1- أهمية الطقوس ومبدأها وماهيتها في الكنيسة
ننتمي إلى الكنيسة بالطقوس عامة أي بمجموعة الرموز والحركات (من شموع وبخور ودورات وغيرها) وكل ما تقيمه الكنيسة من خدمات لتسبيح الله وتقديس المؤمنين بما فيها الأصوام وأفاشين التقديس المختلفة والأسرار الكنسية السبعة وفي النهاية والقمة القداس الإلهي.
والحقيقة أننا لا ننتمي فقط إلى الكنيسة بالطقوس بل نعيش بها في الكنيسة، نعيش حياة الكنيسة وسرها الإلهي.
آ- إذا أردنا أولاً أن نتبين مكانة الطقوس عامة في حياة الإنسان، بصرف النظر عن طقوس الكنيسة، رأينا أن معظم نواحي حياتنا الاجتماعية مرتبة وفق طقوس. ففي الحقل السياسي والدبلوماسي مثلاً، أو في الحقل القضائي، أو في الحقل الرياضي نرى الأمور تجري وفق (بروتوكول) معين وألبسة خاصة وأعلام أو إشارات وهتافات وتحركات وغيرها. وكذلك في احتفالات الأعياد الرسمية والموسمية الشعبية (كمهرجان الزهور مثلاً) وفي بعض الجمعيات التي تتخذ لها رموزاً خاصة، بل أن مظاهر حياتنا الاجتماعية العادية أحياناً، كالولائم وغيرها، لا تخلو من طقوس أو شبه طقوس بقدر. وليس هذا كله سوى تعبير عن رغبة خفية أو حاجة في الإنسان إلى الانتقال بحياته إلى مجال آخر غريب ومتعال، إلى تخم أو أفق آخر يتجاوز الإنسان ويعلو عليه. وهذه الظاهرة تتجلى بوضوح في الديانات. فالديانات منذ أقدم العصور تركزت تلقائياً حول الطقوس، سواء أكانت برقصات وصرخات وطبول أو بمحرقات وذبائح. وطقوس الديانات كلها تقدم إلى الإله أو الآلهة كيفما سميت، إلى ذاك الشخص المتعالي، أو ذاك العالم المتعالي الذي يفوق الإنسان، لكي ينال منه الإنسان الرضا والحماية والحياة. فالطقوس إذاً في حياة الإنسان وتاريخه وطبعه أداة ووسيلة للاتجاه إلى فوق، إلى العالم الآخر، إلى الله. بها نتوجه ونحاول أن نبلغ إليه.
ب- أما في الكنيسة فالطقوس هي بالعكس تعبير وإناء لمجيء الله إلى الإنسان. لأن الله لا يبلغ إليه بل هو الذي يأتي. ومنذ أن أتى ولبى رغبات الإنسان في الصميم أضحت الطقوس في الكنيسة تعبيراً، كما قلنا، ومكاناً لهذا المجيء. لأن الله قد تجسد فالطقوس في الكنيسة لم تعد مجرد ظاهرة طبيعية أو تضرعات إلى الله بأشكال مختلفة، بل أصبحت تنقل شيئاً، تشهد، تهيئ إلى شيء وتقدمه، تروي لنا أولاً ذلك التجسد وكل عملية الفداء والخلاص ولكنها لا ترويه فقط بل تضعه أمامنا في حقيقته الأبدية مستحضرة إياه في الزمن. إن الطقوس الكنسية والحالة هذه هي إذاً أكثر من طقوس إذا جاز القول. منذ الآن أقول إن من خلالها يحضر المسيح حقيقة وهو غير منظور. ليس كالعلم (بفتح العين واللام) مثلاً: فالعلم يرمز إلى الوطن ولكنه ليس الوطن، أما طقوس الكنسية فترمز إلى المسيح وتدبيره الخلاصي ولكنها أيضاً تحويه. تحوي حضوره: ميلاده وظهوره للناس وتعاليمه وصلبه ودفنه وقيامته من بين الأموات.. وفي النهاية تحوي جسده ودمه عينهما في الخبز والخمر:(هذا هو جسدي.. هذا هو دمي..).
الطقوس في الكنيسة هي أكثر من طقوس: هي مجموعة رموز لا تمثل الحقيقة الروحية بل تَحقُقها.
ج- ولكن لماذا الطقوس وما الحاجة إلى أن تكون هي مكاناً لاقتبال الله؟ ما الحاجة إلى شيء حسي منظور ليعكس الروح غير المنظور؟ ذلك لأن الإنسان حسي، جسد وروح. الإنسان من الأرض جبل (بضم الجيم)، ومن أرضه المنظورة والملموسة وبواسطة حواسه أولاً ينطلق إلى غير المنظور. سنبين فيما بعد ضرورة إحياء الطقوس من الداخل وعيشها بصورة شخصية وحرة، لأن ديانتنا تبقى ديانة القلب في الدرجة الأولى. ولكن هذا لا يمنع من أن الإنسان أيضاً بجسده يعبر ويعيش، بجسده يسبح ويسجد، بل يؤمن، برسم صليب وترتيل وسجود.. (قدموا أجسادكم ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله عبادتكم العقلية (رو 1:12). الإنسان لا يتجزأ عن جسده. ثم الله لما تجسد اتخذ وضع الإنسان الجسدي الأرضي بكامله (ما عدا الخطيئة). لقد تبنى طبيعتنا بجملتها، بتركيبها وطرق فهمها وطرق تعبيرها، لكي يعود بنا بها إلى الآب. مارس الطقوس اليهودية، تلا المزامير مع تلاميذه وصنع الفصح كما نعلم، ثم حولها آنية ومحلاً لخلاصه وفصحه هو. أتى إلينا حيث نحن لكي من حيث نحن نتقبله، ونستطيع أن نتقبله. قدس أرضنا وموادها لكي يتم خلاصه في أرضنا ومن خلالها.. إن الطقوس إذاً كما نرى مبنية على طبيعة الإنسان وعلى سر التجسد في آن واحد. ولذا فإن أنكرنا مبدأ الطقوس في الكنيسة أو أهملناه نكون قد أنكرنا بالنتيجة وأهملنا سر التجسد، أي تغربنا عن كامل محتواه ونتائجه وفاعليته فينا.. هذا وفي الواقع لا بد عملياً من طقوس ولا مفر منها مهما كانت مجردة ومختصرة وفقيرة. لا مجال للتخلي عن الطقوس كلياً. ولكن سر التجسد ليس فراغ وفقر بل هو سر كل غنى الله على الأرض، سر قوة الله وملئه في الأرض الجديدة التي الكنيسة باكورتها.
د- ونلاحظ أيضاً أن للطقوس دوراً في تاريخ عملية الخلاص إذا جاز القول. بعبارة أخرى كان لله قصد من وراء الطقوس منذ العهد القديم وهي لا تزال الآن تحمل قصداً إلهياً في الزمن. ففي العهد القديم نرى مثلاً ملكيصادق الملك الذي يحوطه السر والمدعو كاهن الله العلي، ملك شليم أو أورشليم، يخرج خبزاً وخمراً عند مباركته لأبرام، راسماً بذلك مسبقاً ذبيحة المسيح وعشاءه السري. كذلك ذبيحة ابراهيم لإسحق ابنه الرامزة لذبيحة المسيح، حتى إذا جاء المسيح وتممها مع بقية الذبائح والفرائض الموسوية كف الطقس عن أن يكون صورة وظلاً ليعبر عن ملء… ولكن بين الطقس وتحقيقه مسافة في الزمن كما نلاحظ. فكل طقوس العهد القديم مبنية في الأساس على وعد الله لابراهيم أبي المؤمنين وكانت تقام انتظاراً لتحقيق الوعد. هناك إذاً مسافة، انتظار، نوع من حركة، كأن الطقوس متجهة إلى ما أبعد منها، كأن فيها حركة داخلية إلى ما أبعد منها وأعلى. وهذا صحيح حتى في العهد الجديد، أي في الكنيسة، مع الفارق. ففي طقوس الكنيسة يحضر المسيح سرياً كما رأينا ولكننا لا نزال ننتظر أيضاً حضوره الكامل في مجيئه الثاني المجيد، ولا نزال نطلب هذا المجيء. طقوس الكنيسة تحوي المسيح سرياً ولكنها مع ذلك، بل لأنها تحويه سرياً، متجهة داخلياً بأكثر لهفة وحرارة إلى كامل ظهوره ومجده، إلى (نهار ملكه الذي لا يغرب أبداً)(من تراتيل قانون الفصح).
هذا هو إذاً فحوى الطقوس بالنسبة للتاريخ والزمن: حضرة ولكن أيضاً ترقب وانتظار، رؤية ومع ذلك تطلع إلى الأمام، نوع من مشادة، من حركة داخلية تجعل الطقوس في كيانها غير جامدة وغير متوقفة، بل فيها عمل، فيها تيار، هو تيار الكنيسة عينها حيث يعمل الله ولا يزال يعمل. فقضية الانتماء إذاً هي قضية الدخول في تيار الطقوس من أجل الدخول في تيار الكنيسة وعمل الله فيها وفي العالم بواسطتها.
هـ- وبهذا نأتي إلى نقطة تحديد ما الكنيسة إذاً وما موضع الطقوس بالنسبة إليها؟ لا يدخل في نطاق بحثنا موضوع تحديد الكنيسة. ولكن لا بد من التأكيد- من منظار موضوعنا- على أن الكنيسة في جوهرها الأخير ليست مؤسسة جامدة متوقفة. بل ليست مؤسسة على الإطلاق، وليست جماعة المؤمنين ولا أياً من التعاريف الأخرى التي يعرفونها بها عادة. الكنيسة يعجز عن تعريفها لأن أي تعريف لا يمكن أن يحيط بسرها. فكل ما يمكن قوله هنا أنها (المكان)- ليس بالمعنى المادي ولا بالمعنى الحصري- إنها المكان الذي يتم فيه عمل الله- حيث تفعل نعمة الله الدائمة ويحضر ويتحقق تدبيره الخلاصي في العالم من أجل البشر. ذلك الخلاص، المقصود منذ الدهور، والذي تم بالمسيح مرة واحدة إلى الأبد، يأتي إلى كنيسة المسيح من عند الله الآب ويحضر ويجري فيها بالروح القدس بصورة سرية على الدوام، إلى أن يبلغ العالم إلى الله في اليوم الأخير. الكنيسة إذاً (مجرى) خلاص الله في التاريخ إذا جاز القول ومكان ظهوره.. ولكن كيف وبأي شكل؟ بالطقوس بالدرجة الأولى كما سنرى بعد قليل، بالطقوس (كعلامة) لما وراءها والذي يفوقها بكثير، ولكن كعلامة (ظهور) وقد قيل إن الطقوس بمثابة ظهور الكنيسة. وكعلامة ملازمة وقد قيل أيضاً (حيث توجد الكنيسة توجد أيضاً ليتورجيا (وكلمة ليتورجيا هنا بمعنى طقوس) وحيث ليس ليتورجيا ليس أيضاً من كنيسة).. ولذلك نرى المضطهدين منذ أيام الرسل همهم الأول منع اجتماع المؤمنين وإغلاق الكنائس، مع تحريم إقامة الشعائر الدينية. ولذلك كان المسيحيون الأولون يخاطرون بحياتهم ليجتمعوا خفية في الكهوف ويصلوا ويؤلفوا الكنيسة.
نحن نصل إذاً في بحثنا إلى هذه النتيجة:
- هناك تلازم إلى حد بعيد جداً بين الطقوس والكنيسة. الكنيسة لا تبقى كنيسة بدون طقوس.
- الطقوس تعطينا خلاص الله الذي في الكنيسة ليعمل هذا الخلاص فينا وفي العالم بواسطتنا.
- نحن نقبل إلى الكنيسة بالطقوس ولكن متى أقبلنا فالكنيسة هي التي تقدم لنا سرها وخلاصها وحياتها الإلهية، أي أن الكنيسة في الأخير هي التي تصنعنا أكثر مما نحن نصنعها. هي التي تجعلنا ننتمي إليها بالطقوس.
2- وظيفة الطقوس عملياً في الكنيسة
ما هي عملياً وظيفة الطقوس وكيف بها ننتمي إلى الكنيسة الانتماء الذي نتكلم عنه؟ جواباً عن هذا السؤال سنورد هنا النقاط التي تبين وظائف الطقوس الرئيسية:
آ- إننا ننتمي إلى الكنيسة بالطقوس أولاً عن طريق Segredos الكنسية السبعة، ابتداء من سر المعمودية. إن سر المعمودية وسر الشكر هما في هذا المضمار السران الرئيسيان- الأساس والقمة- النابعان من جنب المخلص بالماء والدم الكريمين. ولكن يمكن القول بصورة عامة أن الأسرار الكنسية ينطبق فيها أكثر ما ينطبق مفهوم السر الروحي الذي ذكرناه آنفاً والذي يمد حضور المسيح بيننا حضوراً حقيقياً غير منظور من وراء المادة المنظورة. بالأسرار الكنسية المنظورة (بالماء والدم..) نأخذ خلاص الله ونعمته سرياً ولكن بصورة (عضوية) إذا جاز القول (من جنب المخلص..)، نأخذ شيئاً من حياة الله. الأسرار الكنسية بالنتيجة تعطينا الله لكي تحولنا إليه. تلدنا في الله. وهذا معنى كلمة (مسيحيين) أي منه، من طبيعة المسيح. هي تسكب فينا نعمة الرب فتفعل فينا فعل حياة، فعل خلق روحي بشكل سري دون أن ندري كيف، على مثال الطعام الذي يبقينا في الحياة دون أن ندري كيف. ولذا فهي، كل سر في وقته وفي ظرفه، أداة ولادة لنا ونمو في الرب إلى أن نبلغ إلى ملء قامته، ولذا تطابق أهم أطوار حياتنا: الولادة، الزواج أو الكهنوت.. المرض والموت.. ولذا فإن البعض منها كسري التوبة والشكر، جعل للممارسة المتكررة المتواترة، للتجدد والاغتذاء الدائم. وقد تكلم الرب يسوع إصحاحاً كاملاً في إنجيل يوحنا ليقول ويردد:(جسدي مأكل حق ودمي مشرب حق.. من لا يأكل جسدي ويشرب دمي ليست له حياة فيه)(يو6). بالأسرار الكنسية تنبت حياة الله فينا وتغيرنا. تؤلهنا كما يقول الآباء، تجعلنا مشاركين الطبيعة الإلهية كما يقول بطرس الرسول، لأنه ما قيمة تجسد المسيح وانحداره إلى أعماق طبيعتنا إن لم يكن ليعطينا حياته الإلهية؟..
ولكن ممارسة الأسرار ليست من باب الامتلاك ولا من باب الاكتفاء، لأن الله لا يمتلك بل يسعى إليه وهو الذي يأتي كما قلنا. ونحن في الأسرار ننال (عربون) الحياة ونطلب المجيء الكامل (بأكثر حقيقية) كما نقول في القداس الإلهي. فممارسة الأسرار هي إذاً لا من باب الاكتفاء بل من باب الفقر والعوز، من باب الانفتاح المؤمن والامتداد نحو الله، لأن منه هي عين الحياة.
وبالإضافة إلى الأسرار الكنسية السبعة هناك الخدم التقديسية التي تطهر وتقدس الإنسان في ظروف حياته وبيئته كلها، كالصلاة على الولادة والمرضى والموتى وتقديس الكنائس والأيقونات ومباركة الطعام والحقول والمياه.. لقد قدس الرب الخليقة بوجوده على الأرض وسيره فيها ومشاهدته الطيور واعتماده في المياه.. وشفى المرضى وبارك الأولاد.. وأعطى تلاميذه القوة نفسها. والخدم التي نحن بصددها تواصل بركات الرب هذه وتحملها إلى الكون كله لأن الخليقة أيضاً تئن وتتمخض متوقعة التبني والعتق من عبودية الفساد (رو8). ولذلك نكثر أيضاً من هذه الصلوات كرش البيوت بالماء المقدس ووضع الصلبان والأيقونات في المنازل وغيرها (لتطرد القوات الشريرة وتسهل العلاقات بين البشر).
وهكذا فإن الطقوس في وظيفتها هذه الأولى- الوظيفة السرية- تمنح نعمة الرب وتنشرها في الكون حتى تتقدس بها الطبيعة شيئاً فشيئاً وتتحول من جديد إلى الله بالمسيح (الذي به جميع الأشياء ونحن به)(1كو6:8).
ب- أما وظيفة الطقوس الثانية فهي الوظيفة الجماعية أي التي ننتمي بها إلى الكنيسة عن طريق الجماعة، شركة المؤمنين المتألفة حول الرب. إن اجتماع المؤمنين أمر بديهي كما رأينا والطقوس هي التي تجمعهم. لماذا؟ الناس عندما يلتئمون يلتئمون عادة لغرض أو فكرة ما أو حول شخص، ويميلون إلى تأليف وحدة حول ذلك الغرض أو ذلك الشخص. ونحن حين نجتمع في الطقوس نجتمع أصلاً لنؤلف وحدة، ووحدة حول المسيح. حين ابتدأ الرسل يجتمعون بعد القيامة والعنصرة كانت اجتماعاتهم مليئة بذكر المعلم وبحياته وأقواله وطيفه، بل كانوا يجتمعون من أجل ذكره وحوله، ليصنعوا ما أوصاهم به لذكره.. وكان قد قال لهم:(إذا اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي أكون في وسطهم). وذكره هذا واسمه وحضوره بينهم كان يوحدهم، يجعلهم جماعة واحدة وشركة، جسداً واحداً به وفيه: تلك هي وظيفة الطقوس التي نحن بصددها. إننا عندما نجتمع حقاً كتلاميذ للرب، حول الحمل وحول الكلمة وحول أعياد السيد، نختبر في داخلنا هذا الشعور بالجماعة، بالجسد الواحد، فتصعد صلاتنا حقيقية وتلقائياً بفم واحد وقلب واحد، ونجيب بعضنا بعضاً كالملائكة قدوس قدوس قدوس المجد لك يا الله، ونرتل (المسيح قام) يوم الفصح كإنسان واحد، ونسجد في العنصرة سجدة واحدة.. واختبارنا هذا للجماعة الواحدة (وأيضاً لوحدة كل البشر، الذين في البحر بعيداً وفي كل مكان سيادته كما نقول في صلاة نصف الليل والسحر) يقربنا من حقيقة أخيرة من أعمق الحقائق وأرهبها أعني بها كوننا كثيرين وواحداً في الوقت ذاته، على صورة الثالوث القدوس، الثلاثة في واحد.. لا نستطيع الخوض في هذا السر الرهيب ولا إدراكه. ولكن لا شك أن الطقوس تجمعنا باسم المسيح لتوحدنا بروحه القدوس، على صورة الله الثالوث، (لتجمع أبناء الله المشتتين إلى واحد)، (ليصيروا واحداً كما نحن). بعبارة أخرى لتشركنا بالله سرياً وتعطينا إياه في هذا الشكل وعلى هذه الصورة: في الجماعة. وهذا هو معنى الآية (أكون في وسطهم). إن اجتماعنا باسمه يجعله في وسطنا فنتحد بعضنا ببعض وبه ونصير واحداً فيه.
ولذا صلاتنا في الطقوس تختلف عن صلاتنا الفردية، وهذه لا تستطيع أن تقوم مقامها. في الكنيسة يصير لنا وضع آخر، هوية أخرى، لأننا نصلي صلاة الكنيسة. إني أشعر حينذاك أني أصلي لا صلاتي أنا بل صلاة الكنيسة وأنشد نشيد الكنيسة وأسجد سجود الكنيسة. أصلي وأسجد بدون كلفة ولا إجهاد لأن صلاة الكنيسة هي الجارية وهي تسندنا وتحملنا في صلاتنا. نحن ندخل ونشترك فيها وبقوتها أكثر مما نصنعها، لأن قوة الروح القدس فيها وهو قائدها.. ولذلك لا عبرة هنا لقيمة الكاهن الشخصية ولاستحقاقه أو عدم استحقاقه. صلاة الكنيسة فوق الكاهن وأعلى وأوسع منه ومنا بكثير. يكفي فقط أن ندخل حقاً في الصلاة الجماعية ونتجاوز أنفسنا رغم عدم استحقاقنا أو تفرقنا لنأخذ من روح الرب نعمة واتحاداً ومحبة على صورته.
ج- قلت إن الطقوس تجمعنا حول الحمل وحول الكلمة وحول أعياد الرب. إن اجتماعنا حول الحمل في العشاء السري هو القمة والنهاية، تتويج وتحقيق لكل غاية الكنيسة على الأرض. أما اجتماعنا حول الكلمة، حول الكتاب المقدس، فإنه يعطينا أيضاً خلاص الرب عينه والرب ذاته في قوة كلمته. إن الطقوس لا تورد الكتاب حرفاً ميتاً ولا على سبيل الاستشهاد به، ولا تسرده متجزئاً كيفما اتفق، بل تقدمه حياً محيياً، كلا معاشاً مترابطاً. إننا نعلم أولاً أن طقوسنا مشبعة بالكتاب تردد آياته بألف شكل، في تلاواتها وتراتيلها وأفاشينها، بصورة مباشرة وغير مباشرة. ونستطيع القول إنها منسوجة منه إلى حد بعيد في كثير من الأحيان وهي لا تشعر بحاجة إلى ذكر الإصحاحات والأعداد. ثم تختار لنا المقاطع المناسبة لكل ظرف بحكمة إلهية. ثم ترتيبها لنا وتسلسلها في الزمن الطقسي بصورة تدريجية وشاملة بإلهام من الروح. ويضيق بنا المجال لنشرح مثلاً تتابع أناجيل آحاد التريودي في الصوم الكبير بالنسبة لتهيئة النفس وصعودها نحو الفصح، أو أناجيل آحاد ما بعد الفصح وارتباطها العميق العجيب بالنسبة لنتائج القيامة في حياة النفس والجماعة. ثم تفسر لنا الطقوس الكلمة بالكلمة كمقطع العهد القديم بمقطع العهد الجديد الذي يحققه، أو مقطع الإنجيل بمقطع الرسالة الذي يوضحه. إن إنجيل أحد الفريسي والعشار مثلاً ترافقه رسالة بولس الرسول الثانية إلى تيموثاوس حين يقول:(أما أنت فقد تبعت تعليمي وسيرتي وقصدي وإيماني وأناتي ومحبتي وصبري). وكأنه يتباهى كالفريسي تماماً، ولكنه يتابع ويقول (في المسيح يسوع) ويكرر أيضاً (بالإيمان بالمسيح يسوع). وذلك لنتعلم أن الرب لا يذم البر في مثل الفريسي والعشار، بل البر الذاتي المنسوب للذات وغير المبني على نعمة الرب وبره هو فينا. كذلك أذكر لكم أيضاً أن الكنيسة في أسبوع كل من مرفع اللحم والجبن قبل الصوم مباشرة تتلو علينا أناجيل آلام المسيح وصلبه لئلا ننسى أن جهادنا في الصوم مبني على ومستمد من جهاد المسيح وآلامه وليس منا وإلا صار عقيماً مميتاً ولا مؤدياً إلى القيامة.. فالطقوس إذاً تقدم لنا خلاص الله في كلمته الإلهية الحكيمة المتجهة إلينا حية حكيمة (مضمونة)، موقعة بالروح. ولا ضرورة للتأكيد على الكرامة الخاصة التي للإنجيل المقدس في طقوسنا إذ نحمله وندور به ملتفين حوله ونضعه على المائدة المقدسة مع جسد الرب على الدوام، لأنه يمثل المسيح بالذات حاضراً بيننا مكلماً إيانا.ولذلك في الأديرة القديمة التي تعيش الطقوس كلها- كدير القديس سابا مثلاً- لا يهتمون مطلقاً للوعظ لأن الطقوس تحوي الوعظ. أما نحن فلا نستطيع أن نستغني عن الوعظ بل الوعظ هو الآن حاجتنا الحيوية بالنظر لجهل الشعب وفقدان وسائل تعليمه تقريباً. ولكن على كل حال يجب أن لا يصبح الوعظ عندنا نوعاً من حمى أو وسواس، أو روتين، وعظاً من أجل الوعظ، وأيضاً أن يغرف من كنز الطقوس ويفسرها ويوضح مقالها لأن الكنيسة في الطقوس هي التي تعظنا وتهدينا وتصنعنا..
د- أما اجتماعنا حول أعياد الرب فقصدت به كيف أن الطقوس تعرض لنا أسرار الخلاص بشكل متسلسل على مدار السنة ولا مجال للتطويل هنا. فيكفي أن نعرف أن الطقوس بترتيبها كل الصلوات والأعياد حول ذكر تدبير المخلص بالنسبة لسقوط الإنسان تُوجِد مثْلَ زمان مقدس ضمن زماننا العادي يفتح زماننا على الحياة الأبدية. على هذا الأساس ساعات النهار في الصلوات اليومية تصعد بنا كل يوم إلى القداس الإلهي، وأيام الأسبوع تصعد بنا إلى الأحد، وتَتابُعْ الآحاد والأعياد يَصعد بنا إلى عيد الفصح- وعيد الفصح جزء من الدهر الآتي- يضفي بهائه ونعمته على كل أيام السنة. وهكذا لا يعود الزمان مشتتاً ولا مغلقاً بل يصير علامة وسلَّماً نحو الحياة الأبدية.
هذا كله لأن الطقوس الجارية في الكنيسة تعكس في الحقيقة الواقع السماوي، والطقوس الجارية على الأرض حقيقتها وينبوعها في السماء. تذكرون كيف يروي لنا ذلك سفر الرؤيا لما كان الرسول يوحنا الحبيب منفياً في جزيرة باتموس محروماً من القداس الإلهي وكان (يوم الرب) يقول الكتاب، أي يوم الأحد، فيعطيه الله أن تنفتح له السماء بالروح ليرى القداس كما هو جارٍ في السماء أي حقيقة القداس الذي على الأرض، فيشاهد تسبيح الظفر من الملائكة والبشر ملتقين وساجدين حول الحمل المذبوح والحي في آن واحد، أي المسيح المصلوب والقائم من بين الأموات. والقداس الإلهي هذا هو جوهر تدبير المسيح، كما قلنا، الطقوس كلها تهيئ له وتنبع منه.. إنه معطى لنا من فوق.
هـ- نصل الآن إلى النقطة الأخيرة في وظيفة الطقوس. إننا أخيراً ننتمي إلى الكنيسة بالطقوس عن طريق التأمل والتسبيح اللذين ترفعنا بهما إلى الله وتتحدنا به بالمحبة. إن وظيفة الطقوس التأملية هذه تتداخل مع سابقاتها كما هو واضح ولكن يمكن القول إن الطقوس (الليتورجيا) وجدت بالنتيجة من أجل تسبيح الله والاتحاد به. كل شيء في الطقوس مرتب من أجل التأمل بالله، من أجل الارتقاء بالنفس إلى أعلى درجات التأمل والمحبة، وقد قال القديس غريغوريوس النيصصي: إن نعمة التأمل الميستيكي ازدهار لنعمة المعمودية.
إن الطقوس تنطلق بنا من الحواس أولاً، فبناء الكنيسة بتصميمه الرمزي الدقيق، وقدس الأقداس المرتفع وقبة الضابط الكل والأيقونات المقدسة والبخور الذكي الرائحة والتراتيل الخشوعية.. كل ذلك يؤلف مثل مكان مقدس يدعو النفس إلى ترك اهتماماتها العادية والاتجاه بكليتها إلى عالم الله.. ورأينا كيف تقدم لنا الطقوس أسرار الخلاص في مثل زمان مقدس يربط زماننا بالحياة الأبدية. ومن خلال هذا المكان وهذا الزمان المقدسين تحثنا الطقوس وتحملنا على التطهير بعبارات التوبة وطلب الرحمة الكثيرة:(يا رب ارحم.يا رب ارحم. يا رب ارحم). لأننا بدون تطهير وتوبة لا نستطيع الاقتراب من جبل الله المقدس بل نحترق ونجف (ونحن كثيراً ما نختبر ذلك). ثم تقدم لنا الطقوس المعاني السامية التي ترفع عقلنا نحو التأمل في الأسرار السماوية. ففي كل خدمة من الخدم نجد المقاطع التي تتكلم بالإلهيات كما أن كل خدمة تجري على إيقاع عبارات التهليل والتمجيد (هلليلويا، هلليلويا، هلليلويا. لأن لك الملك والقوة والمجد.. لك ينبغي كل إكرام وسجود..) وهناك أيضاً خدم تأملية بكاملها تقريباً: إن مديح العذراء مثلاً بأبياته المتلاحقة المتصاعدة (السلام عليك يا عمقاً لا قرار له، افرحي أيتها السلم المصعدة إلى السماء، السلام عليك يا منارة كلية التذهب..) يرفعنا كعلى دولاب دائر يصعد بنا إلى أعلى قمم التأمل في السر العجيب، وينير أذهاننا برؤية جديدة للحياة. عندئذ كما يقول القديس غريغوريوس النيصصي (عقلنا المتطهر والمتلقن الأسرار الإلهية يتسامى فوق كل الطبيعة الحسية والرياح والسحب والنجوم، ويعبر حدود الأثير، وهناك في أجواء القلب النقية يسرح في الأعالي مع أجواق الملائكة السماويين يتمتع بالمشهد المغبوط إلى ما لا نهاية). إن غاية الطقوس في كل هذا أن تصل بنا عن طريق الحواس والطبيعة المنظورة أولاً، وبالمعاني والتأملات ثانياً، إلى ما فوق الحواس وفوق المعاني، إلى الله الفائق كل عقل والفائق السبح (فوق المسبح وفوق المتعالي إلى الأبد). ولكن الله كما نرى يبقى فوق كل إدراك،لا يُبلَغ إليه بالعقل، لا يُبلَغ إليه، كما يقول القديس نفسه، إلا باتحاد المحبة. ولذلك نرى الطقوس في وظيفتها التأملية هذه تتجه بالنتيجة لا إلى عقل الإنسان بل إلى قلبه مشحونة بالشوق الإلهي والحنين:(ليأتِ ملكوتك). الطقوس كلها تتطلع إلى اتجاه واحد:(ارسم علينا نور وجهك يا رب)، تنتظر الختن السماوي، تستعد لاستقبال ملك الكل:(هلموا لنطرح عنا كل اهتمام دنيوي.. قد نظرنا النور الحقيقي.. لأنك أنت هو تقديسنا).. ولذلك فإن قمة الطقوس هي ذبيحة القداس الإلهي الذي يأتي فيه الرب نفسه ويبذل ذاته لكي نتعشى معه. إن الليتورجيا الجارية في الكنيسة، مستمدة من الليتورجيا القائمة في السماء، غايتها الأخيرة أن تتم أيضاً فينا على صعيد القلب:(هاأنذا واقف وأقرع). تلك هي وظيفة الطقوس التأملية: أن تجعلنا نفتح له.
خلاصة القول إن الطقوس تعطينا الله إجمالاً في ثلاثة صعد أو طرق لا تخلو من تداخل بين بعضها البعض:
- أولاً: في الأسرار الكنسية: وفيها نأخذ نعمة الله عضوياً، نطعم بالله، نولد للحياة الإلهية.
- ثانياً: في الجماعة: أي تعطينا الوسط الروحي، البيئة التي نعيش فيها كمسيحيين وننمو بالله.
- ثالثاً: في التأمل: أي تعطينا الوسيلة والمرقاة التي نبلغ بها شخصياً وقلبياً إلى معرفة الله ومحبته والاتحاد به.
3- ضرورة إحياء الطقوس شخصي
وبهذا نأتي إلى القسم التالي وهو ضرورة إحياء الطقوس شخصياً وقلبياً وإعطائها معناها الداخلي الأخير، وإلا انقلبت مظاهر فارغة وعادات متحجرة تحجبنا عن الله بدل أن توصلنا إليه.
آ- وقبل أن نعالج هذه النقطة عملياً لا بد من القول أن ممارسة الطقوس واختبارها عميقاً على الصورة التي شرحناها ليس أمراً بعيد المنال مثالياً بل كل من يحاول حقيقة أن يحياها يختبر بسهولة التيار الإلهي الذي فيها. وهناك كثيرون جداً ممن يلقون في ممارسة الطقوس تعزية وقوة وفرحاً وازدهاراً لحياتهم كلها. بل هناك كهنة رعايا يؤخذون أحياناً بالقداس الإلهي لدرجة أنهم يغيبون عن كل شيء أرضي ويقضون فترة في الدموع الهادئة والصمت في نوع من اختطاف. يكفي أن ندخل في التيار. الطقوس في الكنيسة مبنية على سر التجسد كما رأينا، تتبع حركة التجسد:(خرجت من عند الآب وأتيت إلى العالم وأيضاً أترك العالم وأذهب إلى الآب). ففي الكنيسة حركة، دورة نعمة بين السماء والأرض هي بالنتيجة حركة الإيمان الذي يصل الأرض بالسماء. بالإيمان رجال الله في العهد القديم، القضاة والأنبياء، قهروا ممالك، صاروا أشداء في الحروب، رجموا، نشروا.. ولم ينالوا الموعد منتظرين شيئاً أفضل. وبالإيمان أندراوس وفيلبس ونثنائيل لما دعوا أولاً آمنوا فسمعوا السيد يقول:(سترون السماء مفتوحة وملائكة الله يصعدون وينزلون على ابن البشر). فمتى دخل المؤمن في التيار حمل به. ولكن الدخول في حركة الإيمان لا يخلو من صعوبات وجهاد كما نعلم. وكذلك الدخول في دورة الطقوس، في سيل نعمة الإيمان والخلاص في الكنيسة، يتطلب جهداً. فلا نستبعدن إذاً الجهد. ولكنه جهد هين بالنتيجة بمعنى أنه جهد خروج. يكفي فقط أن نخرج، أن نجاوز أنفسنا، أن ندع أنفسنا نجرف ونحمل فيحملنا التيار. الإيمان نفسه ليتورجيا. ليس الإيمان بالعقل، الشياطين يؤمنون أيضاً ويرتعدون. ولكن الإيمان تسبيح، خروج، فصح. فإذا كان الإيمان مثالياً فحياة الطقوس إذاً مثالية أيضاً وإلا فلا. إن الإيمان معرض دائماً للتحجر، وينبغي تجديده على الدوام. وكذلك حياتنا في الطقوس. لا ندعها تتحجر.
ب- لا حاجة للإسهاب نظرياً في بيان كيف تتحجر الطقوس عند الناس وتفقد معناها. فإذا جهلنا جوهرها أو نسيناه أو أهملناه وابتعدنا عنه تصبح: إما أشكالاً فارغة وعادات قديمة يمل منها المرء ويهجرها، لا تعود تعبر له عن أي معنى، ومن الطبيعي حينذاك أن يبتعد عن الخدمات والقداس، وكثيراً ما تهجر كنائسنا في القرى لا لأزمة كهنة، بل لأزمة شعور وحضور (من أجل رحلة صيد يهجرون قداس الأحد ! بينما كان المسيحيون الأولون يعرضون حياتهم للموت لتأليف الكنيسة. وربما أحياناً ينفصل المرء عن الكنيسة بسبب جهله للطقوس) أو تبقى مظاهر خارجية وعادات جميلة نستلذها بحد ذاتها ولا نعبر من خلالها إلى حياة الإيمان والخلاص. وهكذا فالطقوس التي هي بمثابة باب ومدخل إلى الله تصبح في الواقع حاجزاً يعطل نمونا وتوغلنا في الرب. نبقى أمام واجهة البناء يحجبنا جمالها النسبي عن الدخول إلى القصر الداخلي الذي يحوي الغنى الحقيقي والنعمة والبهاء. نسرُّ مثلاً بالألحان ونحب سماعها مراراً، وقد نتخشع لها عاطفياً ولكن لا ننتبه إلى معنى الكلام والتأمل الإلهي، إلى قوة الروح الذي فيه، والتي غايتها إيصالنا إلى حقائق الله. لا نتبنى جوهر الأمر فنبقى خارجاً. وكثيراً ما نمارس حركات وعادات طقسية بصورة آلية بدون أي معنى ولا لذة كرسم الصليب مثلاً. وأحياناً لا نرى في الطقس سوى الناحية المالية فقط فندمدم على الكاهن الذي يأتي ليبارك البيت بالماء المقدس. أو الناحية المالية تصبح بالعكس وسيلة للجاه والظهور الاجتماعي الباطل فندعو للمأتم أكبر عدد من الأساقفة أو الكهنة دون أية ضرورة روحية. وأحياناً نحجم عن التقدم إلى الأسرار المقدسة من باب الوسواس وفقدان الحس بالله كمحبة وكمصدر غذاء وحياة. والعراب في سر المعمودية كثيراً ما لا يعود يرى فيلونه في حياته كلها. وأحياناً نتبنى عن جهل إلى جانب الطقوس عادات أخرى ليست لها علاقة بحياة الكنيسة كالتطبيل والتزمير في الجنازات. الأمثلة كثيرة في هذا الصدد… وإرشاد الرعاة يبدأ هذه الأيام في الاتجاه المتزايد نحو إفهام الشعب تدريجياً وردعه عن العادات الغريبة عن الكنيسة والإيمان الحي.
ج- ولكني في بحثنا لإحياء الطقوس أود أن أذكر على سبيل المثال بعض العادات الحسنة أصلاً، والتي فقدت معناها مع الزمن وصارت من باب الفوضى وعدم الاحترام. يبدو لي في الواقع أن أكثر العادات كانت تعبر في الأصل عن موقف داخلي، عن روحانية معينة ربما يجب إحياؤها. إني أقصد بالدرجة الأولى جو الصلاة العام في كنائسنا أعني موقف المؤمنين في الكنيسة في طريقة دخولهم وطريقة وقوفهم وطريقة صلاتهم. إنه موقف دالة، وحرية، وارتياح، عدم السجود، عدم الإجهاد في الصلاة، عدم التقطيب أو تغميض العيون الخ.. هذا كان ربما يعزى في الأساس لروح صلاة الجماعة التي تكلمنا عنها: صلاة الكنيسة تجري، ندخل فيها، لها قوتها، صلاة غير عاطفية، أوسع منا.. كذلك نلاحظ أن الكهنة في الولائم (بمناسبة معمودية مثلاً) كثيراً ما يباركون مائدة الطعام دون أن ينتظروا اجتماع الحاضرين حول المائدة.. قد يكون ذلك أصلاً للاعتقاد بالبركة الموضوعية أيضاً. لا نستطيع الجزم. ولكن لا بأس من أن نعيد إلى مثل هذه المواقف هذا المعنى الروحي، على أن نقصي طبعاً جو الفوضى وعدم الاحترام واللامبالاة. كذلك مثلاً عادة عدم الركوع يوم الأحد في الكنيسة، وقد تحولت عندنا إلى عدم الركوع أيام الأسبوع أيضاً، بدون أن تحمل أي معنى. إن القديس باسيليوس الكبير يذكر هذه العادة وقد أوجبها أحد قرارات المجامع المسكونية وهي تعني أن المؤمن يوم الأحد، يوم القيامة الذي يرمز إلى الأبدية، يكون منتصباً قائماً ممجداً ممتداً إلى الله.. كذلك الإكثار من رسم إشارة الصليب لم يكن أصلاً من باب التكرار الآلي الممسوخ، بل كان من باب الوعي الداخلي وذكر الله وتمجيده وتأكيد الإيمان. أو كان من أجل أخذ البركة: تعرفون أن البركة يعطيها الكاهن بشكل صليب (السلام لجميعكم) ونأخذها أيضاً بشكل صليب، به نتبنى السلام والبركة شخصياً وداخلياً..
كذلك الاهتمام بالترتيل وحسن أدائه وإتقانه كان من باب تسبيح الله وقد أصبح في كثير من الأحيان من باب الظهور أو التباري.. كذلك عادة الجثو تحت الإنجيل المقدس عند تلاوته في القداس الإلهي كان لطلب الشفاء من مرض أو ضيق ما، إيماناً بقوة كلمة الرب الحاملة نعمة وشفاء، وكثيراً ما تحصل اليوم دون موجب ومن الوجه الفولكلوري الشعبي فقط.
د- كل هذه العادات ناجمة أصلاً عن مفهوم صحيح للطقوس وعن عيشه سواء فيما يتعلق بروح الجماعة أو بمفعول البركة أو بوظيفة التأمل ودوام ذكر الله ولذلك ينبغي إرجاع مفهومها الحي وعدم التسرع في الحكم عليها حكماً مطلقاً. لأن هناك على كل حال تدرجاً في الحياة الروحية ولا يطلب من الناس أن يبلغوا رأساً إلى المفهوم العالي الصوفي المجرد. يجب محاربة العادات العجائزية التي لا تمت إلى مفهوم الطقوس بصلة كلصق الدراهم على الأيقونة مثلاً، ولكن دون أن نجرف معها العادات ذات الأساس الطقسي.
العالم اليوم يحاول إزالة كل شيء مقدس، كل رمز، كل حس بالقدسية، لأنه يحاول إزالة فكرة الله من الأرض. والروحانية الغربية العقلانية ساعدت بدون قصد في هذا الابتعاد عن الله. ونحن اليوم حين لا نعيش واقع طقوسنا نتأثر بهذا التيار العقلاني- فننزع إلى التقليل من قيمة الطقوس والقول بالصلاة المختصرة والمجردة والاكتفاء بالصلاة الشخصية في البيت!..- هذه النزعة من شأنها، عاجلاً أم آجلاً، تحويل الله إلى إله أخلاق وحسب أو إله فكرة، وبالتالي إلى تفريغ الأرض من الله الحي، المعطى والمعاش. العالم بحاجة إلى ملء الله وسره الحي، ولأنه يحاول إزالة كل رمزية مقدسة علينا بالأكثر أن نعيش هذه الرمزية في طقوسنا، ولكن لا ممسوخة فارغة بل بصورة جد واعية وشخصية لكي نؤدي شهادة كنيستنا في العالم.
هـ- وفي عملية إحياء الطقوس هذه مطلوب منا فقط أن نكون في حالة (انتباه) بكل ما في هذه الكلمة من معنى حياتي:(لنصغ، حكمة، لنصغ). فعلينا أولاً أن نتلقى معنى ما يجري، أن نفهم معنى الكلمات والحركات وأن يمر هذا المعنى في عقلنا وذهننا في طريقه إلى الله. هذا بديهي ولكنه مع الأسف غير محقق في كثير من الأحيان. ولذلك يجب أن تكون القراءة مسموعة واضحة وكذلك الترتيل، كما يجب تفسير الطقوس للشعب. ثم علينا أن نتقبل ما يجري ونتبناه ونندمج فيه. كل مرة نقول فيها (يا رب ارحم) أو (آمين) معطاة لنا في الطقوس لكي نحقق موقفاً داخلياً قلبياً ونضع حياتنا في القضية. إن القداس الإلهي بصورة خاصة يجب أن نشترك فيه حياتياً: القداس كتقدمة نُقَدِمْ نحن موادها من وقت لآخر، وكذبيحة نَذْبَحُ فيها، مع الحمل، إنساننا العتيق، وكعشاء سري نغتذي ونتحول فيه. خلاصة القول إنه علينا أن نفتح عقلنا وقلبنا وحياتنا من أجل اقتبال الله، في نوع من مبادلة حياة بيننا وبينه. ولذلك نبدأ كل صلاة في طقوسنا بهذا الاستدعاء للروح:(أيها الملك السماوي المعزي روح الحق.. هلم واسكن فينا..) ولأننا، أيضاً، بدونه لا نعرف أن نصلي.
و- هنا أتناول باختصار مشكلة علاقة الصلاة الفردية بالصلاة الجماعية الكنسية. إذ قد يتبادر إلى الذهن، كما قيل لي، إن الصلاة الفردية هي الفضلى وإن الصلاة الجماعية وضعت فقط لمساعدة الذين لا يعرفون أو لا يقدرون أن يصلوا لوحدهم. ومما يؤيد هذه النظرة في الظاهر أن القديسين المتوحدين في البراري كانوا ينعزلون عن صلاة الجماعة.
والحقيقة أن كنيستنا (أو روحانيتنا) لا تفصل بين الصلاة الفردية والصلاة الجماعية كما حصل ذلك في الماضي في الغرب، أعني بين الحياة الداخلية والحياة الليتورجية، بل الصلاة الفردية الأصلية تبقى مرتبطة بالصلاة الجماعية وسابحة فيها. والواقع أن الصلاة الشخصية، على أهميتها وضرورتها القصوى، إن لم تظل مؤصَّلة في الصلاة الجماعية ومستمدة منها نعمة الكنيسة تتحول سريعاً إلى صلاة جافة ضيقة كثيراً ما تنحرف إلى صلاة مغلقة تدور حول فكرنا في نوع من مأزق روحي، ومن هنا معظم الأزمات الروحية عند المؤمنين المثقفين (العقليين). ثم لقد حدث مع أنطونيوس الكبير نفسه أن صوت الرب أوعز إليه في أحد أيام الآحاد أن يترك صلاته في صومعته ليذهب ويشترك في صلاة جماعة النساك إذ جربه المجرب بالاكتفاء بصلاته، لأن عادة المتوحدين كانت أن يجتمعوا كل أسبوع من مساء السبت إلى مساء الأحد ليقيموا صلاة الكنيسة. ومهما يكن من أمر فالمتوحدون المتوغلون في البراري كانت تتحول صلاتهم ولا شك إلى صلاة كنسية أعني غير منفصلة عن الجماعة بل نابضة في قلب الكنيسة وشاملة الكون كله، وكانوا يمارسون صلاة اسم يسوع لاصقة بأنفسهم بصورة (إفخارستية) .. وإلا لكانت عزلتهم قد حطمتهم. إذاً الصلاة الفردية الأصلية تنبع من صلاة الكنيسة وتقود إليها، بل هي في آن واحد فردية وجماعية. ولذلك نصلي كل بمفرده (أبانا الذي في السموات) بصيغة الجمع، ونرتل معاً (إني أنا عبدك) بصيغة المفرد..
ز- سؤال آخر يسأل أيضاً: إن وقتنا لا يسمح لنا عملياً بالاشتراك في طقوسنا كفاية والتعرف عليها والاستفادة من ينابيعها، فما العمل؟ إن الجواب على هذا السؤال موجود ضمناً في بحثنا السابق. إن الصلاة، في كل الأحوال، ليست كمية بل كيفية نوعية. ولما كانت كل خدمة من الخدم الليتورجية تحوي بطريقتها خلاص الله وتعطينا إياه، فإن صلاة واحدة نشترك فيها كما يجب سرياً وجماعياً وتأملياً، تكفي لتسكب فينا تعزية الله وسلامة ونعمته. إن رسم صليب أو تقبيل أيقونة بروح وفهم يكفي ليضعنا أمام الله. ولكن القداس الإلهي يوم الأحد والأعياد لا بد منه من أجل التركيز والتجدد واللياقة.. وإلا تجف حياتنا دون أن نشعر. وفي حال الاضطرار فعلاً وبصورة استثنائية يمكن الذي يتغيب عن القداس تكليف من يستطيع ذكر اسمه في الذبيحة من قبل الكاهن والصلاة من أجله، وهو أثناء ذلك يرافق القداس بالفكر. وعلى كل حال يجب أن نعرف أن الليتورجيا تبقى أوسع منا، لا نستطيع أن نحيط بها تماماً، ولا يجب أن نحاول الإحاطة بها كلياً وفي كل مرة نصلي فيها، وأن نشعر كل مرة بكل جمالها. هذه تجربة كبرياء. ثم من الحسن جداً أن نخصص كل سنة بضعة أيام نقضيها في دير مثلاً للتعرف على الطقوس وفحواها مع ممارستها، لأن من يجهل الطقوس يجهل بالنتيجة الكنيسة.
ح- هذا ويلاحظ أن انتقادات كثيرة توجه للطقوس من حيث عدم ملاءمتها لعصرنا الحاضر وجمودها وطول الزمن الذي تستغرقه.. والحقيقة أن الطقوس عندنا غير جامدة أصلاً. إنها لم تؤلف في جيل واحد بل كانت تعبيراً مستمراً عن حياة في الله عبر عصورها المختلفة. ولم يتوقف هذا التطور الحي إلا في نصف القرن الثالث عشر تقريباً لأسباب تاريخية زمنية. أما في عصرنا الحالي فتوجد بوادر فعلية لتكييف الطقوس كما هو الحال في روسيا واليونان ورومانيا حيث يشترك الشعب كله في القداس الإلهي (تلاوة دستور الإيمان، والصلاة الربانية، وفتح ستار الأبواب..) وقد وضعت قضية تكييف الطقوس في جدول أعمال مؤتمر رودس. حتى عندنا أيضاً فقد ألغيت تلقائياً الطلبة التي قبل (أبانا الذي في السموات) في القداس الإلهي كما تجري محاولات أخرى لبعض التغييرات.
إن عملية ملائمة الطقوس للعصر تتطلب أولاً التمييز بين ما هو أصيل وما هو غير أصيل (كالتفخيم والتكرار الزائد مثلاً). ثم يجب أن يتم التطوير ضمن الخطوط الكبرى لصلاة الكنيسة ومع المحافظة على عناصرها الأساسية حسب وظائف الطقوس المبنية سابقاً. ثم ينبغي تأمين اشتراك الشعب الفعلي في الخدمات عن طريق التلاوة والترتيل وغيرهما. هذا ولا بد أن تتم العملية بعد دراسة وتروٍ واختبار وبمباركة الكنيسة كلها لئلا يكون هناك تفرد.
أما الأديرة فلها وضع خاص لأن الصلاة هي وظيفة الرهبان الأساسية، ولذلك يجب أن يحافظ فيها على الطقوس دون اختصارها مبدئياً فتبقى منهلاً روحياً غزيراً للرهبان ومرجعاً أساسياً يرجع إليه الآخرون.
4- دور الطقوس بالنسبة للعالم والتاريخ
القسم الأخير من هذا الفصل يتعلق بالطقوس في الكنيسة بالنسبة للعالم والتاريخ، لأن الكنيسة بحد وجودها متجهة، كما رأينا، إلى العالم والتاريخ، حاملة إليهما خلاص الله. ولا بد أن يكون للطقوس في هذا الصدد دور مميز سنحاول أن نتبينه لأننا لن ننتمي إلى الكنيسة حقيقة ما لم نتبن اتجاهها هذا نحو المسكونة. ولكن هذا القسم الأخير فحواه وارد في ما تقدم صراحة أو ضمناً ولذلك لن أسهب فيه:
آ- يجب أن نقتنع أولاً بأن الطقوس لا يتوقف فعلها عندنا بل نحن فيها نأخذ لكي نعطي. لأن خلاص الله ليس لنا وحسب بل هو يتعدانا ليعبر عن طريقنا إلى الكون كله. نعم إن الطقوس ليست لنا بل نحن فيها خدام، كهان – (كهنوت ملوكي) – نكهن من أجل العالم. خلاص الله من أجل الكون يمر بالإنسان ضرورة، بآدم الأول بدءاً ثم بآدم الثاني المسيح وجميع من يؤمنون به. ولذلك تشمل صلاتنا كل إنسان وكل شيء. ولذلك علينا في صلاتنا أن نحسب دائماً حساب العالم. منذ وقوفنا للصلاة الطقسية، منذ البداية، يجب أن نرصد للعالم حصته ومكانه فيها وإلا كانت صلاتنا ناقصة مبتورة..
ب- ولكن ماذا يحتاج العالم أن نعطيه في طقوسنا؟ إنه يحتاج أولاً إلى تطهير ونعمة. إلى تغيير كيان. ونحن بالطقوس نغرف من قداسة المسيح لنبث هذه القداسة في العالم. بالطقوس الروح يعمل في الكون ليحفظه ويقدسه رغم كل شرور الناس. وإلا كيف كان يمكن أن يستمر الكون في تفاقم هذه الشرور؟ بل الكنيسة بالطقوس تفعل تدريجياً في التاريخ لتحل محل الفساد نعمة وتهيئ العالم للتجلي الأخير. بهذا المعنى (أنتم نور العالم، أنتم ملح الأرض).. بكم تتخذ الأرض طعماً ومعنى. بالطقوس نغلب الخطيئة التي في العالم، أي روح الفوضى والعدم الذي فيه. ولقد كتب الفيلسوف أريستيد في القرن الثاني:(ليس هناك أي شك عندي بأن العالم باق بسبب شفاعة المسيحيين: إنهم يكرسون حياتهم لمثل هذه الصلاة). ولذلك نصلي من أجل الحكام والمدن والقرى واعتدال الأهوية وسلامة العالم.. ونبارك البيوت والحقول والآبار.. ونقيم القداس الإلهي..
ج- ثم يحتاج العالم ثانياً – بعد نعمة الحفظ والتطهير- إلى سلام واتفاق ووحدة، ولكن إلى وحدة تفوق الوحدة السياسية أو الاقتصادية، الاشتراكية والحضارية، إلى وحدته الحقيقية، وحدة الجسد الواحد. وهذه الوحدة كيف نحققها أو أين نتعلمها ونمارسها وننميها إلا في الطقوس، في الاجتماع باسمه، حيث هو في الوسط، وحيث كلمته وجسده يخلقان بيننا وحدة؟ إن من يعيش الطقوس وصلاة الجماعة حقاً (الصلاة مع الآخرين ومن أجل الآخرين) يختبر بنفسه كيف تصعد الصلاة الواحدة، وكيف نلتحم الواحد بالآخر ونتطابق، كيف (نوجد) معاً (وليس أحد يعيش لذاته ولا أحد يموت لذاته).. الناس عادة يصلون من أجل ذواتهم أولاً (من أجل أولادهم وصحتهم وتوفيقهم) ثم من أجل الآخرين (أحياناً) وأخيراً من أجل مجد الله (إذا حدث ذلك). أما الصلاة الطقسية فتقام لمجد الله أولاً ثم من أجل الجميع ومن أجلنا نحن ضمن الجماعة كلها ومعها.. إنها الصلاة الكاملة.
ومن هنا، من الينبوع، تأتي روح الشركة الحقيقية والوحدة والمحبة. الطقوس مدرسة لروح المحبة والتضحية ولذلك فالطريقة الفضلى لاتحاد الناس، ولاتحاد المسيحيين في هذه الأيام، ما دامت المشكلة قائمة، هي أن يصلوا معاً نحو الإله الواحد. أن يصلوا معاً بإخلاص ولكن بدون تشويش. لأن الاشتراك بتشويش – كالمشاركة في القدسات قبل الأوان وعلى غير أساس وبصرف النظر عن فروقات النظام والإيمان – يخل بحد ذاته بالوحدة التي ننشد. الطقوس وسيلة من أجل الاتحاد، ولكنها أيضاً تعبير لوحدة الكنيسة والإيمان وعلامة لها. ولذلك لا يمكن استخدامها كوسيلة دون تحفظ وبلا ترتيب. غير أن الله يعمل في الطقوس في كل كنيسة، وإن تعمق كل جماعة في عيش طقوسها حول المسيح يؤدي لا محالة (مع الوسائل الأخرى) إلى اتحاد الجميع بالمسيح.
د- ويحتاج العالم أخيراً – مع تجديد الكيان ومع الوحدة – إلى روح التسامي والتهليل. لأن الناس اليوم يغرقون أما في الرجوع إلى الذات والتحليل الذاتي المفرط، المعقد والعقيم، أو في الهروب من الذات والانفلات غير المحدود، نحو (حرية) مزعومة، هي بلا جوهر ولا هدف وبالتالي بلا وجود. أما الموقف الصحيح الذي لا ينغلق فيه المرء على ذاته ولا يفلت ويضيع، أليس هو في الطقوس حيث يلقى الإنسان كيانه ومصيره الأخير في التسامي فوق ذاته والانفتاح الطوعي ببساطة لحياة الله المحيي والفرح بهذه الحياة والشكر والتهليل؟ والحقيقة إننا في الصلاة الطقسية المعاشة، وإذاً الكاملة والمستجابة، نشعر بأننا نتحقق وننال كياناً، وذلك شخصياً في أصالة الحياة (وليس بالفكر فقط)، إذ نحس بكل كياننا بحضرة الله حضرة سرية لا توصف تحوطنا فنتحرك فيها ونوجد. ألم يكن القديس سيرافيم ساروفسكي (في القرن التاسع عشر) يسمي هذه التلة جبل الزيتون وذاك المرتفع الجلجلة وهذه المغارة القبر ويقول لكل من يزوره (يا فرحي، أنت فرحي، المسيح قام!).. وأوليس تحقيق الإنسان بالنتيجة في تلك الصلة الشخصية مع الخالق، في ذلك اللقاء الحي، المحيي والمتهلل، شاملاً جميع الناس وصابغاً الكون كله بنور القيامة؟..
الخاتمة:
وهكذا نأتي إلى نهاية الفصل، والخلاصة أن الكنيسة حيث خلاص الله يعمل، ولا يزال يعمل، فينا وفي العالم، نحققها إلى حد بعيد جداً بالطقوس. الطقوس تحقق الكنيسة على الدوام في العالم. في كل مرة نقيم الطقوس نحقق الكنيسة، ولا نتوقف عن تحقيقها. الطقوس (حركة) الكنيسة في العالم.