الأيقونة كشخص الأيقونة كأبناء الله

… وقال الرب: “كونوا قدّيسين لأنّي أنا قدّوس” (1 بطرس 16:1). ويعود النداء إلى يوم خلق الله الإنسان وجعله على صورته ومثاله… (تكوين 26:1).

تلك كانت الأيقونة الأولى، وقد صوّرت بإصبع الله… الأيقونة التي ما كانت من صنع يد بشريّة، بل من الله…

أيها الأحبّاء في المسيح … هذا كان وسيبقى، هدفنا الأساسي لحياتنا في المسيح ومعه: أن نكون مثله، وعلى صورته، ليس في شبه ٍ مادي وذهني، بل في شبه ٍ جوهري في الروح، في كينونة تامّة.

ماذا يعني هذا، في حياتنا اليومية؟ كيف نحيا حتى نبلغ إلى هذا الهدف من التشبه والمماثلة لله؟… ما هي الوسائل والأساليب؟ كيف وأين؟… بالأخص من أجلكم، أنتم الشبيبة الأرثوذكسيّة، في هذا العصر المضطرب، حيث كل شيءٍ من حولكم يصرخ: اصلبه، اصلبه!… شوِّهوا صورة الله. ليس إله. أطمسوا الإسم ولا تتلفّظوا به. لا تكونوا أغبياء. رجعيّون… هذه صورة أجدادنا وأجداد أجدادنا. أما الآن، فنتكلم ونعيش في عصرٍ مختلف. لدينا وجهة نظرٍ جديدة… العلوم… تقنية الكومبيوتر… علم الوراثة، الإستنساخ… العصر الحديث… الحرية، الحرية… السرعة. نسحق كل شيء لنبني عصرًا دنيويًا فارغًا من الله : فيه المال والقوة والسلطة وتوقير الذات والمفاهيم الجديدة والإختراعات…

أيها الأحباء في المسيح… هناك طريقتان في التفكير: تفكير بحسب الله أي بحسب الكتاب المقدس؛ وتفكير بحسب العالم… وقد قال ربنا: “أنتم لستم من هذا العالم” (يوحنا 19:15). هذا هو بالتحديد ما قاله لنا ربنا يسوع المسيح. هذا لم يكن فقط في الأزمنة القديمة، منذ ألفي سنة، بل لاحقًا، الآن، غداً وإلى الأبد… لماذا؟ ألا يريدنا الله أن نحيا حيث خلقنا وأرادنا أن نكون؟ أم أنه يريدنا أن نكون في عالم من صنعه، لكن أن نعيده إليه؟!… هنا، أريد أن أطرح سؤالاً… لماذا يخرج من صنيعة الله، من خليقته، الشرّ؟ … لماذا يسمح بالخطيئة؟ بالأذى، بالغيظ والغضب والغيرة بالأهواء والأفعال الشنيعة؟… بعبادة الشرير، بعبادة الشيطان وبعبادة قوى أخرى سلبية؟!…

“أيها الرب، أنت إله الحب، والاتضاع، والحنو، والمسامحة والعطاء الأقصى والنّور!!… أنت خلقتنا على صورتك، وأعطيتنا قلبك. لكننا أخطأنا في عدم طاعتنا لك ولوصاياك، مذ كنا آدم وحواء في فردوس محبّتك.

{آدم وحواء هما كل واحد منا، كل منا يحمل الخطيئة في كينونته ككل}.

أيها الرب، أعطنا أن نحبك بالحب الذي أسبغته علينا مذ خلقتنا.

أيها الرب، علمنا أن نطيعك كما أطعت أنت أباك وقد تجسدت لتقودنا إإلى المراعي الخضر التي للإتضاع والرحمة والحنوّ.

أيها الرب، أمِل قلوبنا من الوقاحة إلى القبول.

أيها الرب، علمنا أن نقبل، ونقبل ونقبل، كل ما تسمح به أنت في حياتنا”.

هذه الحرب بين ملاك النور وملاك الظلمة، قد بلغت ذروتها بتجسد الإله الكلمة، الأقنوم الثاني في الثالوث القدوس، ربنا وإلهنا يسوع المسيح… وبالنسبة إليه، يصبح بإمكاننا إيجاد الحل لكل مشاكلنا، والأجوبة على كل أسئلتنا…

هو البداية والنهاية. هو الذي هو… الكلي الوجود والقوة.

“وجهك يا رب أنا ألتمس” (مز8:27)

“هوذا أنا أمة الرب” (لو38:1).

أيها الأحباء في المسيح، هاتان اللحظتان للوجود، هما حياتنا… أن نلتمسه، أن نلتمس المخلص، بأن نصير كمريم أمته… هذا هو الموقف الذي يجب أن نتبناه، وأن نضع أنفسنا فيه… أن نكون أمة له، للذي خلقنا واختارنا قبل أن نختاره. علينا أن نُقبل إليه بقلب ٍ مفتوح، ونفس ٍ مفتوحة، وإرادة مفتوحة، وأن نقول له :”تكلم يا رب، فإننا نسمع”… وأن نسمع، معناه أن يكون لدينا إيمان، أن نعمل، أن نطيع وأن نقبل…

أيقونتنا، مريم، والدة الإله، وضعت نفسها لتصير أمته… وضعت نفسها، هي التي اختيرت لتحمله، لتكون مسكنًا له، لتكون خيمته، هيكله، الإناء المقدس، صورته التي تعكس وجهه، وتكون نوره، كلمته، وشخصه…

هاءنذا أمة للرب! هكذا علينا أن نبدأ علاقتنا بالمسيح في كل الأزمنة والأجيال، نأتي إلى الله لأننا نريد منه شيئًا. طول الوقت، نطلب منه أشياء … النجاح، الشرف، المال، الزواج، الزوجة، الأولاد علاقة جيدة وسلامية مع عائلتن وفيما بيننا، ومع كاهننا… الأمر الوحيد الذي فعلته والدة الإله، هو أنها أعطت نفسها له بدون شرط، بكلّية وتواضع، حتى يقرر فيها ولها، ولوجودها وحياتها وخلاصها.

هذا العطاء الكامل لذواتنا، هو المقدمة لمحبة الله…

“أحبك يا رب وأعطيك ذاتي… مني لشخصك”…

أن تكون أمة لله، هو أن تكون في قبول تام لإرادته ولوصاياه… أن تقبل، أن تطيعه ليس خارجيً وسطحيًا، بل بالروح والقلب والكيان. أن تصير مثله. وهذا يعني، يا أحباء، أن نقدم ذواتنا، قلوبنا وعقولنا، كمكان لسكناه، مثل حشى مريم.

اللعنة الأولى التي جلبها آدم على نفسه، كانت عدم الطاعة… لماذا؟ لأنه جعل نفسه إلهًا موازيًا لله، وجعل معرفته فوق معرفة الله… لكن ما هو مطلوب منا، في الحقيقة هو أن نقبل بكل الطرق التي يستعملها الله ليعيد بناءنا على صورته التي شوّهناها عندما عصيناه في حين السقوط. إن لم نعمل على إفراغ ذواتنا من الخطيئة ومن الإنسان العتيق العاصي الذي فينا، أي من إرادتنا الذاتية ومن ادعائنا للألوهة، فإن الله لمحبته، لن يتعاطى معنا، طيلة حياتنا، ولن يأتي بنا إليه ليشفينا لأجل ذلك نبقى نواجه التجارب والمحن، وذلك حتى نرى خداع خطيئتنا ونتخلّى عنها، ونقبل بدواء الله لمرضنا، حتى نشفى ونتقدس، لنصبح على مثاله، كشبهه.

كل الأسئلة التي طرحتها عليكم، كانت لطخات سوداء شوهت الصورة الأولى، والأيقونة الأولى التي صورتها يد الخالق. أي الإنسان. لماذا ومتى بدأ هذا التشويه للأيقونة الأولى؟!. عندما شك الإنسان بكلمة الله… عندما سقط في العصيان. عندما نتوقف عن الإستجابة لمحبّة الله. وهنا أشير إلى أناس سبق أن اختاروا المسيح كسيد وإله. يستمدون منه طاقتهم للحياة والوجود والاستمرارية.

هنا أيضًا أمامنا خياران…الأول أن نعرف الله وأن نتكلم عنه. أن نجتمع حوله كمصدر ٍ للمعرفة، والعمل، والتبشير، وأن نضعه في أطر ٍللتفكير وصياغة الألفاظ؛ أن نجعله نوعًا من قضية، ومهنة، ونمط حياة، فيها قد يصبح مؤسسة كنسية ذات شعارات كنسيّة، ومجمعًا، و تجمّعًا كنسيًا عالميًا…

الخيار الثاني هو الحياة فيه ومنه ومعه، والتي تقود إلى الصليب والموت قبل القيامة… حياة في الروح في عطاء الإنسان لنفسه ودمه وعرقه للإله، للذي أعطي لنا منذ البدء، وفي شيء لخلاصنا وللحياة الأبدية.

أيها الأحبّاء في المسيح… نحن شعب الله. نحن الكنيسة. كنيسة قديسين لا كنيسة نظريات وألفاظ وكلام مؤسسات … وتجارة كلمات.

الطريق أمامنا، الآن، في هذا الاجتماع فيه وحوله، صعب… كثيرون منكم قد بدأوا بطرح الأسئلة وبالشعور بالقلق. لا يأس…

النقطة الأساسية هي، الكلام عنه أوالعيش فيه.

ألا يمكننا أن نعمل الإثنين معًا؟! فقط القديسون بإمكانهم ذلك، الذين يعطون ذواتهم بالكليّة، يوميًا، في العيش بحسب الوصايا، بكل معنى الكلمة… وصاياه أدت وما زالت تؤدي إلى اقتناء الروح القدس… روحه القدوس. الكلام عن الله، في تراثنا، مرتبط جوهريًا برؤية الله.

والآن، بأية روح نلتقي نحن اليوم؟ وبأية روح تريدون أن تكون حياتكم وأن تستمرّ؟

أنتم رسل الألفية الثالثة بعد المسيح، وبإمكاني القول، مع الآباء؛ بما أننا في الألفية الثامنة وهذا معناه عندهم، منتهى الدهور فقد نكون الآن في الأيام الأخيرة… هل تصلكم كلمته وبشارته ووصاياه، وأنتم ممتلئون من محبته، ومن الألم والاستعداد لتصرخوا في وجه هيرودس، بحقائق ربكم الأساسية؟! أم أنكم ميّعتم إيمانكم، واضطهاداتكم، وسجنكم، والصليب، وحولتموها إلى عقائد وكلمات؟!…

صدقوني؛ هناك إيمان واحد وصليب واحد، وطريق واحد في الحياة: ذاك الذي للقديس يوحنا المعمدان. الطريق الآخر في الحياة، هو ذاك الذي “للمجمع السبعيني”، للسينهيدرين.

وسواء كنتم ترضون ذلك أم لا، فالإنسان بعد السقوط، صار عليه العبور على الطريق النسكي- نعم، النسك، في العمق، هو للجميع- وذلك ليبلغ بالإنسان إلى الخلاص، وليصير حاملاً للروح القدس، ليصير أيقونة، للإله- الإنسان، ربنا يسوع المسيح.

عيش حياته من خلال الوصايا:

هذه هي الحكمة التي يجب علينا أن نطلبها هذا هو العلم الذي علينا أن نتعلمه. هذه هي الحياة التي علينا اكتسابها. يومًا فيومًا، ساعةً فساعة، ولحظة فلحظة… نعم، الحياة في المسيح يجب أن تصبح نمط حياتنا… العديد- آه كم من المجموعات! المجموعات المسيحية المتعبدة، وحتى المجموعات الأرثوذكسية، ممن يلتئمون باسم المسيح، لتلبية حاجة ما، عطش لنمط حياة مسيحية، تنتهي في تجميد المسيح المطلق، ضمن إطار المؤسساتية والعقائدية؟!…

لسنا هنا في صدد انتقاد أحد، بل نحن هنا لنعود إلى أنفسنا، لنفحص قلوبنا وأشواقنا، فيما يسمى بالأرثوذكسية، وكما تحبون أن تسموا أنفسكم، حركات الشبيبة الأرثوذكسية، في محاولة لتثبيت وتفعيل إيمانكم.

معرفة الذات هي الخطوة الأولى، أن نعرف، في العمق، أننا خطأة – في العقل، والجسد، والقلب والروح، والفكر، والفعل… إنه لمهم جدًا أن نبدأ حياتنا في المسيح، بصرخة القديس يوحنا المعمدان: ” توبوا”(متى 2:3).

قد تقولون :”نحن نعمل ونعيش بحسب كلمته؟!”

لكني أتساءل : هل قادكم هذا العمل وهذا العيش، إلى الاتضاع؟… إلى المسامحة؟… إلى مزيد من الحب وبذل النفس؟ هل أنتم مستعدون للتخلي عن مراكزكم وأفكاركم، من أجل الآخر، وبشكل أساسي من أجل المسيح؟ هل أنتم مستعدون لأن تطيعوا؟ لأن تضعوا أنفسكم؟ هل أنتم مستعدون لنبذ العالم وكل غناه وشهرته؟ هل أنتم مستعدون لالتزام كلمته كليًا، ولأن تفرغوا ذواتكم كما أفرغ هو ذاته من إرادته الذاتية، وصار عبدًا؟

“إني خاطئ” … إن كنتم تلاحظون حالة السقوط هذه، في ذواتكم، فإنكم سترغبون في التوبة والرجوع إلى ربنا… من خلال الصلاة والإعتراف… من خلال الإرشاد الروحي.

كنيستنا هي كنيسة آباء (وأمهات)، كنيسة نساك وقديسين ممن كافحوا للعيش بشكل كلي، ومن كل قلوبهم، بحسب كلمة الله، غير ملطخين بحب هذا العالم… نعم، هذا صحيح، !؛ لا يمكنكم أن تحبّوا إلهين، أن تعبدو وحتى أن تنتموا إلى عالمين: إلى عالم الله وعالم الإنسان الساقط.

أيها الأحباء في المسيح… إن لم يوصلكم تجمع الشبيبة الأرثوذكسية إلى المناداة باسم يسوع في عالم يرفضه، وإلى قبول نوع من الشهادة المعنوية لأجله، إن لم تكن مادية، إلى حياة من العار، كما عاش هو؛ إلى الصليب كما صلب هو؛ إلى التواضع كما أذل هو، وإلى نكران الذات، فستصيرون أداة في يد مجمع سبعيني جديد يخمد نار الروح القدس، ويحولها إلى أشكال، وكلمات، واجتماعات، وتجمعات فارغة.

أن نعرف المسيح معناه أن نحيا حياته …

الصلاة:

سؤال واحد أخير. هل تدور حياتكم اليومية حول المسيح؟ أي، هل تبدأون حياتكم اليومية، يومكم، بالصلاة؟ بقراءة رسالة وإنجيل النهار؟ بالصلاة بضع مسابح؟ بالسجدات؟ بالصراخ إليه: “يا رب، إهدني في هذا النهار الذي أقدمه لك؟!” بصلاة من القلب الذي يحب إلهه من كل قوته، كيانه وإرادته؟!… هل تستجيرون بقديس النهار؟.

هل تحملون اسمه في نفسكم طوال النهار والليل؟ “يا ربي يسوع المسيح ابن الله ارحمني”… “ارحمنا” و”ارحم عالمك أجمع؟!” أينما ذهبتم .

هل تتممون أموركم اليومية بروح الإنجيل ووصايا المسيح التي هي التواضع، الصبر، المحبة وإفراغ الذات؟

هل تحملون”صلاة يسوع”- وكما تسمى “صلاة القلب”. في قلوبكم طوال النهار والليل؟…

هل تقولون في نفوسكم وعقولكم: هل يمكنني، حقيقة، أن أفعل هذا الأمر وذاك مما أفعل، وأقول الآن، هل هذا يرضي الله؟ هذ وذاك العمل، وحتى الفكر، هل يمكنني المجاهرة به أمام الله؟!… أو، أكثر من ذلك، هل يمكنني أن أتصرف وأفكر وأتكلم بهذه الطريقة؟! لأن ربنا هو معنا في الروح القدس، طيلة الوقت؟!…

وبانتهاء النهار ومجيء الليل، هل نقع في ليل العجرفة وظلمتها، وفي محبة الذات؟! هل نعامل بعضنا بعضًا كما نود أن نعامل؟! هل فتنتنا أشواق الروح، وهل نسير بهدي الروح القدس؟ في “المحبة، الفرح، السلام، طول الأناة، اللطف، الصلاح، الإيمات الوداعة والعفاف؟…”

وحتى نبلغ إلى جمالات الروح هذه، علينا، أولا، أن ننبذ رغبات الجسد واستغراقنا في أنفسنا، التي تحدث عنها الرسول بولس في رسالته إلى أهل غلاطية. وهذه هي:” العهر، النجاسة، الدعارة، عبادة الأوثان، السحر، العداوة، الخصام، الغيرة، السخط، التحزب، الشقاق، البدع، الحسد، القتل، السكر، البطر وأمثال هذه” (غلاطية19:19-26).

وماذا بشأن مطالعتكم الروحية؟… كم من الوقت تمضون مع القديسين الذين مهّدوا لكم طريق الخلاص والإتحاد الكامل بالمسيح؟!… كم منا يطالع يوميًا، سيرة القديس والقديسين الذين تعيد لهم الكنيسة؟ هل أصبح هؤلاء القديسون حماتنا وشفعاءنا، قدام عرش الله؟ هل نتخذهم مثالا نحتذي به؟ هل هم أحياء في ضمائرنا أم أصبحوا مائتين في الأرشيف؟ أيضًا، هل ندع والدة الإله تدخل معنا حديقة نفوسنا، لتعلمنا الدرس الأهم والأعظم، الذي هو “إنكار الذات”؟

“هوذا أنا أمة الرب، ليكن لي كقولك” ( لوقا38:1).

النفس، يا أعزاء، النفس هي العائق الأكبر في وجه الخالق الرسام. في كل واحد منا. وعند رسم الأيقونة، يرسم الرسام، بحسب التقليد الأرثوذكسي، “ملامح” المسيح وملامح سيدتنا والدة الإله، في الرجال والنساء القديسين؛ على شبه الإنسان لله. لكن ماذا يعرقل هذا الشبه؟! إنها النفس الساقطة؛ “الأنا” الإنسانية، وفرديتنا، في مقابل “المحبة” التي في أيقونة الثالوث القدوس.

في اجتماع الحب هذا، كل شخص ٍفي الثالوث القدوس، يتحرك باتجاه الأقنوم الآخر ويوجّه انتباهه إليه… لا أحد من “الأشخاص الثلاثة” يدور حول نفسه ويلفت الانتباه إلى نفسه. كل واحد يفرغ ذاته في الآخر، وبذلك يمتلئ كل منهم من الآخر، بإفراغه لذاته، لكن بمحافظته على أقنومه الخاص. في هذا الحب الثالوثي، يحيا كل شخص بحسب “ذاك” الحب الذي هو من صفات الله… العطاء الكامل؛ الموت الكامل في الآخر ولأجله؛ الإفراغ الكامل؛ الخلق الكامل وإعادة الخلق للوجود بأكمله، للحب في جوهره، في الحب “الله محبة”… (1 يوحنا 16:4).

محبة الله هي العطاء الكامل، والاحتضان الكامل، لدرجة الموت لأجل الآخر، لخلاصه. بينما الفردية، التي هي ثمرة خطيئتنا في زماننا؛ فهي القبر، حيث تختبر النفس البشرية الموت والجحيم في الغيرة، في استعباد الآخر لإعادة صياغته على صورتنا، على الصورة الساقطة التي اتخذناها، وما يسمى بمرض وسرطان عصرنا: اليأس.

الشهادة:

أيها الأحباء في المسيح، أن تكون أرثوذكسيًا معناه أن تكون شهيدًا… لن أتوسع في هذه النقطة… لكنّي أعجب: من يقبل، في أيامنا هذه، بعمق وبساطة وجدية نار الروح القدس الكامنة في روح وكلمات وأعمال المسيحي الحقيقي؟

أن تكون أرثوذكسيًا حقيقيًا، هو أن تكون ضدّ المسيحية التي شُوهت في معظم اتجاهاتها السائدة حولنا …

أن تكون أرثوذكسيًا حقيقيًا، هو أن تكون محاربًا لطبيعة الإنسان الساقطة التي فيك، في كل دقيقة من نهارك وليلك. أن تنتزع روحك، نفسك وجسدك من خصال الإنسان “العتيق”، أن تمزق الثياب التي لبسناها في الخطيئة، وأن تخيط، يومًا بعد يوم، الثياب البيضاء الجديدة المجيدة، التي للإنسان “الجديد”، لآدم الجديد، الذي هو يسوع المسيح، ربنا وإلهنا وخالقنا، الذي ننتظره ونتوق إليه ونطيعه في الحب، في محبته هو، المحبة ذات الطابع السماوي، وليس في ممارسة الأهواء البشرية المسماة محبة، إذ المحبة قد شوهت في الإنسان.

إن إفراغ أنفسنا من أنفسنا، هو الخطوة الأولى صوب اقتناء حب الله. بعد ذلك يأتي الله ويملأنا من وجوده. إذًا الحياة تتضمن عملية إفراغ لأنفسنا من أنفسنا، ومن ثم الإمتلاء منه، حتى نصير على شبهه، إذ نرسم الصورة في نفوسنا وقلوبنا كل يوم من أيام حياتنا.

وإذ نعمل على محاربة إنساننا “العتيق”، يرسل الرب روحه القدوس ليعلمنا، بمؤازرة والدته، سيدتنا والدة الإله، وكل قديسيه، والآباء والأمهات في كنيسته؛ كيف نصير أيقونة له، يصورها ويعيد تصويرها بيده آمين.

 

الأيقونة كشخص الأيقونة كأبناء الله
الأم مريم (زكّا)
نقلاً عن مجلة التراث الأرثوذكسي

arArabic
انتقل إلى أعلى