أ – تذوّق ملكوت الله
وطننا الحقيقي هو ذلك الذي “نطلبه” (عب13: 14)، ولكننا مدعوون إلى أن نحيا الآن على هذه الأرض. فما هي علاقتنا بالعالم الحاضر؟
إن الربّ هو الحياة الأبديّة (1 يو1: 2)، وقد ظهر لنا بتجسّده كإله متأنّس (يو1: 14، تيم3: 16). وهكذا دخل كلمة الله، الأقنوم الثاني للثالوث القدوس، إلى قلب العالم فقدّسه، وجعله يحيا حقبة جديدة أو عصراً جديداً، عصر ملكوت الله. وقد أكّد الربّ نفسه أن ملكوت الله لا يتعلّق بالمستقبل وحده، بل أن المسيحي المؤمن يعيشه منذ الآن (لو17: 21). وآية بدء ملكوت الله هي سلطة المسيح على القوات الشريرة التي تسيطر على العالم (متى12: 28، لو11: 20). ولكن الزمان الحاضر يختلف عن ملكوت الله الشامل، وهو ليس إلاّ صورة أو مقدمة له. وسيشرق الملكوت بكامل بهائه في الأزمنة الأخيرة، عند مجيء الربّ (رؤ20: 11-22، أش60: 1-22).
ويحيا المسيحيون منذ الآن في وسط نور الملكوت، مع أنهم لا يتمتعون جميعاً بهذا النور، ولا يصيرون “نوراً بكاملهم” أو “ناراً بكاملهم”، كما حدث مراراً في حياة قدّيسي كنيستنا.
ب – علاقة المسيحيين بالعالم
“أنتم نور العالم” (متى5: 14، أنظر فيل2: 15-16). “أنتم ملح الأرض” (متى5: 13). أقوال المسيح هذه تحدّد علاقة المسيحيين بالعالم، فهم نوره وملحه وخميرته الروحيّة (متى13: 33، لو13: 21، 1 كو5: 6 الخ…). إنهم قلب العالم الذي يعطيه معناه الحقيقي “فيعتق من عبوديّة الفساد إلى حريّة مجد أبناء الله” (رو8: 21).
يقول نص مسيحي قديم: “المسيحيون للعالم كالنفس للجسد. فكما أن النفس منضبطة بالجسد، ولكنها تحفظه فكذلك المسيحيّون المنضبطون في العالم كأنهم في سجن، فإنهم يحفظونه” (الرسالة إلى ذيوغنيتوس). والمسيح لم يطلب من الآب أن يأخذ المسيحيين من العالم بل أن يحفظهم من الشرّير(يو17: 15) الذي صار بعد السقوط “رئيس هذا العالم” (يو12: 31، 14: 30). ولذلك لا يستطيع المسيحيون إلاّ أن يساهموا في جهاد الإنسان اليومي لتأمين حاجات الحياة: “اذهب إلى النملة أيها الكسلان. انظر طرقها وكن حكيماً. إنها ليس لها قائد ولا مدبر ولا حاكم. وتَعِدُّ في الصيف طعامها وتوعي في الحصاد أكلها. اذهب إلى النحلة وتعلَّم كم هي عاملة، وكم تعطي شرفاً إلى العمل” (أم6: 6-8، أنظر10: 4-20، 4: 21-25).
غير أن واجب المسيحيين لا يقتصر على العمل الدائب لتأمين حاجاتهم الخاصة وحلّ مشاكل إخوانهم في الإنسانية، بل عليهم أن يطردوا، بحضور المسيح، العنصر الشيطاني من العالم، ويعيدوه كما كان: تمجيداً لله.
لقد خلق الله الإنسان ووضعه في الجنّة “ليفلحها ويحرسها” (تك2: 15) ولكي يصبح سيّد الخليقة بأسرها (تك1: 28، أنظر حكمة سيراخ17: 2-4، حكمة سليمان10: 2، مز8: 1-10). ولكن الإنسان لم يحتفظ بمركزه الملوكي والكهنوتي وسط العالم، وخالف إرادة الله، فقاد الخليقة كلها إلى السقوط. ولكن الرسالة التي لم يقم بها آدم أُعطيت لإنسان الخليقة الجديدة، ويصفها الكتاب المقدّس بـ “خدمة المصالحة” (2كو5: 18)، أي مصالحة العالم مع الله. فالعالم مدعو إلى أن يتحوّل، ودور الإنسان أن يكتشف قوى العالم السرّية، ويحوّلها لكي يجابه معضلات الحياة اليوميّة مجابهة فعّالة.
وطاقات الإنسان في هذا المجال لا تضاهى، لأنه صورة الله ويشارك، إلى حدّ ما، بالقدرة الإلهية. والرؤية الكتابيّة التي تجعل الإنسان صورة الله المثلّث الأقانيم، ترفع الإنسان إلى مكانة لا تُقارن بأعظم ما أوصلته إليه الأنظمة الفلسفية والإنسانية. ولا يمكن أن يكون ثمّة حدود أو سدود في وجه نمو الإنسان، وتحمله المسؤولية العظيمة في أن تكون أعماله من أجل ذاته ومن أجل الخليقة كلها (أنظر مز8: 1-10).
لقد جرّ الإنسان الخليقة بأسرها إلى السقوط والفساد عندما توقف عن استخدامها لتمجيد الله، وطلب بركة الله بواسطتها (تك2: 16-17). ولكن إنسان الخليقة الجديدة، أي المسيحي، مدعو إلى أن يحوّل ذاته وأعماله والعالم كله، إلى علاقة مستقيمة مع الله (أنظر تث8: 12-18، 1 أخ29: 14-16)، كما فعل تلاميذ المسيح بعد التجليّ، إذا انحدروا من جبل ثابور وساروا إلى العالم ليحوّلوه، ويغدون “جدداً” و”أطهاراً” (متى17: 1-8، 2 كو5: 17). لذلك لا ينفصل المسيحيون عن العالم ولا يتنكرّون لمسؤولياتهم نحوه ولا يهجروه، فقد أوصاهم الربّ أن يبقوا في العالم (يو17: 15) ويقوموا برسالة عظمى فيه.
ج – مسؤولية المسيحيّين الاجتماعية
هدف كل مسيحي أن يحيا ثالوثياً، أي أن تكون حياته صورة للثالوث القدوس. ويقول احد اللاهوتيين أن هدف كل مسيحي هو أن يحيا مع أخيه، أو بالأحرى “في أخيه” كما أن الآب “في الابن” والابن “في الآب”، والروح القدس “في الآب والابن” (أنظر يو17: 21). والمؤمنون مدعّوون إلى أن يعيشوا هذه الحقيقة في الليتورجيا الإلهية، فيحوّلوها إلى عمل في الحياة اليوميّة (1 كو10: 16-17).
في الليتورجيا الإلهية يستعيد الإنسان والخليقة بأسرها، الوحدة التي فقدوها، ويحيونها ثانية. فكل شيء يُستعاد في جسد المسيح الناهض من الموت، ويقدّم مجدّدا من أجل شكر الله (زخ14: 20 21). لذلك نكرّر في الخدم الليتورجية: “لنودع ذواتنا وبعضنا بعضاً وكل حياتنا للمسيح الإله”.
وهكذا تنتفي الاهتمامات الأنانية من حياتنا، ويكون “المسيح إلهنا” مركز الثقل فيها، لأنه يوّحد ذواتنا وإخوتنا وحياتنا كلها. فالمسيح يظهر لنا يومياً في وجه أخينا الذي ينتظر ثمار أتعابنا ليرتاح. ونحن نضع حياتنا وكل قوانا وملكاتنا في “خدمة المسيح الإله” من خلال خدمتنا لإخوتنا (متى25: 40). وهذه الإمكانات غير محدودة لأن الإنسان، كما ذكرنا سابقاً، هو صورة الله الكلّي الحكمة والاقتدار، لذلك يشترك في حكمة الله وقدرته (تك1: 28، مز8: 1-10، حكمة سيراخ17: 2-4، حكمة سليمان10: 2). فهل نستطيع بعد هذا أن نتجاهل الحياة الحاضرة؟ أو نتغافل عن جراح الإنسانية والعالم؟
صحيح أن المسيحي مدعو إلى التحرّر من العالم وتجاوزه، لأنه “أقذار” إذا ما قورن بالكنز الوحيد الذي هو المسيح (فيل3: 8). ولكن هذا لا يعني أن نغفل مسؤولياتنا عن مصير العالم أو عن مشاكل إخوتنا. وإذا كان كلام الله يدعونا إلى أن نبكي مع الباكين (رو12: 15)، فان مساعدة الأخوة هي واجب ملِّح. وعلينا أن نتذكر دائماً أقوال الرسول يعقوب: “فلو كان فيكم أخ عريان أو أخت عريانة ليس لهما قوت يومهما، وقال لهما أحدكم: اذهبا بسلام واستدفئا واشبعا، ولم تعطوهما شيئاً ممّا يحتاج إليه الجسد، فماذا ينفع قولكم؟” (يع2: 15-16، أش58: 1-14).
وهذا الكلام لا يعني رفض النسك المتمثّل بالابتعاد عن العالم وعيش الحياة الرهبانية. فالرهبان ليسوا بعيدين عن الهدف الذي ذكرناه. والراهب الحق لا يحيا في انفصال داخلي عن العالم، ولا يتجاهل مسؤولياته نحوه. فهو يحيا من أجل العالم كله، ويشعر انه متّحد معه بعمق. ورسالة الراهب وموهبته تحملان الطابع النبويّ وتذكِّران بالملكوت، لأن الحياة الرهبانيّة ليست سوى صورة حيّة عن الحياة المقبلة.
الراهب بالنسبة إلى العالم سهم متّجه نحو السماء، يظهر للعالم أن ثمّة حقيقة أخرى هي حقيقة السماء. وبهذا يكمن عطاؤه العظيم للعالم. وهو عطاء ضروري، خاصة في عصرنا الحالي، حيث يكاد الجميع ينجرفون نحو المادة، ويتهدّدهم خطر الحكم عليهم بالموت.