Webbplatsikon Ortodoxa onlinenätverk

الفصل الحادي عشر – الكلّية القداسة والدة الإله

أ – العذراء مريم في العهد القديم

ذكرنا أن العهد القديم كان فترة ترّقب لـ “نسل المرأة” (تك 3: 15). وقد أمر الله أشعياء النبيّ بالتحدث إلى آحاز ملك العبرانيين داعياً إياه إلى التنبّه وعدم الخوف من غزو الملكين فاقح ورصين لمدينة أورشليم: “في اضطرام غضبي أعود فأشفيك” (أش 7: 4)، أي أن الله يقول؛ عندما يحلّ عليك غضبي العادل، أعود فأحميك.

ويقول النبي لآحاز، حسب وصية الربّ، إنه يستطيع أن يطلب آية من عند الرب إلهه: “سلها إمّا في العمق وإمّا في العلاء من فوق”، أي أن الله قادر أن يفعل العجائب في كل مكان من الأرض والسماء ليؤكد له حقيقة القول النبويّ (أش 7: 10-11). ويجيب آحاز: “لا أسأل آية ولا أجرِّب الرب” (أش 7: 17)، فيقول النبي: “اسمعوا يا بيت داود: أقليل عندكم أن تسئموا الناس حتى تسئموا إلهي أيضاً. فلذلك يؤتيكم السيّد نفسه آية؛ ها أن العذراء تحمل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا” (أش 7: 12-14).

لهذه الآية مدلول مزدوج. ففيها يبشِّر الله بخلاص أورشليم ومعاقبة أعدائها، وفي الوقت نفسه يشهد لشخص العذراء والدة الرب الذي سيخلّص شعب الله الجديد، وهذا الشعب هو أورشليم الجديدة.

“وإنما حدث هذا كله ليتمّ ما أوحى به الرب إلى النبيّ القائل: “ها أن العذراء ستحمل وتلد ابناً يُدعى عمانوئيل أي الله معنا” (متى 1: 22-23). هذا ما قاله ملاك الربّ ليوسف الصدّيق الذي داخله الشك في حمل مريم العذراء.

أن المرأة التي ذكرها الله للجدّين الأوليين (تك 3: 15) ولآحاز الملك هي العذراء مريم (انظر أش 9: 1-2، متى 4: 14-16، ميخا 5: 2).

وقد تكلّم الأنبياء على والدة الإله في أماكن عديدة من العهد القديم. نورد هنا مقطعاً من نبوءة حزقيال عن بتولية والدة الإله: “ورجع بي طريق باب المقدس الخارجي المتّجه نحو الشرق وكان مغلقاً. فقال لي الرب أن هذا الباب يكون مغلقاً لا يُفتح، ولا يدخل منه رجل، لأن الربّ الإله قد دخل منه فيكون مغلقاً، لكن الرئيس هو يجلس ليأكل خبزاً أمام الربّ فيدخل من رواق هذا الباب ويخرج منه نفسه” (حز 44: 1-3).

المقصود بهذه الآيات والدة الإله الدائمة البتولية، فإنها هي الباب الذي يبقى مغلقاً قبل ولادة الرب وأثناءها وبعدها، ولم يدخل منه أحد البتّة. لذلك تنشد الكنيسة في قانون المديح: “افرحي أيتها الباب الذي فيه اجتاز كلمة الله وحده، إفرحي يا من سحقت بمولدها أبواب الجحيم وأمخاله، إفرحي يا مدخل المخلَّصين الإلهي، السلام عليك أيتها السيّدة ذات كل تسبيح”.

لقد بقيت مريم عذراء قبل الولادة وأثناءها وبعدها حسب القول النبويّ (أنظر لو 1: 26-38، متى 1: 18-25)، لذلك تُرسم في الأيقونات وعليها ثلاث نجوم، واحدة على الرأس واثنتان على الكتفين، رمزاً إلى بتوليتها المثلَّثة [2].

ب – لماذا نكرّم العذراء مريم؟

ورد في الكتاب المقدس أن الملاك جبرائيل، الذي ظهر للعذراء مريم يوم البشارة، أطلق عليها اسم “الممتلئة نعمة”، وقال لها أن “الرب معها” وإنها “مباركة في النساء” وقد “وجدت حظوة عند الله” (لو 1: 28-30). وأخبرها أيضاً أن الروح القدس سيحلّ عليها وقوة العلّي ستظلّلها، “فتلد ابناً….يكون عظيماً وابن العلّي يُدعى… ويملك على بيت يعقوب أبد الدهر، ولن يكون لملكه انقضاء” (لو 1: 34-35).

ويذكر الإنجيلي نفسه أنه: لمّا سمعت أليصابات سلام مريم ارتكض الجنين في بطنها وامتلأت من الروح القدس، فهتفت بأعلى صوتها: “مباركة أنتِ في النساء! ومباركة ثمرة بطنك! أنى لي أن تأتيني أم ربّي؟ فما أن وقع سلامك في مسمعي حتى اهتز الجنين طرباً في بطني. فطوبى لك، يا من آمنت بأن ما بلغها من عند الرب سيتمّ”. فقالت مريم: “تعظم نفسي الربّ وتبتهج روحي بالله مخلّصي، لأنه نظر إلى تواضع أمته، وسوف تكرِّمني جميع الأجيال” (لو 1: 41-48).

تضفي هذه الأقوال الكتابية كرامة عظمى على العذراء مريم. فالله نفسه يدعوها بلسان الملاك: “الممتلئة نعمة”، أليصابات تقول بإلهام من الروح القدس إنها “مباركة في النساء” و”أم ربيّ”. ويوحنا المعمدان يهتزّ طرباً وهو جنين في بطن أمه لدى زيارتها والدته. والعذراء مريم نفسها تمجِّد الرب وتتنبأ أن جميع الأجيال ستمجِّدها وتغبِّطها.

لكن بعض الناس يرفضون حقيقة العذراء فيتساءلون: إذا كان المخلِّص هو المسيح، فلماذا تحظى العذراء مريم بهذا المقدار من التكريم؟

والحقيقة أن سبب ذلك ليس صعب الإدراك. فتجديد العلاقات مع الله، وتجديد طبيعة الإنسان بطبيعة المسيح الإلهية، ومساهمة الطبيعة الإنسانية بالحياة الإلهية، أمور تحقَّقت كلها بتأنس المسيح في أحشاء مريم العذراء. ومهما قدّمنا، نحن البشر من أنواع التكريم لها، لن نصل البتّة إلى تلك الكرامة التي منحها إياها الله نفسه لمّا تجسد في أحشائها وجعلها والدة الإله.

يدعونا الإيمان بالمسيح الإله المتأنسّ إلى أن نكرِّم والدة الإله، كونها أداة تجسّده. وإلاّ فكيف نستطيع أن نشهر إيماننا بيسوع المسيح الإله-الإنسان؟

لقد رأينا أن الكتاب المقدس نفسه يشهد لتكريم العذراء وينسبه إلى من تجسّد منها، أي يسوع الإله المتأنس: “لأنه نظر إلى تواضع أمته، وسوف تطوّبني جميع الأجيال” (لو 1: 48). ونحن إذ نكرّم العذراء مريم إنما نفعل ذلك لأن المسيح نفسه قد كرّمها أولاً، ولأن الكتاب المقدس يأمرنا بذلك. نحن نؤمن طبعاً أن العذراء ليست مصدر الخلاص، لأن مخلّصنا هو المسيح الذي أخذ الطبيعة البشرية وشفاها وأصبح بالنسبة إلى الإنسان “آدم الجديد”، “الجذر الجديد”. لكن هذا “الجذر الجديد” نبت في أحشاء مريم، لذلك يسمي القديس يوحنا الذهبي الفم عيد بشارة العذراء: “عيد الجذر”.

العذراء مريم هي أوّل من عاش مساهمة الطبيعة الإنسانية في الحياة الإلهية، والسرّ الذي أعاد اتصال الإنسان، والخليقة كلها، بالإله المثلث الأقانيم. فقد اشتركت الأقانيم الثلاثة في عمل التجسّد: الآب يرسل الابن فيتجسد بحلول الروح القدس في أحشاء العذراء.

وهكذا صارت مريم “الجسد” الذي وصل السماء بالأرض وأعاد كامل الخليقة إلى أحضان محبة الله. ولذا لا يحتفل البشر وحدهم، بل الخليقة كلها، بميلاد المسيح من العذراء: السماء والنجوم، الملائكة والبشر، الأرض والمغارة، ملوك الشرق والرعاة، كلهم يحتفلون بتجديد خطبة العريس السماوي إلى الكنيسة. ويكفي أن ننظر إلى أيقونة واحدة من أيقونات الميلاد حتى نتأكد أن الخليقة كلها تتجلّى في ميلاد المسيح.

تكريم العذراء مريم متّصل دائماً بشخص المسيح، أي إنها تُكرّم دائماً كـ “أم للربّ” (لو 1: 43). ولذا تُعلّم الكنيسة الأرثوذكسية أن العذراء مريم غير مبرّرة من الخطيئة الأصلية، لأنها هي أيضاً، مثل سائر البشر، ورثت طبيعة آدم الخاطئة. إلاّ أنها حُفظت من الخطايا الشخصية، لأنها كانت “إناءً مختاراً وممتلئة نعمة”.

العذراء ابنة بارّة لهذا العالم القائم وسط الخطيئة، ولهذا فإنها تمثّله بأكمله، وتكون قادرة على أن تحمله إلى الاتصال مجّدداً بمخلّص العالم الذي تجسّد منها، وللسبب نفسه تنشد كنيستنا النشيد الرائع: “يا من هي أكرم من الشاروبيم، وأرفع مجداً بغير قياس من السيرافيم. يا من بغير فساد ولدت كلمة الله، حقاً انك والدة الإله، إيّاكِ نعظّم”.

ج – “وتجسَّد من الروح القدس ومن مريم العذراء” (دستور الإيمان)

كانت العذراء منتمية إلى شعب يترقّب مجيء المخلّص، ولكن ابنها هو المخلّص نفسه. وهو وحده لم يرث طبيعة آدم الخاطئة، لأنه لم ينحدر منه بل وُلد من الروح القدس ومن مريم العذراء. ولذا نؤمن أن مريم بقيت أثناء الولادة وبعدها عذراء دائمة البتولية. وهذا ليس أمراً ثانوياً بل هو تعليم أساسي في الكنيسة المؤمنة بالخلاص. فالمسيح هو “الجذر الجديد”، وليس ممكناً أن يتحدّر من جذر آدم القديم. لذلك لا يمكن أن تكون مريم والدة الإله إلاّ إذا بقيت عذراء.

د – شخصيّة والدة الإله

ربّما تساءل بعض الناس: إذا كانت العذراء “إناء مختاراً” وحسب، وإذا كان كل شيء يأتي من الله، فما هو دورها الشخصي في خلاص العالم؟

والحقيقة أن الله يحترم حرّية كل إنسان، حتى الإنسان الخاطئ، إنسان السقوط والفساد. ولذا فانه لم يرد أن يخلّص العالم من دون موافقة العالم بنفسه. والعذراء مريم وافقت بملء إرادتها على أن تشترك في العمل الخلاصي الذي يشمل العالم كله. وقولها: “أنا أمة للرب، فليكن لي كما قلت” (لو 1: 38) لم يعبر عن موافقتها الخاصة وحسب، بل عن موافقة العالم بأسره. وقد صار فمها فم الخليقة بأسرها، وأداة خلاص العالم في آن.

العذراء مريم هي تقدمة من العالم كله لله. ففي شخص والدة الإله أعطت البشرية أنقى تقدماتها لله. فقبلها الله وجعلها إناء ومكان لولادته، وأم الجنس البشري والعالم أجمع. وهذا ما يعنيه قول الرّب لتلميذه الحبيب يوحنا: “هذه أمك” (يو 19: 27).

ويقول الدمشقي: “فإنه بعد موافقة العذراء القديسة، حلّ عليها الروح القدس وفقاً لكلام الرّب الذي قاله للملاك، فطهَّرها ووهبها قوة لقبول الإله الكلمة، وقوة لولادته. وعندئذ نزلت عليها، كما الظل، حكمة الله العلّي المتأقنمة وقوته، أي ابن الله الذي هو جوهر الآب، وكأنه بذرة إلهية. وخلق لنفسه جسداً بنفس ناطقة وعقلية، فصار جسده أفضل ممثل لجنسنا…. (أنظر مثال 9: 1، يو 10: 18). إنها بالحقيقة والدة الإله…. لا لأن طبيعة الكلمة الإلهية أتت منها، بل لأن الكلمة الإله نفسه، المولود من الآب أزلياً وخارج الزمن والذي هو مع الآب والروح بلا بداية ولا دهور، حلّ في أحشائها في الأيام الأخيرة لأجل خلاصنا، وتجسّد منها بلا تغيير. فالعذراء القديسة لم تلد إنساناً وحسب، بل إلهاً حقيقياً، غير خيالي، إنما في جسد…. فاتخذ منها جسداً يماثل حسدنا تماماً وأعطاه وجوداً في شخصه (انظر يو 1: 1-14، لو 1: 43-68). لقد ولد ابن الله من أحشائها في جسد. وهو ليس نبيّاً يُمسح مسحاً، بل حضور كامل لمن يقيم المسحة. والخلاصة أن من يقيم المسحة صار إنساناً. والله هو الذي مُسح، لا بتغيير في طبيعته، إنما بالاتحاد الأقنومي” (أنظر زخر 12: 10، يو 3: 13، 8: 58، أع 20: 28، كول 2: 9).

هـ – ضلال الهرطقة

من ينكر مساهمة العذراء الشخصيّة في عمل خلاصنا، ولا يقدّم الإكرام الواجب لوالدة الإله، فانه لا يتحرك داخل الجذر الجديد للمسيح ولا داخل الخليقة الجديدة، بل يبقى في نطاق السقوط والفساد ويتّصل بجذر آدم القديم، أي بجذر الخطيئة وحده، لأن ولادة المسيح بالنسبة إليه تكون وكأنها لم تحصل. وبكلمة أخرى، من لا يعترف بأن العذراء مريم هي والدة الإله، يكون قد أنكر أيضاً تأنس المسيح، ولا يستفيد من قراءة الكتاب المقدس أو تطبيق وصايا المسيح. فالكتاب المقدس لا يخلِّصنا، بل المسيح الذي يبشرنا به الكتاب المقدس هو المخلِّص (أنظر يو ه: 39). أو كما يقول الدمشقي: “يكمن سرّ التدبير الإلهي كله في وصف مريم بأنها والدة الإله. فإذا كانت الوالدة والدة الإله يكون المولود منها إلها، ويكون إنساناً أيضاً”.

أمّا الذي يعترف أن العذراء مريم هي والدة الإله ويؤمن أن المسيح هو الإله المتأنس، فعليه أن يقدّم لمريم العذراء الإكرام الواجب ويعترف بأنها والدة الإله حسب مشيئة الرب (يو 19: 27).

وقد وصف يوحنا الحبيب في سفر الرؤيا البهاء الذي وهبه الله نفسه لمريم: “ثم ظهرت آية بيّنة في السماء: امرأة ملتحفة بالشمس والقمر تحت قدميها، على رأسها إكليل من اثني عشر كوكباً، حبلى تصرخ من ألم المخاض. وظهرت في السماء آية أخرى: تنّين عظيم أشقر له سبعة رؤوس…. ووقف التنّين قبالة المرأة الماخض [3] ليبتلع ولدها حين تضعه. فوضعت ولداً ذكراً، وهو الذي يسوق الأمم بعصا من حديد، ورُفع الولد إلى حضرة الله، إلى عرشه، وهربت المرأة إلى البادية حيث أُعدّ لها ملجأ تقتات فيه مدّة ألف يوم ومائتين وستين يوماً” (رؤ 12: 1-6).

تشير هذه الآيات بوضوح إلى شعب الله الجديد، الكنيسة، كما تشير إلى الإضطهادات، والى إشراق الكنيسة وانتصارها النهائي على قوات إبليس (أنظر ميخا 4: 10، أش 66: 7-8). ولكنها تشير أيضاً إلى مجد العذراء وبهائها، والى كونها تشكل، بعلاقتها مع ثمرة بطنها (لو 1: 42)، بدءاً للكنيسة كلها وصورة لها.


حاشية مرتبطة مع العنوان “الكلّية القداسة والدة الإله” راجع أيضاً: ( الرؤية الأرثوذكسية لوالدة الإله ) لمجموعة من المؤلفين ، سلسلة ( تعرف الى كنيستك ) رقم 9 ، منشورات النور ، 1983 (الناشر)

[2] قبل، أثناء وبعد ولادة المُخلص…. (الشبكة)

[3] (الماخض): المشرفة على الولادة ( المعرب)

Avsluta mobilversionen