Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

لننجب ذكورًا (الفضائل) ونحفظهم!

1. ولد موسى في الوقت الذي أصدر فيه فرعون أمرًا بقتل نسل العبرانيين من الذكور (خر 1: 16). وإذا سُألنا: كيف يمكننا أن نقتدي باختيارنا هذه الولادة السعيدة لموسى التي جاءت مصادفة؟ يعترض البعض – ولهم الحق في ذلك – بأن الإقتداء بتلك الولادة الشهيرة ليست في سلطاننا. ولكن ليس من الصعب أن نبدأ الإقتداء بها بالرغم من الصعوبة الظاهرية.

2. يعرف الجميع أن أي شيء يوضع في عالم متغير لا يمكن أن يظل كما هو بدون تغيير، ولكن ينتقل باستمرار من حالةٍ إلى أخرى، ويجلب هذا التغيير دائمًا معه شيئًا أفضل أو أسو[37]. ويجب أن نفهم قصة موسى في الكتاب المقدس طبقًا للقصد الحقيقي منها. فإن النزعة المادية أو العاطفية التي تنساق إليها الطبيعة البشرية عندما تسقط تمثلها الأنثى أو الصورة الأنثوية من الحياة، والتي يُفضل الطاغية ولادتها. أما صرامة الفضيلة وشدتها فيمثلها ميلاد الذكر، الذي يعاديه الطاغية ويشتبه في أنه سيثور على حكمه[38].

نحن آباء لأنفسنا

3. من الضروري بالتأكيد لكل شيء خاضع للتغيير أن يحدث معه دائمًا نوع من الولادة. وفي الطبيعة المتغيرة لا يمكن أن يكون هناك شيء يظل كما هو بلا تغيير. والولادة – بمعنى حدوث تغيير باستمرار – لا تحدث كنتيجة لمبادرة خارجية – كما هو الحال في ولادة الجسد التي تحدث مصادفة – ولكن مثل هذه الولادة (التغيير) تحدث باختيارن[39]. ونحن نعتبر- من ناحية م – آباء لأنفسن، نلد أنفسنا باختيارنا الحر طبقًا لما نريد أن نكون عليه، سواء كنا ذكورًا أو إناثًا، ونشَّكل أنفسنا حسب تعاليم الفضيلة أو الرذيلة[40].

4. ويمكننا بالتأكيد أن ندخل في ولادة أفضل في مملكة النور، مهما انزعج الطاغية الذي لا يرغب في ذلك، ويمكن أن يرانا والدانا أننا ذرية صالحة، ويُسرا بنا، ويعطيانا الحياة رغمًا عن تصميم الطاغية (والدا الفضيلة هنا هما الملكات العقلية).

الولادة التي تزعج الطاغية

5. وعندما نكشف المعنى الخفي لتاريخ موسى، نجد أن الكتاب المقدس يعلمنا أن الولادة التي تزعج الطاغية هي بداية الحياة الفاضلة. وأنا أتحدث هنا عن نوع الولادة الذي تقوم فيه الإرادة الحرة بدور القابلة وتساعد في ولادة الطفل وسط الألم الشديد[41]، لأنه لا يسبب أحد الحزن لخصمه ما لم يكشف في نفسه العلامات التي تثبت انتصاره على الخصم.

6. وظيفة الإرادة الحرة هي إنجاب ذرية الذكور الصالحة وتغذيتها بالطعام المناسب والتدبر في كيفية إنقاذ هذه الذرية من الماء[42]، لأن هناك من يقدمون أطفالهم للطاغية، يلقونهم إليه عراة في الماء بلا تروٍ. وأنا هنا أتحدث عن الحياة كنهرٍ هائجٍ بفعل أمواج العاطفة التي تدفع بما في النهر إلى القاع وتغرقه.

7. وعندما ترغم الحياة الأفكار العقلانية المتزنة والرصينة – التي هي والدا الطفل الذكر – على إلقاء طفلهما الذكر في أمواج هذه الحياة، فإنهما يجعلانه آمنًا في فلك بحيث عندما ينزل إلى النهر لا يغرق[43]. والفلك المصنوع من ألواح مختلفة، يمثل التعليم الشامل لمختلف النظم والمذاهب، والذي يرفع ما يحمله فوق أمواج الحياة.

8. وبالرغم من أن الأمواج المندفعة تحمل الطفل، إلا إنها لا تقذفه بعيدًا حيثما كان هناك تعليم، بل تدفعه إلى جوار الشاطيء وتلقيه حركة الماء بصورة طبيعية على الشاطيء الراسخ، أي خارج خضم الحياة المتلاطم.

9. وتعلمنا الخبرة أن الحركة الفائرة التي لا تهدأ للحياة تلفظ خارجها أولئك الذين لا يغمرون أنفسهم تمامًا في الأمور البشرية الخادعة، حيث تعتبر المتمسكين بالفضيلة عبئًا عليها ولا فائدة منهم. ويجب على من يهرب من مثل هذه الأمور أن يتمثل بموسى ولا يضن بدموعه، حتى ولو كان آمنًا في الفلك، لأن الدموع هي الحارس الذي لا يغفل لمن تنقذهم الفضيلة.

الفلسفة الدنيوية عقيمة حقاً

10. حيث أن ابنة الملك التي كانت عاقرًا (والتي أعتقد أنها تمثل بحق الفلسفة الدنيوية) رتبت أن تُدعى أمًا للصغير بتبنيها له (خر 2: 10)، يقرر الكتاب المقدس أن موسى لم يرفض علاقته بالتي كانت تُسمى أمه بدون وجه حق حتى أدرك عدم نضجه. ولكن الشخص الناضج – مثلما عرفنا عن موسى – أبى أن يدعى ابنًا لمن هي عاقر بطبيعتها.

11. فالتعليم الدنيوي عقيم حقًا ويشبه المرأة العاقر، إنه دائمًا في حالة مخاض ولكنه لا يلد أبدًا[44]. ما هي الثمرة التي تعطيها الفلسفة بعد كل هذا المخاض الطويل والتي تستحق هذه الآلام؟ إن الأشخاص المملوءين من الكلام الطنان الذي لا جدوى منه لا يصلون إلى مرحلة الولادة، ودائمًا ما يجهضون قبل أن يصلوا إلى نور معرفة الله.

الحاجة إلى لبن الكنيسة كأمٍ

12. بعد أن عاش موسى فترة طويلة مع الأميرة المصرية حتى بدا وكأنه يشارك المصريين حياتهم، كان لا بد أن يعود إلى أمه الطبيعية. وفي الواقع فإنه لم ينفصل عن أمه بينما كانت الأميرة تربيه، ولكنه كان يتغذى من لبن أمه كما يخبرنا التاريخ (خر 2: 7-9). ويبدو لي أن هذا يعلمنا أنه حتى لو تعرضنا لتعاليم دنيوية أثناء تعليمنا، يجب ألا نفصل أنفسنا عن التغذية من لبن الكنيسة الذي هو قوانينها وتقاليدها، فإن الروح تتغذى وتنضج عليها وتصبح وسيلة للارتفاع إلى أعلى.

13. من ينظر إلى المذاهب الدنيوية ومذاهب الآباء يجد نفسه أمام نقيضين. فإن الغريب في العبادة والدين يناقض التعليم اليهودي، ويحاول بإثارة المشاكل أن يبدو أقوى من الإسرائيلي، ويصدقه كثير من ذوي النظرة السطحية الذين يتخلون عن إيمان آبائهم ويحاربون في صف العدو، مخالفين تعليم الآباء. ومن ناحية أخرى، فإن من كان عظيمًا ونبيلاً في الروح – مثل موسى – يقتل بيده من يثور ويعارض الدين الحقيقي.

14. يمكننا أيضًا أن نجد هذا التعارض والصراع بيننا. والجانب الذي يناصره الإنسان ينتصر على الجانب الآخر[45]. ويشبه قتال المصري مع العبراني حرب الوثنية ضد الديانة الحقيقية، والانحلال ضد ضبط النفس، والغطرسة ضد التواضع، والظلم ضد الحق، وكل شيء ضد عكسه.

15. ويعلمنا موسى بقدوته الشخصية أن نقف مع الفضيلة كما مع قريبٍ لنا، وأن نقتل عدو الفضيلة. وانتصار الديانة الحقيقية هو موت ودمار للوثنية. وهكذا أيضًا فإن الحق يقتل الظلم والتواضع يقتل الغطرسة.

16. الخصام بين الشخصين العبرانيين يحدث مثيله أيضًا فينا. فلن تكون هناك فرصة الآراء الشريرة والهرطوقية للظهور لولا مقاومة المنطق الخاطئ للحق. ولذلك فإذا كنا وحدنا فإننا أضعف من أن ننصر الخير – لأن الشر أقوى دائمًا في هجماته ويرفض سيطرة الحق – فيجب علينا أن نهرب بأسرع ما يمكن (كما يعلمنا المثال التاريخي في قصة موسى) من الصراع إلى التعليم الأعظم والأسمى للأسرار.

17. وإذا اضطررنا أن نعيش مع غريبٍ – أي إذا اضطررنا للاحتكاك بالحكمة الدنيوية – يجب علينا أن نصر على صد الرعاة الأشرار عن الاستخدام الظالم للآبار – ويعني هذا أنه يجب علينا أن نوبخ معلمي الشر على استخدامهم الشرير للتعليم.

18. وبنفس الطريقة يجب أن نحيا حياة عزلة[46]، غير مختلطين بالخصوم، ولا متداخلين بينهم، بل نعيش مع من يماثلوننا في الطبع والتفكير، الذين نغذيهم، بينما ترعى إرادة العقل المرشد كل حركات أرواحنا مثلما يرعى الراعي الخراف[47].

نار العليقة هو الرب!

19. إن نور الحق يسطع علينا نحن الذين نواصل السير في هذا المساء الهادئ الوادع في الحياة، وينير أعين أرواحنا بأشعته. وهذا الحق الذي تجلى لموسى بنورٍ غامض لا يُوصف ولا يُنطق به – هو الله.

20. وإذا كان اللهب الذي أنار روح النبي قد اشتعل من شجيرة ذات أشواك، فإن هذه الحقيقة نافعة لنا في تأملنا. لأنه إذا كان الحق هو الله، والحق هو النور، فإن الإنجيل يشهد بتلك الأسماء السامية والإلهية لله الذي أظهر لنا ذاته في الجسد[48]. إن مثل هذا الإرشاد في الفضيلة يقودنا لمعرفة ذلك النور الذي وصل حتى إلى الطبيعة البشرية. وحتى لا يظن أحد أن البريق لم يكن منبعثًا من مصدر مادي، فإن الضوء لم يسطع من أجسام مضيئة بين النجوم، ولكنه انبعث من شجيرة أرضية وفاق الأجرام السماوية المضيئة في البريق.

العليقة وسرّ العذراء

21. من هذا نتعلم أيضًا سرّ العذراء، فإن ضوء الألوهية الذي شعّ منها على الحياة البشرية من خلال الولادة لم يحرق العليقة المتقدة، وذلك كما أن زهرة البتولية فيها لم تذبل بإنجابها الطفل![49]

نزع النعال من أقدام الروح للتمتع بالنورٍ والحقٍ

22. ويعلمنا النور ما يجب أن نفعله لنقف في أشعة النور الحقيقي: لا يمكن أن تصعد أقدام ترتدي نعالاً إلى الارتفاع الذي يمكن عنده مشاهدة النور، ولكن يجب أن تنزع من أقدام الروح الأغطية الميتة والأرضية الجلدية التي وضعت حول طبيعتنا في البداية عندما وجدنا عراة بسبب معصية الإرادة الإلهية[50]. وعندما نفعل هذا يمكننا معرفة الحق ويُستعلن لنا. وتحدث المعرفة الكاملة للكينونة بتطهير رأينا بخصوص عدم الكينونة.

23. وفي رأيي أن تعريف الحق هو: “حالة ليس فيها فهم خطأ للكينونة”، والزور أو الزيف هو نوع من الانطباع ينشأ عن عدم فهم الكينونة، فيبدو ما لا يوجد كأنه في الحقيقة يوجد، ولكن الحق هو الفهم المؤكد للكائن الحقيقي. وهكذا فإن من يفرغ نفسه في هدوء لفهم الأفكار الفلسفية الأسمى يمكنه بالكاد أن يفهم ما هي الكينونة الحقيقية، أي ما له وجود في طبيعته ذاتها، وما هو عدم الكينونة – أي ما له الوجود بالمظهر فقط وليس له مقومات البقاء في طبيعته[51].

24. يبدو لي أنه في الوقت الذي كان فيه موسى العظيم يتعلم في أثناء الإعلان، فقد أدرك أنه لا شيء من تلك الأشياء التي تُدرك بالإدراك الحسي وتُستوعب بالفهم البشري لها استمرار حقيقي، ولكن الذي يمكنه البقاء والاستمرار فقط هو الجوهر الذي يتخطى الوجود المادي، وسبب وجود الكون، الذي يعتمد عليه كل شيء.

25. لأنه إذا نظر الفهم البشري إلى أي أشياء أخرى موجودة في الكون، فإن العقل لن يلاحظ في أي منها على الإطلاق الكفاية الذاتية التي تستطيع بها أن توجد دون الاشتراك في الكائن الحقيقي[52]. ومن ناحية أخرى فإن ما هو ثابت دائمًا وهو هو نفسه – لا يزيد ولا ينقص – لا يقبل التغيير سواء إلى أفضل أو إلى أسوأ (لأنه أعلى بكثير مما هو أدنى، وليس هناك ما هو أعلى منه) والذي لا يحتاج لشيء آخر وهو وحده المرغوب فيه، يشترك فيه الكل ولكنه لا ينقص باشتراكهم – هذا هو حقًا الكائن الحقيقي، وإدراكه يعني معرفة الحق.

26. بنفس الطريقة التي توصل بها موسى إلى هذه المعرفة في تلك المناسبة، يفعل الآن أيضًا كل إنسان يجرد نفسه – مثل موسى من الغطاء الأرضي، وينظر إلى النور الذي يشع من العليقة (شجيرة الأشواك)، إي إلى البهاء الذي يشع علينا من هذا الجسد المليء بالأشواك والذي هو كما يقول الكتاب) النور الحقيقي والحق (يو 1: 9؛ 14: 6). يصبح مثل هذا الشخص قادرًا على أن يساعد الآخرين على الخلاص والقضاء على الطغيان الذي يستولي على السلطان بالقوة وأن يحرر المقيدين في عبودية الخطية.

أصبح تحول يد موسى إلى اللون الأبيض كالثلج وتحول العصا إلى ثعبان هما أول المعجزات (خر 4).

أول معجزتين كرمزٍ لسرّ تجسد الرب

27. يبدو لي أن هاتين المعجزتين هما رمز لسرّ تجسد الرب، استعلانًا للألوهية أمام الناس، نتج عنه موت الطاغية وتحرير الذين يسيطر عليهم.

28. ما يقودني إلى فهم المعجزتين بهذا الشكل هو شهادة الأنبياء والإنجيل حيث يعلن النبي: “هذا ما يعني تغير يمين العلي (مز 76: 11 LXX)، مبينًا أنه بالرغم من أن الطبيعة الإلهية يُنظر إليها في ثباتها وعدم تغيرها، فبتنازلها إلى ضعف البشرية تغيرت إلى شكلنا وشبهنا.

29. عندما أخرج معطي الناموس يده من صدره تحولت إلى لون غير طبيعي للجلد، وعندما وضعها مرة ثانية في صدره عادت إلى جمالها الطبيعي. ومرة أخرى فإن “الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبر” (يو 1: 18)، وهو “يمين العلي” (مز 76: 1).

30. عندما اُستعلن لنا الابن من حضن الآب، تغير ليصبح مثلنا. وبعد أن محا نقائصنا. أعاد إلى صدره اليد التي كانت بيننا، وأخذت لوننا (الأب هو الصدر لليد اليمنى). وما لا يتغير أو يتأثر بشيء بطبيعته لا يمكن أن يتحول إلى ما يتغير أو يتأثر، ولكن ما هو قابل للتغيير وخاضع للعواطف والأهواء قد تحول إلى عدم التغير أو التأثر باشتراكه في غير المتغير.

31. وبالنسبة لتحول العصا إلى ثعبان، فإن هذا لا يجب أن يضايق محبي المسيح على أننا نطبق مبدأ التجسد على حيوان غير مناسب. فإن الحق (الله) نفسه من خلال صوت الإنجيل لا يرفض مثل هذه المقارنة عندما يقول: “وكما رفع موسى الحية في البرية هكذا ينبغي أن يرفع ابن الإنسان” (يو 3: 14).

32. والتعليم هنا واضح فإذا كان والد الخطية يسمى حية في الكتاب المقدس وما يولد من الحية هو بالتأكيد حية (يو 8: 44؛ تك 3: 1) فلا بد أن الخطية تترادف مع من أنجبها. ولكن قول الرسول يشهد بأن الرب قد جُعل خطية لأجلنا وهو الذي لم يعرف خطية (2 كو 5: 21)، وذلك عندما أخذ طبيعتنا الخاطئة.

33. ينطبق هذا التشبيه حقًا على الرب. فإذا كانت الخطية هي حية، والرب قد أصبح خطية، فإن الاستنتاج المنطقي واضح للجميع. عندما أصبح الرب خطية أصبح أيضًا حية. وهي لا شيء إلا الخطية. ولأجلنا صار حية حتى يلتهم الثعابين التي أخرجها السحرة المصريون[53].

34. وبعد أن فعلت الحية هذا تحولت مرة أخرى إلى عصا تعيد الخطاة إلى رشدهم وتعطي راحة للمتباطئين في الطريق الشاق الصاعد إلى الفضيلة، حيث تسندهم عصا الإيمان من خلال آمالهم العالية، لأن الإيمان فقط هو الذي يضمن لنا نوال البركات التي نرجوها (عب 11: 1).

35. إن من يتعمق في هذه الأمور يصبح مباشرة إلهًا للذين يقاومون الحق الذين ضلوا وانشغلوا بالخداع المادي الوهمي (في سفر خروج 7: 1 قال الرب لموسى “أنا جعلتك إلهًا لفرعون”). إن هؤلاء يحتقرون الكلام عن “الكائن” ويعتبرونه كلامًا فارغًا، مثلما قال فرعون “من هو الرب حتى أسمع لقوله فأطلق إسرائيل. لا أعرف الرب” (خر 5: 2). كان فرعون يعتبر الأشياء المادية والجسدية فقط ذات قيمة، وهذا هو ما يميز الحياة التي يتحكم فيها الفكر غير العقلاني.

عصا الإيمان

36. إذا كان موسى من ناحية أخرى قد تقوى بالنور الذي ظهر له مما أعطاه قوة لمواجهة أعدائه، فإنه كان مثل رياضي تقوى بالتدريب الشاق تحت إشراف مدربه وأصبح مستعدًا لدخول صراع المنافسة ضد خصومه. وبتلك العصا في يده – التي هي كلمة الإيمان – يسيطر على الثعابين المصرية.

الزوجة الغريبة والتعليم الدنيوي

37. المرأة الغريبة تتبعه، إذ هناك بعض الأمور في التعليم الزمني لا نحتقرها، إذ تهدف إلى إنجاب الفضيلة. حقًا قد تصير الفلسفة الأخلاقية والطبيعية في وقت ما رفيقًا وصديقًا وملازمًا للحياة العلوية بشرط ألا يدخل ثمرة الاتحاد معها شيء دنس غريب.

38. إذ كان ابنه لم يختتن بعد، أي لم ينزع عنه بالكامل كل ما هو ضار ودنس أرعبهما بالموت الملاك الذي التقى بهما، لكن زوجته هدأت الملاك بتقديم ابنها طاهرًا، إذ نزعت عنه العلامة الخاصة بالغرباء (الغرلة) تمامً[54].

39. أعتقد أن تسلسل النمو في الفضيلة في قصة موسى سيكون واضحًا لمن يتتبع التسلسل التاريخي من البداية وكذلك المغزى الإرشادي لنا. فإن هناك أشياء جسدية وغير مختونة فيما تعلمه الفلسفة، وبعد التخلص من هذه الأشياء يكون المتبقي هو الجنس الإسرائيلي النقي.

40. على سبيل المثال ترى الفلسفة الوثنية أن الروح خالدة، وهذا تعليم صالح يشبه النسل النقي، ولكنها تقول أيضًا أن الأرواح تنتقل من أجساد إلى أجساد أخرى، وأنها تتغير من طبيعة عقلانية إلى طبيعة غير عقلانية. وهذه تعاليم فاسدة تشبه الغرلة الجسدية الغريبة. وتوجد أمثلة أخرى كثيرة من هذا النوع. فإن هذه الفلسفة تقول أن هناك إلهًا، ولكنها تراه على أنه إله مادي. وهي تعترف به كخالقٍ، ولكنها تقول إنه احتاج إلى مادة ليخلق بها. وهي تؤكد أنه صالح وقوي، ولكنه في كل شيء يخضع بالضرورة للقدر (فلسفة رواقية).

41. ويمكننا أن نصف بالتفصيل كيف أن العقائد الصالحة تفسدها إضافات سخيفة من الفلسفة الدنيوية. وعندما نتخلص من هذه الشوائب تمامًا، يأتي ملاك الله إلينا بالرحمة، كأنه مبتهج بالنسل الحقيقي لهذه العقائد.

اللقاء مع هرون

42. يجب أن نرجع إلى تسلسل الأحداث في الكتاب المقدس، وذلك حتى تأتي المساعدة الأخوية للقائنا عندما نقترب من الصراع مع المصريين، فنتذكر أحداث القتال والمشاجرات التي اشترك فيها موسى في بداية حياة الفضيلة، وظلم المصريين للعبرانيين، وشجار العبراني مع عبراني مثله.

43. بالنسبة لمن رفع إلى أعلى درجات الفضيلة الروحية بالتدريب الطويل وظهور النور الذي يفوق الطبيعة له على الجبل، فإن لقاءه مع أخيه – الذي أحضره ليقابله – هو لقاء ودٍ وسلامٍ. وإذا أخذنا هذا الحدث بمعنى أكثر رمزية وروحانية فسنجده نافعًا للغرض الذي نناقشه.

44. إن المساعدة التي يعطيها الله لطبيعتنا (مثل مساعدة الله لموسى في الكلام عن طريق هرون) تعطى للذين يعيشوا حياة الفضيلة الصحيحة[55]. وهذه المساعدة موجودة منذ ولادتنا، ولكنها تستعلن وتعرف كلما ثابرنا على التدريب الدؤوب على الحياة الأسمى واستعدادنا للصراع الأقوى.

45. لكي لا أفسر الصور اللغوية والرموز برموز من عندي، سأوضح مفهومي لهذه المسألة بشكل أوضح. يوجد تعليم يستمد قوته من تقليد الآباء القائل بأن الله لم يهمل طبيعتنا بعد سقوطها في الخطية بل سندها بعنايته لإلهية. فمن ناحية أقام ملاكًا يحمل طبيعة غير فاسدة يسند حياة الإنسان، ومن الناحية الأخرى أقام أيضًا المفسد الذي هو شيطان شرير وقاتل يقاوم طبيعة الإنسان.

46. هكذا يجد الإنسان نفسه بين هذين الاثنين اللذين يحملان غرضين متناقضين ففي مقدوره أن يغلب أحدهما علي الآخر. فبينما يستخدم الملاك الصالح العرض العقلاني لبيان فوائد الفضيلة التي يتطلع إليها بأمل من يعيشون حياة الصلاح، فإن خصمه بين المتع والملذات المادية التي لا يرجى منها فوائد في المستقبل، ولكنها موجودة ومرئية ويمكن الانغماس فيها، وهي تستعبد حواس من لا يستخدمون تفكيرهم.

47. فإن انسحب إنسان من الذين يغرونه نحو الشر، مستخدمًا عقله ومرتدًا نحو الحياة الفضلى معطيًا للشر ظهره، ومنطلقًا نحو الرجاء في الخيرات كمن ينظر في مرآة، مثل هذا تنطبع عل نفسه النقية صور وانطباعات الفضيلة التي يعلنها الله له. مثل هذا يقدم له أخوه (هرون) عونًا و يرافقه، لأن الملاك الذي بطريقه ما هو إلا أخ للنفس العاقلة المتزنة يظهر له و يقف معه عندما يقترب من فرعون.

48. إذا اكتشف أحد وهو يحاول عمل مقارنة بالتوازي تمامًا بين الوصف التاريخي وتسلسل مثل هذا التأمل الفكري- أن هناك شيئًا في القصة لا يتفق مع فهمنا، فإنه لا يجب أن يرفض المحاولة كلها (التأمل كله). ويجب أن يتذكر دائمًا الهدف من مناقشتنا والذي نتطلع إليه ونحن نروي هذه التفاصيل. فقد ذكرنا في المقدمة أن حياة الرجال المكرمين تُذكر وتُقص لكي تكون نموذجًا للفضيلة للذين يأتون من بعدهم.

49. ومع ذلك لا يستطيع من يحاولون تقليد حياة هؤلاء المكرمين أن يعيشوا نفس أحداث حياتهم حرفيًا، فكيف يستطيع أحد أن يرى مرة أخرى الشعب يتكاثر في إقامتهم في مصر؟ وكيف سيجد مرة أخرى الطاغية الذي يستعبد الشعب ويحمل العداء للذرية من الذكور ويترك الإناث والضعفاء يزيدون في العدد؟ وكيف سيجد مرة أخرى جميع الأشياء المذكورة في الكتاب المقدس؟ وحيث أنه من المستحيل تقليد حياة جميع هؤلاء الناس المباركين بالضبط بأحداثها الدقيقة، فيمكن أن نستبدل بالتسلسل الحرفي لتلك القصص تعليمًا أخلاقيًا. وبهذه الطريقة يمكن لمن يسعون نحو الفضيلة أن يجدوا العون في أن يعيشوا حياة الفضيلة.

50. إذا اقتضى سرد الأحداث إسقاط أي شيء من التسلسل الحرفي إذا كان غير مناسب لتسلسل الفهم السامي، فإننا لا نذكره على أساس أنه ليس له فائدة أو نفع لغرضنا حتى لا نقطع تسلسل الإرشاد نحو الفضيلة في هذه المواضع.

51. أقول هذا بخصوص تفسير القصة من ناحية هرون، حتى أسبق من سيعترض بسبب الأحداث التالية في القصة. فربما يقول البعض أنه لا شك أن الملاك يشترك مع النفس في النواحي الفكرية وغير المرئية لها، وأنه كان موجودًا قبل أن نخلق، وأنه متحد مع من يحاربون العدو (الشيطان)، ولكن أيضًا لا يصح أن ننظر لهرون- الذي كان قائدًا للإسرائيليين في عبادة الأوثان، على أنه يمثل الملاك.

52. زد على هذا بما سبق أن قلناه، بأن ما يخرج في القصة عن هدفنا لا يغير ما يتفق مع هذا الهدف، والموجود في باقي القصة. وبالإضافة إلى ذلك فإن الكلمتين (ملاك، وأخ) ينطبقان في المعنى على أشياء متضادة.

53. إن كلمة “ملاك” لا تعني فقط ملاك الله ولكن أيضًا ملاك الشيطان (2 كو 12: 7). والأخ ليس فقط الأخ الطيب ولكنه أيضًا الأخ الشرير. ولذا يحدثنا الكتاب المقدس عن الأخ الطيب “أما الأخ فللشدة يولد” (أم 17: 17)، وعن الشرير (العكس) يقول: “وعلى كل أخ لا تتكلوا، لأن كل أخٍ يَعْقِب عقبًا” (إر 9: 4).

إعلان الخلاص

54. سنترك هذه المسائل إلى مرحلة تالية في مناقشتنا لنفسرها بمزيد من التفصيل في مكانها المناسب. ولنركز الآن على الموضوع الذي أمامنا. بعد أن اكتسب موسى قوة من الضوء الذي تجلى له، وجاء أخوه كحليفٍ ونصيرٍ له، أعلن للشعب بجراءة بشرى الحرية، وذكَّرهم بعظمة آبائهم. وعبَّر عن رأيه بالنسبة للطريقة التي يمكن أن يخلصوا بها من العمل الشاق في صنع الطوب اللبن (خر 6).

55. ماذا نتعلم من هذا؟ يجب أن نتعلم أن مَنْ لم يعد نفسه بهذا النوع من التدريب الروحي ليُعَلِم الجموع لا يجب أن يتحدث إلى الناس. فإننا نرى أن موسى عندما كان مازال صغيرًا ولم ينضج بعد ويصل إلى درجة رفيعة في الفضيلة، لم يبالِ الرجلان اللذان كانا يتشاجران بنصيحته السليمة ولم يقبلاها. ومع ذلك فبعد نزوله من الجبل خاطب عشرات الآلاف بنفس الطريقة. إن تاريخ موسى يوضح لنا بجلاء أنه يجب ألا نتجرأ على إعطاء النصائح لسامعينا في تعليمنا لهم إلا إذا اكتملت فينا القدرة على ذلك بالتدريب الطويل والشاق مثلما كان لموسى.

ثورة العدو

56. بعد أن نطق موسى بهذه الكلمات الممتازة ومنح سامعيه الحرية وقوّى رغبتهم في الحصول عليها، ثار العدو وغضب، وزاد من معاناة من استمعوا لكلام موسى. ولا يختلف ذلك عما يحدث الآن، فإن كثيرين ممن قبلوا الكلمة كمحرر لهم من الطغيان وساروا على نهج الإنجيل مازالوا مهددين من العدو (الشيطان) بهجمات الإغراءات والتجارب[56].

57. يزيد بعض هؤلاء ثباتًا في الإيمان بالقوة التي يكتسبونها من هذه الهجمات الشرسة، ولكن بعض الضعفاء ينهزمون من هذه المصائب، ويعلنون أنه كان من الأفضل لهم ألا يستمعوا لرسالة الحرية من أن يتحملوا هذه المشكلات في سبيل الحصول على الحرية.

58. حدث نفس هذا الشيء مع الإسرائيليين ذوي الأرواح الوضيعة الذين لاموا من بشَّرهم بالخلاص من العبودية (خر 5: 21). ولكن الكلمة لن يكف عن أن يقودنا نحو الصلاح، حتى ولو خاف الصغار وغير الناضجين في الفهم – كالأطفال – من الإغراءات.

العمل في اللبن [57]

59. فإن الشيطان الذي يؤذي الناس ويفسدهم يهتم بشدة بألا يتطلع رعاياه إلى السماء، بل أن ينحنوا إلى الأرض ويصنعوا الطوب اللبن – داخل أنفسهم – من الطين. ومن الواضح للجميع أن ما ينتمي إلى المتعة المادية يتكون بالتأكيد من التراب والماء، وينطبق هذا على من يهتم بشهوة الطعام أو شهوة المال والثروة.

60. يتحول مزيج هذين العنصرين – التراب والماء – إلى طين. ومن يشتاقون إلى الملذات يكونون كمن يشتاقون إلى الطين، ويظلون يملأون أنفسهم منه، ومع ذلك لا يمتلئون أبدًا، ويصبح المكان الذي يستقبل الطين فارغًا قبل أن تصب فيه المرة التالية. وبنفس الطريقة يظل صانع الطوب يصب مزيدًا من الطين في القالب والقالب يفرغ باستمرار. ويمكن للجميع بسهولة أن يفهموا معنى هذه الصورة البلاغية بالنظر إلى الجانب الشهواني للنفس.

61. الذي يتبع رغباته وما يشتهيه إذا حقق رغبة له ثم تحول برغبته إلى شيء آخر يجد نفسه فارغًا مرة أخرى من ناحية هذا الشيء، وإذا امتلأ منه يعود فارغًا كإناء فارغ في طلب شيء آخر وهكذا. ونحن لا نتوقف عن هذا إلى أن نرحل من هذه الحياة المادية.

62. وبالنسبة للقش والتبن الذي كان يجب على الخاضعين لأوامر الطاغية أن يخلطوه بالطوب اللبن، فإن كلا من الإنجيل المقدس والصوت السامي للرسول يفسرانهما بأنهما مواد للحرق (حز 5: 4؛ مت 3: 12).

ماء التعليم الإلهي عذب للبعض ودم لغيرهم

63. كلما أراد شخص متفوق في الفضيلة أن يجذب أولئك المستعبدين في الخداع إلى حياة فلسفية وحرة، فإن إبليس الذي يتآمر ضد أرواحنا بمكائد مختلفة (كما يقول بولس الرسول في أف 6: 11) يعرف كيف يستخدم وسائل الخداع ضد الشريعة الإلهية. وأنا أتحدث هنا عن الحيات المصرية في القصة، أي عن الخدع الشريرة المختلفة التي هزمتها عصا موسى. وقد فسرنا العصا من قبل بصورة كافية.

64. من يملك عصا الفضيلة التي لا تُهزم، التي تبتلع عصا السحرة، يتقدم على التدريب على عجائب أعظم. ولا تحدث العجائب لكي ترهب الحاضرين، لكنها لفائدة من يتم إنقاذهم. فعن طريق عجائب الفضيلة ينهزم العدو ويتقوى الشعب.

65. إذا علمنا أولاً القصد الروحي العام من عجائب الفضيلة، نستطيع عندئذ أن نطبق هذا المفهوم على كل معجزة في حد ذاتها. ويتفق الإيمان الحقيقي مع ميول من يسمعون الكلمة، فبالرغم من أن الكلمة تبين للجميع ما هو خير وما هو شر، إلا أن الشخص ذا الميول الحسنة لما يسمعه يستنير فهمه، بينما يظل كلام الجهل مخيمًا على الشخص ذي الميول العنيدة الذي لا يسمح لروحه بأن تبصر شعاع الحق. وإذا لم يكن فهمنا العام لهذه الأمور خاطئًا فإن كل أمر في حد ذاته لن يبدو مختلفًا، حيث أن الجزء يتم إظهاره وبيانه بالكل.

66. لذا ليس عجيبًا على الإطلاق ألا يتأثر العبراني، رغم معيشته في وسط غرباء، بشر المصريين. ويمكن أن نرى نفس الشيء يحدث الآن في المدن المزدحمة بالسكان ولأهلها آراء متناقضة. فبالنسبة للبعض فإن نهر الإيمان الذي يستقون منه بالتعليم الإلهي عذب وصاف، بينما بالنسبة للبعض الآخر الذين يعيشون مثل المصريين ويستقون بأهوائهم الشريرة، فإن الماء يصبح دمًا فاسدًا.

67. ومرات كثيرة يحاول سيد الشر والخداع أن يحول ماء العبرانيين أيضًا إلى دم بإفساده بالغش والزور، أي بإظهار عقيدتنا لنا على غير الحقيقة، ولكنه لا يستطيع أن يفسد الماء تمامًا بحيث لا يصلح للاستخدام بالمرة، حتى ولو حوله بسهولة إلى اللون الأحمر بخداعه، فإن العبراني الذي لا يلقي بالاً للخداع البصري يشرب الماء الحقيقي، حتى ولو نجح خصومه في تضليله.

ضربة الضفادع [58]

68. وينطبق نفس الشيء على الضفادع. وهي كائنات برمائية قبيحة وصاخبة، تقفز حولها باستمرار وهي ليست قبيحة المنظر فقط، ولكن لها أيضًا جلد كريه الرائحة. دخلت هذه المخلوقات البيوت والأسرة والمخازن في بيوت المصريين، ولكنها لم تؤثر على حياة العبرانيين.

69. إن تكاثر الضفادع هو بلا شك رمز للشر المدمر الذي يتولد من القلب الشرير للإنسان كما من مستنقع وحل. وقد اجتاحت هذه الضفادع بيوت أولئك الذين اختاروا أن يعيشوا عيشة المصريين، وظهرت على موائدهم وحتى على أسرتهم ودخلت مخازنهم.

70. إن حياة الشر والخلاعة حقًا تولد الشر الذي يشبه ما يخرج من الوحل. تتشبه تلك الحياة بالكائنات التي لا عقل لها، ولذلك تظل شكلاً من الحياة لا هو إنسان ولا هو ضفدعة تمامًا. إن هذا النوع من الأشخاص الذي هو إنسان بطبيعته ويتحول إلى حيوان بأهوائه يعيش حياة ثنائية لا تعرف طبيعتها، مثل البرمائيات. وتوجد أدلة هذا الشر ليس فقط في الفراش ولكن أيضًا على المائدة وفي المخزن وفي كل أرجاء البيت.

71. يظهر فساد مثل هذا الشخص في كل شيء، لذلك فمن السهل التعرف على حياة الشخص الفاسد والشخص الطاهر مما يحبونه ويمارسونه في بيوتهم. في بيت أحد هذين النوعين تجد نقوش على الحائط تثير صورها الماكرة الشهوات الحسية. تجلب هذه الأشياء الشر، ومن خلال العين تصب في الروح الأشياء المشينة التي تشاهدها العين. ولكن الإنسان الحكيم يأخذ كل حذر واحتراس ممكن في بيته ليحفظ العين طاهرة من المناظر الشهوانية.

72. بالمثل فإن مائدة الشخص الحكيم تكون طاهرة، ولكن الشخص الذي يتمرغ في الوحل يشبه الضفدعة وينتمي إلى الجسد. وإذا فتشنا مخزنه – أي الأشياء السرية والغير معلنة في حياته – تجد هناك وسط خلاعته كومًا كبيرًا من الضفادع.

إغلاظ قلب فرعون والإرادة الحرة

73. يجب ألا نندهش إذا ذكرت لنا القصة أن عصا الفضيلة قد فعلت هذه الأشياء للمصريين، لأنها تذكر أيضًا أن الله قد أغلظ قلب فرعون (خر 9: 12 ورو 9: 17-18) كيف يمكن – إذًا – أن يُدان فرعون إذا كان الإلزام الإلهي هو الذي دفعه ليكون عنيدًا ومتصلبًا؟ في موضع آخر في الكتاب المقدس يعبر بولس الرسول عن نفس الفكرة: “وكما لم يستحسنوا أن يبقوا الله في معرفتهم أسلمهم الله إلى ذهن مرفوض”، “لذلك أسلمهم الله إلى أهواء الهوان” (رو 1: 28، 26)…

74. ولكن إذا كان ما سبق مذكورًا في الكتاب المقدس، وكان الله يسلم تمامًا إلى الذهن المرفوض الشخص الذي يسلم نفسه لهذا الذهن المرفوض، فإننا يجب أن نتذكر أن فرعون لم يتشدد قلبه بواسطة الإرادة الإلهية، كما أن الحياة التي تشبه حياة الضفادع لا تتولد من الفضيلة. لأنه إذا كان هذا هو ما تريده الطبيعة الإلهية، فإن أي اختيار بشري سيتبع نفس هذا المسار في كل حالة ولن يراعي أحد التفرقة بين الخير والشر في الحياة. إن الناس يختلفون في حياتهم، فيعيش بعضهم حياة استقامة في الفضيلة، بينما ينزلق البعض إلى الرذيلة. ولا يمكن بالمنطق أن نعزز هذه الاختلافات إلى إلزامٍ إلهي يخرج عن إرادة الناس، فإن في مقدور كل شخص أن يختار.

75. يعلمنا بولس الرسول بوضوح من هو الشخص الذي يسلم إلى ذهن مرفوض. إنه ذاك الذي لا يحب أن يعرف الله. إن الله يسلم إلى الأهواء والشهوات الشخص الذي لا يحميه الله، لأنه لا يعترف بالله، فعندما لا يعترف الإنسان بالله في حياته يكون ذلك هو السبب في سقوطه في حياة الشهوات والخطية.

76. يشبه ذلك شخصًا لا يرى الشمس ويلومها لأنها تسببت في سقوطه في حفرة، فلا يمكننا أن نقول أن الشمس تغضب ممن لا يريد أن ينظر إليها وتدفعه ليسقط في الحفرة، وإنما نفسر هذه العبارة بطريقة منطقية على أن عدم السير في نور الشمس هو الذي يسبب سقوط هذا الشخص في الحفرة. ويوضح لنا هذا فكرة بولس الرسول، فإن من لا يعترفون بالله في حياتهم يسلمون إلى الأهواء المرفوضة. وكذلك فإن فرعون قد أغلظ قلبه ليس لأن الإرادة الإلهية قد وضعت المقاومة في روح فرعون، ولكن لأن إرادة فرعون الحرة الميالة للشر لم تقبل الكلمة التي تخفف من هذه المقاومة.

77. وبنفس الطريقة أيضًا، فإن عصا الفضيلة عندما ظهرت بين المصريين فقد طهرت العبرانيين من حياة الشر التي تشبه حياة الضفادع، بينما أظهرت أن المصريين ممتلئون من هذا الشر.

78. عندما مد موسى يديه لإنقاذ المصريين، هلكت الضفادع في الحال. ويمكن أن نرى هذا يحدث الآن أيضًا، فإنكم بالتأكيد تدركون معنى اليدين الممتدتين لمعطي الناموس (موسى)، فإن هذا يرمز لمعطي الناموس الحقيقي (يسوع المسيح) ويديه الممدودتين على الصليب. إن المصريين الذين عاشوا فترة قصيرة يعانون من الضفادع قد خلصوا من هذا الشر عندما نظروا إلى يدي موسى الممدودتين، وكذلك فإن أولئك الذين يعيشون فترة مع أفكار شريرة تشبه الضفادع إذا نظروا إلى ذلك الذي مد يديه على الصليب من أجلنا فإنهم يتحررون من حياتهم الشريرة حيث تموت أهواهم وتنتن.

79. في الحقيقة، بعد موت الشهوات التي تشبه الضفادع فإنه بالنسبة لمن خلصوا من هذا الوباء تصبح حياتهم السابقة ذكرى شريرة وكريهة تثير الاشمئزاز والخجل في النفس. وفي ذلك يقول بولس الرسول لمن تغيرت حياتهم من الشر إلى الفضيلة: “فأي ثمر كان لكم حينئذ من الأمور التي تستحون بها الآن؟” (رو 6: 21).

محنة الظلام

80. ويتفق مع تأملي هذا أن نتأمل الجو الذي أظلم في عيون المصريين بفعل العصا، بينما كانت عيون العبرانيين ترى الشمس مضيئه. وهذا الحدث يؤكد المعنى الذي أسلفناه، فلم تكن هناك قوة إجبارية من أعلى هي التي سببت أن يوجد المصريون في ظلام والعبرانيون في النور، ولكن يوجد فينا نحن البشر، في طبيعتنا واختيارنا ذاتهما أسباب النور والظلام، حيث أننا نضع أنفسنا حيث نريد أن نكون، في النور أو في الظلام.

81. طبقًا للقصة، فإن عيون المصريين لم تكن في الظلام بسبب وجود حائط أو جبل يحجب الرؤية ويظلم أشعة النور، ولكن الشمس كانت تلقي بأشعتها على الجميع على السواء، المصريين والعبرانيين. وبينما كان العبرانيون يستمتعون بنورها، كان المصريون لا يشعرون به. وبالمثل فإن الحياة المستنيرة متاحة للجميع بالتساوي، ولكن حسب قدراتهم، فإن البعض يستمرون في الظلام مدفوعين بأعمالهم الشريرة إلى ظلمة الشر، بينما يشع البعض الآخر بنور الفضيلة…

ضربة البثور

83. بنفس الطريقة يمكننا أن ندرك المعنى الحقيقي لـ”رماد الأتون” الذي يخبرنا الكتاب بأنه سبب دمامل وبثورًا للمصريين. ويرمز الأتون لعقاب النار في جهنم التي تؤثر فقط على من يقلدون المصريين في حياتهم.

84. وإذا كان الشخص إسرائيليًا حقًا، وابنًا لإبراهيم، يتطلع إليه كمثال في حياة بحيث يظهر بإرادته الحرة انتمائه لشعب الله المختار، فلن تؤذيه النار المؤلمة…

85.  والمتتبع لتأملاتنا السابقة لن يجد صعوبة في تفسير مفهوم كل ضربه من الضربات التي نزلت بالمصريين: البعوض الذي عذب المصريين بلدغاته غير المرئية والذباب الذي التصق بأجسامهم وسبب لهم آلامًا والمحاصيل التي أكلها الجراد والعواصف من السماء التي سببت نزول البرد.

86. طبقًا للمبدأ الذي أسلفناه، فقد كانت إرادة المصريين الحرة هي سبب كل تلك الضربات، وتبعًا لاختيارهم الحر فإن عدالة الله غير المتحيزة قد أحلت عليهم ما كانوا يستحقونه. وفي قراءتنا للنص يجب ألا نستنتج أن هذه الضربات التي حلت بمن يستحقونها جاءت مباشرة من الله، بل يجب أن نلاحظ أن كل إنسان يجلب على نفسه الضربات بإرادته الحرة بسبب ميوله. ويخاطب بولس الرسول مثل هذا الشخص، قائلاً: “ولكنك من أجل قساوتك وقلبك غير التائب تذخر لنفسك غضبًا في يوم الغضب واستعلان دينونة الله العادلة، الذي يجازي كل واحد حسب أعماله” (رو 2 : 5 الخ).

87. يشبه ما نتحدث عنه مرض الصفراء[59] المدمر في بطن الإنسان بسبب حياة الانحلال. وعندما يعطي الطبيب أدوية تسبب القيء، فإن ليس سبب المرض في الجسم، بل على العكس، فإن عادات الأكل الفوضوية وغير الملتزمة هي التي تسبب المرض، وكل ما فعله الطب هو أنه أظهره. وبنفس الطريقة، حتى عندما نقول أن الانتقام المباشر يحل من الله على من يسيئون استخدام إرادتهم الحرة، فمن المنطقي أن نلاحظ أن أصل وسبب هذه المعاناة هو في أنفسنا.

88. وبالنسبة لمن يعيش بلا خطية فليس هناك ظلام ولا دود ولا جهنم ولا أي شيء من هذه الأشياء المخيفة، فإن الكتاب يخبرنا أن الضربات التي حلت بمصر لم تكن موجهة للعبرانيين. وحيث أنه في نفس المكان يأتي الشر لشخص وليس للآخر حيث يختلفان عن بعضهما باختلاف اختياراتهما الحرة فمن الواضح أنه لا يمكن أن يحل بنا شر ألا باختيارنا الحر.

موت الأبكار

 89. نتابع النص الآن؛ لقد علمنا ما رأيناه حتى الآن أن موسى (ومن يسمو بنفسه بالفضيلة على مثال موسى) وعندما موت روحه (عن أعمال الإنسان القديم) بالتدريب الطويل والحياة السامية، ومن خلال النور الآتي من فوق، اعتبرها خسارة ألا يقود مواطنيه إلى حياه الحرة.

90. وعندما أتى إليهم غرس فيهم رغبة أقوى في الحرية بأن أراهم المعاناة التي كان يعانيها المصريون والتي كانت أشد من معاناتهم. ولكي يخلص أهل بلده من الشر جلب على المصريين الموت لكل بكر يولد في مصر. وبهذا أرسى لنا مبدأ وهو أنه من الضروري تمامًا أن نقضي على كل أبكار الشر، ومن المستحيل الهروب من الحياة في مصر بأية طريقه أخرى.

91. لا استحسن أن أمر سريعًا على هذا التفسير بدون مزيد من التأمل فلا يمكن الحفاظ على مفهوم يستحق أن ينسب إلى الله بمجرد ذكر وصف الأحداث التاريخية. فعلى سبيل المثال نجد أن المصريين يتصرفون تصرفات ظالمة ولكن أبكارهم يعاقبون، وهم الذين كانوا كأطفال لا يستطيعون أن يميزوا بين الخير والشر. لم يجربوا الشر في حياتهم، لأن الطفولة ليس فيها شهوة وأهواء، وهم كأطفال لا يستطيعون التمييز بين اليد اليمنى واليسرى (قارن يونان 4: 11). إن الطفل الرضيع يرفع عينيه فقط إلى صدر أمه. والدموع هي العلامة الوحيدة للحزن عنده، وإذا نال أي شيء ترغبه طبيعته، فإنه يعبر عن سروره بالابتسامة. إذا كان على مثل هذا الرضيع أن يدفع عقوبة الشر الذي ارتكبه والده، فأين العدل إذًا؟ أين التقوى؟ أين القداسة؟ أين حرقيال الذي ينادي: “النفس التي تخطئ هي تموت، الابن لا يحمل إثم الأب؟ كيف يمكن للتاريخ أن يناقض العقل والمنطق بهذا الشكل؟

92. لذلك فعندما ننظر في الأمر باحثين عن المعنى الروحي الحقيقي لنقرر إذا كانت الأحداث قد حدثت بصورة رمزية، يجب أن يكون لدينا استعداد للاعتقاد بأن معطي الناموس (موسي) كان من يعلَّم من خلال ما يقال. والتعليم هو ما يلي: يجب على الإنسان إذا أدرك أو تعرَّف على أي شر- عن طريق الفضيلة – أن يقضي تمامًا على أية بدايات للشر.

93. لأنه عندما يقضي على البداية، فإنه في نفس الوقت يقضي على ما يأتي بعدها. ويُعَلِم الرب نفس الشيء في الكتاب المقدس، فيدعونا بطريقه غير مباشرة أن نقتل أبكار الشرور المصرية عندما يوصينا بالابتعاد عن الشهوة والغضب وألا نخاف بعد من عار الزنا أو ذنب القتل (مت 5: 22، 28) لا شيء من هذه الخطايا يتولد من تلقاء نفسه ولكن الغضب يولد القتل، والشهوة تولد الزنا.

94. وحيث أن فاعل الشر تتولد لديه الشهوة قبل الزنا والغضب قبل القتل، فعندما يقتل الأبكار سيقتل بالتأكيد الذرية التي كانت ستأتي منها. ولنأخذ الثعبان كمثال، فإننا عندما نسحق رأسه نقتل باقي الجسم في نفس الوقت.

95. كان إهلاك الأبكار لو لم يرش الدم على الأبواب (خر 12: 23)، لأنه يمنع الهلاك. وإذا أردنا أن نعرف المعنى المقصود هنا بتفصيل أكثر، فإن التاريخ يقدم لنا هذه الفكرة عن طريق كلٍ من الأبكار وتأمين الأبواب بالدم. في حالة قتل الأبكار يتم القضاء علي أول دافعٍ للشرٍ. وفي حالة رش الدم يتم صد أول هجوم للشر للدخول فينا، وذلك بواسطة الحمل الحقيقي. فإنه في حالة دخول العدو المدمر لا نصده بوسائلنا الخاصة، ولكننا نقيم دفاعنا بواسطة الناموس لنمنعه من أن يحتل مكانًا بيننا.

96. نقرأ في الكتاب المقدس أن السلامة والأمان هي في رش العتبة العليا والقائمتين للباب بدم الحمل[60]. وبينما يهيئ لنا الكتاب بالصور الرمزية فهمًا علميًا لطبيعة النفس، فإن التعليم العلماني أيضا يفعل نفس الشيء، ويقسم النفس إلى ثلاث أجزاء: عقلاني وعاطفي وروحي. ويوجد الجزءان العاطفي والروحي أسفل الجزء العقلاني يساندانه. ويتصل الجزء العقلاني بهما بحيث يمسكهما معًا في نفس الوقت الذي يزعجانه فيه، وبحيث يتدرب الجزء العقلاني على الشجاعة بواسطة الجزء الروحي ويرفعه الجزء العاطفي للمشاركة في الخير.

97. طالما ظلت النفس في أمان بهذه الطريقة تحافظ على تماسكها بالأفكار الفاضلة كما لو كانت ممسكة بمسامير تثبت، فإن جميع الأجزاء ستتعاون معًا للخير. سيقوم الجزء العقلاني بتوفير الأمان للعناصر المساندة له وفي نفس الوقت يفيد منها بنفس الدرجة.

98. ولكن إذا اختل هذا الترتيب وانقلب الأعلى أسفل، والأسفل أعلى، ونزل العقلاني من أعلى إلى أسفل[61]، وداسه الطبع العاطفي والروحي، وعندئذ سيتسلل العدو المدمر إلى الداخل، ولن تكون هناك مقارنة من الدم لدخوله، أي أن الإيمان بالمسيح لن يثبت مع من لهم هذا الطبع (المختل).

99.  يقول الكتاب أنه يجب رش العتبة العليا أولاً بالدم ثم القائمتين. كيف يستطيع الإنسان أن يمسح العتبة العليا أولاً إلا إذا كانت موجودة أعلى الباب؟

100. ولا ينبغي أن تدهش على الإطلاق إذا كان موت الأبكار وسفك الدم لم يحدثا للإسرائيليين، وبناء على ذلك ترفض التأمل الذي أوردناه بخصوص القضاء على الشر – كأن هذا شيء مختلق لا أساس له من الصحة. فإن الاختلاف بين الإسرائيليين والمصريين هو اختلاف بين الخير والشر، وحيث أن المعنى الروحي يوضح لنا أن الإسرائيليين كانوا يمثلون الفضيلة، لذلك يجب ألا نتطلب إهلاك أبكار الفضيلة، بل أبكار أولئك الذين يفيد هلاكهم أكثر من تكاثرهم.

101. لذلك يعلمنا الله أنه يجب أن نقضي على أبكار الشر (المقابلين لأبكار المصريين) بحيث نضع نهاية للشر بالقضاء على بداياته. ويتفق هذا الفكر مع التاريخ. فعن طريق رش الدم تمّت حماية أولاد الإسرائيليين حتى يبقى الخير ويصل للنضوج ويكثر. ولكن تم القضاء على أطفال المصريين قبل أن يصلوا للنضوج ويكثر الشر.

الرحيل من مصر

102. يتفق ما يلي مع فهمنا الروحي للنص، فإن الكتاب المقدس يتطلب أن يصبح جسم الحمل – الذي رُش دمه علي الأبواب، وحمى الشعب من هلاك الأبكار – هو طعامنا.

103. كان على من يأكلون هذا الطعام (الحمل) أن يكون سلوكهم عمليًا وجديًا، ليس مثل سلوك الذين يستمتعون بالطعام في الولائم، الذين يجلسون في استرخاء وملابس مرخاة وأقدامهم غير مستعدة للسفر، بل على العكس كانت أحذيتهم في أرجلهم وأحقاؤهم مشدودة بأحزمة وعصيهم في أيديهم لطرد الكلاب.

104. كان اللحم يقدم لمثل هؤلاء الناس المستعدين للسفر بدون توابل وصلصات معدة بإتقانٍ ولكن مشويًا على أي نار متاحة. وكان الضيوف يأكلون بسرعة حتى يستهلكوا جسم الحيوان بأكمله. كانوا يأكلون كل ما يمكن أكله حول العظام ولكنهم لم يمسوا الأحشاء وكان ممنوعًا أن يكسروا أي عظام، بل ما يتخلف يحرق بالنار.

105. يتضح من هذا كله أن النص الحرفي يهدف إلى أن يوضح أشياء أسمى ومفهومًا أعلى، حيث أن الناموس الإلهي لا يعلمنا كيف نأكل (الطبيعة التي تغرس فينا الرغبة في الطعام هي شرع كاف لمثل هذه الأمور). وتعني القصة شيئًا مختلفًا. فما أهمية أن تأكل طعامك بهذه الطريقة أو تلك بالنسبة للفضيلة أو أن تكون الأحقاء مشدودة أو مرخاة، أو تكون القدمان عاريتين أو بهما أحذية، أن تكون عصاك في يدك أو موضوعة جانبًا؟

106. المعنى الرمزي لاستعداد المسافر واضح. إنه أمر صريح لنا بأن ندرك ونعترف بأن حياتنا الحاضرة هي حياة عابرة. وعند مولدنا تدفعنا طبيعة الأمور نحو الرحيل، فيجب أن نعد أنفسنا بعناية له، وأيدينا وأقدامنا وباقي الأشياء.

أحذيتهم في أرجلهم

107. لكي لا تؤذي أشواك هذه الحياة أقدامنا العارية (الأشواك هي الخطايا)، يجب أن نغطيها بأحذية. والأحذية هي الحياة الصارمة التي يتحكم فيها الإنسان في نفسه وهذه الأحذية تكسر أطراف الأشواك، وتمنع الخطية من التسلل سرًا داخل حياتنا.

أحقاؤهم مشدودة بأحزمة

108. إن إرخاء العباءة إلى أسفل فوق القدمين ووصولها إلى النعلين يمنع أي شخص من أن ينهي المسار الإلهي بمثابرة، والعباءة هنا هي الاستمتاع الكامل بمباهج الحياة الأرضية، والمنطقة (الحزام) هنا هو العقل الحكيم الذي يشد العباءة إلى أقصى حد ممكن. والمكان الذي تلتف حوله المنطقة (الحزام) يبين أن المقصود بها الحكمة. والعصا التي تستخدم لطرد الحيوانات هي رسالة الرجاء التي تساند بها تعب الروح (ونطرد) ونبعد ما يهددنا (قارن 1 بط 1: 13).

شيِّ الطعام على النار

109. يرمز الطعام الذي يوضع أمامنا بعد شيِّه على النار إلى الإيمان الحار القوي الذي نتسلمه بدون أن نفكر فيه. ونحن نلتهم منه ما يؤكل بسهولة، ولكن نترك جانبًا المعتقدات المخفية داخل الأفكار التي تعتبر صعبة دون بحثها بدقة أو السعي لمعرفة المزيد عنها، وبدلاً من أكلها نتركها للنار.

110. لكي نوضح هذه الصور، دعنا نشرح أن أي أوامر إلهية ندركها ونفهمها بسهولة يجب أن نتبعها بحماسٍ وليس بكسلٍ وتراخٍ أو بالإكراهٍ، بل نكون مثل الجائعين الذين يملأون بطونهم بشغفٍ بالأشياء التي توضع أمامهم، فيكون الطعام زادًا لصحتهم. ولكن يجب ألا نفكر في أشياء تتجاوز فهمنا – مثل الأسئلة التالية: ما هو جوهر الله؟ ماذا كان يوجد قبل الخليقة؟ ماذا يوجد خارج العالم المرئي؟ ماذا يجعل الأشياء تحدث؟ وأشياء أخرى مماثله تسعى إليها العقول المحبة للاستطلاع يجب أن نترك هذه الأشياء ليعرفها لنا الروح القدس فقط “لأنه الروح يفحص كل شيء حتى أعماق الله”، كما يقول الرسول (1 كو 2 : 10)

111. إن أي شخص تعلم الكتاب المقدس لابد أنه يعرف بالتأكيد أن الكتاب يفكر في الروح ويصفه على أنه “نار[62]“، ويقودنا إلى هذا الفهم ما تعلنه لنا الحكمة: “لا تحاول أن تفهم الأشياء البالغة الصعوبة بالنسبة لك” – أي لا تكسر عظام الكتاب المقدس، لأنه لا داعي لأن ترى بعينيك الأشياء المخفية[63].

ثروة مصر والتعليم العلماني

112. قاد موسى الشعب إلى خارج مصر، وبالمثل فإن كل من يتبع خطوات موسى يخَّلص كل من يستمعون إلى كلماته من الطاغية المصري. وكل من يتبع القائد إلى الفضيلة – يجب – في رأيي- ألا تنقصه ثروة مصر أو يكون محرومًا من كنوز الغرباء، ولكن يجب عليه أن يحصل عليها ويستخدمها لمنفعته. وهذا هو بالضبط ما أمر موسى الشعب أن يفعله.

113. كان لا يمكن لأي شخص يسمع هذا الكلام بدون تعمق أن يقبل نصيحة موسى عندما طلب من الشعب أن يسرقوا، وبذلك أصبح قائدًا لهم في عمل الخطية. وعند النظر إلى الشرائع التي تلت ذلك نجد أنها من البداية إلى لنهاية تمنع عمل الخطية، فكان لا يمكن لمن يدرك ذلك أن يقول أن موسى قد أمر بأخذ الأشياء من المصريين بهذه الطريقة[64].

114. … فالشخص الذي يستعير شيئًا ولا يرده هو مخادع. وإذا اقترض شيئًا لا يخصه ولم يرده فهو مخطئ، لأنه يمارس الخداع، وحتى لو اقترض شيئًا مفروض أنه يستحقه فإنه يدعى مخادعًا أيضًا لأنه ضلل من اقترضه منه وأعطاه أملاً أنه سيرده.

115. لذلك فإن المعنى الأسمى مناسب أكثر من المعنى الظاهر. وهذا المعنى هو أمر لمن يشاركون في حياة الحرية عن طريق الفضيلة بأن يتزودوا بأنه أيضًا بثروة التعليم الوثني من الأجانب، والذي يتحلى به غير المؤمنين. ويأمرنا مرشدنا في الفضيلة بأن “نستعير[65]” من المصريين الأثرياء (الغرباء الوثنيين) أشياء مثل الفلسفة الأخلاقية والطبيعية، والهندسة، والفلك والمنطق وأي شيء آخر يسعى من هم خارج الكنيسة لتعلمه، حيث أن هذه الأشياء تنفع عندما يحل الوقت المناسب لتجميل المقدس الإلهي بثروات العقل.

116. بعد أن أخذ الإسرائيليون هذه الثروات سلموها إلى موسى وهو يعمل في إنشاء خيمة الاجتماع، مساهمين كل واحدٍ بنصيبه الشخصي في بناء الأماكن المقدسة. ويمكن أن نرى هذا يحدث الآن، فإن كثير من الناس يهبون كنيسة الله عطايا من التعليم العلماني، مثلما فعل باسيليوس العظيم الذي اكتسب الثروات المصرية من جميع النواحي في شبابه وخصص هذه الثروة لله لتزيين الكنيسة، التي هي خيمة الاجتماع الحقيقية.


[37] يُشير القديس غريغوريوس هنا إلى فكرة يونانية خاصة بالتغير المستمر. وهو يركز على أن البشر يتغيرون دائمًا. ويستخدم القديس غريغوريوس الإشارة إلى طبيعتنا المتغيرة ليبين أنه من الممكن التغير إلى الأفضل باستمرار بالنمو في الخير، حيث يصبح التغير في طبيعتنا كجناح للطيران إلى الأشياء الأعلى.

[38] هذا التفسير لولادة الذكر والأنثى موجود عند فيلون وأوريجينوس (راجع تفسير الخروج للقمص تادرس يعقوب ملطي).

[39] “الإرادة الحرة” أو “الاختيار” مهمة بالنسبة للقديس غريغوريوس في الروحيات، وهو يقول: “نستطيع الوصول بدون صعوبة إلى ما نتمناه بأفكارنا” (De prof. Chris,  PG 46:248 c-d).

[40] تطبيق تشبيه الولادة على النمو في الفضيلة موجود عند فيلون، ويستخدم أرسطو فكرة ولادة الإنسان لنفسه، وكذلك أوريجينوس والقديس غريغوريوس الذي يذكرها كثيرًا.

[41] يرى القديس غريغوريوس أسقف نيصص أن “القابلة” التي تولد العبرانيات إنما تشير إلى الإرادة الحرة التي تنجب الفضيلة في حياة المؤمنين وسط آلام المخاض المرّة. فإن المؤمن وإن كان يعمل بالله، لكن لا ثمر له بغير إرادته، وكأن فرعون الذي هو إبليس عدونا لا يطيق “إرادتنا الحرة” التي وهبها اللَّه لنا والعاملة بالمسيح يسوع لنمونا. أما العلامة أوريجينوس فيرى في القابلتين “المعرفة” التي تسند أولاد الله في ولادة الذكور كما الإناث، أي بكون لهم ثمر في التأمل العقلي الإلهي وفي تقديس العواطف. لأن الذكور يشيرون إلى العقل والإناث إلى العاطفة (راجع القمص تادرس يعقوب ملطي: الخروج الأصحاح 1).

[42] يقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص: “ما هذا الصعود إلى الكمال الذي تُظهِره هذه الكلمات؟ يلزم أن يكون اشتياقنا للأحسن دليلنا. فهو يقول: “تعالى بنفسك” ليس لأنك حزينة أو لأنك محتاجة، ولكن تلقائيا بنفسك، مؤكدة بتفكيرك الشخصى رغبتك في الخير غير منقادة بالحاجة إليه. فالفضيلة يجب أن تكون غير مفروضة وإرادية ومنزهة عن كل حاجة مادية. كان هذا الحال مع داود الذي أدرك أن الله يفرح فقط بما عمله بتلقائية ووعد أنه سوف يقدم ذبائحه بتلقائية. وهكذا مع جميع القديسين الذين قدموا أنفسهم بتلقائية إلى الله ولم يكونوا أبدا منساقين بحاجة في أنفسهم. يجب الآن أن تُظهِروا استعدادًا كاملاً أنكم ترغبون أن ترتفعوا إلى ما هو أحسن.” عظة 5 على نشيد الأناشيد ترجمة الدكتور جورج نوّار.

[43] خر 2: 3 – وهذا التفسير متأثر بأوريجينوس في تفسير هذه الآية على أنها رمز للعماد.

[44] في مقارنة مشابهة يقول فيلون أن الجهل ونقص التعليم يشبه عقم الروح وعدم خصوبتها.

[45] في أقوال كثير من الآباء يُفسر قتل موسى للمصري على أنه انتصار للروح على الجسد.

[46] يطبق القديس باسيليوس انسحاب موسى إلى ميديان على انسحابه بعد فترة الدراسة التي قضاها في أثينا، ويُشير القديس غريغوريوس إلى ذلك أيضًا في كتاباته.

[47] وردت صورة العقل كراعٍ عند فيلون. وفي كتابه “حياة موسى” يعتبر أن تجربة موسى كراعي غنم كانت تدريبًا على الحكم، ووردت الفكرة عند إكليمنضس السكندري، وعند أوريجينوس الذي ينظر إلى الحركات غير العقلانية للروح على أنها غنم، وإلى السيد المسيح على أنه الراعي الصالح. وفكرة المعيشة في سلام مع الحيوانات – حتى المتوحشة منها – فكرة سائدة في الرهبنة المسيحية.

[48] يو 8: 12 و14: 6 – يجب أن نلاحظ أهمية التجسد بالنسبة للقديس غريغوريوس فإن العليقة تُفسر على أنها تجسد.

[49] يبدو أن القديس غريغوريوس هو أول من جعل العليقة رمزًا لعذراوية مريم التي لم تتأثر بولادتها ليسوع. رأى اليهود في هذه العليقة رمزًا لإسرائيل وقد أحاطت به الأشواك والأتعاب التي تلحق به. وقد أخذ بعض الآباء الأولين بذات الفكر، فرأى العلامة ترتليان في العليقة إشارة إلى الكنيسة التي تشتعل فيها نار الاضطهاد ولا تبيدها، ونادى بذات الرأي القديس هيلاري أسقف بواتييه. كما يقول القديس هيبوليتس الروماني: [يتحدث اللَّه مع قديسيه في الكنيسة كما في العليقة]. وكأن موسى النبي رأى في العليقة كنيسة السيد المسيح المتألمة تحوط بها الأشواك، لكنها ملتهبة بنار الروح الإلهي فلا يصيبها الموت… هذه هي الخدمة التي دعي إليها! يرى القديس أغسطينوس أنها تشير إلى مجد اللَّه الذي حلّ في الشعب اليهودي لكنه لم يبد قسوة قلبهم المملوءة أشواكًا. يرى القديس إكليمنضس السكندري في العليقة إعلانًا عن الميلاد البتولي، فقد وُلد السيد المسيح من البتول، وبميلاده لم تُحل بتولية العذراء.

[50] يُشير القديس غريغوريوس إلى الأقمصة من الجلد المذكورة في تكوين 3: 21 والتي تحتل مكانًا هامًا في تعليمه. قارن عبارته “إن الختان يعني أن نلقي عنا الجلود الميتة التي لبسناها عندما خلعت عنا الحياة بعد الخطية”. ومن الواضح أن الأقمصة الجلدية التي يذكرها القديس غريغوريوس لا ترمز للوجود الجسدي في حد ذاته، لأن الإنسان كان له جسم في الفردوس، ولكنها ترمز للوجود الحيواني أو البيولوجي، وتشمل هذه الأقمصة العواطف التي تدنست والشهوات الجنسية وبوجه خاص الموت، التي أضيفت إلى الطبيعة البشرية التي على صورة الله.

[51] فسرت الآية تك 3: 21 بطرقٍ مختلفة، فذكر أوريجينوس ثلاثة تفسيرات اعترض عليها جميعًا. 1.التفسير الحرفي الذي لا يليق بالله. 2. تفسير الملابس على أنها أجساد غير مضمون صحته بالنظر إلى الآية 2: 32 في سفر التكوين. 3. إذا كانت هذه الأقمصة أو الملابس هي الموت فكيف يصنعها الله ولا تصنعها الخطية؟ ألا يتطلب هذا التفسير اعتبار أنه قبل أن تدخل الخطية العالم كان اللحم والدم غير فاسدين؟ ويفهم الربيون الآية حرفيًا، أما القديس إكليمنضس السكندري فيأخذ القمصان على أنها رمز للقابلية للموت.

[52] يوحي تفسير العليقة المشتعلة هنا على أنها التجسد الإلهي بأن القديس غريغوريوس يعني بـ “الكائن الحقيقي” الأقنوم الثاني للإله الواحد. ويؤكد ذلك وعبارات أخرى عن الألوهية الكاملة ليسوع المسيح التي أوضحها القديس غريغوريوس بقوة في كتاباته.

[53] يقول القديس [قداسته موقع جدل في الكنيسة الأرثوذكسية… (الشبكة)] أغسطينوس: [إلى أي شيء أغرت الحية الإنسان؟ إلى الموت (تك 1:3). لذلك فإن الموت جاء عن الحية… إذن فالعصا التي صارت حية هي المسيح الذي دخل إلى الموت…] وتحدث أيضًا القديس إيرينئوس والقديس كيرلس السكندري عن هذه العصا المتحولة إلى حية كرمز للتجسد الإلهي، والقديس يوستين والقديس أمبروسيوس كرمز للصليب. أما العلامة ترتليان والقديس أمبروسيوس أيضًا فرأيا فيها رمزًا للقيامة، إذ يقول الأخير هل الذي جعل من العصا حية ألا يقدر بإرادته الإلهية أن يعيد العظام، وتعود الحياة للموتى مرة أخرى؟!

[54] أخذ القديس غريغوريوس هذا الفكر عن العلامة أوريجينوس الذي رأى في الزواج بالغريبات رمزًا لاستخدام الفلسفة.

[55] يربط القديس غريغوريوس بين الجهد الذي يبذله البشر، ومساعدة الله لهم للوصول للكمال.

[56] يقول العلامة أوريجينوس [حقًا قبل أن نعرف الكرازة لا نوجد الضيقات والتجارب. لا تبدأ الحرب قبل أن يبوّق بالبوق. لكن ما أن يبوّق بوق الكرازة حتى تُعطى العلامة للحرب (الروحية) وتحل الضيقة]. [قبل أن تبدأ معارك الفضائل ضد الرذائل… تعيش الرذائل في سلامٍ داخل نفسك. لكن إذ تبدأ محاكمة كل رذيلة تحدث حركة واسعة وتتولد داخلك حرب بلا هوادة، لأنه أية خلطة للبرّ مع الإثم، للزنا مع العفة، للحق مع الضلال؟ إذن لا تضطرب كثيرًا إن كانت رائحتنا قد أنتنت أمام فرعون، لأن رائحة الفضيلة عند الرذيلة هي نتانة.] In Exodus 3:3

[57] يرى أوريجينوس أن صناعة الطوب اللبن تمثل الشهوة، التي تبحث دائمًا عن إشباع في المتعة ولكنها لا تصل إليه أبدًا.

[58] يرى القديس [قداسته موقع جدل في الكنيسة الأرثوذكسية… (الشبكة)] أغسطينوس أنها تشير إلى كثيري التكلم بالأمور الباطلة غير النافعة، ويرى العلامة أوريجينوس أنها تشير إلى أغاني الشعراء التي هي كنقيق الضفادع تقدم أمواتًا ملتوية ومزعجة بلا عمل، لذلك يليق بالمؤمن أن يتخلص بصليب السيد المسيح من الكلام الباطل الذي بلا عمل.

[59] يشير هنا إلى مرضٍ ربما كان منتشرًا في أيامه.

[60] يقول الأب لاكتانتيوس: [خلص العبرانيون وحدهم بواسطة علامة الدم، ليس لأن دم الخروف في ذاته له فاعلية لخلاص البشر، وإما كان رمزًا للدهور المقبلة.] ويتحدث القديس هيبوليتس الروماني عن قوة علامة الدم قائلاً: أنها توضع [في البيوت كما في النفوس حيث يجد فيها روح الرب مسكنه المقدس]. كما يقول أن [الدم على العتبة العليا كما على الكنيسة، وعلى القائمتين كما في الشعبين (اليهود والأمم).]

[61] ربما يقصد هنا بالعقلانية الإيمان والعبادة بالذهن المقدس ولي بالعاطفة المجردة دون تفكيرٍ.

[62] النار هنا هي الروح القدس.

[63] في سفر الجامعة 3: 21 و 22 تعليم للإنسان ألا يحاول فهم الأشياء الصعبة ورؤية الأشياء المخفية، وهذا هو ما يرمز إليه أكل الخروف بسرعة وبدون كسر العظام.

[64] تفسير أخذ الإسرائيليين لما طلبوه من المصريين على أنه استرداد لحقوقهم مذكور في فيلون وإكليمنضس السكندري وايرينيئوس وترتليان. وبينما يذكر القديس غريغوريوس في الكتاب الأول بند 29 أن الإسرائيليين أخذوا ثروة المصريين بحجة استعارتها، فإنه هنا يركز على أن المعنى الروحي فقط هو المقبول.

[65] يحرص القديس غريغوريوس على أن يبين أن التعليم الوثني يجب قبوله بحرص وتمييز.

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
arArabic
انتقل إلى أعلى