القيامة وحياتنا الروحية

المقدمة

هو من سلسلة المواضيع المطروحة. تبقى هذه المواضيع مفتوحة ولا شيء يكتمل إلاّ بالحياة مع الله وهذه الأحاديث كلّها هي مدخل إلى الملكوت.

قليلاً ما يطرح الموضوع من منظار كيف نعيش نحن قيامة الرب يسوع في حياتنا؟ كيف نعيشها بالروح القدس مع أنّ الآباء القدّيسين تكلّموا عن القيامة في حياتهم؟ ونعرف أن الكنيسة الأرثوذكسية هي كنيسة قيامية لأنها تشدّد أولاً على حدث القيامة وتؤكد على نتائج القيامة في حياتنا، أي اثر هذا الحدث في حياة المؤمنين، استناداً إلى الكتاب المقدّس وتقليد الكنيسة، ما عاشه وما ألفه المؤمنون عبر القرون.

السلام المعروف “المسيح قام”! في زمن القيامة وبعده حتّى اليوم وإلى الأبد هو ملخّص البشارة والترتيلة (الطروبارية) “المسيح قام من بين الأموات ووطىء الموت بالموت ووهب الحياة للذين في القبور” تختصر معنى القيامة. الربّ يسوع نفسه يؤكد لنا في الكتاب “ثقوا لقد غلبت العالم” (يو 33:16).

ومع كلّ ذلك، تبقى هذه الكلمات وهذه التعابير كلمات، على رجاء أن تتحوّل إلى حياة. الإنجيل والكتاب المقدّس كلّه والمؤلّفات الروحيّة الأخرى المقدّسة كلّها تعابير عن خبرة القديسين والأنبياء والرسل. هذا شيء أساسي في اللاهوت، إذ أن الكتابات المقدّسة ليست مُنْزَلة حرفيّاً من الله، بل هي تعابير كُتبت بلغة عصرٍ معيّن تعبيراً عن خبرة مقدّسة إلهيّة-إنسانية عاشها القدّيسون مع الله. كُتبت لإفادتنا ولتعليمنا، لكي نسعى بدورنا ونجاهد لعيش مثل هذه الخبرة مع الله. من هذه الناحية نقول إنّ هذه الكتابات هي ملهمة من الله، وليست منزلة.

هدف الموضوع هذا هو أن نستعرض بعض ما جاء في الكتاب المقدّس عند بعض الآباء القديسين، وفي الليتورجيا عن موضوع القيامة وعلاقتها بحياتنا الشخصيّة الروحيّة.

القيامة زمن التجديد

القيامة زمن التجديد، زمن الإستنارة، الربيع الروحي، غلبة النور على الظلام، النهوض من كبوة. الصورة الأفضل هي صورة الطبيعة الربيعيّة. لأنّ الطبيعة في الربيع تتجدّد وتكتسي الأشجار أوراقها من جديد والأزهار تنبت وتتفتّح، النهار يطول على حساب الليل. ليس لأنّ الطبيعة تتجدّد فحسب، بل لأنّها تتحوّل إلى الأفضل ولكون المخلوق يصبح هكذا رمزاً للحقائق الروحيّة، رمزاً للتجدّد الداخليّ للإنسان. هي علامة بأنّنا قادرون بقوّة المسيح القائم من بين الأموات أن نتحوّل نحن بدورنا إلى نوره ومجده. بمعنى أنّه كما أنّ الرب يسوع تألم ومات وقام من الموت وغلبه وحطّم أبواب الجحيم وكسر شوكة الخطيئة والشرّ والألم والمرض، كذلك نحن قادرون بقوّة المسيح القائم أن نغلب نحن بدورنا أيضاً كلّ فكر شرّير والألم والمرض. لم يعد للموت سلطان كما قال الرب عن لعازر المريض. هناك جانب إيجابّي للألم (مصائب الإنسان وتجاربه). المسيحي المؤمن يتطلّع إلى كلّ الأمور من الناحية الإيجابية، إذ قد قُضي على الموت والشر. لقد “قيّد القوي” (مت29:12) أي الشيطان، وحُرّر الإنسان.

كيف تتمّ هذه الغلبة فينا ؟

بأعين الإيمان أوّلاً إذا كنّا نملك الحسّ الكافي لذلك والقلب الطاهر. وبولس الرسول يدعونا له: “نقّوا منكم الخميرة العتيقة لكي تكونوا عجيناً جديداً كما أنتم فطير لأنّ فصحنا أيضاً المسيح قد ذُبح لأجلنا. إذاً لنعيّد ليس بخميرة عتيقة ولا بخميرة الشرّ والخُبث بل بفطير الإخلاص والحق” (1كور5: 7-8).

“إذاً إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة. الأشياء العتيقة قد مضت، هوذا الكل قد صار جديداً” (2كور 5: 17).

بأعين الإيمان إذاً ننظر، إلى آلامنا كما إلى آلام المسيح أنها أضحت معبراً للحياة وللفرح، وعلى الأقل فهي تعلّمنا الصبر، تعطي لنا فرصة للتواضع وعمل الرحمة، تمحّصنا، تطهّرنا، تنقّينا (بدون تنقية، بدون تطهر، بدون جهاد، لا نحصل على طعم القيامة) لا بدّ من التطهّر من الأهواء لكي نقترب من المسيح القائم لكي نعاين مجده. “طوبى لأنقياء القلوب لأنهم يعاينون الله” (مت 8:5).

شهادة القديس سمعان اللاهوتي الحديث

+ قيامة المسيح السرية

يقول القديس سمعان اللاهوتي الحديث: “عند خروجنا من عالم الخطيئة ودخولنا على شبه آلام المسيح في قبر التواضع والتوبة ينحدر هو بالذات من السماء ويدخل في جسدنا كما في قبر ولدى اتّحاده بنفوسنا ينهضها… ويؤهلنا نحن القائمين هكذا معه إلى رؤية مجد قيامته السرّية… قيامة المسيح هي قيامتنا نحن الواقعين في الخطيئة. قيامة النفس هي اتّحادها بالحياة. إنّ النفس لا تستطيع أن تحيا وحدها إن لم تتّحد بالله، لأنّه قبل الإتحاد تكون النفس مائتة بالمعرفة، بالرؤيا وبالحسّ… لأن المعرفة لا تكون بدون رؤيا ولا الرؤيا بدون تحسّس”.

+ دور الروح القدس

ويضيف القديس سمعان اللاهوتي الحديث قائلاً: “إنّ النّص الشريف الذي نتلوه دائماً في الآحاد وفي الفصح لا يقول إذ قد آمنا بقيامة المسيح بل إذ قد رأينا قيامة المسيح فلنسجد للرّبّ القدوس… لأنّ قيامة المسيح تحدث فعلاً في نفس كلّ مؤمن على حدة، وذلك ليس مرّة واحدة بل في كلّ ساعة، يقوم المسيح السيد فينا حاملاً الضياء ومُشِّعاً بأشعّة الألوهة وعدم الفساد، ذلك لأنّ حضور الروح القدس المنير يكشف لنا قيامة السيّد كما في نور صباحيّ وبالأحرى يؤهّلنا لرؤية المسيح نفسه قائماً. لذلك نقول: “الله الربّ ظهر لنا” ونتابع مؤكدين على مجيئه الثاني “مباركٌ الآتي باسم الرب”.

إنّ الذين يظهر لهم المسيح قائماً يَرَونه روحيّاً وبأعينهم الروحية، أي عندما يدخل المسيح فينا بنعمة الروح القدس يقيمنا من بين الأموات ويحيينا ويؤهّلنا أن نراه في ذواتنا حيّا كله، هو العديم الموت والفناء. لا هذا فحسب، بل يعطينا أيضاً موهبة إدراك حضوره البهج مقيماً وممجّداً إيّانا كما يشهد على ذلك الكتاب المقدّس بأسره.

هذه هي أسرار المسيحيّين الإلهيّة، هذه هي قوّة إيماننا الخفيّة، القوّة التي لا يعرفها الملحدون والمشكّكون وقليلو الإيمان ولا يمكن أن يروها”.

ويقول القديس أيضاً:

“إن طابع ختم المسيح هو بالحقيقة إشراق الروح القدس… حيث توجد دموع غزيرة بمعرفة حقيقية هناك أيضاً إشراق للنور الإلهي. وحيث إشراق النور هناك هبة الصالحات كلّها. هناك يختم بخاتم الروح القدس داخل القلب، الذي منه تأتي أثمار الحياة كلّها. من هنا يُزهر من أجل المسيح السلام، الرحمة، الرأفة، الصلاح، البرّ، الإيمان والعفة. وبالتالي محبة الأعداء والصلاة من أجلهم، الفرح في التجارب والإفتخار في الشدائد. وأيضاً أن يحسب المرء خطايا الآخرين خطاياه، أن يبكي من أجلها وأن يضحّي بحماس بنفسه من أجل الأخوة”.

شهادة القديس ابيفانيوس القبرصي

+ النزول إلى الجحيم

الرب يسوع المسيح الإله بعد موته على الصليب مماتاً في الجسد ولكن محيىً في الروح ذهب فكرز “للأرواح التي في السجن” (1بط18:3-19). هذه الأرواح ما هي إلاّ نفوس الصدّيقين الأبرار الذين كانوا ينتظرون المسيح القائم لكي ينتشلهم من سلطة الشيطان ويملأهم من نور مجده ويؤهّلهم للرؤية الإلهية.

الأيقونة الأرثوذكسية للقيامة تُظهر الرب يسوع المسيح مُحاطاً بهالة من المجد بيضاء لامعة، ينتشل آدم وحواء من قعر الجحيم ويقيّد الشيطان بالسلاسل. ومع آدم وحواء ينتشل كلّ نفس مؤمنة تنتظره وهي مكبّلة بقيود الألم والمرض والموت. كما ينتشل أيضاً كلّ نفس تحيا بموجب الروح الإنجيليّة دون أن تعرف الإنجيل.

كيف نتدرب نحن على عيش سرّ القيامة في حياتنا ؟
وما هي السبل العملية لذلك ؟

قلنا أن الإنسان لكي يتحول إلى إنسان جديد على صورة المسيح القائم الممجّد الغالب الموت لا بدّ له أن يتنقى أولاً من أهوائه. كيف لا يعود يشك في قريبه ويدين أخاه، كيف يعود يتحمّل أخاه. لذلك القيامة هي حالة جديدة لا تنتمي إلى هذا العالم بل إلى الآتي الجديد ولكن نحن المسيحيين نعيش هذه الحالة من اليوم. نتذوق القيامة قبل القيامة إذا لم نلتق بالمسيح في هذه الحياة فلن نراه في الحياة الأخرى.

أمّا أن نعيش مع الربّ فليست القضيّة قضيّة معرفة إيماننا، وتأدية فروض وشعائر دينية، وتعلّم عقائد، بل قضيّة خبرة وحياة. هذا نهج القديسين، النهج الطبيعي، أنّهم عاشوا مع الرب، لمسوه، تكلموا عنه وعرفوه.

كيف نلتقي به عمليّاً؟ ما هي السبل التي تقدّمها لنا الكنيسة والتي تساعدنا لكي نقترب ونلتقي بالربّ يسوع القائم من الأموات؟

جواب: في الأسرار المقدّسة إن كنّا متهيّئين لإقتبالها، لعيشها لكي تفعل فينا. تلميذا عمواس عرفا الرب يسوع عند كسر الخبز (لو 24: 35) هذا لأن قَلْبَيهِما كانا ملتهبَين إذ كان يكلّمهما في الطريق.

بولس الرسول عرف الرب على طريق دمشق حيث حصل له الإشراق الإلهي، كان شاول قبلاً مضطهِداً كبيراً للمسيحيّين. كان يعتقد أنّ المسيحيّين الجدد قد خرّبوا الديانة اليهودية. ولكن عند إشراق النور، أي عندما استنار، عاين المسيح فرأى فيه الصورة غير المشوّهة للحقيقة عرف أنه الإله الحيّ. كان يضطهد دفاعاً عن الحقيقة ولكن عندما عاينها في النور الإلهي عندئذ تبنّاها، كان مضطهداً فأصبح مضطّهَداً.

عندما يرى المسيحيّ الحقيقة يتبنّاها، فيستنير، ويشهد لها. وإلاّ كيف نستطيع أن نفسّر كيف استطاع عددٌ صغير من الرسل في عصر كانت عبادة الآلهة الوثنية مسيطرة، كيف استطاعوا أن يقلبوا المسكونة رأساً على عقب خلال حوالي 300 سنة من الإضطهادات؟ كيف أقنعوا أن المسيح هو الإله الحقيقي؟

إذاً السبيل الأول للّقاء مع المسيح الحيّ هو الأسرار، وخاصة سرّ الشكر الذي يتطلّب تهيئةً ضمن إطار التوبة والإعتراف والصوم والسهر والصلاة.

الصلاة هي الطريق الفعّالة التي يلتقي بواسطتها كلّ إنسان مؤمن المسيح. الصلاة الحارّة، الصلاة القلبية- الصلاة النقيّة الخالية من التشتّت، هي اتّصالٌ مباشرٌ بالرب، وهي الإطار الذي فيه يدخل الإنسان بصلةٍ مع الربّ القائم ويأخذ منه قوّة ودفعاً.

التوبة والإعتراف هذا سبيل آخر، أن يتجرّد الإنسان ويُقصي عنه الميول السلبيّة بقوّة المسيح. كذلك قلنا سابقاً: التنقية والتطهر ومحاربة الأهواء، والجهاد الروحي، هناك حرب دائمة. نتدرّب لكي نكون جنوداً للرّبّ، والجنديّ المسيحيّ هو الذي يحارب أهواءه. “احملوا سلاح الله الكامل يقول بولس الرسول، لكي تستطيعوا أن تقاوِموا مكائد الشرير”. كيف تستطيع أن تقوّي، أن تساعد غيرك، وأنت كسول؟

الصلاة الدائمة تجعل روح الله فاعلاً على الدوام في ذواتنا، في حياتنا، في تصرّفنا مع الآخرين. تذكّروا ما يقول القدّيس يوحنا السلّمي: “أُجلُد محاربيك باسم الربّ يسوع، ليس سلاحٌ أمضى من هذا السلاح، لا في السماء ولا على الأرض”.

أخيراً وليس آخراً، السبيل الفعّال وربما الأفضل لكي يلتقي الإنسان المسيح القائم هو أعمال المحبة، أعمال الرحمة ومساعدة الإنسان القريب المحتاج المتألِّم، المريض الخاطىء، تفقّد الأرامل واليتامى حيث نلمس أكثر من أيّ مكان آخر جراحات المسيح، نلمس كيف أن الألم يتحوّل إلى تعزية، إلى فرح، لأن القيامة لا تكون بلا صليب. لا يكون الفرح بلا ألم. وعندنا في كلّ وقت في كلّ زمان ومكان الإمكانيّة أن نشارك آلام الآخرين، أن نعيش آلام الربّ وقيامته.

إن كنا نلمس وراء الألم تعزيةً فسوف لا نيأس، بل نرجو وراء كلّ ألم، وراءَ كلّ وجعٍ تعزية “الإيمان والرجاء والمحبة وأعظمهنّ المحبة” يقول بولس الرسول. “المحبة” لأنها وحدها تغلب الموت وتطرح كلّ خوف خارجاً… حاملات الطيب ذهبن بخوف وفرح عظيم بعد رؤية القبر الفارغ. الله محبّة وليس من حبّ أعظم من أن يبذل الإنسان نفسه من أجل أحبّائه. المحبة لا تظنّ السوء. المحبّة لا تطلب شيئاً لنفسها، المحبّة لا تسقط أبداً. لذلك قال بولس أيضاً إني أشتاق أن أذهب لألتقي بالمسيح، اشتهى أن يموت. الموت هو أكبر عدو للإنسان. أمّا في عهد النعمة، عهد القيامة، فقد أخذ القدّيسون يشتهون الموت لأنّ الموت أصبح معبراً للحياة، يوم رقادهم أصبح عيد ولادتهم للحياة الأبدية التي للمسيح الإله القائم الممجّد إلى الأبد مع الآب والروح. آمين.

عن كتاب “أحاديث روحية”
للأرشمندريت أفرام كرياكوس – المتروبوليت حالياً
منشورات دير البلمند. 1995
نقلاً عن مجلة التراث الأرثوذكسي

arArabic
انتقل إلى أعلى