وهنا المصيبة.

لا يستطيع الحب أن يعبر عن نفسه بالجسد فقط، لأن الجسد عاجز عن أن يكسب الحب الديمومة والبقاء، فغياب النضارة يعني غياب الحب، ومع غياب النضارة تنطفئ جذوة العشق ويخبو وهج الغرائز وكأن الإنسان يسير في طريق الموت. وهكذا نأتي إلى السؤال التالي: ما معنى الحب إذا فقدنا الإعجاب بالمحبوب؟

إن غياب الإعجاب برفيق الحياة، هو أكبر إسفين يدق في بناء البيت الزوجي. فغياب الإعجاب هذا يولِّد الفتور والضجر، وبالتالي فإن حباً لا يولد كل يوم، يموت كل يوم. الجنس نفسه قد يموت إذا مات الإعجاب.

ويضرب المثل كما تعلمون بحب روميو لجولييت. أي حب هو روميو لجولييت؟ إنه حب فتي لعوب لا أعرف مقوماته الداخلية. إنه في نظري لهفة متحررة (23)، لهفة بريئة متبادلة بين شاب في عمر الزهور وفتاة في عمر الرياحين. هذا الحب الشكسبيري هو حب ضحل لا يصلح أن ترسو سفن القلوب على شاطئه. إنه حب مراهق قد لا يقدَّر لنا أن نراه بعد انقضاء الشهوة وهدوء الجسد. من السهل الكلام عن الحب، ولكن من الصعب أن تبقى محباً ومحبوباً إذا نظرت إلى الأمر هكذ، لأن المسألة تتطلب شروطاً داخلية لا مجرد مظهر ننشغل به على مدار الساعة.

ومشكلة الشباب والبنات اليوم أنهم لا ينظرون إلى أهلهم كي يتعلموا الدرس الحقيقي. كذلك فإنهم لا يسألون الأهل عن جدوى المظهر وأسباب تداعي البيت الزوجي عندما يبنى على الرمال. الشباب اليوم لا يسألون أهلهم عن أسباب فشل ونجاح الزواج، وهذا مشكلة.

والآن، لاحظوا من حياتكم اليومية كيف أن عدداً من المتزوجين، شرعوا بعد عدد من السنين التي مرّت على زواجهم، يأكلون خارج البيت الزوجي، ويسهرون خارج البيت الزوجي، وربما ينامون خارج البيت الزوجي. أليس في هذا دليل أن نضارة الجسد إلى حين، وأن الحب المزعوم ليس بشيء؟ من هنا أرى أن ديمومة الحب هي من ديمومة الإعجاب.

الحب، من المنظار المسيحي، لا يبقى، ولا يقوم إذا غاب الله من حياة الزوجين. الله فقط هو معطي الديمومة لعلاقتنا، وهو وحده يقدر أن يصنع كل شيء جديداً. وهذا يعلمنا أن النضارة الحقيقية لا تنبع من الجسد، ولا تنحصر بالجسد. النضارة الحقيقية هي من فوق، لا من الجسد.

لقد شرعنا في هذا الزمان بالذات، نرى كثيرات من الفتيات والنساء يغالبن في استعمال المساحيق، وفي تعاطي شتى أشكال التبرّج. ترى ما معنى هذه الظاهرة؟ لماذا الإقبال على تجميل الجسد؟ الجواب عندي بسيط: الجسد قابل للشيخوخة، وخاضع لسنّة

التحول و الصيرورة، فالأيام قادرة أن تحدث فيه و عليه تجاعيد شبيهة بتضاريس الأرض. وما اعتماد المساحيق في نظري الا علامة على رغبة الإنسان في النضارة و الشباب و….، لكن هذا مستحيل، فرزنامة أيامنا وعمرنا تسقط ورقة كل أربع وعشرين ساعة .ترى من يمكنه أن يحول دون بلوغ خريف العمر ؟من يستطيع أن يوقف حركة الحياة؟ في الحقيقة أقول هذا لأني بت مقتنعاً ان ما نسميه حب، لا يمكنه أن يقتصر على عطاء الجسد، فعطاء الجسد أسهل بكثير من عطاء القلب و الكيان، وزماننا هو مدرسة الأمور السهلة.

والآن، ماذا نقول عن الجنس كلغة نعبر بها عن الحب في دنيا العجائز؟ أين يبقى الجنس عند من بلغ الثمانين؟

هنا أود أن أسوق صورة بديعة وقفت عليها وأنا أطالع الكتاب الرائع :”من اجل حياة العالم” للأب الكسندر شميمان: نقله إلى العربية قدس الأرشمندريت توما بيطار، فلنسمع :”…لكن كاتب هذه السطور، عاين ذات مرة بعد ظهر يوم خريفي نير دافئ، رجلاً وامرأة فقيرين طاعنين في السن جالسين على مقعد في ساحة عامة من ساحات ضاحية باريسية فقيرة .كانت يداهما متشابكتين، يستمتعان، بصمت، بالنور الباهت، بالدفء الخريفي مودعاً. كل شيء كان في صمت. كل الكلام بينهما قد قيل. كل الشهوة قد استنفدت. كل العواصف هدأت، كل الحياة كانت إلى الوراء . ومع ذلك ،كل الحياة كانت الآن ماثلة في ذاك السكون ،في ذاك النور، في ذاك الدفء، في وحدة الأيدي الصامتة. كل شيء بدا حاضر، مستعداً للأبدية، ناضجاً للفرح.هذه عندي، هي رؤية الزواج، ورؤية جماله السماوي”.

ترى هل يعقل بعد هذا، أن يموت الحب بسبب الشيخوخة أو التقدم في الأيام؟ أيعقل أن تقتصر الحياة الزوجية على سنوات النضارة و الشباب فقط؟

و إذا أصر البعض على ضرورة النضارة الجسدية، لا بد من الانتباه أن ما نشترطه على الفريق الآخر ليس من حقنا، فنحن أيضا لا نستطيع أن نحتفظ بالنضارة الدائمة، و بالتالي لا يستطيع الفريق الذي نرتبط به بحب وزواج أن يشترط علينا بقاء نضارتنا. وإذا أصرّ الراغبون في النضارة على لزومه، على الدوام، عندها بئس النهاية مع دخول الشيخوخة! ويا لشقاوة المتزوجين! ترى كيف، والحال هكذا، يستمر الحب عند العجائز و الشيوخ؟

من الأكيد أن الشيخوخة ستطبق على الجنس و على كل اختلاج جسدي أو نزوة أو غريزة. ويستحيل أن يحتفظ الجسد بنضارته كي يرتوي من الغرائز والشهوات، فالعمر والأيام قادرة أن تستنفد حيوية الإنسان وقوة جسده. ولكن من المستحيل أن نستنتج من هذا، أن موت الحب وشيك وأكيد لمجرد أن الشيخوخة أو الضعف أطبقت على الطاقة الجنسية، وعلى حيوية الجسد. ويبقى السؤال: كيف يستمر الحب مع بلوغ الشيخوخة؟

إن استمرار الحب، إذا وجد، عند الشيوخ، مرهون بعدد من أمور أولها الخدمة المتبادلة التي يبديها الزوج لزوجته، والزوجة لزوجها. كذلك فإن حياة الشركة الهادئة، والمشاركة الحية في شؤون العائلة، في صرّائها وضرّائه، من اهتمام بصغار العائلة واحتضانهم ومتابعة مشاكلهم برفق ولين وكلمة حب، إلى العمل على ترسيخ أساسات الأسرة بالنصح والرصانة، هي أمور تعمل معاً من أجل دفع عجلة الحياة الأسرية نحو العلاء، ونحو الأفضل. كذلك فإن استمرار الحب عند الشيوخ يقوم أيضاً على استيعاب خبرة الحياة والتقدم في التقوى ومحبة الله.

من هذا نتعلّم أن نضارة الجسد أو حيوية الجسد لا يعول عليها إلى الأبد (24). الحب لا يمكنه أن يكون على أساس النضارة الجسدية لأنه في الأساس يتخطّاها ويستمر حتى بعد ترهل الجسد وشيخوخته. الحب لا يمكنه أبداً أن يقوم على قاعدة الجسد. لنسمع أيضاً هذا الخبر:

قرأت يوماً عن حادثة جرت لرجل يعمل حطّاباً في إحدى غابات كاليفورنيا الضخمة. هذا الرجل، بينما كان ذات يوم يعمل على قطع شجرة كبيرة، ارتدّ عليه المنشار الدوّار في لحظة غفلة، وغاص في أحشائه بضعة سنتيمترات قبل أن يترنح ويسقط أرضاً. هرع إليه زملاؤه وحملوه بين حيّ وميت إلى مستشفى مجاور وهو مضرّج بدمائه. أجريت له الإسعافات اللازمة، وزال عنه الخطر لكنه اضطر إلى البقاء في المستشفى قرابة الشهر. بعد ذلك أذن له الأطباء بالخروج لأنه تماثل للشفاء، فقفل عائداً إلى بيته وأسرته. فرحت الأسرة لعودته، وكان دخوله على أفراد أسرته مصدر فرح وتعزية. ولما سألت الزوجة الطبيب المعالج، عند زيارة المراجعة، عن صحة زوجها وحالته بعد مرور أكثر من شهر على الحادثة، أخبرها أنه تعافى تمام، إلا أنه لن يستطيع بعد الآن أن يفكر بمزيد من الأولاد. للحال نهضت الزوجة وهي تهلل، و قالت: يكفيني أن زوجي عاد إلينا، وهو الآن بيننا. أتلاحظون بعد كل هذا كيف أنه لا تلازم البتة بين الحب والجنس؟!! أتلاحظون كيف أن الحب مدعو إلى البقاء حتى مع بلوغ الشيخوخة أو العجز الجنسي؟

في الحقيقة، لا يمكن أن يكون الجنس إلهاً على الحياة، ومعبوداً في هذه الحياة، فالجنس لم يكن في حياة الكائنات لهذا الغرض. إن للجنس رسالة، لكن هذه الرسالة مهما عظمت، لا يمكنها أن تجعل منه معبوداً والهاً.

الجنس لا يمكنه أن يكون سيداً في هذه الحياة، وذلك لأن عامل الزمن، ومشتقات الحياة، والألفة والهموم الكثيرة، وفتور الجهاد الروحي، وأعباء الشأن التربوي، وانعدام الرؤيا العميقة التي يرتهن وجودها بأمور وعناصر عديدة، هي كلها عوامل ذات أهمية ومن شأنها أن تستنفد فتوة الجسد و نضارته. و بالتالي فإن الزمن قادر أن يستنزف قوة الجنس و الحب معاً، لاسيما إذا انسلّ إلى الكيان، الإهمال و الرتابة و التراخي، مع الغفلة. لكن مع ذلك يبقى الجنس هاجساً ومضخماً في هذا الزمان.


(18) هذا الزمان مشغول بالمظاهر، ولا يفكّر بالجوهر إلا نادراً.

(19) إن الجسد بخوفه من التجارب، كي لا يتضايق، يصبح صديقاً للخطيئة ولهذا يجبره الروح القدس على الموت لأنه إن لم يمت فلن يتغلب على الخطيئة (المقالة 47 للقديس اسحق السرياني، ص: 177)

(20) هنا ينزع الكاتب إلى شيء من السخرية لأن النظر أو الإغراء ليس هو مبرر وجود الجنس

(21) الاغتصاب علامة أن الحرية الجنسية مرض.

(22) الانشغال بالخارجي سهل سواء توفر المال، أو لم يتوفر. إلا أن الإنسان الداخلي لا ينمو بالمال، بل يحتاج إلى أمور أخرى كثيرة. ولا يبدو هذا الزمان منشغلاً بها إلا جزئياً.

(23) Libertine

(24) رغم النضارة الجسدية قد يقع الزوجان ضحية الفتور إذا لم يكن هناك تجانس عقلي، وتناغم على مستوى الشخصية كلها.كذلك فإن انعدام الحزم مع النفس، بعبارة أخرى، غياب الجهاد (تعبير مسيحي) من شأنه أن يدمر الحب حتى ولو كان الزوجة ملكة جمال العالم. تأملوا في الناس الذين تشاهدون كل يوم؟ ماذا تقول لكم خبرتكم؟ ماذا تقول لكم عيونكم؟ من العيب والعار ألا يكلمنا عقلنا بهذه الأمور، لا سيما في هذا الزمان.

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
arArabic
انتقل إلى أعلى