2- الافتراض الثاني: الأسفار المقدسة تفسّر ذاتها بذاتها:
الافتراض الثاني لعقيدة “الكتاب المقدس حصراً” هي أن الأسفار المقدسة تفسّر ذاتها بذاتها. يقول لوثر إن النص المشكوك به هو سيء بسوء غياب النص تماماً. أي بكلمات أخرى، لا يوجد معنى من وجود نص مُلهَم ذاتي الاكتفاء إذا كان معنى هذا النص غير واضح.
الرد: لقد أظهر أينشتاين أن المراقب هو جزء لا يتجزأ (أو موروث) من أية ملاحظة علمية. ولا يوجد شيء على الإطلاق هو موضوعي 100%. إن كانت هذه حقيقة بالنسبة للعالم الطبيعي فكم بالحري هي حقيقية أكثر بالنسبة لتفسير نصوص الكتاب المقدس. فالنصوص لا توجد في المطلق. ومع ذلك فهذا ما تفترضه عقيدة “الكتاب المقدس حصراً”: النص المجرد أو العاري يجب أن يفرض معناه على القارئ بطريقة ما.
إن سخافة هذا الإدعاء واضحة تماماً بوجود عدد لا محدود من التفسيرات المتناقضة لآلاف الجماعات البروتستانتية المختلفة التي تفسّر النص الكتابي الواحد نفسه بطرق مختلفة. ورغم أن عقيدة “الكتاب المقدس حصراً” تفترض أن النص يفسّر ذاته بذاته، إلا أن البروتستانت عملياً لا يؤمنون بأن النص هو ذاتي التفسير (27). ففي أمريكا وحدها توجد آلاف الفئات البروتستانتية التي تدّعي الإيمان بالكتاب المقدس حصراً. ومع ذلك فالفروق العقائدية والعبادية والأخلاقية والتفسيرية فيما بينها هي أمرٌ يدعو للأسف والحزن عليها وعلى سذاجتها ووقوعها في شرك الشيطان. وإن سألت أحد رعاة هذه الفرق قال لك: “نحن نؤمن بما جاء في الكتاب حصراً. فنحن على صواب وسوانا على خطأ”!. ونظرة واحدة إلى المكتبات البروتستانتية في العالم تُرينا كم من كتب تفاسير الكتاب المقدس موجودة بصورة مختلفة ويتجاوز حجمها حجم الكتاب المقدس نفسه بمئات إلى آلاف الأضعاف. فلو كان الكتاب المقدس يفسر نفسه بنفسه (كما يقول البروتستانت) فلماذا كتب المفسِّرون البروتستانت آلاف الصفحات تفسيراً لعدة صفحات من الكتاب المقدس، ولماذا تتناقض هذه التفاسير البروتستانتية فيما بينها؟ ولماذا يوجد العديد من المفسّرين المختلفين ضمن التقليد البروتستانتي الواحد والذين يكتبون تفاسير تختلف فيما بينها؟ إن كلمة “تقليد” مهمة هنا، لأن كل تفسير أو تعليق على الكتاب المقدس هو مكتوب ضمن تقليد ما. السؤال الحقيقي هو ليس فيما إذا كان الكتاب المقدس يتضمن تقليداً، ولكن فيما إذا كان التقليد يفسّر الكتاب المقدس بصورة صحيحة. ففي أعمال 8: 26-39، نجد أن القديس فيليبس قد صادف خصياً أثيوبياً كان يقرأ من نبوة أشعيا بدون أن يفهم. فسأله القديس فيليبس: “ألعلك تفهم ما أنت تقرأ. فقال: كيف يمكنني إن لم يرشدني أحدٌ؟”. هنا لم يُخير فيليبس الخص أن يصلّي كي يستنير ويُلهمه الروح القدس ليفهم ما يقرأ، وأن النص يفسّر نفسه بنفسه وأنه لا يحتاج إلى معونة بشر لفهم معنى النص الكتابي (كما يقول البروتستانت). لكن نص أعمال الرسل يقول: “ففتح فيلبس فاه وابتدأ من هذا الكتاب فبشّره بيسوع”. عنا فيلبس، كرسول ليسوع المسيح، فسر الكتاب المقدس للخصي الحبشي. بالتأكيد كان الخصي سينال تفسيراً مختلفاً لسفر أشعيا لو كان الذي يفسّر له نص أشعيا هذا هو حاخام يهودي.
مؤيدو عقيدة “الكتاب المقدس حصراً” كثيراً ما يشيرون إلى أن آباء الكنيسة الأولى كانوا يلجأون إلى الأسفار المقدسة لدعم مواقفهم في المناقشات العقائدية في القرون الأولى، أي إن مصدر تعليم الآباء هو الكتاب المقدس. ولكن ما يتناساه هؤلاء المؤيدون هو أن الهراطقة أيضاً كانوا يلجأون إلى الكتاب المقدس لدعم هرطقاتهم. المثال الكلاسيكي الذي سأورده هنا هو هرطقة آريوس التي انتهت في النهاية بتحديدات عقائدية بخصوص الثالوث القدوس. فهرطقة آريوس بدأت من تفسيره لأمثال 8: 22، وقد استنتج آريوس من تفسيره أن اللوغوس أو الكلمة كان مخلوقاً، ولو كان أعلى وأفضل من كل الخلائق. بينما كانت ومازالت الكنيسة الأرثوذكسية تعلّم أن اللوغوس أو الكلمة، ربنا يسوع المسيح هو الخالق والإله المتجسد. هنا توجد لدينا فئتان من المفسِّرين: فئة هرطقة آريوس التي توصلت من تفسيرها لهذه الآية إلى أن المسيح الكلمة هو مخلوق وليس خالقاً، ومن جهة أخرى، نجد الكنيسة التي تؤمن بأن الآية نفسها تشير إلى المسيح ولكنه الخالق وليس خليقة. طبعاً لم يكن النص يشرح نفسه بنفسه هنا. ولكن السؤال يبقى: كيف قرّر هؤلاء المفسِّرون أي تفسير هو الأصح؟ يوجد مبدأ بروتستانتي شائع جداً هو تفسير النصوص الغامضة بنصوص أخرى أوضح منها. ولكنه لم يكن من الواضح دائماً أي نصوص هي الواضحة وأي نصوص هي الغامضة. فهل نفسّر النصوص التي تشير إلى لاهوت المسيح بالنصوص التي تشير إلى ناسوته أم العكس بالعكس؟ على كل حال، كان تفسير آريوس مبيناً على الوحدة العددية لله. وبكلمات أخرى، فقد افترض آريوس ومن مبدأ فلسفي أن الله لا يمكن أن يكون ثلاثة أشخاص -أقانيم- وبالتالي لا يمكن للمسيح إلا أن يكون مخلوقاً. بينما افترض القديس اثناثيوس من جهة أخرى أن الخلاص لا يمكن أن يأتي إلا من الله، وبالتالي لا يمكن للمسيح، كمخلِّص، إلا أن يكون إلهاً متجسداً، وبالتالي فهو خالق. وأن الله صار إنساناً لكي يصير الإنسان إلهاً. إذاً التفسير الأرثوذكسي لأمثال8: 22 مبني على إيمان سابق (موجود ضمن تقليد الكنيسة) بأن الله وحده هو الذي يمكنه أن يخلّص الإنسان. إذاً لم يكن النص نفسه أو بحد ذاته هو الأداة لمعرفة المعنى، ولم توجد نصوص كتابية أخرى يمكنها أن توضح معنى هذا النص بالذات، ولكن كان لا بد من اللجوء لحياة الكنيسة وتقليدها لتفسير هذا النص. إن هرطقة آريوس أدّت إلى انعقاد المجمع المسكوني الأول في نيقية 325 وإلى إدخال تعبير فلسفي جديد لأول مرة إلى اللغة اليونانية هو “Homoousios والذي له وللآب الطبيعة الواحدة ذاتها” وذلك بما يتعلق بتعليم الكنيسة عن المسيح. طبعاً، كان آباء المجمع المسكوني الأول يفضّلون أن يستعملوا فقط الكلمات أو التعابير التي وردت في الكتاب المقدس، لكن استعمال الكتاب المقدس بالذات من قِبَل آريوس هو الذي أجبرهم على استحداث كلمة لم تأتِ في الكتاب المقدس لكي يحافظوا على التفسير الصحيح للكتاب المقدس. إن تاريخ الكنيسة المسيحية مملوء من هذه الأمثلة وسواها. وأشهر مثال معاصر على مثل هذه الهرطقات هو هرطقة شهود يهوه الذين يستعملون الكتاب المقدس للوصول إلى تعاليم مخالفة لتعاليم الكنيسة ولتفسيرات مخالفة لتفسيرات الكنيسة. فلو كان النص الكتابي يفسّر ذاته بذاته لما بدأ ظهور الهرطقات والبدع منذ القرون الأولى للمسيحية ولم ينقطع حتى يومنا الحالي. ولم تنجح الكنيسة في دحض هذه الهرطقات والبدع فقط بناءً على تفسير أصحّ للنصوص الكتابية أو على تفسير النصوص الغامضة بنصوص أوضح، ولكن بسبب أنها كانت تتعبّد للمسيح، وأنها كانت تعرف أن الذي كانت تتعبد له هو الله المتجسد. إذاً في كل مناقشة أو مسألة لاهوتية في الكنيسة الأولى، لم تُحل القضية بالرجوع إلى مجرد نصوص عارية مجردة للكتاب المقدس وتفسيرها بطريقة أو بأخرى، ولكن بالرجوع إلى حياة الكنيسة الحية أو إلى تقليد هذه الكنيسة. لم يُطرح أبداً سؤال: “ماذا يقول الكتاب المقدس؟”، بل “ماذا يعني الكتاب المقدس؟”. الرب يسوع نفسه سأل الناموسي (28) الذي جاء ليجرّب الرب: “ما هو مكتوبٌ في الناموس؟ كيف تقرأ؟” (لو10: 26). تقليد الكنيسة الأرثوذكسية في هذه النقطة واضح: تقليد الرسل هو اللحمة المفسِّرة ذات السلطة التي ضمنها يجب أن تُفهم الأسفار المقدسة بصورة صحيحة. إن أسفار العهد القديم والعهد الجديد هي العنصر البدائي المكتوب للتقليد الرسولي. فإن أُخذت هذه النصوص خارج التقليد الرسولي أو خارج حياة الكنيسة لتحوّلت إلى نصوص عتيقة عٌرضة لتفسيرات لا حصر لها بحسب تخيّلات الذين يقرأونها. وفي الحقيقة لم يحذف الإصلاحيون منذ القرن السادس عشر تقليد الكنيسة فحسب، ولكنهم ألغوا قيمة الكتاب المقدس منذ أن نزعوا الكتاب المقدس من لحمته الطبيعية أو الوسط الذي يحيا فيه وهو الكنيسة وتقليد الكنيسة الرسولي (29). قبل ختام هذه الفقرة، أود أن أذكر أساليب التفسير البروتستانتي للكتاب المقدس باختصار.
- الأسلوب الأول: اقرأ الكتاب حرفياً، فالمعنى واضح: هذا هو أول أسلوب استعمله الإصلاحيون المنشقّون عن الكنيسة. لكنهم سرعان ما اكتشفوا نواقص هذا الأسلوب. ومع ذلك ما زال الأسلوب الشعبي الساذج الأول بين البروتستانت: “الكتاب يقول ما يعني ويعني ما يقول”. طبعاً هذا الأسلوب جذاب وبسيط ولهذا فهو شعبي. أما عندما يقرأ البروتستانت بعض النصوص التي يختلفون فيها عن سواهم، فتراهم فجأة يثبون قائلين: “ليس المقصود هنا هكذا. لا يمكنك الأخذ بهذا النص بصورة حرفية”!. مثلاً: إعطاء سلطان الحلّ والربط للرسل (يو20: 22-23)؛ جسد المسيح مأكل حقيقي ودمه مشرب حقيقي (يو6: 55)؛ إلخ.
- الأسلوب الثاني: الروح القدس يمنح الفهم الحقيقي للنص: كل فئة بروتستانتية تدّعي أن الروح القدس يُلهم أعضاءها الأتقياء بالتفسير الصحيح والفهم القويم للنص الكتابي. وبالتالي، كل فئة بروتستانتية أو غير بروتستانتية أخرى تخالف تفسير فئة معينة هي غير مُلهمة. بالطبع لو كان هذا الأسلوب صحيحاً، لما كان لدينا آلاف الفئات البروتستانتية المختلفة فيما بينها، وكلها تدّعي أن الكتاب المقدس هو مصدر تعليمها الأوحد. فإما أن يكون الكتاب المقدس مخطئاً (حاشا)، وإما أن تكون هذه التفاسير مخطئة. كل بروتستانتي عالم من علماء التفسير. ولكن إن جمعنا بقدرة الروح القدس وحدة تفاسيرهم لوجدناها متضاربة أو غير متّفقة. الروح القدس يجمع. فمن فرَّقهم حتى صار كل واحد منهم مذهباً؟! هذا التمزّق البروتستانتي ليس من الله. فليعودوا جميعاً إلى لوثر لنستطيع أن نرى فيهم شيئاً من الكنيسة.
- الأسلوب الثالث: النصوص السهلة تفسّر النصوص الصعبة: أي أن الكتاب المقدس يفسّر نفسه بنفسه. الصعوبة هنا أمام هذا الأسلوب الجذّاب ظاهرياً هي: أي نصوص هي الصعبة وأي نصوص هي السهلة؟ هذا بالإضافة إلى ما سبق ذكره.
- الأسلوب الرابع: التفسير النقدي-التاريخي:هذا الأسلوب “العلمي” ظاهرياً وجد قبولاً واسعاً في القرن الماضي، قرن الاكتشافات والاختراعات العلمية. فعلماء الكتاب المقدس البروتستانت فحصوا النواحي العلمية المتعلّقة بالكتاب المقدس: التاريخية، الجغرافية، اللغوية، إلخ. سلّطت بعض هذه الدراسات الضوء على بعض الجوانب المهمة في الأدب الكتابي، لكنها فشلت في الوصول إلى الغاية التي تدّعي الوصول إليها، وهي الفهم الموضوعي للكتاب المقدس وبصورة حيادية نزيهة. أسباب هذا الفشل كثيرة وخارج إطار هذا الجواب. لكننا نذكر هنا النقاط التالية المتعلّقة بهذا الأسلوب بدون تعليق:
- لو كان هذا الأسلوب أسلوباً علمياً، أي حيادياً موضوعيا، لكان قد توصّل إلى النتائج نفسها دائماً مهما كان الذي يطبّق هذا الأسلوب (صفة الموضوعية وصفة الثباتية والتكرارية). ولكن ويا للأسف ليس الحال هكذا، لأن النتائج مختلفة باختلاف الذين يطبّقون هذا الأسلوب وباختلاف طرق التطبيق. فالوضع البروتستانتي الممزّق ما زال على حاله. والخلافات التفسيرية موجودة بين علماء الكتاب المقدس البروتستانت أنفسهم حتى بين الذين يدّعون النزاهة العلمية. والسبب هو أن هذا الأسلوب هو أسلوب علمي في مجالات مختلفة إلا في مجال الكتاب المقدس، وأيضاً لأن كل عالم بروتستانتي (أو غير بروتستانتي) كتابي يمارس عمله ضمن إطار من التقليد الكنسي أو الفكري أو الفلسفي الذي ينتمي إليه (المراقب جزء من الحدث). لهذا، فكل عالم كتابي يقدم دراسته انطلاقاً من بديهيات وفرضيات في خلفيته الفكرية والثقافية والروحية. أوضح مثال على هذا هو ما ذكرته في معاني المعمودية للمسيحين الأولين . يوجد أمامي كتابان كل منهما معنوَن “المعمودية في العهد الجديد”. مؤلف الكتاب الأول عالم كتاب مقدس مرموق جداً وبروتستانتي، وهو أوسكار كولمان (30). مؤلّف الكتاب الثاني (31) عالم كتاب مقدس مرموق جداً وبروتستانتي (معمداني)، وهو G.R.Beasley-Murray. إذاً يتساوى الأول والثاني من حيث التصنيف العلمي والإيمان مبدئياً. لكن من يقرأ الكتابين يستنتج بسهولة أن معمودية الأطفال، بحسب العهد الجديد، كانت تُمارس أيام العهد الجديد بحسب دراسة الأستاذ كولمان، ولم تكن تُمارس أيام العهد الجديد بحسب دراسة المؤلف الثاني! الدراستان مبنيتان على الكتاب المقدس، فأين الحقيقة إذاً؟ من الواضح أن الأستاذ الإنكليزي أخضع دراسته “العلمية” ليدعم وجهة نظر كنيسته (المعمدانية) من معمودية الأطفال. من هنا نستنتج أن نصوص الكتاب المقدس وحدها لا تكفي في كثير من الأحيان بحسب إدعاء الطريقة “العلمية”، ولا بد من الاحتكام إلى تعليم الكنيسة على مرّ العصور. البروفسور المشهور J.Jeremias، وهو عالم كتابي بروتستانتي أثبت أن الكنيسة كانت تعمّد الأطفال في القرون الثلاثة الأولى للمسيحية وذلك بناء على شهادات غير مباشرة من العهد الجديد ومباشرة من تاريخ الكنيسة الأولى (32). ولهذا فالاحتكام إلى تقليد الكنيسة (في مثال المعمودية هذا) كان الوسيلة الوحيدة لتفسير موقف العهد الجديد والكنيسة الأولى من معمودية الأطفال.