الكلمة الأولى: “يا أبتاه أغفر لهم” (لوقا 23: 34)
لم يطلب الرب أثني عشر جيشاً من الملائكة لينقذوه، بل بالحري صلى لأجل صالبيه: رؤساء الكهنة والحكام والجنود الرومان والغوغاء الذين طالبوا بصلبه. كان يمكنه أن يهلك هؤلاء جميعاً، ولكنه دخل إلى أعماق كيانه، حيث شعر انه جاء خصيصاً لخلاص العالم كله، فقال: “يا أبتاه أغفر لهم، لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون” (لو34:23). لم يستجب معظمهم لحبه هذا، ولكن الأهم هو أنه قابل شرهم بخيره العميم. جسد المسيح المكسور ودمه المسفوك أظهرا لنا ما تفعله خطايانا، إذ تدق المسامير في جسده. وهذا هو الذي يهز مشاعرنا ويجعلنا نصرخ مثل العشار: “اللهم ارحمني أنا الخاطئ”(لو13:18)، وحينئذ يحطم الله الحجاب الحاجز بيننا وبينه ويؤكد لنا أن خطايانا لا يمكنها ؟أن تمنع حبه لنا أو تحرمنا منه !
قال احدهم:
مثل أشجار عطرية ينبعث منها أريج الروائح العطرية، سكب القلب العظيم من أعماقه على خشبة الحب صلاة مملوءة حلاوة ومغفرة للأعداء غير مسبوقة: ” يا أبتاه، اغفر لهم”. في تلك اللحظة، عندما تنقلب شجرة ضد خالقها وتصبح صليباً له، عندما ينقلب الحديد ضده ويصير مسامير، عندما تنقلب الزهور وتصير إكليلاً من الشوك، عندما ينقلب البشر ضده ويصيرون جلاّدين، يسمح الرب لصلاة من اجل أعدائه أن تنقطر من شفتيه لأول مرة في تاريخ العالم، ” لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون”.
ما الذي يخرج عندما تعصر ليمونة ؟ قطعاً، ما بداخلها. ونحن عندما نعصر، عندما تضغطنا كبشر تقلبات الحياة وتصدمنا الضيقات والتجارب بشدة، فإن ما بداخلنا هو الذي يخرج، سواء كان غضباً أو حقدا! أو مرارة أو حباً أو شكراً أو رأفة أو مغفرة. فعندما عصر مسيحنا بشدة على الصليب خرج ما بداخله: حب الله الغافر حتى للأشرار في هذه الصلاة الواحدة حصلنا على إنجيل حب الله الكلي لنا، وفيها تزودنا بكل حب الله الأب والابن والروح القدس !
يقول القديس مار أفرام السرياني:
تشفع الرب لأجل صالبيه لكي نعرف أنة غضب الغيظ لم يسد عليه. عذاب صالبيه كان لابد آت، ولكنه أظهر التمييز وليس الغيظ.
أعظم من أية معجزة:
صاحت الحشود من حوله: أنقذ نفسك، أظهر لنا معجزة من السماء، أنزل من على الصليب لنؤمن بك. فأعطاهم معجزة غير متوقعة هي مغفرته لهم ولجميع أعدائه. أليس هذا الغفران عسلاً إلهياً أعظم من أية معجزة وأقوى من أية علامة من السماء ؟! لقد أظهرت طلبة المغفرة تلك أن مسيحنا يختلف عنا تماماً وعن أي إنسان عاش على الأرض. عندما فوجئ احد المحكومين عليهم بالإعدام بهذه الكلمات في الإنجيل، قال انه رأى المعنى الكلي للمسيحية في ومضة واعترف بأنه: ” قد اخترقت هذه الآية قلبي إلى الأعماق”. وهكذا تغيرت حياته إلى الأبد.
تصور احد مشاهير الوعاظ أن الرب يسوع عندما ظهر لبطرس الرسول بعد قيامته قال له: “ابحث عن الذي بصق في وجهي واخبره أنني غفرت له. وابحث عن الذي وضع إكليل الشوك البشع على رأسي واخبره انه إذا قبل خلاصي له، فله عندي إكليل في ملكوتي ليس فيه شوكة واحدة. وابحث عن الذي أخذ القصبة من يدي وضربني بها على رأسي(متى30:27)، حيث عمّق الشوك داخل جبيني، واخبره أنه إذا قبل عطية الخلاص سأعطيه قضيب الملك. وابحث عن الجندي المسكين الذي طعنني بالحربة وأخبره انه يوجد طريق أقرب من ذلك إلى قلبي”!
“يا ابناه، اغفر لهم”، فإن كان قلبه رحمة للذين سمّروه، إذن تكون عنده رحمة لنا نحن أيضا. فإذا اعترفنا أن خطايانا كانت هي المسامير التي اخترقت يديه ورجليه، حينئذ تكون طلبته للمغفرة هي لنا نحن أيضا. نعم، لقد طلب ذلك لأجلي ولأجلك. فالغفران الذي نطق به على الصليب يعني أنه يوجد رجاء حقيقي لكل منا مهما كانت خطاياه. وكون اللص اليمين المحكوم عليه بالإعدام هو أول من دخل الفردوس إنما هي حقيقة تقف كمنارة رجاء لنا جميعاً.
ولكن هل كانوا فعلاً ” لا يعلمون ماذا يفعلون ” ؟ إنهم على قدر عظم خطيتهم، إلا انه لم تكن لديهم فكرة أنهم كانوا فعلاً يصلبون أبن الله ذاته. وهذا ما ذكره الرسول بولس: “لان لو عرفوا لما صلبوا رب المجد”(1كور8:2). لقد امتدت عطية المغفرة هذه من الرب إلى جميع صالبيه، ولكنها قبلت وخصصت للذين تابوا واعترفوا بخطاياهم يوم الخمسين. وأي موسم أفضل من الصوم الكبير لكي نفحص ضمائرنا ونتوب فيه ونحصل على هذه المغفرة التي وهبها لنا فادينا في غصّة آلامه ؟!
إنني أرى الصليب حباً مصلوباً من خطيتي ولأجل خطيتي، حباً مستعداً أن يقف معي ويقودني إلى حياة جديدة، حباً نزل من السماء وفعل كل شيء بما في ذلك الموت على الصليب لكي يرفعني إلى السماء ! ولعل أصعب وصية قالها الرب هي: “أحبوا أعدائكم. باركوا لاعنيكم. أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم”(مت44:5). وعلى الصليب تمم هذه الوصية ذاك الذي وضع لنا هذا المستوى العالي. ويقول القديس إيرينيوس بهذا الصدد:
{ هتف المسيح بقوة على الصليب طالباً المغفرة لصالبيه، فتجلت طول أناته وصبره ورأفته وصلاحه حيث إنه وهو يتألم صفح عن الذين أساءوا معاملته. لان ذاك الذي قال لنا: “أحبوا أعدائكم…”، تمم هو بنفسه ذلك على الصليب، إذ أحب الجنس البشري لدرجة انه صلى حتى لأجل الذين صلبوه.}
وإن كان ليس من طبيعة الإنسان أن يغفر لأعدائه ويحسن إلى مضطهديه، ولكنه لا يستطيع ذلك إلا بعمل نعمة المسيح في قلبه ! فالمسيح الذي صلى لأجل أعدائه على الصليب يخلق نفس روح الحب والمغفرة في الذين يتبعونه بكل قلوبهم. وهذا ما حدث مع الشهيد اسطفانوس عندما كانوا يرجمونه حتى الموت، فقد طلب من الرب ألا يحسب لراجميه هذه الخطية ! وهكذا عندما يسكن المسيح والروح القدس بقوة في قلب الإنسان، حينئذ يصير حبه لأعدائه ومغفرته لهم خبرة حقيقية له!
ولذلك يقول الشهيد إغناطيوس الأنطاكي:
“لا تطلبوا أن تنتقموا لأنفسكم من الذين يؤذونكم، بل فلنجعل منهم إخوة بلطفنا حتى يتمجد اسم الرب. ولنتشبه بالرب “الذي إذ شتم لم يكن يشتم عوضاً”. وعندما صلب لم يحتج، “وإذ تألم لم يكن يهدد”(1بط23:2)، بل صلى لأجل أعدائه”.
والقديس يوحنا ذهبي الفم يقول:
لا تحقد على من يخطئ إليك، هذا الذي يسبب لك الصالحات وكرامة عظيمة. لا تلعن الذي يعاملك بازدراء، لأنك بذلك تجتاز المشقة ولكنك تحرم من الثمرة، تصيبك الخسارة ولكنك تفقد المكافأة. ولكنك قد تقول: كيف يمكن ذلك ؟ لقد رأيت الله يصير إنساناً وينزل ويتألم بهذا المقدار لأجلك، ولا زلت تتساءل وتشك في كيفية غفرانك للعبيد رفقائك إهانتهم لك ؟ ألم تسمعه على الصليب وهو يطلب الصفح عن صالبيه؟ أم تسمع الرسول بولس يقول: “المسيح…الذي هو عن يمين الله يشفع فينا”(رو 8: 34)؟ ألم تر أنه حتى بعد أن صعد أرسل رسله إلى اليهود الذين قتلوه لكي يمنحهم ربوات من البركات، رغم أن الرسل كانوا سيقاسون ربوات العذابات على أيديهم ؟ ولكن ماذا تكون آلامك بالنسبة لآلام الرب ؟!…
في عام 1931م، عندما حكم الشيوعيون أسبانيا حيث حرقوا الكنائس والمستشفيات والأديرة، قبضوا على كاهن اسباني عمره 86 عاماً، واقتادوه إلى نار مشتعلة وهو مقيد اليدين. أما الكاهن فقد طلب منهم أن يمنحوه طلبه الأخير، وهو أن يفكوا رباط يديه لكي يتمكن من أن يباركهم قبل موته. فظن أحد حراسه انه مجنون، فقطع بفأس يدي ذلك الكاهن مع قيوده، فرفع الكاهن الشيخ ذراعيه المقطوعتي اليدين بآلامهما المبرحة ودمهما النازف على رؤوس جلاديه، ورسم عليهم بالبركة قائلاً: “إنني أغفر لكم. وهذه هي رغبتي الأخيرة: أن يغفر لكم الله أيضاً ويبارككم” !
الكلمة الثانية: “اليوم تكون معي في الفردوس” (لوقا 23: 43)
أنكر الرسول بطرس سيده علانية، واللص اليمين التائب اعترف به علانية صارخاً: “أذكرني يا رب متى أتيت في ملكوتك”. فكانت استجابة الرب يسوع فورية، إذ قال له: “الحق أقول لك أنك اليوم تكون معي في الفردوس”(لو42:23 و43). هكذا خلص اللص المغفور له، وكان هو أول من يدخل الفردوس. ولكنه ظل لصاً لأنه سرق الملكوت بنعمة الله بواسطة التوبة ! ويتأمل أحد الروحانيين في ذلك بقول:”اليوم”، أية استجابة فورية هذه ! “تكون معي”. أية رفقة هذه ! “في الفردوس”. أي مكان هذا يا رب “!.
لا يستطيع الإنسان أن يتحمل إبادة ذكراه بالكلية من على وجه الأرض. فالعلامات والنصب التذكارية أو أي أساسات لا يمكنها أن تحفظ ذكرانا من النسيان، فهذه جميعها تصير تراباً. ولكن الشيء الوحيد الذي يحفظ ذكرانا هو إيماننا بأن الله عرفنا قبل أن نولد وأنه سيذكرنا في الأبدية بأكملها ! اتجه اللص المصلوب بحزن عميق في قلبه بسبب خطاياه نحو المخلص طالباً أن يذكره في ملكوته. فقد طلب في آخر لحظة من حياته أن يُذكر، فذكره الرب. لقد وجّه الرب وعده العظيم، ليس إلى ملك أو قديس عظيم، بل إلى لص عدو للناس، هذا الذي علّمنا من التقليد أن اسمه: “ديماس”.
قضت أمرآة حياتها في الخطية، وبينما كانت تُحمل إلى حجرة الطوارئ في المستشفى سألت الممرضة: ” هل تظني أن الله بإنسان مثلي” ؟ فأجابتها: بالطبع، فقد اعتنى باللص اليمين، وبالمرأة الزانية، وبالعشار غير الأمين، وهوة يعتني بالزهور والعصافير. فهو بالتأكيد يعتني بك، ” فلا تخافوا، أنتم أفضل من عصافير كثيرة (لو 12: 7)! بل إن أشعياء النبي يُخبرنا بقول الرب: “هل تنسى المرأة رضيعها، فلا ترحم أبن بطنها، حتى هؤلاء ينسين، وأنا لا أنساك”(اش15:49).
وقد ذكرنا الرب يسوع، ليس أثناء صلبه فحسب، بل أيضاً في قيامته: “لأني أنا حي فأنتم ستحيون…أنا أمضي لأعد لكم مكاناً… حتى حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضاً “(يو19:14 و2و3). فالقيامة تعني أنه بعد الموت لن ينسى الله أحداً: “وما لم تر عين…ما أعده الله للذين يحبونه”(1كور9:2)، فهل يوجد ذكر أو ميراث أعظم من ذلك ؟
والسبب في شعور الكثيرين أن الله قد نسيهم، هو أنهم هم قد نسوا الله. فإذا ذكرناه يذكرنا إلى الأبد ويحبنا كأولاده. وإذا اختبرنا هذا الذكر والحب الإلهيين يمكننا أن ننقل هذه الخبرة للذين يشعرون بأنهم منسيون ومحتقرون. ستظل أسماؤنا مكتوبة إلى الأبد في سفر الحياة، ليس بسبب أعمالنا على الأرض، لأنه أية أعمال قدمها اللص حتى ساعة موته على الصليب ؟ كل ما فعله اللص هو إيمانه وتوبته الأخيرين. فذكر الله الأبدي لنا إنما هو عطية نعمته، فكل نفس تائبة تقول: “أذكرني يا رب”، تنال استجابته الفورية: “اليوم تكون معي في الفردوس” !
ألسنا كلنا لصوصاً ؟ ألا نسرق سُمعة الآخرين بالقيل والقال، بل نغتالهم بسيوف ألسنتنا ؟! ألا نسرق الوقت المخصص لله ونضيعه ؟ بل ألا نسرق أنفسنا التي أشتراها المسيح بدمه ونحتفظ بها لأنفسنا ؟! فإن كنا قد تحققنا أننا لسنا أفضل من هذا اللص، فليتنا نتقدم بإتضاع معترفين للرب بالتوبة والأيمان لكي نحصل على معيته في الفردوس ! لقد كانت هذه هي آخر صلاة في حياة هذا اللص، وربما هي الأولى، فقد قرع مرة واحدة وصلى متوسلاً مرة واحدة، وبجرأته هذه ربح السماء !
وماذا لو ذكر الرب كل ما فعلته أنت في حياتك وما تستحقه ؟ حينئذ كيف يمكنك أن تواجه يوم الدينونة ؟! بل فليكن طلبنا: “أذكرني يا رب مهما كنت أنا. أذكرني برحمتك”. ولا بد أنه يستجيب ! لقد تساءل التلاميذ عمّن هو الأعظم فيهم في الملكوت، بل إن يعقوب ويوحنا طلبا مكانين رئيسيين بجوار الرب. أما هذا اللص فلم يطلب سوى مجرد أن يذكره الرب في ملكوته، فأعطاه الفردوس لأنه يعطي “أكثر جداً مما نطلب أو نفتكر”(اف20:3)! هكذا تشبّهت الكنيسة لهذا اللص وجعلت طلبته هي طلبتنا يوم الجمعة العظيمة، بل كل يوم في قطع الساعة التاسعة !
لقد أعتُبر العنوان الذي وُضع على صليب المسيح: “يسوع الناصري ملك اليهود” سُخرية، لأنه كيف يكون المصلوب بهذه المذلّة والعار ملكاً ؟ ولكن اللص رآه بعين الايمان ملكاً، ولا سيما بعد أن طلب من أبيه السماوي المغفرة لصالبيه. فرغم أن عرشه كان صليب الإعدام والعار، وتاجه إكليلاً من شوك، والمسامير في جسده عوضاً عن قضيب المُلك، وأتباعه هم الغوغاء الساخرة الشامتة، ورغم عُريه، إلا أن اللص قد تعرف على ملك الكون الذي ليس لمُلكه انقضاء. ورغم أن تلاميذ المسيح شكّوا فيه بسبب هذا الموت المُخزي، ألا أن اللص عرف فيه مخلص البشرية وطلب أن يذكره في ملكوته ! لقد كان إيمانه قوياً لأنه تأكد من مجيئه في مُلكه أو ملكوته رغم أنه رأى جسده ممزقاً على الصليب !
وكان وعد الرب فورياً ومباشراً، فلم يعده بنار مطهريه ولا فترة زمنية تمهيدية، بل وعده بالفردوس: ” اليوم” و” تكون معي”. إنه أفضل وعد مُذهل سمعت بع البشرية ! وهو ما سبق أن قاله الرب: “كثيرون أوّلون يكونون آخرين، وآخرون أولين”(مت30:19). وها هو الأخير والأقل من الكل: لص يُعدم، يصير أول الداخلين إلى الفردوس، ومع الرب نفسه. وهذا هو المكان الذي يريده المسيح لنا جميعاً إلى الأبد: “أيها ألآب أريد أن هؤلاء الذين أعطيتني يكونون معي حيث أكون أنا، لينظروا مجدي الذي أعطيتني، لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم”(يو24:17) ! ومن ذا الذي يمكنه أن يعد بالفردوس إلا الله ؟ هذه هي أول مرة يستعمل فيها الرب كلمة “فردوس” في الإنجيل. ولمن ؟ لإنسان خاطئ منبوذ ! والفردوس يبدأ فينا من هنا ويدوم إلى الأبد. وكما في مثال الفعلة، فالذي يعمل ساعة واحدة يحصل على نفس أجرة الذين احتملوا ثقل النهار وحره.
إذا عاش إنسان حياته بدون الله، يتقسى قلبه حتى إن آخر ما يرد على فكره عند موته لا يكون ذكر الله، بل أموره الدنيوية التي كان يهتم بها. لذلك فإن كلمة الله لنا كل حين هي: “هوذا ألان وقت مقبول. هوذا ألان يوم خلاص”(2كور2:6)، فقد طلب شخص من صديقه الشاب الذي يعيش في الخصية أن يتوب فقال له: “لا زال أمامي وقت طويل لكي أفعل ذلك. تذكر اللص على الصليب” ! فقال له صديقه: “أي لص تقصد ؟ لأنه كان هناك لص آخر، هذا الذي لم يبلغ إلى الساعة الحادية عشر فقط” !
ونلاحظ أيضاً أن الرب يسوع مات وهو بين لصيّن. ذلك لان كل حياته كانت لآجل الخطاة، هكذا أيضاً في موته لم ينفصل عنهم. لقد كانت رسالته على الأرض برمتها هي أن يطلب ويخلّص من كان هالكاً ! ” لأن أبن الإنسان قد جاء لكي يطلب ويخلّص ما قد هلك”(لو10:19).
الكلمة الثالثة: “هوذا أبنك… هوذا أمك” (يوحنا 19: 26-27)
“فلما رأى يسوع أمه، والتلميذ الذي كان يحبه واقفاً، قل لامه: يا امرأة، هوذا ابنك. ثم قال للتلميذ: هوذا أمك. ومن تلك الساعة أخذها التلميذ إلى خاصته”(يو26:19 و27).
بتلك الكلمة أظهر الرب اهتمامه الحاني بوالدته القديسة حيث إن احتياجاتها الأساسية ستظهر بعد موته، وهكذا أستودعها لعناية تلميذه المحبوب المُخلص يوحنا. وهذا دليل على اهتمامه غير المنقطع بجميع احتياجات مختاريه اليومية. فهو الراعي الصالح الذي بذل حياته لأجل غنماته، فحبه يحتضن ويشمل الجميع. وهو يريدنا أن نهتم بالاحتياجات اليومية لأولاده ابتداء-بالطبع- من أهل بيتنا.
كانت كلمة الرب الأولى على الصليب لأجل أعدائه، والثانية لأجل الخطاة الذين يمثلهم اللص اليمين، وهذه الثالثة لأجل القديسين. والمغبوط أغسطينوس يعتبر أن هذه هي “الساعة” التي نوهّ عنها الرب في عرس قانا الجليل، فيقول:
هذه بالطبع هي تلك الساعة التي قال عنها الرب يسوع لوالدته قبل أن يُحّول الماء إلى خمر: “ما لي ولك يا امرأة، لم تأت ساعتي بعد” (يو 2: 4). وهكذا تنبأ عن الساعة التي كان عليه -وهو على وشك الموت- أن يعترف فيها بفضل تلك التي وُلد منها جسدياً. فعندما كان على وشك أن يبدأ في انجاز أعماله الإلهية تصرف وكأنه صدّ أمه، وهو لم يفعل ذلك، أما الآن وهو يقاسي آلاماً بشرية فهو بعاطفة بشرية يستودع التي صار منها إنساناً. لأنه كان في قانا عرّف نفسه بواسطة قوته، أما الآن فإن الذي ولدته مريم كان معلقاً على الصليب. فالمعلم الصالح يلقّن تلاميذه بقدوته أن الأبناء ينبغي أن يعتنوا بوالديهم، وكأن خشبة الصليب هي منيرة. ولعل من هنا جاء تعليم الرسول بولس: ” إن كان أحد لا يعتني بخاصته، ولا سيما أهل بيته، فقد أنكر الايمان، وهو شر من غير المؤمن” (1تي 8:5).
ويحثنا القديس كيرلس الكبير على إكرام الوالدين بقوله:
تفكّر الرب في أمه غير مبال بمعاناة آلامه المرّة، وجعلها تحت عناية التلميذ المحبوب وأوصاه أن يأخذها إلى بيته ويعتبرها أمه. وأشار عليها أن تعتبره ابنها الحقيقي، هذا الذي يحبه الحاني يحل مكان ابنها الطبيعي. ولكن البعض يظن أن المسيح فعل ذلك مدفوعاً بعاطفة جسدية… ولكن ما هو غرضه الصالح من ذلك؟ أولاً: إنه أراد أن يثبت وصية الناموس: “أكرم أباك وأمك”(خر12:20)، فمن اللائق أن يتمم المخلص تلك الوصية لأن فيه يكمن كمال كل فضيلة، وهو المثل الأعلى للجميع. وثانياً: أليس من الصواب أن يفكر الرب في والدته عندما حلّت بها هذه الشدة والاضطراب؟ فهو حقاً إلهنا ويعلم خفيات القلب حيث إن صلبه قد ألقى بها تلك المحنة المؤلمة. ولذلك فقد أستودعها لهذا التلميذ الذي أمكنه (هو الوحيد) أن يوضح ذلك في إنجيله، ولكي يحقق مشيئة الله أخذها بفرح إلى بيته.
في عرس قانا الجليل قال الرب للقديسة والدته: “لم تأتِ ساعتي بعد”، أما الآن فقد حانت ساعة إتمام تدبيره الخلاصي، وهي ساعة الموت والوداع التي سيختفي فيها الابن الوحيد لتلك الأم التي نطقت بتلك النبوّة: “هوذا منذ ألان جميع الأجيال تطوبني” (لو48:1)، لأنها عانت ليس من موت وحيدها فحسب، بل أيضاً من رؤيتها لعذاب أبنها وفاديها.
وكلمة “امرأة” هي التي ذكرها الله عندما وعد أن نسلها سيسحق رأس الحيّة أي الشيطان: “أضع عداوة بينك وبين المرأة وبين نسلك ونسلها. هو يسحق رأسك وأنت تسحقين عقبه” (تك15:3). والرب يسوع هو”نسل المرأة” التي هي القديسة العذراء، وها هو يسحق رأس الشيطان بصليبه وقيامته، مع العلم بأن رأس الحية هي أخطر أعضاء جسمها المستعد للهجوم القاتل. وأنت “تسحقين عقبه” تشير ألى آلام الرب وموته. ولان المسيح هو آدم الثاني فيمكننا اعتبار أن “العذراء” هي حواء الثانية. ولأن العذراء رمز الكنيسة، فاهتمام الرب بها يشير إلى إتحاده بالكنيسة الذي ينتج عنه ولادة شعب إسرائيل الجديد الذي كتب عنه: “أما أنتم فجنس مختار، وكهنوت ملوكي”، أمة مقدسة، شعب اقتناء، لكي تخيروا بفضائل الذي دعاكم من الظلمة إلى نوره العجيب” (1 بط 9:2). ومن أجل هذا الجنس المختار ها هو الرب يحقق وعده للبشرية، فبينما يسحق الشيطان عقبه على الصليب، يسحق هو رأس الشيطان لأجلنا.
وقد رافقت العذراء عند الصليب ثلاث نساء مخلصات للرب (مر 40:15، يو 25:19). أما الرسل فقد تشجع واحد منهم فقط ورافق الرب حتى الصليب، أما النساء فتشجعن منهن أربعة مما جعل القديس يوحنا ذهبي الفم ينتبه ويقول: “أثبتت النساء-الجنس الأضعف-على الجلجلة أنهن أشجع وأقوى من الرجال”. لان الذين تبعوا الرب حتى الصليب كان يمكن أن يقبض عليهم ويحاكموا باعتبارهم أتباع المحكوم عليه.
لم تعد هناك حاجة لأمومة العذراء للرب، بل تغيرت مهمتها وصارت الآن أماً لابن آخر، كما أن الرسول يوحنا أصبح عليه أن يضطلع بالمهمة التي تركها الرب يسوع أي الاعتناء بوالدته القديسة التي تقدمت في العمر، حيث كان الصدّيق يوسف النجار قد فارق الجسد. فضلاً عن أن تكليف الرب ليوحنا الحبيب بالاعتناء بوالدته يؤكد أنها لم تنجب أحد بعده إذ طلت دائمة البتولية.
ويقول القديس يوحنا ذهبي الفم في ذلك:
أية كرامة منحها الرب للرسول يوحنا إذ استودع والدته القديسة لهذا التلميذ! كان لابد أن تحزن وتتطلب الحماية، ولذلك فقد أستأمن تلميذه المحبوب عليها إذ ربطهما معاً بالمحبة التي لما أدركها التلميذ “أخذها إلى خاصته” (يو 27:19). ولكن لماذا لم يذكر الرب أية امرأة أخرى من الواقفات؟ لكي يعلمنا أن نولي عناية أعظم بأمهاتنا. فان كنا عندما يقاومنا والدونا في الأمور الروحية لا نقر بسيطرتهم علينا، هكذا عندما لا يعوّقوننا، فعلينا أن نوليهم الاحترام اللائق ونفضلهم قبل غيرهم لأنهم أنجبونا واهتموا بتربيتنا وتحملوا ربوات من الشدائد لأجلنا.
الكلمة الرابعة: “إلهي إلهي لماذا تركتني” ؟ (متى 27: 46)
“ومن الساعة السادسة كانت ظلمة على كل الأرض إلى الساعة التاسعة. ونحو الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم قائلاً: إيلي إيلي، لما شبقتني. أي الهي الهي لماذا تركتني؟” (مت 45:27 و46)
هذه الظلمة تدل على أمرين: الأول: حزن الخليقة كلها على افتراء الإنسان على خالقها ورفض حبه وتبعيته، والثاني: تخلي الأب عن الابن لانه حمل خطايا البشرية: “حمل هو بنفسه خطايانا في جسده على الخشبة”(1بط 24:2).
ويرى Sankt Johannes Krysostomus أن هذه الكلمة الرابعة تدل على إكرام المسيح للأب وعلى شهادته للعهد القديم فيقول:
قال الرب ذلك حتى تعلموا انه حتى آخر نسمة يُكرِم أباه وانه ليس عدوّاً لله. كما انه نطق بصرخة محددة من (أقوال) النبي (داود) (مز1:22) شاهداً بذلك للعهد القديم، بل وباللغة العبرانية أيضاً، لكي يكون واضحاً ومفهوماً لهم، وهو يُظهر بكل ذلك أن له فكراً واحداً مع إلاب الذي ولده (منذ الأزل). ولكن لاحظ هنا استهتارهم وعبثهم وحماقتهم، فقد ظنوا يُنادي إيليا كما قيل (ولعل ذلك لانهم كانوا يتكلمون الآرامية)، وللحال أعطوه خلاً ليشرب، بل إن واحداً آخر طعنه بحربة! ماذا يمكن أن يكون اكثر جموحاً ووحشية من هؤلاء الناس الذين امتدّ جنونهم إلى هذه الدرجة حتى أهانوا أخيراً جسداً يموت! ولكن لاحظ أيضاً كيف أنه استخدم آثامهم لخلاصنا، لانه بعد هذه الضربة تفجرت منه ينابيع خلاصنا.
واضح أن الرب يسوع على الصليب كان منبوذاً من رؤساء شعب إسرائيل، ولكن كيف يمكننا أن نفهم انه صار منبوذاً من الله وأنّ الأب قد تركه؟ لقد ارتبك المسيحيون على مدى الأجيال بل فزعوا من صرخة المصلوب هذه التي قد توحي باليأس، فهل فقد المصلوب صلته بالأب ولو إلى لحظة واحدة؟! هذا التفسير يبدو متعارضاً مع كونه ابن الله الذي قال: “أنا والأب واحد”(يو10: 30)! ولكن فلنعلم أن الرب يسوع لم يكن في أي وقت أقرب إلينا مما هو في هذه الصرخة التي لإنسان مهجور منبوذ! بينما كان هو غير منفصل عن الأب: “لاهوته لم يُفارق ناسوته لحظة واحدة ولا طرفة عين” (القداس الإلهي-الاعتراف).
هذه الصرخة سبق أن أستهل بها داود النبي المزمور22 حيث نطق الروح القدس بها على فمه ليس كتعبير عن ضيقته هو فحسب، بل كنبوّة تحققت على الصليب. ولكن المخلّص عبّر بها عن شعور كل إنسان عندما ينفصل عن الله بسبب الخطيئة التي تجعله يتغرّب عن الله فلا يمكنه أن يشعر بحضرته، ولكنه في هذه الحالة ينبغي أن لا يفقد ثقته في الله بل يظل يدعوه” الهي”. النفس التي تيأس لا تصرخ إلى الله، ولكن الرب صرخ! وحتى عندما نزل إلى جحيم فهو لم ينفصل عن الأب، بل كان ذلك لكي يموت من اجلنا أي يحملنا نحن الخطاة حقاً في جسده! ويرى المغبوط أغسطينوس أن آية هذا المزمور هي صرخة الإنسان العتيق على الصليب، فيقول: “إن ذاك الذي صلّى هكذا وهو مُسمّر على الصليب هو في الحقيقة إنساننا العتيق الذي لا يعرف حتى لماذا تركه الله”. وهو ما ذكره الرسول بولس: “عالمين هذا: أن إنساننا العتيق قد صُلب معه ليُبطل جسد الخطيئة” (رو 6: 6). والنصرة بعد ذلك لا بد آتية، فقد أكمل داود النبي بما يوحي بالقيامة فبقول: “عليك اتكأ آباؤنا، إليك صرخوا فنجوا. عليك اتكلوا فلم يخزوا”(مزمور 4:22 و5). وبهذه الثقة صرخ مخلصنا أخيراً: “يا أبتاه في يديك أستودع روحي” (لو46:23)! وهي أيضاً آية مزمور (5:31).
والعلاّمة ترتليان يعبر أن هذه صرخة الإنسان نحو الله فيقول:
“كان هذا صوت جسد ونفس، أي إنسان، وليس الكلمة والروح، أي الله. وقد نُطقت هذه الكلمة بشرياً لتثبت عدم قابلية الله للتألم، وقد تخلى عن ابنه بل بذله لاجلنا أجمعين” (رو 32:8). وقد أدرك ذلك اشعياء النبي قبله فنطق بما يوحي بذلك: “نحن حسبناه مُصاباً، مضروباً من الله ومذلولاً… والرب أسلمه لاجل خطايانا…أما الرب فسُر بأن يسحقه بالحزن إن جعل نفسه ذبيحة إثم (اش 4:53-10 حسب السبعينية). فهو “تركه” بمعنى أنه لم يشفق عليه بل سلّمه (للألم). وفي جميع النواحي الأخرى، لم يتخل الأب عن الابن لانه في النهاية استودع روحه في يدي أبيه (لو 46:23)”.
معروف أن الله “جعل الذي لم يعرف خطيّة، خطيّة لاجلنا، لنصير نحن برّ الله فيه” (2كو 21:5)، وان الله نور: “وأية شركة للنور مع الظلمة”(2 كو 14:6)، وأن المسيح لبس طبيعتنا البشرية، ورضي أن يحمل خطايا البشرية كلها لكي يُعاقب عليها باسمنا، إشفاقاً منه علينا من الانفصال الأبدي عن الله وعذاب الجحيم الأبدي. ولذلك كان لا بد أن يتخلى عنه الأب أثناء حمله لتلك الخطايا التي لا تحصى لانه لا يطيق الخطيّة. إذن، فقوله للأب: “لماذا تركتني” ؟ تعني أن الأب تخلى عنه باعتباره الكلمة المتجسد حتى يتحمل بالكامل عقوبتنا ونحن فيه وهو حاملنا في جسده، وهذا هو معنى الفداء.
لقد اجتاز الرب أسوأ موقف في الوجود على الإطلاق، وبقوة لاهوته المطلق حوّل الجلجثة إلى افضل موقف في الوجود وهو خلاص البشرية. كما انه علّمنا بصرخة هذه الكلمة الرابعة عما يجب أن نفعل في ابشع ضيقاتنا: أن نصرخ إلى الله من أعماق قلوبنا ونشرح له احتياجنا إليه وهو بالتأكيد لن يحجب وجهه عنا، حيث إن تخلّي الأب المؤقت عن الابن ثم إقامته له في اليوم الثالث يمنحنا يقين حضرته ومعييته غير المنقطعة لنا: “إن الله بالحقيقة فيكم”(1كو25:14).
ولكن هل انطلقت هذه الصرخة من ضعف المخلّص أو إرتعابه من الموت؟ يقول القديس أثناسيوس: [قول الرب: “لماذا تركتني”؟ ذكرها الإنجيليون رغم أن الكلمة الإلهي غير قابل للألم. فطالما أن الرب صار إنساناً، وان هذه الأمور حدثت وقيلت كما من إنسان، فان هذه الكلمة قيلت لكي يخفف هو نفسه من هذه الآلام عن الجسد ويُحرره منه…ولا يحق لأحد أن يقول إن الرب كان مرتعباً، وهو الذي يرتعب منه بوّابو الجحيم (اي 17:38 حسب السبعينية)، و”القبور تفتحت وقام كثيرٌ من أجساد القديسين الراقدين… وظهروا لكثيرين” (مت 52:27 و53)… وهو الذي يهرب منه الموت كالحية والشياطين ترتعب منه، وهو الذي انشقت من اجله السموات واهتزت جميع القوات. لانه عندما قال: “لماذا تركتني” عرفت الأرض ربها الذي تكلم، وفي الحال تزلزلت وانشق الحجاب وتوارت الشمس وتشققت الصخور. والعجيب أن الحاضرين من الذين كانوا قد أنكروه عندما رأوا هذه كلها، اعترفوا انه “حقاً كان هذا ابن الله” (مت 54:27)].
وهكذا كانت هذه الصرخة: “الهي الهي لماذا تركتني”، سبباً في هياج الطبيعة ودخول الخليقة الجديدة إلى العالم، والتي لا يمكن أن تنفصل عن الله أو يتركها الله.
الله لا يتخلى عنا قط، فهو يبدو لنا كذلك. لقد تخلى الأب عن الابن المتجسد- أو بالحري عن إنساننا العتيق المصلوب معه وفيه- مرة واحدة. ولذلك فليست لنا حاجة بعد أن نصرخ بنفس هذه الكلمات، فقد حمل المسيح عنا ذلك وصرنا نحن في يقين أننا لن نُقاسي من التخلية فيما بعد، لان الرب بعد تحملها عنا أعد لنا القيامة! “ها أنا معكم كل الأيام، إلى انقضاء الدهر. آمين” (مت 20:28).
الكلمة الخامسة: “أنا عطشان” (يوحنا 19: 28)
“بعد هذا رأى يسوع أن كل شيء قد كمّل، فلكي يتم الكتاب قال: “أنا عطشان”. وكان أناء موضوعاً مملوءً خلاً، فملئوا اسفنجة من الخل، ووضعوها على زوفا وقدموها إلى فمه”(يو 28:19 و29).
ذاك الذي قال للسامرية: “من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش إلى الأبد” (يو14:4)، خالق الماء احتاج إلى الماء، وها هو يتوسل إلى أعدائه ليروي عطشه! في وسط الأرض كلها وفي خضم تاريخ البشرية الطويل ونّت صرخة معاناة مخلصنا على الصليب: “أنا عطشان”، وكانت هي صرخة الآمه الجسدية الوحيدة على مدى ساعات الصلب. وكان ذلك رد فعل جسدي طبيعي، فقد فَقد الرب كمية كبيرة من دمه في الجلد والصلب، وهكذا جف جسد الرب وتلوثت جروحه وتبددت قوته بحمى عنيفة وجف لسانه وحلقه، وكل ذلك بسبب مدة الصلب الطويلة كما سبق أن تنبأ المرتل: “يبست مثل شقفةٍ قوتي، ولصق لساني بحنكي”(مز15:22)
وقد عبّر القديس كيرلس الكبير عن هذه المعاني بقوله:
…الألم كفيل بأن يثير العطش، إذ انه يبدد رطوبة الجسد الطبيعية الداخلية المفرطة، ويلهب الأعضاء الداخلية بالوخزات المبّرحة. ولقد كان من السهل على كلمة الله العلي أن يُحرر جسده من هذا العذاب، ولكنه كما اخذ على عاتقه الآلام الأخرى بإرادته، هكذا تحملها أيضا بإرادته، حينئذ طلب أن يشرب، ولكنهم كانوا مجرّدين من الرحمة وابعد ما يكونون عن محبة الله، حتى انهم بدلاً من أن يعطوه ما يطفئ عطشه أعطوه ما يزيده شدة، ومقابل خدمة الحب عينها ارتكبوا عملاً اكثر نفاقاً… ولكن يستحيل أن يكذب الكتاب الملهم الذي وضع في فم المخلص كلمات داود النبي: “ويجعلون في طعامي علقماً، وفي عطشي يسقونني خلاً” (مز21:69).
ينبوع الماء الحي”تركوني أنا ينبوع المياه الحية” (ار 13:2) الذي اخرج الماء من الصخرة لشعبه في القديم، خالق الماء والحياة، يصير إنسانا بهذه الدرجة من الضعف حتى يعطش مثل خليقته! ولكن-كما يقول المغبوط اغسطينوس- عطش الرب على الصليب لم يكن عطشاً جسدياً فحسب، بل كان أيضا عطشاً إلى خلاص البشرية. لقد عطش لاجل المؤمنين لكي تفيض أجسادهم اليابسة بالماء الحي: “إن عطش أحد فليقبل إليّ ويشرب. من آمن بي، كما قال الكتاب، تجري من بطنه انهار ماء حي. قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به مُزمعين أن يقبلوه”(يو37:7-39). فهو يدعونا باستمرار قائلاً: “أنا أُعطي العطشان من ينبوع ماء الحياة مجاناً(رؤ6:21).
” أنا عطشان”: هي صرخة إنسان يموت طالباً الماء، ولكنها أيضا كانت صرخة عطش إلى الله من وراء غيوم الجحود البشري وشر الإنسان. لقد كانت صرخة من يتوق إلى اليوم العظيم الذي يمكنه أن يقول فيه: “أنى ذاهب إلى أبي لأنني أنجزت عملي، آتياً معي بالبشر الذين فديتهم وقدّستهم ومجّدتهم”! وهذه الصرخة تعني أن جسد مخلصنا لم يكن خيالاً كما ظن البعض مثل أصحاب بدعة الدوسيتية ومن بعدهم المبتدع أوطاخي، بل إنه اخذ طبيعتنا البشرية كما هي بلا نقصان، وهذا أمر منطقي لكي يخلّص طبيعتنا البشرية كما هي.
كان في أورشليم في ذلك الوقت طائفة من النساء المُحبات للخير ممن كُنّ يقدمن للمحكوم عليهم بالصلب خمراً من النوع المخدّر قليلاً. وقد قُدّم للرب يسوع من هذا الخمر قبل الصليب، ولكنه رفضه حتى لا يعتفي من أي جزء من آلمه الخلاصية. ولكنه عندما قال إنه عطشان، قدّموا له خلاً أو خمراً رديئاً مما يستعمله الجنود، وبهذا تتم نبوّة النبي. والزوفا هو نبات”الزعتر” العطري الرائحة الذي يُبرّد الفم ويروي اكثر من الماء، ولذلك ظنوا انه يخفف من آلام المسيح على الصليب وهو يُستخدم في حزم صغيرة يمكن أن تُبلل بالسوائل. ورغم أن الرب عطش إلا أننا منه استقينا ولا زلنا نستقي “مياهاً بفرح من ينابيع الخلاص” (اش 3:12)، لانه هو الصرخة التي ارتوى منها شعبه في القديم (1 كو 4:10). وعندما طُعن المخلص خرج من جنبه الخلاص الحقيقي للبشرية: ماء لتعميدنا، ودم لتطهيرنا! حقاً لقد ذاق إلهنا أبشع أنواع العطش وهو على صليب خلاصنا، وهكذا “افتقر وهو غني لكي تستغنوا أنتم بفقره” (2كو 9:8).
عطش إلى العطاء:
كان عطش الرب ليس إلى اخذ الماء فحسب، بل أيضا إلى أن يعطينا حبه! انه لا يزال متعطشاً أن يعطينا ملكوته: “أيها الأب، أريد أن هؤلاء الذين أعطيتني يكونون معي حيث أكون أنا لينظروا مجدي الذي أعطيتني”(يو 24:17). إنه يعطش لكي يعطينا ماء الحياة. “الله يعطش لكيما يعطش إليه شعبه”! هكذا يقول القديس غريغوريوس النزينزي. فإن لم نعطش إلى الله كما عطش الرب يسوع لاجلنا فلن نجده، وما اجمل قول المرتل: “كما يشتاق الأيّل إلى جداول المياه هكذا تشتاق نفسي إليك يا الله. عطشت نفسي إلى الله، إلى الإله الحي” (مز 1:42 و2)! والقديس مار اسحق السرياني يقول: “اعطش إلى المسيح لكيما يُسكرك حتى الثمالة بحبه”! أما الذين يحفرون لانفسهم في الدينويات آباراً مشققة لا تضبط ماءً، فان جميع أمور العالم لا تروي عطشهم، لان العطش الحقيقي هو إلى الله!
الذين يقرءون كلمة الله أو يسمعون الوعظ، إن لم يوجد ذلك العطش في نفوسهم فباطلٌ هو كل ما يقرءونه أو يسمعونه، والروح القدس هو الوحيد الذي يمكنه أن يخلق فينا هذا العطش، ومن يعوزه ذلك فليطلب من الله الذي يُعطي بسخاء. والواعظ الناجح هو الذي يُصلي لكي يعطش سامعوه إلى الله.
كما أن الرب لا يزال عطشاناً إلى خلاصنا، لانه حاضر سراً في كل محتاج إلى معونة ويصرخ فيهم دائماً: أنا عطشان!
كانت آخر كلمات سجلها الرب يسوع في رؤيا يوحنا اللاهوتي هي: “من يعطش فليأت. ومن يُرد فليأخذ ماء حياة مجاناً (رؤ 17:22). ولا تزال هذه الدعوة موجّهة لجميع المسافرين في برية خطايا هذا العالم حيث الآبار المشققة التي لا تضبط ماء، لكي يُقدم لهم المسيح ماء الحياة الذي لا ينضب معينه، والذين يقبلون المسيح يقول عنهم القديس يوحنا الرائي: “لن يجوعوا بعد، ولن يعطشوا بعد، ولا تقع عليهم الشمس ولا شيء من الحر، لان الخروف الذي في وسط العرش يرعاهم، ويقتادهم إلى ينابيع ماء حيّة ويمسح الله كل دمعة من عيونهم”(رؤ16:7و17). نعم يا رب، فكما عطشت لأجلي على الصليب، هكذا أنا عطشان إليك !
الكلمة السادسة: “قد أُكمل” (يوحنا 19: 30)
“فلما اخذ يسوع الخل قال: “قد اُكمل”(يو30:19)
“قد اُكمل” هي صيحة انتصار وشكر، صيحة أعقبت آلاماً هذه مقدارها، وكان هذا هو تحقيق النبؤات (مز31:21 سبعينية). لقد تحطمت قوة الشيطان: “ألان يُطرح رئيس هذا العالم خارجاً” (يو31:12).
والقديس يوحنا ذهبي الفم يشرح معنى “قد اُكمل” بقوله:
[أي انه لا يوجد شيء بعد ينقص التدبير(الخلاصي). فالرب كان دائماً يريد أن يُظهر أن موته كان من نوع جديد، وان الموت لم يحل على الجسد قبلما شاء هو ذلك، وقد شاء ذلك بعد أن اكمل كل شيء].
ولكن ما الذي أكمله الرب؟ اكمل مهمته العظمى للبشر. فقد اكتمل فداؤنا، والابن الضال يمكنه ألان أن يرجع إلى بيته إذ يسمع: تعال فان كل شيء قد اُعدّ. فقد مُحيت الخطيئة وتمت المصالحة مع الأب، وجيء بالبر الأبدي، وعبر الإنسان الموت، والنفوس المؤمنة نالت الخلاص. وهكذا تحقق الغرض من مجيء الرب إلينا، واكتملت خطة اتحاد الله بشعبه، والان يمكننا أن نقترب من الله ونؤسس معه علاقة شخصية عميقة بقدر استطاعة كل منا. ألان يمكننا أن نتمتع بالحرية والحياة التي خلقنا الله عليها. ولم يعُد يتملك علينا أي فراغ أو حياة بلا معنى أو يأس، فبهذا الحب الإلهي المصلوب مات إنساننا العتيق وصارت لنا جدّة الحياة إنسانا جديداً في كل شيء. لم نعُد عبيداً للخطيئة والموت، بل أبناء الله ووارثين مع ابنه القدوس الذي بواسطته تميزنا بان صار لنا الحق أن ندعو الله: “يا أبا الأب”!
هكذا قال الرسول بطرس: “عالمين أنكم افتديتم لا بأشياء تفنى، بفضة أو ذهب، من سيرتكم الباطلة التي تقلّدتموها من الأباء، بل بدم كريم، كما من حمل بلا عيب ولا دنس، دم المسيح” (1بط18:1 و19). وهكذا أوفى الرب ديننا الذي يُثقّلنا منذ آدم، وانتهى انفصالنا عن الله وتلاشى ضمير الخطايا والأثام الذي يُثقّل كاهلنا، كما انتهى خوفنا من الموت. انتهى الحزن وصار لنا فرح بلا حدود، فرح الرب الذي هو قوتنا والذي يمكننا أن نُشرك معنا فيه العالم الخالي من الفرح والمستعبد للخطيئة والحزن والموت. وبقيامة الرب تمت جميع النبؤات عن المسيّا.
لقد ذاق الرب نوعي الموت: الروحي والجسدي. فإذا حمل خطايانا عرف حقيقة الموت الروحي أي انفصالنا عن الله بسبب الخطيئة كما رأينا في صرخته: “إلهي إلهي لماذا تركتني”. كما انه ذاق الموت الجسدي كما كُتب أن استودع الروح في يدي الأب. وكما قال الرسول يوحنا: “أحب خاصته..أحبهم إلى المنتهى” (يو1:13)، التي جاءت منه كلمة” قد اكمل”، فهي ليست صرخة هزيمة بل صيحة نصرة ملك الملوك! لقد أكتمل حب الله لنا الذي عبّر عنه بالكامل على الصليب، فقد أحبنا إلى المنتهى، أي بالتمام والكمال، وكمال المحبة هو في الموت عن الأحباء.
كلمة” قد اكمل” تُشعرنا بالفرح، فكأن مخلصنا قد قال: “كل شيء ألان قد بدأ”! وهذه مضادة! فالموت الروحي والجسدي قد تلاشيا، والحياة قد بدأت مرة أخرى لتصير حُرّة. مهمة المخلص نحونا قد أكملت وانتهت، ومن ذلك الوقت بدأت مهمتنا نحن لكي نُمارس ونتمم ونجسّد ما أوصانا وعلّمنا إياه! فخلاصنا لا يكمل إلا بعد أن تكمل مهمتنا تلك، لانه “كيف ننجو نحن إن أهملنا خلاصاً هذا مقداره؟”(عب3:2).
لعلنا، يا رب، عندما نشعر باقتراب الموت يمكننا أن نردد صلاتك للأب: “أنا مجّدتك على الأرض. العمل الذي أعطيتني لاعمل قد أكملته. والان مجّدني أنت أيها الأب عند ذاتك بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم”(يو4:17و5).
الكلمة السابعة: “في يديك استودع روحي” (لوقا 23: 46)
“ونادى يسوع بصوت عظيم وقال: يا أبتاه، في يديك استودع روحي. ولما قال هذا اسلم الروح” (لو46:23). وقد حقق الرب بذلك نبؤة أخرى لداود النبي في مز5:31 وكانت هذه صلاة مألوفة عند اليهود أيام المسيح ولا سيما عند النوم، وقد أضاف المسيح إليها فقط كلمة “يا أبتاه”. لقد انتهت الظلمة التي شعر فيها المخلص أن الأب قد تركه، وهو ألان يستودع روحه بين يدي ذاك القادر أن يُقيمه ويُخلصه من الموت (عب 7:5). وكأنه نطق حينئذ بقول الرسول بولس: “ابتُلع الموت إلى غلبة. أين شوكتك يا موت؟ أين غلبتك يا هاوية؟ (1كو 45:15 و55). أيها العالم، أين قوتك التي بها أردت أن تهلك أبن الله؟
قال الطبيب الجراح لشاب مسيحي مصاب بالسرطان في لسانه قبل أن يُجري له عملية جراحية: “إن أردت أن تقول شيئاً فالأفضل أن تقوله ألان، فربما تكون هذه هي أخر كلمات تنطق بها. ففكر بعمق وانهمرت دموعه ثم قال: “يا أبتاه، في يديك استودع روحي”!
ويُعلّق العلاّمة أوريجانوس على هذه العبارة التي فاه بها الرب على الصليب قائلاً:
[ قال الرب ذلك لانه أراد أن يُقدّس موتنا بهذه الكلمات حتى إننا نحن أيضا عندما نفارق الحياة الحاضرة نستودع أرواحنا في يدي الأب السماوي. كما أن هذه الكلمة تعلّمنا انه منذ أن حدث ذلك مع المسيح، فان نفوس القديسين لم تعُد مغلقاً عليها في العالم السفلي كما كانت سابقاً، لان الرب غيّر طريق رحلتهم ليكون إلى أعلى].
الذين يعيشون كسائحين غرباء على الأرض ويتطلعون بلهفة إلى كنزهم السماوي، هم فقط الذين يموتون بملء الرجاء المفرح في الحياة الفُضلى التي تنتظرهم. لقد وصفت أبنة ستالين (زعيم الاتحاد السوفيتي السابق أثناء الحرب العالمية الثانية) موت والدها المُرعب قائلة: “انه عندئذ نظر إلى كل من كانوا حوله نظرة مليئة بالرعب والخوف من الموت، ثم رفع يده وكأنه يشير إلى شخص فوقه، ثم صبّ اللعنة على جميع المحيطين به”! كم هو فرقٌ شاسع بين موت إنسان بلا إله مثل ستالين، وموت الشهيد اسطفانوس مثلاً الذي بينما كان يُرجم حتى الموت استودع روحه بين يدي مخلّصه!
والمسيح لم ينطق كلمته الأخيرة هذه بصوت إنسان ضعيف مُجهد يُسلم الروح، بل انه “صرخ بصوت عظيم واسلم الروح” (مت 50:27)، مما يوضّح انه لا يمكن لأي مخلوق أن ينتزع حياته منه، بل انه سلّمها بإرادته. فالموت لم يهاجمه مثل البشر، بل انه جاء ليواجه الموت ويحطمه لاجلنا مرة واحدة والى الأبد: “ليس أحد يأخذها مني، بل أضعها أنا من ذاتي. لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن أخذها أيضا” (يو18:10). وكما قال القديس كيرلس الاورشليمي: “وكأنه يقول: استودعها لكي أخذها ثانية، ثم اسلم الروح، ولكن ليس لمدة طويلة لانه قام سريعاً من الموت.
هذه الكلمة تشير إلى أن الفادي عبُر من أيدي أعدائه إلى يدي الله أبيه. فلا يهم مقدار ما نعانيه من أعدائنا، بل فلنتذكر حينئذ وعد الله لنا: “الإله القديم ملجأ، والأذرع الأبدية من تحت” (تث 27:33)! ومهما كانت طريقة موتنا فإننا سنرتمي بين يدي إلهنا، في حضن الحب الحقيقي، هذا الحب المقدس الذي يفيض بالرحمة الذي كشفه المسيح لنا عندما حوّل آلامه وموته إلى نصرة القيامة! فلنقل حينئذ باطمئنان: “يا أبتاه، في يديك أستودع روحي”! حتى وإن كنتُ لا اعلم هل سأستيقظ من نومي هنا أم هناك فلا يهم لان” الأذرع الأبدية” تحملنا! أيمكننا أن ننسى كيف أحتضن الأب ابنه التائب عندما عاد إلى بيته؟!
مبارك هو إلهنا ومخلصنا الذي علمنا ليس كيف نعيش فحسب، بل وأيضاً كيف نموت وعلى أفواهنا: “يا أبتاه، في يديك استودع روحي”!
قدس الأب أنتوني كونيارس
تجميع عن مقالات شهرية متفرقة
صادرة عن
دير السيدة العذراء “ينبوع الحياة”، دبين/الأردن