Ícone do site Rede Online Ortodoxa

تتمة العظة الثامنة عشر: الرسالة إلى رومية – الإصحاح الحادي عشر: 1-6

          وكما فعل القديس بولس في المسائل السابقة، وهو يشير إلى مفارقات بالنسبة للناموس وبالنسبة للشعب الذي كان يواجه إدانة أكبر من الإدانة الطبيعية، متجاوزاً إلى أقصى الحدود العهد الذي نقضه، إذ تنازل عن أمور كثيرة، حتى لا يجعل كلمته قاسية، وهذا أيضاً ما فعله في هذا الجزء قائلاً:

” فأقول ألعل الله رفض شعبه؟ حاشا ” (رو1:11).

          يتحدث كإنسان لديه شك أو حيرة، جاعلاً الكلام الذي قاله من قبل حافزاً له، وبعدما أشار إلى هذا الأمر المخيف متسائلاً “ألعل الله رفض شعبه”، إستطاع أن يجعله مقبولاً بعد أن نقض العهد، وهذا ما حاول أن يظهره من خلال كل الكلام السابق، والذي يظهره هنا أيضاً. وما هو الأمر الذي أظهره؟ إنه يتعلق بالذين خلصوا. فبرغم أنهم قليلون إلاّ أن الوعد قد تحقق. ولهذا لم يقل فقط ” الشعب” ولكنه أضاف ” الذي سبق فعرفه “.

          ثم بعد ذلك أضاف الدليل من حيث إن الله لم يرفض شعبه ولم يُبعدهم بعيداً عنه، إذ يقول: ” لأني أنا أيضاً إسرائيلي من نسل إبراهيم من سبط بنيامين “. أنا المعلّم والكارز. لأنه قد وضح أن هذا مُناقض لما قيل من قبل، بالنسبة للذين قالوا ” من صدق خبرنا “؟  و” طول النهار بسطت يديَّ إلى شعب معاند ومقاوم ” و” أنا أغيركم بما ليس أمة “، ولم يكتفِ بنفي ذلك، ولا بقوله “حاشا”، ولكنه يُدلل عليه مُكرراً هذا أيضاً، بقوله:

” لم يرفض الله شعبه ” (رو2:11).

          هكذا يوضح الرسول إن هذا ليس برهاناً، بل إجابة. لاحظ إذاً الدليل السابق والدليل الذي أتى بعد ذلك، وبهذين الدليلين أثبت أنه ينحدر من أصل يهودي. ولكن هذا لم يكن ليحدث، لو أن الله كان قد رفضهم بعيداً عنه، ولما كان الله قد اختاره من هذا النسل وهذا السبط. لقد استأمنه على البشارة وعلى أمور المسكونة، وأيضاً على كل الأسرار، وكل التدبير. هذا إذاً هو الدليل الأول، بينما الدليل الثاني هو قوله ” شعبه الذي سبق فعرفه “، أي شعبه الذي عرفه جيداً أنه كُفؤ، وأنه سيقبل الإيمان. لأن من هذا الشعب آمن ثلاثة آلاف، وخمسة آلاف، وآلاف لا تُحصى.

          ولكي لا يقول أحد إذاً هل أنت شعبه؟ وهل لأنك أنت دعيت، دُعيَ الأمم؟ أضاف: ” لم يرفض الله شعبه الذي سبق فعرفه “. كما لو أنه قال، يوجد معي ثلاثة آلاف، معي خمسة آلاف، معي عشرة آلاف. ماذا إذاً؟ هل هذا هو الشعب؟ وهل انحصر نسل هؤلاء اليهود في ثلاثة آلاف، وخمسة آلاف، وعشرة آلاف، وهم مثل نجوم السماء ومثل رمل البحر في العدد؟ هل إلى هذا الحد تُضلّلنا وتخدعنا، جاعلاً من نفسك ومن القليلين الذين معك شعباً كاملاً؟ لقد ملأتنا برجاء فارغ، قائلاً إن الوعد قد إكتمل، بينما الجميع هلكوا، والخلاص انحصر في قليلين؟ إن هذه الأمور هي محل افتخار وتباهي كبيرين، ولا يمكننا أن نحتمل مثل هذه السفسطات. إذاً لكي لا يقولوا هذه الأشياء، انتبه كيف أنه يقدم الحل بالكلام اللاحق، دون أن يُشير إلى التباين، بل يدلل على حلّها قبل التباين، من خلال قصة قديمة.

          5  إذاً ما هو الحل؟ ” ألا تعرفون ” إنه يقول أيضاً ” ماذا يقول الكتاب عن إيليا “؟ كيف صلى إلى الله في مواجهة الشعب الإسرائيلي؟ وقال ” أيها الرب إله الجنود، لقد قتلوا أنبياءك ونقضوا مذابحك فبقيت أنا وحدى وهم يطلبون نفسي ليأخذوها “ [1] . لكن ماذا كانت إجابة الرب له؟

” قد أبقيت لنفسي سبعة آلاف رجل لم يحنوا ركبة لبعل ” [2] (رو11: 3-4).

          فكذلك:

” في الزمان الحاضر أيضاً قد حصلت بقيه حسب اختيار النعمة ” (رو5:11).

          ما يقوله يعني الآتي: إن الله لم يرفض شعبه. فلو كان قد رفضه، لما كان قد قَبِل أحداً، وطالما أنه قد قَبِل البعض، فهذا معناه أنه لم يرفض شعبه. وإن كان لم يرفض شعبه، فهل يعني هذا أنه سيقبلهم جميعاً؟ طبعاً لا، لأن الخلاص في عصر إيليا إنحصر في سبعة آلاف رجل، أما اليوم فيعد أمراً طبيعياً أن يكون الذين آمنوا كثيرين. أما إن كنتم تجهلون هذا الأمر، فهذا لا يُعد غريباً، فإيليا النبي، ذلك الرجل العظيم والبارز، لم يكن يعرف هذا الأمر. بل إن الله دبَّر هذا الأمر، على الرغم من أن النبي كان يجهله.

          ولكن لاحظ حكمة الرسول بولس، في محاولته أن يثبت ما يقول. إنه يُزيد بشكل غير مُعلن من إدانتهم. ولهذا فقد أورد شهادة إيليا كاملة، لكي يسخر من جحودهم، ويبرهن على أنهم كانوا منذ القديم جاحدين. لأنه لو كان يريد أن يُبرهن على شيء واحد فقط، وهو أن عدد الشعب كان قليلاً، لكان قد قال إنه في عصر إيليا بقى سبعة آلاف، بينما الآن يقرأ كل الشهادة النبوية التي هي منذ القديم. لأنه في كل موضع قد حاول أن يُظهر أنه لم يُقدم عن المسيح والرسل أي شيء يُسمع لأول مرة، بل قدم الأمور المعتادة والمعروفة. ولكي لا يقول اليهود إننا قتلنا المسيح لأنه كان رجلاً مُضِّلاً وإضطهدنا الرسل لأنهم كانوا خائنين، قدم الشهادة التي تقول ” قتلوا أنبياءك ونقضوا مذابحك “. وبعد ذلك، وحتى لا يجعل كلامه ثقيلاً، يُشير، بالإضافة للشهادة، إلى سبب آخر. فهو لم يذكر هذه الشهادة، بقصد أن يتهمهم مسبقاً، بل لأنه يريد أن يبرهن على أمور أخرى. وبهذا يكونون قد حرّموا أنفسهم من كل مصالحة عن كل ما صدر منهم من قبل.

          لاحظ إذاً كيف أن الإدانة تتجاوز الشخص الذي يدين. لأن ممثل الإتهام ليس هو بولس، ولا بطرس، ولا يعقوب، ولا يوحنا، بل هو ذاك الذي هو موضع إعجاب أكثر من الجميع، قمة الأنبياء [3] ، ذاك الذي جاهد هكذا لأجل خلاصهم، حتى أنه أسلم ذاته للجوع، ذاك الذي لم يمت بعد حتى اليوم [4] . إذاً ماذا قال ذاك ” قتلوا أنبياءك ونقضوا مذابحك فبقيت أنا وحدي وهم يطلبون نفسي ليأخذوها “. ماذا يمكن أن يوجد أكثر سوءاً من هذه الوحشية؟ لأنه بينما كان يجب أن يتوسلوا إلى الله من أجل خطاياهم التي ارتكبوها بالفعل، أرادوا أن يقتلوا هذا النبي أيضاً. كل هذا قد حرمهم من كل مصالحة. لأن هؤلاء تجرأوا على فعل هذه الأمور ليس عندما سادت المجاعة، بل عندما حل الرخاء، وانتفى الخجل، واستحت الشياطين، واستعلنت قوة الله، وخضع الملك، وهكذا تقدموا من قتل إلى قتل، فقتلوا مُعلّميهم، والذين كانوا يُصححون لهم رؤيتهم. إذاً ماذا يمكن أن يقولوا؟ هل هؤلاء أيضاً كانوا خائنين؟ ربما لم يعرفوا من أين انحدر أولئك أيضاً؟ هل سبّبوا لكم ضيقاً؟ والمذابح، لماذا تنقضوها؟ هل هذه أيضاً سبّبت لكم ضيقاً؟

          أرأيت كثرة المشاجرات الفظيعة، ومقدار الإهانات الكبيرة التي يُظهرونها بصفة دائمة؟ ولهذا يقول ق. بولس في موضع آخر عندما كتب إلى أهل تسالونيكي: ” لأنكم تألمتم أنتم أيضاً من أهل عشيرتكم تلك الآلام عينها كما هم أيضاً من اليهود. الذين قتلوا الرب يسوع وأنبياءهم واضطهدونا نحن. وهم غير مُرضين لله وأضداد لجميع الناس “ [5] . وهذا ما يقوله هنا بالتحديد، إنهم نقضوا المذابح وقتلوا الأنبياء. لكن ماذا كان رد الله عليهم؟ ” قد أبقيت في إسرائيل سبعة آلاف كل الركب التي لم تجثُ للبعل “. أي علاقة لهذه الأمور بالأمور الحادثة الآن؟ بالطبع لها علاقة بالأمور الحادثة الآن، بل وبشكل كبير جداً. لأنه من هنا يتبرهن على أن الله قد أظهر هذا الأمر منذ القديم من خلال كل ما قاله ” إن كان عدد بني إسرائيل كرمل البحر فالبقية ستخلص لأنه مُتمم أمر وقاض بالبر. لأن الرب يصنع أمراً مقضياً به على الأرض .. ولولا أن رب الجنود أبقى لنا نسلاً لصرنا مثل سدوم “ [6] . ويؤكد أيضاً على إظهار هذا الأمر، ولهذا أضاف قائلاً ” فكذلك في الزمان الحاضر أيضاً قد حصلت بقيه حسب اختيار النعمة “.

          انتبه لكل كلمة كما هي برونقها، إذ أن الكلمات تُظهر نعمة الله، وتُظهر كذلك امتنان الذين خلصوا. لأنه حين يقول فقط “اختيار” فهو يعني اختيارهم، لكن حين يضيف كلمة “النعمة” فإنه يُظهر بذلك عطية الله.

  ” فإن كان بالنعمة فليس بعد بالأعمال. وإلاّ فليست النعمة بعد نعمة. وإن كان بالأعمال فليس بعد نعمة وإلاّ فالعمل لا يكون بعد عملاً ” (رو6:11).

          مرة أخرى يعود إلى منازعات اليهود، موضحاً أيضاً حرمان هؤلاء من المسامحة أو العفو (فيقول لهم): لأنكم لم تستطيعوا أن تقولوا إن الأنبياء قد قاموا بدعوتنا، وإن الله توسل إلينا، أو كأنكم  أردتم أن تقولوا: كان كافياً لكي يجذبنا، فقط أن يحثنا على الغيرة، بينما إضافة الوصايا كانت ثقيلة، ولهذا لم نستطع أن نأتي إلى الله، فالأنبياء طلبوا منا عملاً، وإنجازات مُجهدة. ولا هذا أيضاً استطعتم أن تقولوه. لأنه كيف يطلب الرب منكم هذه الأمور، في اللحظة التي فيها سيُغطي هذا الأمر على نعمته؟ لكنه قال هذه الأمور، لأنه أراد أن يُظهر أنه أراد لهؤلاء من كل قلبه، أن يخلصوا. لأن الخلاص المقدم لهم لم يكن سهلاً، بل إن مجد الله العظيم قد أُستعلن في محبته للبشر. إذاً لماذا خشيت أن تأتي، طالما أنه لم يطلب منك أعمالاً؟ ولماذا تثور وتجادل، بينما النعمة موجودة، وتفضل الناموس عبثاً وبدون سبب؟ لأنك لن تخلص بالناموس، بل وستُسيء إلى هذه النعمة. إذاً إن كنت تُصّر على أن خلاصك يتحقق بالناموس، فإنك تمنع عنك نعمة الله. وفيما بعد لكي لا يعتقدوا أن هذا أمرٌ غريب، قال مُقدَماً، إن هناك سبعة آلاف قد خلصوا بالنعمة. وعندما يقول    ” فكذلك في الزمان الحاضر أيضاً قد خلصت بقية حسب اختيار النعمة “، يُظهر أن أولئك قد خلصوا بحسب النعمة. وليس هذا القول فقط، بل قال أيضاً “أبقيت لنفسي”. لأن هذا هو ما يُظهره، أي أن الله قد قدم الكثير.

          وإن كان هذا الخلاص قد تحقق بالنعمة، فلماذا لم نخلص جميعاً؟ الجواب: لأنكم لا تريدون. لأن النعمة برغم كونها نعمة، إلاّ أنها تُخلّص الذين يقبلونها، وهي لا تخلص الذين لا يريدون أن يخلصوا بل ويتحولون عنها ويحاربونها دوماً ويقاومونها. أرأيت كيف أنه بكل هذا يُدلل على ما يقوله، ” لكن ألا يعني هذا إثبات عدم صدق كلمة الله “؟!  بالطبع لا بل أنه أراد أن يُبيّن أن وعد الله هو للمستحقين، وأن هؤلاء وإن كانوا قليلين، إلاّ أنهم يمكن أن يكونوا شعب الله. وقد أشار في بداية الرسالة إلى ذلك بتشديد أكثر، قائلاً ” فماذا إن كان قوم لا يكونوا أمناء. أفلعل عدم أمانتهم يُبطل أمانة الله. حاشا. بل ليكن الله صادقاً وكل إنسان كاذباً “ [7] . والآن أيضاً هو يُدلل على ذلك بشكل آخر، مُبيّناً قوة النعمة، وأنه دائماً يوجد من يخلصون، ومن يهلكون.

          6  لنشكر الله إذاً، لأننا نحن ضمن هؤلاء الذين خلصوا، فبرغم أننا لم نستطع أن نخلص بالأعمال، لكننا خلصنا بعطية الله. إلاّ أننا عندما نشكر، فينبغي ألا نشكر بالكلام فقط، بل بالأعمال والأفعال. لأن الشكر يكون صحيحاً، عندما نفعل الأمور التي بها يتمجد الله، وحين نتجنب الأمور العتيقة التي سبق أن تحرَّرنا منها. فرغم أننا كنا قد احتقرنا الملك، إلاّ أنه قد كرّمنا بدلاً من أن يعاقبنا، لكن  لو أننا احتقرناه مرة أخرى  عندما يتملّكنا أسوأ أنواع الجحود  فإننا سنُعَاقَب عن حق بأسوأ أنواع العقاب، وأكثر بكثير من السابق. لأن إساءتنا السابقة لم تُظهر لنا أننا جاحدين، بقدر الإساءة التي نوجّهها بعد الكرامة التي نلناها، والرعاية الكبيرة التي حصلنا عليها. لنتجنب إذاً تلك الأمور التي تحرَّرنا منها، ولا ينبغي أن نشكر فقط بالفم حتى لا يُقال لنا ” وهذا الشعب قد اقترب إليّ بفمه وأكرمني بشفتيه وأما قلبه فأبعده عني “ [8] . كيف إذاً لا يكون غريباً عندما تُسبح السموات بمجد الله، تلك السموات التي خُلقت لأجل هذا الغرض، وأنت تصنع مثل هذه الشرور، حتى أنه يُجدف على الله الذي خلقك، بسببك؟

          ولهذا فإنه ليس فقط من يُجدف هو الذي سيُعَاقَب بل وأنت أيضاً. لأن السموات لا تسبح الله بالصوت، لكنها تُعد الآخرين لهذا التسبيح عندما ينظرون إليها، إلاّ أنه يُقال إن السموات تتحدث بمجد الله. هكذا كل من يحيا حياة الفضيلة بطريقة نقية، حتى وإن صمتوا، فإنهم يُمجدون الله، لأن بسببهم يُمجده آخرون أيضاً. لأنه لا يتمجد الله من السموات بنفس القدر الكبير، الذي يتمجد به عن طريق الحياة النقية. فعندما نتناقش مع اليونانيين، لا نُقدم لهم السماء، بل البشر، الذين سلكوا بصورة أسوأ من الوحوش، إلاّ أنهم تحوّلوا وصاروا في مرتبة متساوية مع الملائكة. وعندما نتكلم عن هذا التحول، فإننا نغلق أفواههم. لأن الإنسان هو أفضل بكثير من السماء، ويمكن أن يصبح أكثر بهاءً من جمال السماء. لأنهم كانوا قد نظروا إلى السماء سنوات عديدة، إلاّ أنها لم تُقنعهم كثيراً، بينما الرسول بولس برغم أنه كرز لسنوات قليلة إلاّ أنه جذب كل المسكونة.

          بالحقيقة هو يحمل نفساً ليست أقل من السماء، وقد استطاعت أن تجذب الجميع. أما نفوسنا نحن ليست مساوية في القيمة ولا حتى للأرض، بينما قيمة نفسه فهي مساوية السماء. لأن السماء مازالت تحتفظ بحدودها وقانونها، بينما سمو نفس ق. بولس فاق كل السموات، ودخلت نفسه في عشرة مع المسيح ذاته. وكان جمالها قد بلغ حداً كبيراً، حتى أن الله قد اختصه بالاختيار، لأن الملائكة قد اندهشت لجمال النجوم عندما خُلقت بينما الرسول بولس قد سُرّ به الله، قائلاً: ” هذا لي إناء مختار “ [9] . وهذه السماء تحجبها السحب في مرات عديدة، ولكن نفس الرسول بولس لم تحجبها أي تجربة، بل في الشتاء كانت تبدو أكثر بهاءً من شروق الشمس وهي في متنصف النهار، قبل ظهور السحب. لأن الشمس التي تُنير نفس ق. بولس، لم تترك أشعتها تحتجب نتيجة تراكم التجارب، لكنها أشرقت أكثر. لهذا قال ” تكفيك نعمتي لأن قوتي في الضعف تكمل “ [10] .

          إذاً فلنتشبه بالقديس بولس، لأنه ليس هناك شيء يساوي قيمة النفس، لا هذه السماء ولا الشمس، ولا العالم كله، لأن هذه الأشياء صارت من أجلنا، وليس نحن الذين صرنا من أجلها، لو أردنا أن تصير نفوسنا مثل نفس القديس بولس. فلنبرهن على أننا مستحقون، لأن هذه الأشياء قد صارت من أجلنا. لأننا لو ظهرنا غير مستحقين لهذه الأمور، فكيف نصير مستحقين للملكوت؟ كذلك فإن أولئك الذين يعيشون للتجديف على الله هم غير مستحقين أن يروا الشمس، ولا أن يتمتعوا بالمخلوقات التي تمجد الله. لأن الابن أيضاً الذي يحتقر والده، يكون غير مستحق أن يتمتع بخدمة الخدام الذين يكرمونه. ولهذا فإن هؤلاء سيتمتعون بمجد كبير، أما نحن فسنُعاني عذاب الجحيم وسنكون مستحقين للعقاب. فيا لها من تعاسة، أن الكون الذي خُلق لأجل حرية مجد أولاد الله، يتغير شكله، بينما نحن الذين خلقنا أولاداً لله، ننقاد إلى الهلاك بسبب لامبالاتنا الكبيرة، نحن الذين بسببنا، سيتمتع الكون بهذا المجد الكبير؟

          ولكي لا يحدث هذا، فبقدر ما لنا من نفس نقية فلنحفظها هكذا، أو من الأفضل أن نزيدها بهاءً، بينما لا يجب أن يصيبنا اليأس بسبب نفوسنا غير النقية. ” هلم نتحاجج يقول الرب إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيض كالثلج. إن كانت حمراء كالدودي تصير كالصوف” [11] . لكن الله عندما يَعِد، فيجب ألاّ تتشكك بل أن تفعل تلك الأمور التي تستطيع بها أن تحصل على هذه الوعود. هل فعلت شروراً لا تُحصى وهل أخطأت؟ وما أهمية هذا؟ لماذا لم تذهب بعد إلى الجحيم، الموضع الذي فيه لا يستطيع أحد أن يُقر أو يعترف بخطاياه، لم ينتهِ جهادك بعد، بل انهض بعزيمة داخل الحلبة، ويمكنك أن تنتصر على كل الهزائم في الجولة الأخيرة. أنت لم توجد بعد في مكان الرجل الغنى، لكي تسمع ” بيننا وبينكم هوة عظيمة “ [12] . لم يأت العريس بعد، ولن يخف أحد ويمنع عنك الزيت، مازال في إمكانك أن تشتريه وتدّخره، ولن يوجد مَن يقول ” لا يكفي لنا ولكن “ [13] ، فأولئك الذين يبيعونه هم كثيرون: العراة، والجوعى، والمرضى، والمسجونين. أعطى طعاماً للجوعى، وأكسى العراة، وداوم على زيارة المرضى، وسيأتي الزيت بوفرة من منابعه.

          لم يأت بعد يوم الدينونة. استفد من الوقت كما ينبغي، وسدد الديون، قل لمن هو مدين بمئة بث زيت، قل له ” خذ صكاً .. واكتب خمسين “ [14] . افعل نفس الشيء بالنسبة للمال، والكلام، وفي كل شيء،  متبعاً مثال ذلك الوكيل. وهذه الأمور إنصح بها نفسك، وأقرباءك. لأنك لاتزال سيد الموقف ويمكنك أن تقول ذلك، فأنت لست في احتياج أن تترجى آخراً لأجل هذه الأمور، بل يمكنك أن تنصح بها نفسك وآخرين أيضاً. أما عندما تنتقل إلى الحياة الأخرى، فلن تستطيع أن تفعل كما ينبغي أياً من هذه الأمور. لأنك أنت يا من أخذت كل هذه المهلة الكبيرة، ولم تكن مفيداً، لا لنفسك ولا للآخرين، فكيف سيمكنك أن تنال هذه النعمة حين تقف بين يدي الديان العادل؟

          7  إذاً لنستجمع كل هذه الأمور، ولنسعَ نحو خلاصنا بشدة، ولا نترك فرصة الحياة الحاضرة. لأنه من الممكن أن نصير مقبولين أمام الله في اللحظات الأخيرة من حياتنا. من الممكن أن نُكرّم أو نُسّر من خلال تعهدنا أمام الله. لكن كيف وبأية طريقة؟ يحدث هذا إن تركت وصية لذاك المحتاج مع ورثتك، وتركت له نصيباً من كل ثروتك. هل قدمت له طعاماً عندما كنت في هذه الحياة؟ فعلى الأقل طالما أنك ستموت ولن تكون بعد سيداً، فعليك أن تعطى للمحتاج مما لك. الرب هو محب البشر، ولا يطلب منك أن تتوخى الدقة في كل شيء. أن تُغذي المحتاج، وتجزل له العطاء وأنت لازلت في هذه الحياة الحاضرة، فهذا يعد نموذجاً للرغبة القوية في المكافأة العظيمة، فإن كنت لم تفعل هذا، فعلى الأقل تقدم نحو الأمر الثاني، أي أترك له نصيباً في ثروتك، اجعله شريكاً لورثتك، مع أولادك. ولكن إن ترددت في فعل هذا، فكّر في أن أباه السمائي قد جعلك وارثاً له (أي للآب)، وضَّع حداً لجشعك. أي دفاع ستُقدم، عندما لا تجعل ذلك المحتاج [15] شريكاً لأولادك، إنه ذاك الذي جعلك شريكاً في ملكوت السموات، وذُبح لأجلك؟ وإن كان من المؤكد أن كل ما فعله، لم يكن بهدف أن ترد له الدين، بل كل ما فعله هو على سبيل النعمة، إلاّ أنك بعد كل هذه الإحسانات، صرت مديوناً.

          لكن بالرغم من أن هذه الأمور هي هكذا، وحيث إنك تأخذ النعمة، لا أن ترد له الدين، إلاّ أنه يتوّجك، بينما هو يأخذ مما له. إذاً فلتعطِ لذاك المحتاج (المسيح) مالاً لم يعد له نفع لك بعد، خاصةً وأنك لست بعد سيداً (على هذا المال)، وسيعطيك الملكوت الذي سيكون مفيداً ونافعاً على الدوام، وبالإضافة للملكوت، سيهبك أمور العالم الحاضر. لأنه إن صار شريكاً في ميراث أبنائك، فإنه سيُخفف عنهم اليُتم، وسيُبطل الدسائس، ويصَّد عنهم السهام ويغلق أفواه الواشين. وإن كان هؤلاء لن يستطيعوا الحفاظ على العهود بعد، فإن المسيح سيحفظها، ولن يتركها تُنقض. لكن إن سمح أن يحدث هذا، فإنه سيدفع أو يُسدد المكتوب في العهود أو المواثيق كلها بسخاء عظيم، وذلك مما له، لأن كرامة العهد هي في عدم العدول عنه. إذاً اترك ذاك (المحتاج) أن يصير وريثاً لك، والمسيح، سيعوضك بالعدل عن كل ما فعلته هنا.

          بيد أن بعض من البائسين التعساء، الذين وإن كانوا لم ينجبوا أبناء، إلاّ أنهم لا يحتملون أن يصنعوا هذا (أي أن يجعلوا المسيح وريثاً لهم)، بل يفضلون أن يوزعوا ما يمتلكون على المتطفلين، والمنافقين، وعلى فلان وفلان، بدلاً من أن يُعطوا للمسيح الذي أسعدهم بهذه السعادة الكبيرة. فهل هناك ما هو أكثر غرابة مما يفعله هؤلاء؟ لأن مثل هؤلاء الناس لا يقارنهم أحد بأي من مخلوقات الله، إذ لا يستطيع أن يقول شيئاً ذي قيمة عن غبائهم وعدم إحساسهم، ولا يمكن أن يجد أي صورة تُعبّر عن جنونهم وإنحلالهم. إذاً أي غفران سيناله هؤلاء، إذ أنهم لم يطعموا المسيح عندما كانوا على قيد الحياة، وحين كانوا مهيئين أن ينتقلوا إليه، لم يقدموا من أموالهم، ولو جزءً يسيراً والتي ليس لهم بعد سلطان عليها، لكنهم سلكوا ببغضة وعداوة، بل أنهم لم يُعطوا الفقراء حتى من تلك الأشياء التي صارت بلا نفع بالنسبة لهم؟ ألم ترَ كم من هؤلاء الناس لم يكونوا مستحقين لهذه النهاية [16] ، بل ماتوا فجأة؟ بينما أنت فقد أعطاك الله الإمكانية أن تتحدث عن ثروتك وعن كل ما هو موجود في بيتك.

          إذاً أي مبرراً ستُقدم، حين تكون قد أخذت هذه النعمة من المسيح، ثم تخون هذا الاحسان، وتقف خارج الدائرة، ضد إيمان آبائك؟ لأن أولئك عندما كانوا على قيد الحياة، باعوا كل شيء ووضعوه عند أقدام الرسل [17] ، أما أنت ولا حتى عندما تقترب من الموت، تعطى أيضاً حصة معينة من ثروتك لأولئك الذين هم في احتياج. والأفضل بالطبع، وهو الأمر الذي يمثل سخاء كبيراً أن تُخفف من حالات الفقر، وأنت في هذه الحياة الحاضرة. وإن لم تُرد فعل هذا، فعلى الأقل عند موتك اصنع شيئاً نبيلاً. هذا لا يُعد نموذجاً لمحبة قوية للمسيح، إلاّ أنه يُعد نموذجاً لمحبة قليلة. لأنه وإن كنت بعد لم تكتسب المكانة الأولى بين الخراف، إلاّ أنه ليس بالأمر الزهيد أن توجد على الأقل وسط الخراف، وليس بين الجداء، ولا على اليسار. لكن إن لم تفعل ولا حتى هذا الأمر، فأي مبرراً سيُخلّصك، حين لا يجعلك ولا حتى الخوف من الموت، محباً للناس، ولا الأموال أيضاً ستُفيدك لأنها ستصير بلا نفع فيما بعد، ولا يعد مبرراً لذلك أنك تريد أن تترك تأميناً لأبناءك؟

          ولهذا فإني أرجوكم أن تتركوا الجزء الأكبر من ثروتكم لمن هم في احتياج وأنتم لاتزالون في هذه الحياة. لكن إن كان البعض مُصاباً بصغر النفس إلى هذا الحد، حتى أنهم لا يحتملون أن يفعلوا هذا، فعلى الأقل فليكونوا مُحبين للناس المحتاجين. لأنه عندما كنت في هذه الحياة، كنت تتعامل مع الأشياء، كانك غير مائت، أما الآن فنظراً لأنك علمت أنك فانٍ، فعلى الأقل الآن تخلى عن إيمانك بأنك خالد، وكإنسان فانٍ فكّر فيما يخصك، أو من الأفضل القول فكّر كشخص سيتمتع على الدوام بالحياة الأبدية. لأنه وإن كان ما سيُقال يعتبر أمراً يبعث على الضيق ومملوءاً فزعاً، إلاّ أنه ينبغي أن يُقال، لقد أُحصى السيد الرب مع عبيدك. فهل تُحرر العبيد؟ حرَّر المسيح إذاً من الجوع، من الاحتياج، من السجن، ومن العري. أترتعب عند سماع هذه الأمور؟ إذاً سيكون الأمر أكثر فزعاً عندما لا تصنعها وأنت في هذه الحياة، وبالطبع الكلام هذا يجعلك تقشعر. لكن عندما تنتقل إلى هناك (أي للحياة الأبدية)، ستسمع أموراً أكثر رعباً من هذه، وسترى العذابات التي لا تُحتمل، فماذا ستقول؟ إلى من ستلجأ؟ ومَن ستدعو ليكون ناصراً ومُعيناً؟ هل ابراهيم؟ لكنه لن يسمع. هل أولئك العذارى الحكيمات؟ ولا هؤلاء سيعطونك زيتاً. هل الأب؟ هل جدك؟ ولا واحد من هؤلاء لديه القوة أن ينقض ذلك الحكم، حتى لو كان قديس عظيم.

          إذاً فلتفكر في كل هذه الأمور، في ذاك الذي له وحده القدرة على أن يمزق الصك الذي عليك، وأن يُطفئ ذلك اللهيب. ليتك تترجاه وتتضرع إليه، واجعله من الآن مترفقاً بك ومعيناً لك، قَدِم له المأكل والملبس على الدوام، لكي ترحل من هنا، برجاء صالح، وعندما تصل إلى هناك إلى الحياة الأبدية، تتمتع بالخيرات الأبدية. وليتنا جميعاً ننالها بالنعمة ومحبة البشر اللواتي لربنا يسوع المسيح، الذي يليق به مع الآب والروح القدس المجد إلى أبد الآبدين آمين.


[1] 1مل10:19.

[2] 1مل18:19.

[3] يقصد إيليا النبي.

[4] هنا يشير إلى صعود إيليا إلى السماء بمركبة نارية.

[5] 1تس14:2ـ15.

[6] رو27:9ـ29.

[7] رو3:3ـ4.

[8] إش13:29.

[9] أع15:9.

[10] 2كو9:12.

[11] إش18:1.

[12] لو26:16.

[13] مت9:25.

[14] لو6:16.

[15] يقصد المسيح له المجد حين قال: ” بما أنكم فعلتم بهؤلاء الأصاغر فبي قد فعلتم “

[16] أي فرصة الاستعداد قبل أن يموتوا.

[17] انظر أع34:4.

Vá para o seu celular