Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

المقدمة

الله… صديق الخطاة

 تعطشك إلى صديق

 الإنسان كمخلوق اجتماعي، يخاف الوحدة ويرهب العزلة والسكون، يشتاق أن يشبع قلبه، لا بزميلٍ بل بصديقٍ، يرافقه على الدوام، يفهمه ويتجاوب معه، ويقبل أفكاره ويدرك مفاهيمه وفلسفته، ويحترمه ويقدره، ويبادله الأسرار في صراحة، ويشاركه بكل أحاسيسه في أحزانه وأفراحه بلا رياء أو مداهنة.

 يوجد زملاء كثيرون، لكن الحاجة إلى صديقٍ محبٍ، يحب بلا أنانية، يحب فوق كل الظروف والأزمنة، لا يطلب لنفسه نفعًا ماديًا أو اجتماعيًا أو عاطفيًا أو معنويًا، علانية أو خفية.

فأيوب تطلع في وسط بليته يطلب صديقًا، ولكن أبناءه ماتوا، والزوجة معينته وشريكته صارت شراكًا له، تضيف إلى نيران تجربته وقودًا، إذ في سخرية قالت له: “أنت متمسك بعد بكمالك، بارك الله ومُت” (أي 2: 9). أما أصدقاؤه فلم يعزوه في كربته بل دفعوا به إلى التذمر على الله. وأخيرًا إذ سئم أيوب من أحاديثهم وتوبيخاتهم له قال لهم: “قد سمعت كثيرًا مثل هذا. معزون متعبون كلكم. هل من نهاية لكلام فارغ” (أي 16: 2-3).

وداود أيضًا عندما أغلق الكل أبواب قلوبهم في وجهه قال: “أنا قلت في حيرتي: كل إنسانٍ كاذب” (مز 116: 11). “يا رب ما أكثر مضايقي. كثيرون قاموا علي. كثيرون يقولوا لنفسي ليس له خلاص بإلهه، سلاه” (مز 3: 1-2).

ومريض بركة بيت حسدا، تركه جميع أقربائه حتى ظن أن الرب أيضًا نسيه “ليس لي إنسان يلقيني” (يو 5: 7).

وأنا وأنت محتاجان إلى صديقٍ، نصارحه بكل شيءٍ، ويصارحنا بكل شيء، لأنه أي إنسان منا يقدر أن يصارح حتى والده أو والدته أو إخوته بكل أفكاره وأقواله وأعماله، بما فيها من نجاسات وكبرياء وحقد وحسد ونميمة وحب ظهور وسرقة الخ. إنه يخشى من الرجم، وليته كان رجمًا بحجارة كما كان يحكم على الزاني في العهد القديم، لكنه أقسى وأمر. تكفي نظرة واحدة بسخرية أو حركة يصدرها من عرف الشر، لتحطم قلبه، وتفسد إنسانيته، وتهوى بنفسه إلى أعماق اليأس! لهذا صرخ داود متنهدًا: “أبي وأمي قد تركاني”.

أما من صديق؟!

لقد خلق جو الأنانية جفافًا، فصارت كلمة “الحب” أو “الصداقة” في نظر الكثيرين مجرد كلمة في قاموس، مجرد وهم وخيال. وقد عكسوا هذه المشاعر لاشعوريًا في داخلهم على الله. فلم يقدروا أن يدركوا حبه لهم – رغم معرفتهم العقلية بذلك – ولا أدل على هذا من إقدام البعض على الانتحار.

فكلمة “الحب” أو “الصداقة” جهلها كثيرون، لأنهم لم يتذوقوها بعد، إذ لم يلتقوا بعد بالصديق الذي يحبهم، ربنا يسوع.

فالبعض ظن الميل الاجتماعي حبًا، لكن الطيور والحيوانات حتى المفترس منها لديها دافع الميل الاجتماعي، فهل يمكننا أن نقول إنها تحب؟!

إنه حتى الآباء والأمهات، كثيرون منهم لم يعرفوا بعد كيف يحبون أولادهم، وإن يحبوهم إنما لأنهم أولادهم، أي يحبون ذواتهم فيهم ويعكسون شخصياتهم عليهم. لهذا لا عجب إن ازدرى الآباء بأبنائهم متى أخطأوا، بل وفي أثناء حصار أورشليم طبخت الشريفات أطفالهن من الجوع.

والبعض حسبوا الشهوة حبًا، وما أدركوا أن من يحبهم حبًا شهوانيًا إنما يطلب راحة لنفسه لا راحة من يحبه، يريد إشباع غرائزه أو عواطفه. وهو بذلك يؤكد أنانيته رغم خداعه للطرف الثاني بل وخداعه لنفسه ظانًا أنه يحب هذا الطرف الآخر.

الله يريد صداقتك

عندما نبحث عن صديق نطلب من يقدر أن يقدم لنا عونًا أو يشبعنا ماديًا أو اجتماعيًا أو معنويًا. أما الله فيطلب صداقة من حُرموا من الصداقة، ويعين الخطاة والأثمة والمزدرى وغير الموجود.

فآدم كان محتاجًا أن يسمع صوت الله: “آدم… أين أنت؟” (تك 3: 9)، باحثًا عنه لمصادقته. كان محتاجًا لنداء الرب هذا بعد السقوط أكثر من قبل، حتى لا تبتلعه هاوية اليأس ويميته جمود الخطية.

وبطرس كان محتاجًا إلى نظرات ربنا يسوع الرقيقة بعد إنكاره له وسبه بقسمٍ، لئلا ينتحر كيهوذا.

شروط الصداقة

عندما يصادق الإنسان أحدًا يضع في اعتباره شروطًا خاصة في من يصادقه، وربنا يسوع أيضًا يطلب منا شرطًا أساسيًا على أساسه يقدم صداقته لنا، ويقبل صداقتنا له، ألا وهو أن يعرف الإنسان ذاته.

في اللحظات التي يدرك فيها الإنسان حقيقة نفسه، أنه إنسان خاطئ، وضعيف، محتاج إلى معين له، يأتي الرب ليعينه “طوبى للجياع والعطاش إلى البرّ، لأنهم يشبعون” (مت 5: 6). وفي الوقت الذي يشعر فيه الإنسان ببرِّه الذاتي وأنه أفضل من غيره، يتخلى الرب عنه.

فبقدر ما تشعر بثقل خطاياك وأحمالك ومرارتها ونجاسات قلبك وقسوته مهما بلغت، وجفاف روحك، يطلبك كصديقٍ، لا لكي يذلك أو يعاتبك، إنما ليشفي جراحاتك، “حيث كثرت الخطية ازدادت النعمة جدًا” (رو 5: 20).

عندما يشتد المرض عليك تحن أحشاء ربنا يسوع عليك، ويسعى هو بنفسه إليك، ويبحث عنك، لأنه يعلم أن الخطية قد أسكرت قلبك وانحرفت بعواطفك، وأفقدتك اتزان عقلك. أنه يطلبك حينما تدرك احتياجك إليه، ولو كان ذلك أثناء ارتكاب الخطية في ابشع صورها. لأنه يعرف أنه يقدر أن ينزل إليك ليرفعك إليه، أما أنت فما تقدر أن ترتفع بذاتك إليه.

لست بهذا أقول اسقط في الخطية لتحن أحشاء الرب عليك، إنما اطلب من الرب أن يكشف لك خطاياك، ويمرّرها في فمك، حتى تصرخ إليه من أعماق قلبك: “من الأعماق صرخت إليك يا رب فاستجبت لي”. أصرخ إليه: “توبني يا رب فأتوب. أشفني يا رب فأشفى”. فقد علمنا: “إني أريد رحمة لا ذبيحة. لأني لم آت لأدعو أبرارًا، بل خطاة إلى التوبة” (مت 9: 13).

لكن، خف على نفسك جداً، إن كان قلبك فريسيًا، تحسب نفسك أفضل من غيرك، إذا تكون قد شعرت بالاكتفاء، وأوقفت عمل النعمة فيك. ولو كان لك صورة القداسة والبرّ ولو كنت راهبًا متوحدًا أو خادمًا لك صورة الجهاد.

يسوع في صداقته معك

1. يعكس جماله علينا

 عندما تصادق إنسانًا سرعان ما تكتشف أخطاءه، أما ربنا يسوع فسرعان ما يعلن لك عن جمال خاص فيك أنت لم تعلمه.

ففي صداقته مع المرأة السامرية الزانية، لم يجرح مشاعرها بدعوتها زانية، بل قال لها: “أذهبي وأدعي زوجك” (يو 4: 16). ولما اعترفت بحقيقة وضعها رأى فيها فضيلة الصدق: “حسنًا قلت ليس لي زوج” (يو 4: 17).

وفي لقائه مع المرأة الزانية، لم يمنعها من تقبيل قدميه، تلك التي أنف سمعان الفريسي أن تدخل بيته، ولو في حضرة ربنا يسوع. أما يسوع فدخل في قلبها، ورأى فيه حبًا، “قد غُفرت خطاياها الكثيرة، لأنها أحبت كثيرًا” (لو 7: 47).

والعشار الذي يستنكف الكل من زيارته، زاره الرب في بيته ورأى في قلبه اشتياقًا للخير.

واللص الذي أراد المجتمع أن يتخلص منه على الصليب، فتح الرب له أبواب فردوسه، ورأى فيه إيمانًا يفوق إيمان الكل.

يا له من صديق!! وأي صديق، يقبل إليه الخطاة الذين شعروا بخطيتهم ليصنع معهم بديلاً، يحمل نجاساتهم وخطاياهم في جسده على الصليب ويعطيهم برّه وقداسته، “لأن المسيح إذ كنا بعد ضعفاء مات في الوقت المعين لأجل الفجار” (رو 5: 6). “فإنكم تعرفون نعمة ربنا يسوع المسيح أنه من أجلكم افتقر وهو غني، لكي تستغنوا أنتم بفقره (2 كو 8: 9).

فأنت كإنسانٍ، كيف تقدر أن تسلك في حياة القداسة، أو هل تستطيع أن تنفذ وصاياه الصعبة: محبة الأعداء، عدم الغضب باطلاً، محبة الجميع الخ. إنها وصايا صعبة، بل ومستحيلة بالنسبة للطبيعة البشرية. لكن ربنا يسوع في صداقته معك يعطيك إمكانية جديدة. يهبك ذاته فيك ليعمل هو، وينفذ هو، فتصير الوصية الصعبة أو المستحيلة موضع لذة لك.

فالنفس البشرية في ضعفها خجلت منه قائلة: “أنا سوداء… بنو أمي غضبوا عليّ” (نش 1: 5، 6). أي يا رب أنت تعلم ضعف بشريتي، اسأل كل من هم حولي فإنهم يعلمون شري. أما هو فيناجيها بعد لقائها معه وانعكاس جماله عليها قائلاً: “ها أنتِ جميلة يا حبيبتي. ها أنتِ جميلة. عيناك حمامتان” (نش 1: 15).

أخي، لا تخف، بل افتح أبواب قلبك لربنا يسوع، وأتركه يعمل فيك، دون أي تهاون من جانبك، إذ لا يعمل في الكسالى.

يسوع في هذه اللحظة يبحث عنك ويجري وراءك، يريد مصادقتك ليعكس جماله عليك “صوت حبيبي هوذا آت ظافرًا على الجبال قافزًا على التلال… هوذا واقف وراء حائطنا، يتطلع من الكوى، يوصوص من الشبابيك. أجاب حبيبي، وقال لي: قومي يا حبيبتي يا جميلتي وتعالي… يا حمامتي في محاجئ الصخر، في ستر المعاقل. أسمعيني صوتك، لأن صوتك لطيف، ووجهك جميل” (نش 2: 8-14).

وعندما ترفض أن تفتح، يلاطفها، مظهرًا احتياجه وعشقه لها، لعل أحشائها تحن وتقبله. ” قد سبيتي قلبي يا أختي العروس. قد سبيتي قلبي، بإحدى عينيك، بقلادة واحدة من عنقك. ما أحسن حبك يا أختي العروس. كم محبتك أطيب من الخمر، وكم رائحة أدهانك أطيب من كل الأطياب. شفتاك يا عروسي تقطران شهدًا. تحت لسانك عسل ولبن ورائحة ثيابك كرائحة لبنان. أختي العروس جنة مغلقة، عين مقفلة، ينبوع مختوم” (نش 4: 9-12).

وإذ تصرّ النفس على عدم قبول الرب يكشف لها أعماق حبه لها. إنه احتمل آلام الصليب من أجلها، وأسلم ذاته لأجلها (أف 5: 25، يو 15: 13). أخذ أسقامها، وحمل أمراضها (مـت 8: 17)، قائلاً لها: “افتحي لي يا أختي يا حبيبتي يا حمامتي يا كاملتي، لأن رأسي امتلأ من الطل، وقصصي من ندى الليل… حبيبي مد يده من الكوة، فأنّت عليه أحشائي” (نش 5: 2-4). فتأملها في محبة ربنا يسوع لها، وقبول الصليب من أجلها، كفيل أن يحنن قلبها مهما كان متحجرًا لتفتح له وتلتقي به.

2. تناجيه ويناجيها

 وإذ تلتقي معه يكشف لها أسراره، وتكشف له أسرارها غير المخفية عنه. إنه يجد لذة في أن يسمع صوتها تناجيه، لأنه صوت ابنته، يريد أن يسمعها تحدثه عن أتعابها وهمومها وضعفاتها وأفراحها وتشكره على عمله معها. وما هو ألذ، يسمعها تناجيه، أنها تحبه وتعشقه، ولا تريد في قلبها آخر سواه. وأحيانًا تقف النفس في صمتٍ أمام عريسها. إنها تتحدث بلغة الفرح غير المنطوق به، والتهليل الذي لا تترجمه لغة من لغات العالم. إنها لحظات سعيدة تمتلئ فيها النفس من حب الله، فينمو حبها له أكثر. وعندئذ يكشف لها أعماق حلاوة لاهوته وعذوبة الوجود معه ويظهر لها ذاته (يو14: 21)، تتحول العبادة إلى لذة وفرح بالرغم مما فيها من آلام أو مضايقات أو أتعاب.

أعزائي… ربنا يسوع يريد صداقتنا، قائلاً: “لا أعود أُسميكم عبيدًا، لأن العبد لا يعلم ما يعمل سيده. لكن قد سميتكم أحباء، لأني أعلمتكم بكل ما سمعته من أبي” (يو 15: 15). إنه يفرح حين يجدنا، بل ويطلب من السمائيين أن يفرحوا معه: “افرحوا معي لأني وجدت خروفي الضال”. (لو 15). إنه يشتاق إلينا، ويريد أن يحفظنا، حتى لا يهلك أحد منا (يو 17: 12؛ 6: 37). لكننا كثيرًا ما نبخل عليه، بل نبخل علي نفوسنا بالوقفة الهادئة أو الجلسة السرية بعيدًا عن العالم ومشاكله وأتعابه وملذاته ومباهجه، لنلتقي مع صديقنا ربنا يسوع. كثيرًا ما نبكم ألسنتنا عن أن تردد اسمه، أو قلوبنا عن أن تناديه في أي مكان ما.

يسوع يطلب خيرك

يسوع في حبه لأصدقائه، يحب بلا حدود، ولا عتاب ولا يعود يذكر لنا الخطية التي ندمنا عنها. لكنه كأبٍ محبٍ يطلب خيرنا، فكثيرًا ما يسمح بتأديبنا، لا انتقامًا بل حبًا. “إني كل من أحبه أوبخه وأؤدبه، فكن غيورًا وتب” (رؤ 3: 19).

إنه قد سدد الدين على الصليب، لكن يؤدب لكي يزكي إيمان أولاده، أو يمرر الخطية في أفواههم، أو لكي يشعروا بغربتهم في هذه الحياة أو لسبب آخر.

فهو كنورٍ لا يضيره شيئًا أن رفضناه وأحببنا الظلمة أكثر منه، لكنه كأبٍ يؤدبنا إشفاقًا علينا، وفي تأديبه أيضًا لا يحرمنا من عطفه: “شماله (أي يد التأديب) تحت رأسي، ويمينه تعانقني” (نش 2: 6).

بلا شك أمثال هذه المشاعر وأكثر منها، قد ملأت قلب القديس أمبروسيوس، مختبرًا حب الله للخطاة، وطول أناته على الأشرار، ورغبته الأكيدة في الوصول بكل نفسٍ إلى العشرة معه والحياة به وفيه، فسجل لنا هذه المشاعر بقدر ما استطاع قلمه أن يعبر في هذين الكتابين.

إنهما رسالتان عن التوبة، الأولي وجهها القديس أمبروسيوس إلى أتباع نوفاتيوس الذين رفضوا قبول توبة الذين أنكروا الإيمان نتيجة الخوف من العذابات أو غيرهم ممن ارتكبوا خطايا لا تقبل التوبة عنها في نظرهم، وهي رسالة تكشف لنا جميعًا عن مقدار حب الله للخطاة، وفتحه أبواب الرجاء بلا حدود، وسهولة طريق التوبة والرجوع إلى الله.

والثانية وجهها إلينا نحن الخطاة لئلا نستهين بمراحم الله، ونحول الرجاء في التوبة إلى فرصة للتراخي والتأجيل.

وقد ترجمتهما من مجموعة آباء نيقية بعد ترك بعض الفقرات والفصول راجيًا من الرب بركة لكل من يقرأها.

أخيرًا، من أجل المحبة أذكر ضعفي في صلواتك.

رسالتان إلى آباء الكنيسة وأبنائها
عن
التوبة

الترجمة الأصلية للعنوان “التوبة Repentance”. هذا العنوان “ترفقوا بالخطاة!” وبقية العناوين والتبويب من وضع المترجم.

القس تادرس يعقوب ملطي

الإسكندرية في أبريل 1968

هذا الكتاب من ترجمة الكنيسة القبطية: وهذا يعني أن ليس كل ما جاء في تعليقات المترجم أو المعد نتفق معه وأحياناً نختلف معه. فالرجاء تنبيهنا في حال وجود شيء من هذا القبيل أو غير مفهوم… ولقراءة النص باللغة الإنجليزية، الرجاء اضغط هنا

الكتاب الأول: ترفقوا بالخطاة!

كونوا لطفاء

احملوا أثقال الخطاة!!

تسعى الفضيلة نحو تقدم الغالبية، لهذا فاللطف هو أحب الفضائل. لأن اللطف لا يمكن أن يؤدي بمن يرشده إلى أي ضرر، بل غالبًا ما يؤهله لنوال الغفران. هذا واللطف هو الفضيلة الوحيدة التي تسعي نحو نمو الكنيسة، الأمر الذي يطلبه الرب ثمنًا لدمه.

اللطف هو اقتداء بحنان السماء نحو البشر، يهدف نحو خلاص الجميع، باحثًا عن هذه الغاية بوسيلة تحتملها آذان البشر، دون أن تخور قلوبهم أو تيأس نفوسهم.

فمن أُلقي على عاتقه إصلاح الضعفات البشرية، عليه أن يحتملها ولا يلقي بها عنه، حتى وإن أثقلت كتفيه، فالكتاب المقدس يذكر عن الراعي أنه يحمل الخروف الضال ولا يلقيه عنه… لأنه كيف يتقدم إليك من تزدري به، هذا الذي سيجد نفسه موضع تبكيت طبيبه. بدلاً من أن يكون موضع عطفه؟!

يسوع يتلطف بنا

تحنن يسوع علينا حتى لا يخيفنا منه بل يدعونا إليه. جاء في وداعة، في تواضع… وبهذا قال: ” تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم” (مت 11: 28). وبهذا أنعشنا الرب ولم يغلق علينا أو يطردنا.

وفي اختياره للتلاميذ، اختار من يترجمون إرادته، فيجمعون شعب الله دون أن يشتتوه. فالذين يجرون وراء آراء قاسية متعجرفة، ولا يكونون لطفاء وودعاء لا يُحسبون من تلاميذ الرب. هؤلاء الذين بينما يطلبون لأنفسهم مراحم الله ينكرونها بالنسبة لغيرهم. هؤلاء أمثال معلمي بدعة نوفاتيوس، الذين يحسبون أنفسهم أبرارًا.

تلطفوا… فكلنا خطاة

أي كبرياء أشر من هذا؟! إن كان الكتاب المقدس يشهد بأنه ليس أحد طاهرًا من دنسٍ ولو كان مولود يوم واحد. وداود النبي يصرخ قائلاً: “اغسلني كثيرًا من إثمي” (مز 50: 2). فهل يوجد أقدس من داود الذي جاء السيد المسيح متجسدًا من عائلته فمن نسله جاءت العذراء، السماء الإلهية، التي حملت المخلص في رحم بتوليتها؟!

أي قسوة أشر من أن يعاقبوا الآخرين بلا هوادة، ويرفضوا الغفران لمن يحثونهم لقبول التأديب والتوبة؟!

ترفقوا… حتى بمنكريّ الإيمان!!

في رفضهم عصيان لوصايا الله

يقولون إنه يجب ألاَّ نقبل منكري الإيمان في الجماعة مرة أخرى، إذ دنسوا المقدسات، الأمر الذي يستثنيهم من نوال الغفران. وبالتالي يجب أن نقسو عليهم.

إنهم بهذا الزعم ينقضون الوحي الإلهي، متمسكين بتعاليم خاصة، لأن الرب إذ غفر الخطايا لم يستثنِ منها شيئًا.

لقد حسبوا بعلمهم هذا أنهم يعطون الرب مهابة عظيمة… لكن الحقيقة أنه لن يوجد من يسيء إلى الله مثلهم، إذ أساءوا إلى وصاياه، وازدروا بوظيفتهم (ككهنة لله). لأنه إذ قال الرب يسوع نفسه في الإنجيل: “اقبلوا الروح القدس. من غفرتم خطاياه تغفر له. ومن أمسكتم خطاياه أمسكت” (لو 20: 22، 23)، لذلك فمن يكرم الرب يطيع هذه الوصية ولا يعصاها.

عمل الكنيسة أن تحل

تستند الكنيسة في طاعتها لهذه الوصية على كلا جانبيها، الربط والحل. أما هرطقة نوفاتيوس فهي من جهة قاسية على الخطاة، ومن جانب آخر غير مطيعة لهذه الوصية. إذ تريد أن تربط ولا تحل ما تربطه. وهي بهذا تحكم على نفسها بنفسها، لأن الرب يريد تساوي السلطانين وتقديسهما بطريقة متشابهة، فمن ليس له سلطان للحل، يكون بلا سلطان للربط أيضًا. أما من يكون له سلطان الربط، فيكون له سلطان الحل أيضًا كقول الرب.

بهذا حكموا على فساد تعليمهم، إذ بإنكارهم سلطان الحل أنكروا سلطانهم للربط أيضًا…

ماذا أقول أيضًا عن عجرفتهم المتزايدة؟! فإن إرادتهم تناقض روح الرب الذي يميل إلى الرحمة لا إلى القسوة… إنهم يفعلون ما لا يريده. لأنه وهو الديان ومن حقه أن يعاقب، نجده برحمته يعفو…!

الكنيسة تحل جميع الخطايا

يقولون أنه باستثناء الخطايا الكبيرة، تعطي حلاً عن الخطايا الصغيرة…

الله لم يصنع مثل هذا التمييز، بل وعد بمراحمه للجميع، واهبًا كهنته سلطانًا أن يحلوا جميع الخطايا بلا استثناء… فأي ضلال هذا، أن تدعوا لأنفسكم ما يمكن أن تحلَّوه من الخطايا، ناسبين إلى الرب الخطايا التي لا تُحل. بهذا تنسبون لأنفسكم الرحمة وللرب القسوة…!

إنه يجب أن نعرف أن الله إله رحمة، يميل إلى العفو لا إلى القسوة. لذلك قيل: “أريد رحمة لا ذبيحة” (هو 6: 6)، فكيف يقبل الله تقدماتكم يا من تنكرون الرحمة، وقد قيل عن الله إنه لا يشاء موت الخاطئ مثل أن يرجع (حز 18: 32)؟!

وتفسيرًا لهذه الحقيقة يقول الرسول: “فالله إذ أرسل ابنه في شبه جسد الخطية ولأجل الخطية دان الخطية في الجسد، لكي يتم حكم الناموس فينا” (رو 8: 3، 4)…

يسوع يفتح أبواب الرجاء

إن كان حديثنا السابق يكشف عن ميل الرب يسوع إلى الرحمة فلنتركه الآن يحدثنا بنفسه… فإنه عندما قال: “فكل من يعترف بي قدام الناس أعترف أنا أيضًا به قدام أبى الذي في السماوات” (مت 10: 32، 33).

عندما تكلم عن المعترفين به قال: “كل من” أما عند حديثه عن حالة الإنكار فلم يذكر كلمة “كل”… ففي حالة الجزاء المفيد وعد به جميع المعترفين به، أما عند العقاب فلم يهدد الكل…

هذا لم يكتبه إنجيل ربنا يسوع المسيح الذي لم يسجله “متى” فقط، بل وسجله “لوقا” أيضًا (12: 8، 9) حتى نتأكد أن ما كُتب لم يكن بمحض الصدفة…

لنتأمل الآن معنى قوله “كل من يعترف بي قدام الناس”. إنه يقصد من يعترف به أيّا كان عمره، وأيّا كان حالة، دون أي استثناء. أما في الإنكار فلم تذكر عبارة مشابهة…

يقول داود النبي: “هل إلى الدهور يرفض الرب؟!… هل انتهت إلى الأبد رحمته؟!… هل نسى الله رأفته أو نزع برجزه مراحمه؟!” (مز 77: 7-9). هذا هو ما يعلنه لنا النبي بينما يصر أولئك عن إنكار مراحم الله!

ضمّدوا جراحاته

أتغلقون الباب في وجوه هؤلاء الخطاة؟!… لأنه ماذا يعني رفضكم لقبول توبتهم سوى إغلاق الباب في وجوههم؟!

لم يعبرّ السامري الصالح تاركًا الإنسان الذي ألقاه اللصوص بين حي وميت، بل ضمد جراحاته بزيت وخمر. صب عليه أولاً زيتًا لتلطيف آلامه. وأنكأه على صدره، أي احتمل كل خطاياه.

هكذا لم يحتقر يسوع الراعي خروفه الضال.

لكنك تقول إن هذا الإنسان الخاطئ ليس لي علاقة به.

يا من تريد أن تبرر نفسك قائلاً بأنه ليس بقريبك. إنك بهذا صرت متكبرًا أكثر من الفريسي الذي أراد أن يجرب السيد المسيح قائلاً: “من هو قريبي؟”

سأل الفريسي من هو قريبه، وأما أنت فتنكر قرابته لك، عابرًا بالمجروح بلا مبالاة، مثلك في هذا مثل الكاهن واللاوي مع أنه كان يلزمك ألاََّ تتركه، بل تأخذه وتتعطف عليه، وتودعه الفندق (الكنيسة) حيث يدفع السيد المسيح الدينارين عنه. هذا قد ألزمك به السيد المسيح قريبه…

لقد جعلت من نفسك إنسانًا غريبًا عنه بكبريائك. انتفخت عليه باطلاً، من قبل ذهنك الجسدي وعدم تمسكك بالمسيح الرأس (كو 2: 18، 19). لأنك لو كنت قد تمسكت بالرأس، لما كنت تترك ذاك الذي مات المسيح عنه لو كنت قد تمسكت بالرأس لاهتممت بالجسد كله، واهتممت بالارتباط بين الأعضاء بدون انقسام، متمتعًا بالنمو من الله (كو 2: 19) برباط المحبة وإنقاذ الخطاة.

إنك عندما ترفض قبول التوبة، إنما بذلك تقول: “لن يدخل في فندقنا مجروح، ولا يُشفى أحد في كنيستنا. إننا لا نهتم بالمرضى. فنحن كلنا أصحاء، ولسنا في حاجة إلى طبيب، لأنه هو نفسه قال ولا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى”!

لا تثقلوا النير

تعال أيها الرب يسوع إلى كنيستك، فإن هؤلاء (أتباع نوفاتيوس) يصنعون تمييزًا. فيقول كل واحدٍ منهم بأنه قد أحضر لغيره نير ثورٍ، بدلاً من أن يضع عليه نير السيد المسيح الهين. إانه يلقي عليهم بالنير الثقيل، الذي هو نفسه لا يحتمله. وبذلك يتباعد بشره عن خدامك الحقيقيين، معاملاً الغير بازدراء، بل ويقتلهم. إذن فلترسل يا رب إلي شوارع المدينة ولتجمع الصالح والطالح، مدخلاً إلى كنيستك الضعفاء والعمي والعرج (لو 14: 21).

مُرّ يا رب أن يمتلئ بيتك، محضرًا إياهم (الخطاة) إلى وليمتك، لأنك أنت تخلق (روحيًا) من يتبعك عندما تدعوه…

يا رب، إن كنيستك لم تعتذر عن الحضور إلى وليمتك، لكن هؤلاء الخدام (أتباع نوفاتيوس) هم الذين يميزون بين من يدخل ومن لا يدخل.

إن عائلتك لم تقل: “إنني من الأصحاء وغير محتاجة إلى طبيب” بل تقول: “اشفني يا رب فأشفى، خلصني فأخلص” (إر 17: 14). إن شبيهة كنيستك هي تلك المرأة التي جاءت من ورائك ولمست هدب ثوبك، قائلة في نفسها: “إن مسست ثوبه فقط شفيت” (مت 9: 21).

هكذا تعترف الكنيسة بجراحاتها لكنها ترغب في الشفاء.

وأنت حقًا أيها الرب تريد أن الكل يشفون، وإن لم يرد الكل الشفاء.

إن أتباع نوفاتيوس لا يريدون هذا، إذ يحسبون أنفسهم أصحاء.

إنك أيها الرب تعلن بأنك مريض (في أولادك)، إذ تشعر بمرض أقل شخص فيهم، قائلاً: “كنت مريضًا فزرتموني” (مت 25: 36). أما هم فيرفضون زيارتك، عندما يرفضون زيارة أشر الخطاة.

لقد قلت لبطرس عندما أراد أن يستثني نفسه من غسل قدميه: “إن كنت لا أغسلك فليس لك معي نصيب” (يو 13: 8)…

إنهم في شرهم ينكرون إمكانية الحل من الخطية حتى في داخل الكنيسة، مع أنك قلت لبطرس: “أعطيك مفاتيح ملكوت السماوات. فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطًا في السماوات. وكل ما تحله على الأرض يكون محلولاً في السماوات” (مت 16: 9). وإناء الله المختار نفسه يقول: “والذي تسامحونه بشيء فأنا أيضًا. لأني أنا سامحت به، إن كنت قد سامحت بشيءٍ، فمن أجلكم بحضرة المسيح” (2 كو 2: 10).

فلماذا يقرأون كتابات الرسول بولس، إن كانوا يحسبونه في هذا قد ضل مدعيًا لنفسه حقًا هو لربه؟! لكنه نسب لنفسه ما قد أُعطي له. إنه لم يغتصب سلطانًا لم يُعط له.

أضرموا موهبة الحل

إرادة الرب أن يكون للتلاميذ سلطان. إرادته أن يصنعوا باسمه ما كان يفعله وهو على الأرض (بالجسد)، إذ قال إنهم يعملون ما يصنعه وأعظم منها (يو 14: 2، مت 10: 8)…

قصارى القول، إنه أعطاهم كل المواهب (مر 16: 17، 18)… فتعمل فيهم النعمة الإلهية ما تعجز عنه القدرة البشرية…

فهل تدعون لأنفسكم سلطان الحل بواسطة النعمة الإلهية حين تشاءون، وتزدرون بهذا السلطان حينما تشاءون؟! يا له من تجاسر وقح، وليس هو خوفًا مقدسًا، إذ تزدرون بمن يريدون التوبة؟!

لا تنتفخوا عليهم!!

أنكم بالتأكيد لا تقدرون على احتمال دموع الباكين، أو النظر إلى مسوحهم، لكن بأعينكم المتكبرة وقلوبكم المنتفخة تقولون بألسنة لاذعة: “لا تلمسني، فإنني طاهر”.

حقًا لقد قال الرب لمريم المجدلية: “لا تلمسيني” (يو 20: 17)، لكنه لم يقل لها: “لا تلمسيني لأني طاهر” مع أنه قدوس! فهل تتجاسر أنت مدعيًا الطهارة لنفسك، مع أنك حتى إن كنت طاهرًا بأعمالك، فبرفضك توبة الخطاة تكون غير طاهرٍ؟!

يقول إشعياء النبي: “ويل لي إني هلكت، لأني إنسان نجس الشفتين، وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين” (إش 6: 5). فهل تدعي لنفسك الطهارة؟!

وداود النبي يقول: “أغسلني كثيرًا من إثمي” (مز 50: 2). ذاك الذي من أجل حنان قلبه كثيرًا ما غسلته النعمة الإلهية، فهل أنت طاهر يا من ليس فيك حنو، إذ ترى القذى الذي في عين أخيك ولا تهتم بالخشبة التي في عينك؟!

عند الله، لن يكون إنسان ظالم طاهرًا. وأي ظلم أكثر من أن ترغب في غفران خطاياك، بينما تحسب أخاك الذي يتوسل إليك غير مستحق لنوال الغفران؟! أي ظلم أكثر من أن تبرر ذاتك فيما تدين فيه غيرك، بل وترتكب معاصٍ أكثر منه؟!

من يقدر أن يحتملك يا من تدعي أنك غير محتاج إلى الغسل بالتوبة، لأنك اغتسلت بالنعمة، كما لو كان يستحيل عليك الآن أن تخطئ؟!

صَلَّ لأجله

قد تقول: “مكتوب: إن أخطأ إنسان إلى الرب، فمن يصلي من أجله؟!” (1 صم 2: 25). أية صعوبة يثيرها هذا التساؤل: “من يصلي من أجله؟” طالما لم يقل: “لا يصلي أحد من أجله”، بل قال: “من يصلي من أجله؟” بمعني أنه لم ينفِ الصلاة، لكنه يتساءل عمن عنده الاستعداد للصلاة من أجله.

هذا يشبه ما جاء في المزمور الخامس عشر: “يا رب من ينزل في مسكنك، من يسكن في جبل قدسك” (مز 15: 1)، فهو لا يقصد انعدام من ينزل في مسكن الرب أو السكنى في جبل قدسه، لكنه يتساءل عمن يستحق هذا… أو من يُختار لهذا…

بنفس الطريقة يجب أن نفهم العبارة “فمن يصلي من أجله؟!” أي أنه ينبغي أن يوجد أُناس في سموٍ روحيٍ يصلون لأجل المسيئين في حق الرب. وبمقدار جسامة الخطية بمقدار احتياجهم إلى الصلوات.

فعندما أخطأ الشعب عابدًا العجل… لم يصلِ عنهم أي شخص من أفراد الجماعة بل موسى نفسه، فهل كان موسى مخطئًا؟! بالتأكيد لم يخطئ بصلاته من أجلهم، إذ استحق أن يطلب ونال ما طلبه. فأي حب كهذا… حتى قدم نفسه لأجل الشعب قائلاً: “والآن إن غفرت خطيتهم، وإلاَّ فامحني من كتابك الذي كتبت” (خر 32: 32).

ها نحن نراه لا يفكر في ذاته، كإنسان ملأته الأوهام والشكوك، كمن يقدم على ارتكاب معصية… إنما بالأحرى كان يفكر في الكل ناسيًا نفسه، غير خائفٍ من أن يكون بذلك عاصيًا، إنما يطلب إنقاذ الشعب من خطر العصيان.

إذن بحق قيل: “فمن يصلي من أجله؟!” بمعنى أنه يلزم وجود من هو كموسى يقدم نفسه لأجل الخطاة، أو مثل إرميا النبي، الذي بالرغم من قول الرب له: “وأنت فلا تصلِّ لأجل هذا الشعب” (إر 7: 16). إلاَّ أنه صلى من أجلهم، ونال لأجلهم الغفران. ففي وساطة نبي كهذا وصلاته تحرك الرب وقال لأورشليم التي ندمت على خطاياها قائلة: “… قد صرخت إليك النفس في المضايق والروح في الكروب، فاسمع يا رب وارحم، فإنك إله رحيم. ارحم فإننا قد أخطأنا إليك” (باروخ 3: 21). فأمرهم الرب أن ينزعوا ثياب النوح والتنهدات قائلاً: “اخلعي يا أورشليم حلة النوح والمذلة، والبسي بهاء المجد من عند الله إلى الأبد” (با 5: 1).

لا تيأس من خلاصه

قبول بلا استثناء

“هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية” (يو 3: 16)، فإن أردت إصلاح أي خاطئ أتعرّض عليه أولاً أن يؤمن أو لا يؤمن؟ إنه بلا شك يؤمن، وله بحسب مواعيد الله الحياة الأبدية. فكيف تكف عن الصلاة من أجل من تكون له الحياة الأبدية؟!…

ليته لا يخاف أحد من الهلاك، مهما كانت حالته، ومهما كان سقوطه، فسيمر عليه السامري الصالح الذي للإنجيل، ويجده نازلاً من أورشليم إلى أريحا، أي هاربًا من آلام الاستشهاد إلى التمتع بملذات العالم، مجروحًا بواسطة اللصوص أي المضطهدين[1] مطروحًا بين حي وميت.

هذا السامري الصالح الذي هو رمز للسيد المسيح، الذي هو حارس للأرواح[2]، لن يتركك إنما يتحنن عليك ويشفيك.

ترفق بالكل

لم يترك السامري الصالح الملقى بين حي وميت، لأنه رأى فيه نسمات حياة، فترجى شفاءه.

أما يبدو لك أن الإنسان الساقط في الخطية، بين حي وميت يستطيع الإيمان أن يجد فيه نسمة حياة؟!

إن كان الساقط بين حي وميت، صب عليه زيتًا وخمرًا، لا تصب خمرًا بلا زيتٍ، حتى تكون له راحة مع آلام التطهير. أتكئه على صدرك، قدمه لصاحب الفندق وادفع الدينارين لأجل شفائه، وكن له قريبًا! ولن تكون له قريبًا، ما لم تتعطف عليه، لأن القريب هو الذي يشفي ولا يقتل. فإن أردت أن تكون له قريبًا، يوصيك السيد المسيح قائلاً: “اذهب أنت أيضًا وأصنع هكذا” (لو 10: 37).

حبه ولا تدنه!!

الديان لم يدنه بعد

… “الذي يؤمن بالابن له حياة أبدية. والذي لا يؤمن بالابن لن يرى حياة، بل يمكث عليه غضب الله” (يو 3: 36). هذا الغضب يمكث على من يعصي، أي من لا يؤمن. لكنه متى آمن – أي إنسان كان – فسيرحل عنه الغضب وتحل به الحياة…

 إن كان الله لا يدينه، فهل أنت تدينه؟‍!

لقد قال بأن من يؤمن به لا يبقى في الظلمة. بمعني أنه قبل الإيمان كان في الظلمة، لكنه بعد الإيمان لا يعود بعد فيها، بل تُصلح أخطاؤه ويحفظ وصايا الرب الذي قال: “إني لا أسر بموت الشرير، بل بأن يرجع الشرير عن طريقه ويحيا” (حز 33: 11). وكأن الرب يقول: “لقد سبق أن قلت أن من يؤمن بي لا يدان. وأنا أحفظ له هذا، لأني لم آتِ لأدين العالم بل لأخلصه” (يو 12: 47). إنني عن طيب خاطر أغفر له، وبسرعة أسامحه… “إني أريد رحمة لا ذبيحة” (هو 6: 6)… “لأني لم آتِ لأدعو أبرارًا بل خطاة إلى التوبة” (مت 9: 13).

ومرة أخرى يقول الرب: “من رذلني ولم يقبل كلامي فله من يدينه” (يو 12: 48)… فالذي رجع عن طريقه يكون قد قبل كلامه، لأن هذا هو كلامه أن يعود الكل عن الخطية. وبذلك فإنكم بإدانته تكونون قد ازدريتم بكلام المسيح هذا، وإلاَّ فاقبلوا الخطاة…

حقًا يلزمهم أن ينتفضوا من الخطية، ويحفظوا وصاياه مزدرين بالإثم… لكن يا لها من قسوةٍ أن نزدري بتوبة إنسانٍ لم يحفظ بعد وصايا الرب، وإنما سيحفظها. لنترك الرب نفسه يعلمنا بشأن أولئك الذين لم يحفظوا بعد وصاياه. “إن نقضوا فرائضي ولم يحفظوا وصاياي. افتقد بعصا معاصيهم، وبضربات إثمهم. أما رحمتي فلا أنزعها عنهم” (مز 89: 31-33). هكذا وعد الجميع بالرحمة.

أدبه بمحبّة

كل من يؤمن يقبله الرب، لكنه يؤدب كل ابن يقبله (عب 12: 6). وفي تأديبه له لا يسلمه للموت. لأنه مكتوب: “أدبًا أدبني الرب وإلى الموت لم يسلمني” (مز 118: 18).

بولس يؤدب بوداعة

يعلمنا بولس الرسول ألاَّ نهجر أولئك الذين ارتكبوا خطية للموت، إنما نلزمهم بخبز الدموع (التي للتوبة)، لكن ليكن حزنهم معتدلاً. وهذا هو ما تعنيه عبارة “سقيتهم الدموع بالكيل” (مز130: 5). فحزنهم يجب أن يكون بكيلٍ، لئلا يبتلع التائب من فرط الحزن. وذلك كما قال لأهل كورنثوس: “ماذا تريدون، أبعصا آتي إليكم، أم بالمحبة وروح الوداعة؟!” (1 كو 4: 21). إنه يستخدم العصا، لكن بغير قسوةٍ إذ قيل: “تضربه أنت بعصا فتنقذ نفسه من الهاوية” (1 مل 23: 14).

وماذا يقصد الرسول بالعصا، ظهر عند طعنه ضد خطية الزنا (1 كو 5: 1)، منذرًا ضد الفسق بالأقرباء المحرم الزواج بهم، معنفًا كبريائهم، إذ تكبر هؤلاء الذين كان يلزمهم أن يحزنوا. وأخيرًا في حديثة عن المذنب أمر بعزله عن الجماعة وتسليمه للشيطان، ليس لأجل هلاك نفسه بل لهلاك جسده.

الله يؤدب أيوب

يقتدي بولس في هذا بالله الذي لم يعطِ للشيطان سلطانًا على روح أيوب الطوباوي، بل سمح له بإبلاء جسده (أي 2: 6). فبولس سلم الخاطئ إلى الشيطان لهلاك الجسد، حتى تلحس الحية تراب جسده (ميخا 7: 17) أما روحه فلا تضرها…

وإذا أردنا أن نشرح ما يعنيه بولس الرسول، نتأمل كلماته ذاتها، بأي معني قال أن يسلمه إلى الشيطان لهلاك الجسد، لأن الشيطان هو الذي يجربنا، إذ يجلب عللاً وأمراضًا لأجسادنا.

فالشيطان ضرب الطوباوي أيوب بقروحٍ مريرةٍ من القدم إلى الرأس، لأنه نال سلطانًا لهلاك جسده، عندما قال له الرب: “ها هو في يدك، ولكن أحفظ نفسه” (أي 2: 6). هذا أيضًا ما أخذ به الرسول بنفس الكلمات، مسلمًا الزاني إلى الشيطان لهلاك الجسد، لكي تخلص روحه في يوم الرب يسوع (1 كو 5: 5).

عظيم هو هذا السلطان! وعظيمة هي هذه العطية، التي بها يأمر الشيطان أن يهلك ذاته.

فالشيطان يهلك ذاته بذاته، وذلك بحثه على تجربة الإنسان إذ يجعله بذاته قويًا بالروح بدلاً من أن يكون ضعيفًا، فإذ يضعف جسده تقوى روحه، لأن ضعف الجسد يقاوم الخطية، أما تنعمه فيشعل نار الخطية.

يُخدع الشيطان إذ يجرح نفسه بذات لدغته، ويُحصن ذاك الذي يظن أنه يضعفه، يحصنه ضده. فقد حُصن القديس أيوب بالأكثر عندما جرحه، ذاك الذي غطى كل جسمه بالقروح، فاحتمل لدغات الشيطان ولم يؤثر فيه سمه. لذلك حسنًا قيل له: “تصطاد التنين بشصٍ، وتلعب به كطائرٍ. تربطه كما يفعل صبى بعصفور، وتضع يدك عليه” (أي 1:41، 5، 8 LXX).

أنتم ترون كيف سخر به بولس، كصبي كما ورد في النبوة، وضع يده على حفرة الثعبان، ولم تؤذِه الحية. لقد سحبه من موضعه الخفي وجعل من سمه دواءً، فصار السم لتحطيم الجسم ودواءً لشفاء الروح. فما يؤذى الجسم يفيد الروح (1 كو 5:5).

إذًا، لأَترك الحية تضرب ما هو أرضي في (جسدي)، أتركها تعض جسدي وتُسبب ازرقاقًا فيه، فسيقول الرب عني: “ها هو في يدك، ولكن أحفظ نفسه” (أي 2: 6).

يا لقدرة الله!! أنه يسلم حفظ نفس الإنسان في يد الشيطان الذي يريد هلاكه!!… فبوصايا السيد جعل الشيطان حافظًا لغنمه، فبغير إرادته صار ينفذ وصايا السماء، وبقسوته يطيع وصايا الوداعة!

عصا مع ترفق

بولس المعلم المؤمن وعد بأمر له جانبان:

جاء بعصا، إذ فصل المذنب عن الجماعة المقدسة. وحسنًا قال بأن يُسلم إلى الشيطان (1 كو 5: 5)، ذاك الذي انفصل عن جسد المسيح.

لكنه جاء بالمحبة وروح الوداعة، وذلك بتسليمه هكذا لأجل خلاص نفسه، ولأنه أعاده مرة أخرى إلى المقدسات التي حرمه منها.

يلزم فرز من سقط سقطة خطيرة، لئلا تُفسد خميرة صغيرة العجين كله، وحتى يمكن تنقية الخميرة العتيقة أو الإنسان العتيق في كل إنسانٍ، أي الإنسان الخارجي وأعماله، هذا الذي نما بين الناس عتيقًا في الخطية، وتأصل في الرذيلة.

حسنًا قال: “إذًا نقوا منكم” (1 كو 5: 7)، ولم يقل “اطردوا عنكم”. لأن عملية التنقية لا تعني عدم فائدته كلية، إنما إزالة ما هو مزدرى فيه…

وحسنًا قال “إذًا نقوا منكم”… أي تقوم الجماعة بعمل ما من أجل التنقية، فيغتسل هذا بواسطة دموع الجماعة عليه، ويخلص بسبب نحيبهم عليه…

هذا ما يعنيه الرسول بكلماته الغامضة… “إذًا نقوا منكم الخميرة العتيقة لكي تكونوا عجينًا جديدًا كما أنتم فطير” (1 كو 5: 7). أي أن تحمل الكنيسة أثقال الخاطي بنحيب وصلوات في ألم.

من أي روح أنتم؟!

غفر الرسل الخطايا، فبأي سلطان تحرمون البعض من الغفران؟ من الذي يكرم الله أكثر: بولس أم أتباع نوفانيوس؟! كان بولس يعلم أن الله رحيم، وأن الرب يسوع كان يعارض تهور التلاميذ.

انتهر يسوع يعقوب ويوحنا عندما تحدثا طالبين إرسال نار من السماء تهلك أولئك الذين لم يقبلوا الرب، قائلاً لهما: “لستما تعلمان من أي روح أنتما. لأن ابن الإنسان لم يأتِ ليهلك أنفس الناس بل ليخلص” (لو 9: 55، 56).

حقًا قال لهما: “لستما تعلمان من أي روح أنتما”… أما أنتم فيقول لكم: “أنكم لستم من روحي، لأنكم لا تحملون حناني، مزدرين بمراحمي، رافضين توبة من أريد أن أبشرهم بواسطة الرسل باسمي”.

باطلاً تكرزون بالتوبة وأنتم رافضون ثمارها. لأنه من يقوم بعمل دون أن يشجعه بجزاء أو نتيجة؟!

إذًا، إن كان أحد قد ارتكب خطايا (تحسبونها خفيفة)، ولم يقدم عنها توبة جادة فكيف ينال جزاء، ما لم تصلحه جماعة الكنيسة (بحثِّهِ على التوبة)؟!

حقًا، إنني أريد من الخطاة أن يترجوا المغفرة، وأن يطلبوها بدموع وتنهدات، مستشفعين بدموع الشعب كله وتوسلاتهم من أجل غفران خطاياهم. وإن تأجلت اعادتهم إلى الشركة فترة أو فترتين (للتأديب)… فليزيدوا من دموعهم، وليأتوا في ندمٍ عميقٍ… فيقول لهم الرب: “قد غفرت خطاياكم الكثيرة، لأنكم أحببتم كثيرًا” (لو 7: 47).

لا تقسوا عليهم

لماذا نزيد من فترة تأسفهم، هؤلاء الذين يميتون أنفسهم… يقول بولس الرسول: “مثل هذا يكفيه هذا القصاص الذي من الأكثرين، حتى تكونوا بالعكس تسامحونه بالحري وتعزونه لئلا يُبتلع مثل هذا من الحزن المفرط” (2 كو 2: 6). فالعقاب (التأديب) الذي أوقعته الأكثرية عليه كان كافيًا لندامته، كذلك الوساطة التي تقدمت بها الأكثرية كانت كافية لقبوله ثانية.

هكذا، لم يعفُ الرسول عنه فحسب، بل رغب في أن يُحاط بمحبة متزايدة… أراد من الكل أن يسامحوه، وقد قال إنه سامحه لأجلهم، حتى لا تُبتلع الأكثرية أيضًا من الحزن. “والذي تسامحونه بشيء فأنا أيضًا، لأني أنا ما سامحت به إن كنت قد سامحت بشيء فمن أجلكم بحضرة المسيح. لئلا يطمع فينا الشيطان، لأننا لا نجهل أفكاره” (2 كو 10: 11).

بحق كان الرسول حذرًا من الحية التي لا يجهل خداعها، التي بسببها حزن كثيرون. إنها دائمًا تشاء ضررنا، وترغب في مراوغتنا، حتى تسبب لنا موتًا. لكن لنحذر لئلا يصير دواؤنا (التأديب) فرصة لنصرتها. لأنها تخدعنا بواسطته، بأن يُبتلع النادم من فرط الحزن، هذا الذي كان يجب علينا بعطفنا أن نعتقه.

 

الكتاب الثاني: التوبة

الرب يطلب ثمرً

أسرع… وتعال

لا تُقدم التوبة بشغفٍ فحسب، بل وبسرعة. لئلا يأتي صاحب الكرم المذكور في الإنجيل الذي زرع تينة في كرمه، ويطلب ثمرًا فلا يجد، فيقول للكرام: “أقطعها لماذا تبطل الأرض؟!” (لو 13: 7). فيقطعها ما لم يتدخل قائلاً: “يا سيد أتركها هذه السنة أيضًا حتى أنقب حولها وأضع زبلاً، فإن صنعت ثمرًا وإلاَّ ففيما بعد تقطعها” (لو 13: 8، 9).

حاجتنا إلى التسميد

 ليتنا نسمد هذا الحقل الذي لنا، متمثلين بالمزارعين المجاهدين، الذين لا يخجلون من إشباع الأرض بالسماد، ونثر الرماد القذر على الحقل حتى يجمعوا محصولاً أوفر.

وقد علمنا الرسول بولس كيف نسمد حقلنا بقوله: “إني أحسب كل شيءٍ أيضًا خسارة… لكي أربح المسيح” (في 3: 8). بصيتٍ حسنٍ أو بصيتٍ رديءٍ أدرك أن يسرّ السيد المسيح.

لقد قرأ بولس عن إبراهيم أنه اعترف بأنه ليس إلا ترابًا ورمادًا (تك 18: 27).

وقرأ عن أيوب عندما جلس في الرماد (أي 2: 8) وبذلك استعاد كل ما فقده (أي 42: 10).

وسمع على فم داود أن الله “المقيم المسكين من التراب، الرافع البائس من المزبلة” (مز 113: 7). فليتنا لا نعود بعد نخجل من الاعتراف بخطايانا للرب.

حقًا إنه من المخجل أن يعترف الإنسان بخطاياه، لكن هذا الخجل يكون أشبه بعملية الحرث للأرض، وإزالة العوسج منها، وتنقيتها من الأشواك، وبهذا نُظهر الثمار التي كانت تُحسب عدمًا.

لنتمثل إذن بهذا الذي حرث حقله باجتهاد، باحثًا عن الثمرة الأبدية. “نُشتم فنبارك. نُضطهد فنحتمل. يُفترى علينا فنعظ. صرنا كأقذار العالم ووسخ كل شيء إلى الآن” (1 كو 4: 12، 13). إن حُرثت على هذا النمط، تكون قد بذرت بذورًا روحية… فإن بولس حرث هكذا حتى يُدمر في نفسه ميله للاضطهاد… وأي عطية قدمها له السيد المسيح أعظم من هذه… أن يُحدث فيه تحولاً كهذا من مُضطهد إلى معلمٍ لنا؟!…

توبة مثمرة

 عرف الرسل المعمودية، حسب تعاليم السيد المسيح لهم، لكنهم نادوا أيضًا بالتوبة واعدين بالغفران وإزالة الخطايا. وذلك كما علمنا داود بقوله: “طوبى للذي غُفر أثمه وسترت خطيته. طوبى لرجلٍ لا يحسب له الرب خطية، ولا في روحه غش” (مز 32: 1، 2). لقد طوب من غفرت خطاياه بالمعمودية، وذاك الذي بالتوبة حلت الأعمال الصالحة بدل خطاياه لأن من يتوب لا يقف عند حد غسل الخطية بدموعه، بل ويغطيها بأعماله الصالحة…

الندامة… طريق التوبة

توبني فأتوب

لنغتسل بالدموع حتى يسمعنا الله عندما ننوح. كما سمع لإفرايم عند بكائه، كما هو مكتوب: “سمعًا سمعت إفرايم ينتحب” (إر 31: 18). وقد تعمد تكرار ما نطق به إفرايم في نحيبه: “أدبتني فأتأدب كعجل غير مُروض” (إر 31: 18). فالعجل لا يقدر أن يروض نفسه، إنما يهرب من مربضه… هكذا ترك إفرايم المربض تابعًا يربعام وعبد عجل…

هكذا يتوب إفرايم قائلاً: “توبني فأتوب لأنك أنت الرب إلهي لأني في نهاية سبي ندمت، وبعد تعلمي حزنت على أيام الخزي، وأخضعت نفسي لك. لأني قد تسلمت توبيخات وصرت معروفًا لي” راجع (إر 31: 19)…

إذًا فلنخضع أنفسنا لله لا للخطية. وإذ نمعن في تذكر معاصينا نخجل منها، كأمرٍ رذيلٍ ولا نفخر بها… ليصر حديثنا هكذا، إننا نحن الذين لم نكن نعرف الله قد صرنا نشهد له أمام الآخرين.

حتى يتحرك الرب بواسطة هذه الأحاديث من جانبنا ويجيبنا قائلاً: “إفرايم ابن عزيز لدي، أو ولد مُسر، لأني كلما تكلمت به أذكره بعد ذكرًا، من أجل ذلك حنت أحشائي إليه. رحمة أرحمه يقول الرب” (أر 31: 20).

وأي رحمة وعدنا بها الله؟ إنه يقول: “لأني أرويت النفس المعيبة، وملأت كل نفس ذائبة على ذلك، استيقظت ونظرت ولذّ لي نومي” (إر 31: 25، 26). ها نحن نلاحظ وعود الله للخطاة بمقدساته، إذًا فلنرجع إليه…

أذكر خطاياي بلا يأس

 لنا رب صالح يريد خلاص الكل، دعاكم على فم النبي قائلاً: “أنا الشاهد؟ حتى أنا الذي أزلت خطاياكم، ولا أعود أذكرها فهل أنتم تذكرونها؟!” أنا لا أعود أذكرها بسبب نعمتي، أما أنتم فهل تذكرونها حتى ترجعون عنها؟ تذكروها، فتغفر لكم أما إن أنتفختم كأبرار بلا خطية تزيدوها… اعترفوا بها تتبرروا لأن الاعتراف بخطاياكم في خجل يفك رباطاتها.

للنوح وقت وللفرح وقت

 هل رأيتم ماذا يطلب الله منكم. أن تتذكروا نعمته عليكم، ولا تنتفخوا كأبرار بذواتكم…

 أنكم ترون كيف جذبكم إلى الاعتراف بالخطية بوعده لكم بالغفران الكامل. فاحذروا لئلا تقاوموا وصاياه، فتسقطوا فيما سقط فيه اليهود العصاة، الذين قال لهم: “زمرنا لكم فلم ترقصوا، نحنا لكم فلم تبكوا” (لو 7: 32).

يحمل هذا القول كلمات عادية، لكنه يحوى سرًا غريبًا. لهذا فلنحذر لئلا نأخذ بالتفسير العامي. فقد يظن البعض أنه يقصد بالرقص تلك الرقصات التي للعابثين أو الخاصة بجنون المسارح، لأن مثل هذه مملوءة بشرور الصبا. لكن الرقص هنا إنما كرقصات داود أمام تابوت العهد. فكل شيء إنما وجد لأجل العبادة…

فهنا لا يتحدث الرب عن الرقص المصاحب للملذات والترف، بل الرقص الروحي. الذي فيه يسمو الإنسان بالجسد الشهواني، ولا يسمح لأعضائه أن تتنعم بالأرضيات…

بولس رقص روحيًا، إذ لأجلنا امتد إلى قدام ناسيًا ما هو وراء، ساعيًا نحو ما هو أمامه، جعالة السيد المسيح (في 2: 13، 14)…

هذا هو السر إذًا، أننا “زمرنا لكم” بأغنية العهد الجديد، فلم ترقصوا. أي لم تسمعوا بعد بأرواحكم بواسطة النعمة الإلهية.

“نحنا لكم فلم تبكوا” أي لم تندموا… عندما جاءكم يوحنا مناديًا بالتوبة بنعمة السيد المسيح. فالرب معطي النعمة، وإن كان يوحنا قد أعلنها كخادمٍ له. أما الكنيسة فتحتفظ بالاثنين، حتى تدرك النعمة دون أن تطرد عنها التوبة. فالنعمة هي عطية الرب الذي وحده يهبها، والتوبة (أيضًا عطيته) هي علاج الخاطئ.

الندامة علاج الخطاة

 لقد أدرك إرميا أن الندامة علاج عظيم، فاستخدمها لأجل أورشليم في مراثيه، وتقدم بأورشليم كتائبة عندما قال: “تبكي في الليل بكاءً، ودموعها على خديها. ليس لها معزٍ من كل محبيها… طرق صهيون نائحة” (مراثي 1: 2، 4). بل وأكثر من هذا قال: “على هذه أنا باكية، ليت عيني تسكب مياهًا لأنه قد ابتعد عني المُعزي، راد نفسي” (مراثي 1: 16). إرميا فكر أن يضيف هذه العبارة المُرة، لأنه وجد أن من يريح الحزانى قد أبعد عنه. فكيف تستطيع أن تنال راحة برفضك للتوبة رجاء الغفران؟

لكن ليت هؤلاء الذين يتوبون، يعرفون كيف يقدمون التوبة، بأية غيرة، وبأية مشاعر، وكيف تبتلع كل تفكيرهم، وتهز أحشاءهم الداخلية، وتخترق أعماق قلوبهم، إذ يقول إرميا النبي: “أنظر يا رب فإني في ضيق. أحشائي غلت، ارتد قلبي في باطني” (مراثي 1: 2)… ويقول: “شيوخ بنت صهيون يجلسون على الأرض ساكتين، يرفعون التراب على رؤوسهم، يتمنطقون بالمسوح. تحني عذارى أورشليم رؤوسهن إلى الأرض. كلت من الدموع عيناي، غلت أحشائي، انسكب على الأرض كبدي” (مراثي 2: 10، 11).

هكذا أيضًا أهل نينوى حزنوا فهربوا من هلاك مدينتهم (يونان 3: 5). يا لقوة مفعول هذا الدواء الذي للتوبة، حتى ليبدو وكأنه يغير نية الله.

فالهروب إذن بين يديك، والرب يريد أن يلاطفك. إنه يود أن يترجاه البشر، ويريد أن يطلبوا منه العون.

إن كنت وأنت إنسان تريد أن يطلب منك الآخرون العفو، فهل تظن أن الله يغفر لك دون أن تسأله المغفرة؟!

والرب نفسه بكى على أورشليم، إذ لم ترد أن تبكي على نفسها… إنه يريدنا أن نبكي لنهرب، كما جاء في الإنجيل: “يا بنات أورشليم لا تبكين عليّ، بل أبكين على أنفسكن، وعلى أولادكن” (لو 23: 28).

وداود بكى فنال من الرحمة الإلهية أن ينزع الموت عن الشعب الذي كاد أن يهلك. وعندما عرض عليه أن يختار أحد أمور ثلاثة (كتأديب له) اختار الأمر الذي فيه ينال خبرة عظمى بين يدي المراحم الإلهية.

فلماذا تكف عن البكاء على خطاياك، إن كان الله قد أمر حتى الأنبياء أن يبكوا من أجل الشعب؟!

وأخيرًا حزقيال أمر بالبكاء على أورشليم، وقد أخذ الكتاب الذي جاء في بدايته “مراث ونحيب وويل” (حز 2: 10).

إن من يبكي كثيرًا في العالم ينقذ في المستقبل، لأن “قلب الحكماء في بيت النوح، وقلب الجهال في بيت الفرح” (جا 7: 4). وقال الرب نفسه: “طوباكم أيها الباكون الآن، لأنكم ستضحكون” (لو 21:6). فلنبكِ إذًا إلى زمانٍ، فنفرح إلى الأبد. لنخف الرب وننتظره، معترفين بخطايانا، راجعين عن شرنا، حتى لا يقال لنا “ويل لي… قد باد التقي من الأرض، وليس مستقيم بين الناس” (ميخا 7: 1، 2)…

أفضح نفسك

اشتكِ نفسك

يعرف الرب كل شيء عنك، لكنه ينتظر اعترافك، لا ليعاقبك، وإنما ليغفر لك. فإرادته هي ألاّ ينتصر الشيطان عليك أو أن يلتهمك، بل باعترافك تبطل خطاياك.

اسبق المشتكي عليك، فإنك إن اشتكيت نفسك، لا تعود تخاف من مشتك. إن اعترفت بخطاياك، فانك وإن مت فستحيا. فالسيد المسيح سيأتي إلى قبرك، إن وجد بكاء عليك من مرثا العاملة، ومريم المتأملة لكلمة الرب، مثل الكنيسة التي اختارت النصيب الصالح، فإنه سيتحنن عندما يرى دموعًا كثيرة بسبب وفاتك، فيقول: “أين وضعتموه؟! (يو11: 34). بمعنى آخر سيسأل: ما هو حالك في الخطية؟… أريد أن ذاك الذي تبكونه، يحركني هو بدموعه…

سيجيبه الشعب: “تعال وأنظر” (يو 11: 34). وماذا يعنى “تعال”، سوى “تعال اغفر الخطية”؟ لتعيد له الحياة، وتقيمه من الموت، ليأتِ ملكوتك إلى الخاطئ أيضًا.

والرب يأتي ويأمر برفع الحجر الملقى على عاتق الخاطئ. إنه يمكنه بكلمة أن يرفع الحجر، لأن الجماد أيضًا شغوف نحو إطاعة وصايا السيد المسيح. كان يمكنه في صمتٍ، بسلطانه أن يعمل محركًا حجر القبر، فيزيل حجارة الشهوات عن قبور الموتى فتتفتح، لكنه أمر الرجال برفعه… بطريقة أعطانا نحن (ككهنة) سلطانًا لتخفيف أحمال الخطاة من الضغط القاسي الناتج عن جرائمهم.

إن عملنا نحن أن نرفع أثقال الخطايا (بسلطانه)، لكنه هو الذي يقيم الإنسان إلى الحياة، يقيم من القبور أولئك الذين يتحررون من القيود.

هكذا، إذ نظر الرب يسوع أحمال الخاطي الثقيلة بكى. لأنه لم يسمح للكنيسة وحدها فقط أن تبكي، بل نراه هو أيضًا يتحنن على حبيبه، ويقول للميت “هلم خارجًا” (يو 11: 43). بمعنى يا من كنت مطروحًا في ظلمة الضمير وأسر خطاياك وسجن إجرامك هلم خارجًا. أظهر خطاياك فتتبرر، لأن “الفم يعترف به للخلاص” (رو10: 10).

إن اعترفت بدعوة السيد المسيح، فان القضبان تنكسر، والقيود تذوب، حتى وإن كانت نتانة فساد جسدك خطيرة، “يا سيد قد أنتن لأن له أربعة أيام” (يو 11: 39).

فإن الميت يقوم، ويصدر الأمر أن تحل يداه من الرباطات. الذي لازال بعد في خطاياه، فأزيل الغطاء من على وجهه، هذا الذي حجب عنه حق النعمة التي نالها. فبالرغم من صدور الأمر بالغفران، لكن الأوامر كانت أن يكشف وجهه وتُعرى ملامحه. لأن من غفرت خطاياه ويعود إليها ثانية يكون له ما يخجله.

أقتد بالمرأة التائبة

اغسل قدمي الرب

 أظهر جراحاتك للطبيب فيشفيك… أزل آثار جروحك بالدموع. فإن هذا هو ما صنعته المرأة المذكورة في الإنجيل، فأزالت بذلك نتانة خطاياها. لقد غسلت خطاياها بغسلها قدمي المخلص بدموعها.

أيها الرب يسوع، فلتسمح لي أن أغسل قدميك مما أنطبع عليها بسيرك في داخلي (ولو أنهما لم يتنجسا)… ولكن من أين آتي إليك بماء الحياة الذي أغسل به قدميك! فإذ ليس لي ماء أقدم دموعًا. وإذ أغسل قدميك، إنما أثق أنني أنا نفسي أغتسل، حيث تقول لي: “خطاياه الكثيرة مغفورة له لأنه أحب كثيرًا”.

وإنني اعترف لك بأنني مديون لك كثيرًا، فقد أعطى لي الكثير حيث دعوتني إلى الكهنوت من وسط العامة… وأنا أخشى أن أوجد غير أهلٍ لذلك، فأحب أقل ذاك الذي أعطاني كثيرًا.

الدموع أفضل من الوليمة

لم يستطيع الكل أن يتساووا مع تلك المرأة، فقد فُضلت على سمعان الفريسي الذي صنع وليمة للرب، إذ أعطت درسًا للراغبين في نوال المغفرة، بتقبيلها قدمي السيد المسيح، وغسلهما بدموعها، ومسحهما بشعر رأسها وسكب الطيب عليهما.

 تقبيل قدميه كان علامة الحب… “ليقبلني بقبلات فمه” (نش 1: 2).

وإلى أي شيء يشير المسح بالشعر، إلا إلى الازدراء بكل عظمة زخارف العالم، حينما نأتي طالبين العفو، ملقين بأنفسنا على الأرض في بكاء، منطرحين على الأرض لإثارة الشفقة نحونا؟

 ونشتم في الطيب رائحة حديث صالح طيب…

داود كان ملكًا، لكنه قال: “أعوم في كل ليلة سريري، وبدموعي أذوب فراشي” (مز 6: 6). وبذلك انتفع كثيرًا، إذ من بيته اختيرت السيدة العذراء، هذه التي قدمت لنا الطفل الذي تحمله، السيد المسيح. هكذا أيضًا هذه المرأة مدحت في الإنجيل.

أطلب النعمة الإلهية

يسوع يعينك

 إن كنت عاجزًا عن الاقتداء بهذه المرأة (الخاطئة)، فإن الرب يسوع، يعرف أيضًا كيف يعين ضعفك، حين لا يوجد من يهيئ وليمة. أو يحضر لك طيبًا تقدمه إذ يعطيك ينبوع ماء حي. إنه هو بنفسه سيذهب إلى قبرك.

لتهب لي يا رب أن تأتي إلى قبري، فتسكب الدموع عليّ، حيث جفت عيناي ولم تعودا قادرتين على سكب دموعٍ كهذه من أجل معاصي. إن بكيت يا رب عليّ (كما على لعازر) فسأُنقذ… أنت تدعوني من قبر جسدي هذا، قائلاً: “هلم خارجًا”، حتى لا يعود تفكيري ينحصر في حدود جسدي هذا الضيق، بل يخرج نحو المسيح ويحيا في النور، فلا أعود أفكر في أعمال الظلمة بل في أعمال النور…

صلاة خاصة به

ناد يا رب خادمك، رغم ربطه بسلسلة الخطايا، وتقييد قدميه ويديه، فإنه الآن مدفون في قبر الأفكار والأعمال الميتة. لكن عندما تدعوني فسأقوم حرًا، وأصير أحد الجالسين في وليمتك وتفوح في بيتك رائحة طيب ذكية.

إن كنت قد وهبت لأحد أن يخلص، فانك تحافظ عليه أيضًا، فيقال عني: “أنظر! إنه لم يحضر من وسط الكنيسة، ولا تأدب منذ طفولته، بل كان هاربًا من الحكم، فجُذب من بين أباطيل العالم، ودخل في صفوف المرتلين، بدلاً من أن يكون بين المولولين، وقد ثابر في كهنوته لا بقوته الخاصة بل بنعمة المسيح، وصار جالسًا بين المدعوين في الوليمة السمائية”.

احفظ أيها الرب عملك، واحرس عطاياك التي وهبتها حتى لذاك الذي هرب منها. فإنني أعلم إنني ما كنت مستحقًا أن أدعى أسقفًا، لأنني انشغلت بهذا العالم، لكن نعمتك جعلتني على ما أنا عليه. وفي الحقيقة إنني أصغر جميع الأساقفة، وأقلهم استحقاقًا. ومع ذلك فقد تعهدت ببعض الأعمال الخاصة بكنيستك المقدسة، وسهرت على هذه الثمرة، وإذ اخترتني للكهنوت وأنا مفقود، لا تسمح بعد أن أكون مفقودًا وأنا كاهن.

إن أول عطية هي أن أعرف كيف أحزن حزنًا عميقًا مع أولئك الذين يخطئون، لأن هذه هي أعظم فضيلة. فإنه مكتوب: “لا تشمت ببني يهوذا يوم هلاكهم… ولا تنظر أنت أيضًا إلى مصيبته” (عو 12-13).

يا رب هب لي أن تكون سقطات كل إنسان أمامي، حتى أحتملها معه، ولا أنتهره في كبرياء، بل أحزن وأبكي. ففي بكائي من أجل الآخرين، أبكي على نفسي قائلاً: “هي (ثامار) أبر مني” (تك 38: 26).

لنترفق بالخطاة

 لنفرض أن فتاة قد سقطت، إذ خدعتها وجرفتها ظروف مثيرة للخطايا. حسنًا. نحن الأكبر سنًا قد نسقط أيضًا. إنه فينا نحن أيضًا ناموس الجسد يحارب ناموس أذهاننا، ويجعلنا أسرى للخطية، حتى أننا نفعل ما لا نريده (رو7: 23). قد يكون صباها عذر لها، ولكن ما هو عذري أنا؟! يجب عليها أن تتعلم، أما أنا فيلزمني أن أعلم “هي أبر مني” (تك 38: 26).

إننا قد نسب طمع الآخرين، لكن لنتأمل إن كنا لم نطمع قط. وإن كان فينا طمع أو حب للمال، فإنه أصل لكل الشرور، يعمل في أجسادنا كالأفعى المخفية في وكرها. لذلك ليقل كل منا “(ثامار) أبر مني” (تك 38: 26)…

عندما نحتد بشدة على أي إنسان، يكون ذلك العلماني أقل تهورًا مما ارتكبه الأسقف. لذلك علينا أن نتمعن في الأمر قائلين بأن ذاك الذي انتهرناه أبر منا. لأنه متى قلنا ذلك نكون قد حفظنا أنفسنا مما يقوله لنا الرب يسوع أو أحد تلاميذه: “لماذا تنظر القذى الذي في عين أخيك. وأما الخشبة التي في عينك فلا تفطن لها؟… يا مرائي أخرج أولاً الخشبة من عينك، وحينئذ تبصر جيدًا أن تخرج القذى من عين أخيك” (مت 7: 3، 5).

لذلك ليتنا لا نخجل من أن نعترف بأن خطأنا أبشع من خطأ من نرى أنه مستوجب الانتهار. لأن هذا ما صنعه يهوذا الذي وبخ ثامار، فإذ تذكر خطيته قال: “هي (ثامار) أبر مني” (تك 38: 26). لقد كمن في قوله هذا سرّ عميق ووصية أخلاقية، لهذا لم تحسب له خطيته. لقد أتهم نفسه قبل أن يتهمه الآخرون.

فليتنا لا نضحك على خطية أحد بل نحزن، لأنه مكتوب: “لا تشمتي بي يا عدوتي. إذا سقطت أقوم. إذا جلست في الظلمة، فالرب نور لي. احتمل غضب الرب، لأني أخطأت إليه حتى يقيم دعواي ويجري حقي. سيخرجني إلى النور، سأنظر بره. وترى عدوتي فيغطيها الخزي القائلة لي: “أين هو الرب إلهك. عيناي ستنظران إليها. الآن تصير للدوس كطين الأزقة” (ميخا 7: 8-10).

لم يقل هذا بلا جدوى، لأن من يشمت بالساقطين، إنما يكون قد سُرّ بانتصار الشيطان. لذلك بالأحرى لنا أن نحزن عندما نسمع عن هلاك شخص مات المسيح لأجله.

صور زائفة للتوبة

سدد الدين بالإيمان

 يليق بنا أن نؤمن أن الخطاة تلزمهم التوبة التي تؤهلهم لنوال المغفرة، ومع ذلك فإننا نترجى نوال الغفران كهبة للإيمان… وليس كدينٍ لنا، إذ هناك فارق بين من يطلب الغفران كهبة، ومن يطالب به كحق…

 عليك أن تسدد ديونك السابقة حتى تطلب ما ترجوه.

تعالْ كمدينٍ أمينٍ يسدد ما عليه من ديون مستحقة عليه وذلك بالإيمان، قبل أن تعقد قرضًا جديدًا. فالذي يقترض من الله يسهل عليه الوفاء بدينه أكثر مما لو اقترض من إنسان. لأن الإنسان يطلب مالاً لتسديد قرضه، وهذا المال لا يكون ميسورًا على الدوام بالنسبة للمدين. أما الله فيطلب سداد الدين بمشاعر القلب التي في مقدورك…

الصلاة والصوم والدموع هي كنوز المدين الوفي، وهي أغنى ممن يقدم مالاً بلا إيمان.

1. الله يطلب إيمانك لا مالك

 كان حنانيا فقيرًا، هذا الذي أحضر مالاً للتلاميذ بعد بيع عقاره، لكنه عجز عن الوفاء بدينه، بل ضخمه أكثر بعدم إيمانه (أع 5: 1، 2).

أما الأرملة التي دفعت فلسين في الخزانة فكانت غنية، هذه التي قال عنها الرب: “إن هذه الأرملة الفقيرة ألقت أكثر من الجميع” (يو 21: 3)، لأن الله لا يطلب مالك بل إيمانك.

أنا لا أنكر فاعلية الصدقة… لكن بشرط أن يرافقها الإيمان، لأنه ماذا تنتفع لو وزعت كل مالك ولكن بلا محبة؟!

يهدف بعض الناس من العطاء إلى الكبرياء، إذا يطلبون مديحًا من الناس بأنهم تركوا كل شيءٍ. وإذ هم يترجون جزاءً عالميًا يفقدون الحياة الأخرى، وبنوالهم مكافئتهم هنا، لا يترجونها هناك.

والبعض أيضًا في ثورتهم المتسرعة يقدمون ممتلكاتهم للكنيسة بغير تروٍ، ظانين أنهم بذلك يوفون ديونهم… هذه العطايا الناجمة عن عاطفة متسرعة لا ينالون عنها جزاء، لا هنا ولا هناك، لأنها بلا تفكير…

2. لتكن توبتك توبة قلبية

يظهر البعض ندمًا، لمجرد رغبتهم في العودة إلى الشركة في الجماعة المقدسة. هؤلاء لا يسعون جديًا في الحصول على الحلّ من الخطية، بقدر ما يرغبون في خداع الكاهن لإعادتهم إلى الشركة المقدسة. إنهم لا يتركون معاصيهم من ضمائرهم. إنما يتظاهرون بتركها أمام الكاهن، الذي قيل له: “لا تعطوا القدس للكلاب، ولا تطرحوا درركم قدام الخنازير، لئلا تدوسها بأرجلها وتلتفت فتمزقكم” (مت 7: 6) بمعنى ألاَّ يسمح لهؤلاء النجسين بالشركة في الجماعة المقدسة (بدون توبة صادقة)…

هؤلاء يلزمهم أن يبكوا ويتنهدوا لأنهم دنسوا ثوب القداسة والنعمة. والنساء منهن يبكين على أنفسهن لأنهن فقدن لؤلؤة السماء، وإن كن يحملن آذانهن باللآلئ، ويثقلن بالذهب رقابهن، اللاتي كان ينبغي أن تنحني ليسوع لا للذهب.

3. لا يكفي الامتناع المؤقت عن التناول

يظن البعض أن مجرد امتناعهم عن الشركة في الأسرار السمائية هو توبة.

هؤلاء قضاة قساة على أنفسهم، يصفون لأنفسهم عقابًا، لكنهم يرفضون العلاج. إذ كان يلزمهم ألاَّ يقفوا عند حد الحرمان عن التناول، إنما يلزمهم أن يبكوا على هذا الحكم، لأن حرمانهم هذا يمنعهم من النعمة الإلهية.

 (يقصد القديس بذلك ألاَّ يظن هؤلاء أن مجرد امتناعهم هو توبة، وبالتالي لا يندمون على خطاياهم. إنما ليكن حرمانهم المؤقت مجالاً للتبكيت والإسراع إلى التوبة والاعتراف وبالتالي للتناول).

4. لا تستهن بطول أناة الله

البعض يحسبون أنه بذلك يسمح لهم أن يخطئوا كيفما شاءوا، لأن رجاء التوبة مفتوح أمامهم (في أي وقت) وإذ تقدم لهم التوبة علاجًا يستخدمونها كدافعٍ لارتكاب الخطية.

فالمرهم ضروري للجروح، لكن الجروح ليست لازمة لكي نستخدم المرهم. فنحن نطلب المرهم من أجل الجروح، لكن لا نجرح أنفسنا لكي نستخدم المرهم.

إن الرجاء الذي به نؤجل التوبة للمستقبل رجاء ضعيف، لأن الوقت غير مضمون، والرجاء لا يبقى في الإنسان كثيرًا…

أسرع بالتوبة

استعن بصلوات الكنيسة

هل تحجم عن أن تأتي بشهودٍ وأناس يتعطفون عليك ويشتركون معك في صلواتك، مع أنه عندما تريد أن تسترضى إنسانًا (أخطأت في حقه) تزور كثيرين ليشفعوا عنك أمامه، وتأتي بأولادك الذين لم يدركوا معاصيك، ليطلبوا الصفح عن خطأ أبيهم، ومع هذا تمتنع عن أن تفعل هذا في الكنيسة، لكي يتوسلوا من أجلك أمام الله، فتريح نفسك بمعونة شعب الكنيسة المقدس؟! مع أنه لا مجال للخجل في الكنيسة، طالما كلنا خطاة، ومن يكون فينا أكثر تذللاً يكون أكثرنا استحقاقًا للمدح. ومن شعر بأنه أقل الجميع يكون أكثرنا برًا؟!

دع الكنيسة، أمك، تبكى عليك… دع السيد المسيح يراهم باكين… فانه يسرّ عندما يرى كثيرين يصلون عنك، فقد تحنن الرب بسبب الدموع من أجل الأرملة، لأن كثيرين كانوا يبكون لأجلها، فأقام لها ابنها. ولقد سمع لبطرس سريعًا جدًا في صلاته لإقامة غزالة، لأن الفقراء كانوا يبكون عليها.

لنبكِ على خطايانا

 لقد غفر الرب لبطرس، لأنه بكى بكاءً مرًا. وأنت إن بكيت بمرارة سينظر السيد المسيح إليك وينزع عنك خطيتك.

فالمثابرة في ألم البكاء تزيل التمتع بالشر والتلذذ بالخطية. وهكذا بينما نحزن على الخطايا السابقة نغلق الباب في وجه الخطايا الجديدة. وإذ ندين معاصينا نتدرب على حياة البرّ… فإمكانية التوبة بين يديك، مستويًا في ذلك مع كافة القديسين. فلتقتدِ بداود كمثالٍ، إذ قال: “أكلت الرماد مثل الخبز، ومزجت شرابي بدموع”. والآن هو يفرح أكثر، إذ بكى أكثر، إذ يقول: “جداول مياه جرت من عيني” (مز 19: 136). ويوحنا بكى كثيرًا (رؤ 5: 4) عندما أخبرنا بأن أسرار المسيح كانت مخفية عنه…

أما المرأة التي كانت غارقة في الخطية، وكان يلزمها أن تبكي، فقد كانت فرحة ومتسربلة بأرجوان وقرمز ومتحلية بذهب وحجارة كريمة (رؤ 17: 3)…

لا تتهاون على رجاء أن تتوب

حقًا أنه من المخجل أن يفكر البعض أنهم سيتوبون فيما بعد، فيرتكبون الفجور على الدوام ضد المسيح، مع أنهم لو تابوا توبة صادقة، لما كانوا يفكرون هكذا…

وإنني قد وجدت من الأسهل جدًا أن أُحافظ على استقامتي عن أن أهيئ فرصة مستقبلة للتوبة (متهاونًا الآن في الخطية)…

لينكر الإنسان نفسه، ويتغير تمامًا، وذلك كما جاء في رواية أن صبيًا كان قد ترك بيته لأجل حبه لزانية، وإذ تغلب على هذا الحب تركها. وفي يوم التقى بصديقته الزانية فلم يحدثها. فتعجبت منه وظنته لم يعرفها. وفي فرصة أخرى التقيا معًا دفعة أخرى، أجابها “أنا هو… لكني لست كما كنت”.

حسنًا قال الرب: “إن أراد أحد أن يأتي ورائي، فلينكر نفسه، ويحمل صليبه ويتبعني” (مت 16: 24). لأن الذين يموتون ويدفنون في السيد المسيح، لا يعودون يحسبون أنفسهم عائشين في هذا العالم.

أسرع بالتوبة!!

 حسنة هي التوبة، فإن لم يكن لها مكان في قلبك، فستخسر نعمة الغسل التي نلتها في المعمودية منذ أمدٍ بعيدٍ، فإنه من الأفضل أن يكون لنا ثوب نصلحه عن ألاَّ يكون لنا ثوب نرتديه، ولكن إذ أُعد لنا الثوب مرة فيجب أن يتجدد…

إننا لا نعرف في أية ساعة يأتي اللص، فنحن لا نعلم إذًا ما كانت نفوسنا ستطلب هذه الليلة منا! فلنسرع بالتوبة لأنه ما أن سقط آدم حتى طرده الله من الفردوس، حتى لا يكون هناك وقت للمماطلة. لقد نزع عن آدم وحواء ما كان يتمتعان به حتى يقدما توبة سريعة…

الشعور بحضرة الله

 ليس هناك من يحزننا مثل ذلك الساقط في الخطية، الذي يتذكر خطاياه ليتلذذ بالأمور الجسدية الأرضية، بدلاً من أن ينشغل ذهنه بسبل معرفة الله الجميلة!

فآدم أخفى نفسه عندما عرف بحضور الله. راغبًا في الاختباء عندما دعاه الله بذلك الأمر الذي جرح به نفسه (عدم ملاقاة الرب)، قائلاً: “آدم أين أنت؟” (تك 3: 9). بمعنى “أين تخفي نفسك؟ لماذا تختبئ؟ لماذا تهرب من الله الذي كنت تتوق إلى رؤيته؟!

هل أتقدم للتناول؟

تقديم[3]

قدم طبيب النفوس للخطاة التناول من الأسرار المقدسة… ولكن أي خطاة؟ الخطاة الذين شعروا بخطيتهم، وآمنوا بالرب يسوع كفادٍ ومخلصٍ لهم، مقدمين توبة صادقة، مؤمنين أن جسد الرب ودمه قادرين على تغير حياتهم تغييرًا كاملاً.

فلا يتقدم للشركة في هذا السر الأبرار والقديسون الشاعرون بالقداسة الذاتية، ولا من لا يؤمن بمفعول هذا السرّ في حياته… بل يتقدم إلى هذا السر المقدس من يشعر باحتياجه الشديد إلى معونة الله ونعمته المبررة للخطاة. مثل هذا يخرج من التناول وقد أخذ إمكانية جديدة… هي إمكانية عمل الله فيه.

لا تناول بلا توبة صادقة[4]

 لا يجوز لأي شخص وهو في الخطية (متهاونًا)… أن يشترك في الأسرار… فإن داود يقول في مزموره: “على الصفصاف في وسطها علقنا أعوادنا… كيف نرنم ترنيمة الرب في أرض غريبة” (مز 137: 2، 4). إن كان الجسد لازال يقاوم الذهن، ولا يخضع لإرشاد الروح القدس، فإنه لازال في أرض غريبة، لم يخضع لكفاح المزارع، لهذا لن يثمر ثمار المحبة والاحتمال والسلام… فإذا كانت التوبة غير عاملة فيك، فخير لك ألاَّ تتقدم للأسرار، لئلا تحتاج إلى توبة عن هذه التوبة الغير العاملة، ولكنك محتاج إلى تلك الكلمات “انقضوا، انقضوا حتى الأساس منها” (مز 137: 7).

ويواسي داود هذه النفس البائسة قائلاً: “يا بنت بابل الشقية”. حقًا أنها شقية لأنها بنت بابل، حيثُ رفضت بنوتها لأورشليم أي السماء (وتمسكت بالخطية بابل أرض السبي). ومع ذلك فإنه يدعو لها بالشفاء، قائلاً: “طوبى لمن يكافئك مكافأتك التي جازيتنا، طوبى لمن يمسك أطفالك ويدفنهم عند الصخرة” (مز 127: 9)، أي يدفن أفكارها الفاسدة الدنسة المضادة للمسيح. فقد قيل لموسى: “اخلع نعليك من رجليك” (خر 3: 5). فكم بالأولى يلزمنا نحن أن نخلع من أرجلنا الروحية رباطات الجسد، وننظف خطواتنا من كل ارتباطات العالم؟!

 

 

[1] أتباع نوفاتيوس يرفضون قبول توبة الهاربين من الاستشهاد مهما بلغت ندامتهم.

[2] كلمة “سامري” معناها “حارس”.

[3] من وضع المترجم.

[4] للقديس أمبروسيوس.

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF

معلومات حول الصفحة

عناوين الصفحة

محتويات القسم

الوسوم

arArabic
انتقل إلى أعلى