A. تعريف:
موضوع علم الوعظ هو الدراسة العلمية لمنهجية ومناهج الوعظ المسيحي فهو يدرس تاريخ الوعظ ومراجعه كما يدرس تطوره، ويبحث في مناهجه وطرق تكوين العظات وإلقائها.
1. علاقة الوعظ بالخطابة
فن الوعظ هو فن التخاطب ولو بدا أنه كلمة موجهة من طرفٍ واحد. وذلك كما ورد في (لوقا 15،24). فن الخطابة إذن هو مخاطبة الآخرين ومحاورتهم ولكن يتكلم فيه الواعظ فقط. وإذا لم تصير العظة مخاطبة تبقى مجرد سرد لمعلومات وآراء لا تصل إلى غايتها. فالمخاطبات الصالحة تبني والمخاطبات الرديئة تفسد الأخلاق الصالحة (1كور 23:15).
ولكن المعنى الأخص للوعظ، أي ضمن الصلوات اللتيورجية (أعمال 11:20). بقي حتى القرن الرابع يعني خطاباً تربوياً ودّياً طبيعياً مبنياً على علاقة مباشرة وخاصة بين معلم روحي وتلاميذه، و إلهام الصلاة والمصلين معه.
منذ أيام أوغسطين دخل التمييز بين نمطَين من الوعظ الـ homilia والمعني بها التعليق والتفسير على القراءة الكتابية خلال الاجتماع الليتورجي والـ sermon والمقصود به العظة المستقلة عن النص الإنجيلي (كلمة-لوغوس) التي تعالج موضوعاً ما يناسب الاجتماع الليتورجي و الكنسي الذي يتطلّبه.
لا بد من الإشارة أن التفضيل هو أن تكون العظة ميالة إلى التوجيه الروحي المستنتج من التفسير الكتابي أكثر من اتجاهها إلى الخطابة ذات الطابع الشخصي للواعظ.
هناك إذن ارتباط وثيق بين الوعظ وفن الخطابة، وبالوقت ذاته هناك تمايز دقيق. فالوعظ يتبّع مناهج ومنهجيات الخطابة لكنه ليس بالضرورة ملزماً بها ما دام شرطه الأول هو الوصول إلى مخاطبة الناس الذين تربطنا بهم علاقة روحية وليتورجية تقوم على المباشرة والبساطة والتواضع ولا تطلب إعجاب الناس وإدهاشهم. قوانين الوعظ والخطابة هي أدوات مساعدة يستطيع الواعظ اعتمادها غالباً لإيصال نداء إلهي بالطرق الأمثل.
قوة العظة لا تكمن في استخدام أساليب الخطابة واللغة القوية، يقدر ما هي في قوة الكلمة الإلهية المبّشر بها. فالفاعل هو نعمة الروح القدس والأداة هي قوانين الوعظ. هنا تكمن النقطة الفصل بين الوعظ والخطابة. فالواعظ باللغة الكنسية هو مبشّر وليس خطيباً في الناس. دور الواعظ إيصال الكلمة الإلهية وليس تعليم كلمته البشرية بحسب قول المزمور “يا ربّ افتح شفتّي فيخبر فمي بتسبحتك”.
2. علاقة الوعظ بمواد اللاهوت
لا بد أن المنهجيات الموجودة في فن الخطابة تساعد الواعظ، وخاصة في تحديد تماماً ماذا يريد أن يقول وكيف يجب أن يوصله لسامعيه. وهي تحمل خبرة بشرية واسعة وغنية يمكن للواعظ استخدامها كقالب لكلمة إلهية ثمينة يريد نقلها.
من الواضح أن كل مواد اللاهوت تشكل المصنع والمواد الأساسية التي يجب أن يخرج منها بالنهاية “كلمة تعزية” (لوغوس باراكليسيوس). فكل مواد اللاهوت تشكّل للاهوتي الطاقة والإمكانيات التي يجب أن تخدم عظته. إن الوعظ هو الباب الذي سيخرج منه كل علم اللاهوت إلى الناس. يشكّل إذن اللاهوت المادّة، ويشكل الواعظ الباب.
يندرج علم الوعظ في القسم اللاهوتي الرعوي، يرتبط الوعظ مع الدور الطقسي بشكل عضوي من حيث تكوين العظة. ويحتاج لمعرفة في علم الرعاية والعقائد وعلوم النفس وبالأخص تفسير الكتاب المقدس. وقوة العظة تتحدد بمقدار قدرتها على إيصال الرسالة الروحية والإنجيلية للناس لتوضع في موقع التنفيذ والحياة.
B. تاريخ الوعظ
1. كرازة يسوع المسيح
“بدء بشارة إنجيل يسوع المسيح ابن الله ” (مرقس 16:1)
لقد بدأ يسوع بشارته في المجامع اليهودية واعظاً. ويذكر لوقا الإنجيلي أولى العظات ليسوع حين دخل المجمع حسب عاده يوم السبت وقام ليقرأ (…) ثم طوى السفر وسلمه إلى الخادم وجلس، وجميع الذين في المجمع كانت عيونهم شاخصة إليه، فابتدأ يقول لهم أنه اليوم قد تم هذا المكتوب في مسامعكم (لوقا 16:4-21). وهذا النص يوضح لنا أن يسوع قد بدأ بشارته واعظاً في المجامع (على عادته) يوم السبت. ولكن في عظة يسوع هناك الفرادة والميزة الخاصة أنه في يسوع يتم ملء كل شيء وهو متمّم النبوءات ومن تشير إليه النبوءة (1:61-2) والكرازة.
كانت عظة يسوع المختصرة “توبوا فقد أقترب ملكوت السماوات” وبها ابتدأ وعظه وبشارته (متى 17:4 ومرقس17:1). عظة يسوع هذه تمثل خلاصة الوعظ، الذي يحمل الدعوة إلى التوبة والرجاء بحلول الملكوت لذلك هي بشرى تتطلب لاستقبالها التوبة. وكانت عظته ليست نقضاً للكتاب قبله (ع.ق.) وإنما إكمالاً له (راجع العظة على الجبل). إن استخدام يسوع لآيات الكتاب المقدس توضح أنه يتمّم ويستخدم العهد القديم ولكنه أيضاً يضيف.
يسوع يكمل الشريعة والأنبياء، وذلك بمعنيين الأول أنه يضيف على تعاليمها تعاليماً أفضل، حيث يشكل الناموس مدربنا إلى المسيح. والثاني أنه بدون يسوع تبقى كل هذه النبوءات والشرائع تشير وتهيّئ إلى شيء لم يأتِ. بيسوع اكتملت أي تحققت أهداف الكتاب.
هناك صفات مميزة في عظات وكلمات يسوع نستطيع الاهتداء بها كونه المثل الأعلى.
لقد كانت كلماته تهز الكيان وتبدل حياة الإنسان وكان سامعوه “يتحيرون كلهم ويسأل بعضهم بعضاً قائلين ما هذا”؟ ما هو هذا التعليم الجديد؟ لأنه بسلطان “يأمر الأرواح النجسة فتطيعه” (مرقس27:1)، ويعلم كمن بسلطان ليس كالكتبة والفريسيين (مرقس 22:1)، وكلماته ملآنة نعمة وحكمة وكلمة “حياة أبدية” .
لقد أستخدم يسوع في وعظه الطرق التفسيرية وطريق العظة “الكلمة”. مرات عديدة أنطلق في وعظه من نصوص كتابية، ومرات أخرى كان يوجه كلماته بما تتطلبه اللحظة والسامعون.
وكما كان يعلم في لحظات واعظ، كان أيضا يعظ بشكل منهجي ومتتابع وبشكل خاص مع تلاميذه الإثني عشر والآخرين السبعين.
تبقى عظات يسوع (راجع عظاته الخمسين في متى – كلمات يسوع في يوحنا) هي القدوة للوعظ، لذلك سنعود إلى ميزاتها دائما عندما نبحث في أشكال الوعظ خاصة.
2. عهد الرسل
أهم الميزات الخاصة بهذه الفترة الزمنية هو ظهور العظة كعمل للروح القدس تندفع بشكل طبيعي على لسان الرسول، وكأنها هبة إلهية في ظرف محدد من أجل البشارة وخدمة الخلاص .
ومن هذه العظات الهامة : عظة بطرس في العنصرة (أع 14:2-41) وبعد شفاء المخلع (أع 12:3-26) ومثلها نجد أيضا عظة بطرس في مجمع أورشليم ( أع 9:4-12) وهناك عظة استفانوس (أع 2:7-53) وعظات بولس الرسول في مجمع أنطاكية بسينية (أع 15:13-41) وفي ليسترة (أع 15:14-17) وفي أريوس باغوس (أع 22:17-32) وإلى كهنة أفسس ( أع 17:2-35).
أهم مواضيع هذه العظات هي الدعوة إلى الخلاص والتوبة والإيمان بيسوع المسيح وأنها موجهة إلى مستمعين محدّدِين بإيمان ومعرفة محددَين. تراعي العظة خصوصياتها. وهي صادرة عن واعظ بسلطان “الشاهد المباشر”.
تشكل الرسائل نماذجاً للعظات المكتوبة. وبعضها بشكل مميّز مثل بطرس، ورسالة يعقوب ومقاطع من الرسالة إلى العبرانيين، التي تعتبر تدويناً لعظات شفهية كما هي الأناجيل بالذات .
لقد فضل الرسل العظة وشرح الكلمة أكثر من خدمة الموائد (أع 2،6) وحتى أكثر من التعميد (1كور17:1). وكانوا يعظون في الاجتماعات الليتورجية وفي البيوت. ويخصص بولس الرسول في (1كور 14) كلاماً مسهباً عن آداب الوعظ والكلام في الكنيسة، دليلاً على انه كان يحتلّ مكانة أساسية في الاجتماع الليتورجي.
3. في القرن الثاني:
ما هو جديد في هذه المرحلة هو توجه الواعظ إلى التركيز على تفسير مضمون الإنجيل. وذلك لسببين: الأول انه شكل الوعظ في العهد الرسولي استمر في هذه المرحلة دون تبديل يذكر، والثاني أن المستوى الثقافي للسامعين والوعاظ كان يتطلب ذلك.
هناك شهادات من يوستينوس ومن ترتليان أن “المتقدم” كان يقرأ الكتاب في الاجتماع الليتورجي ويتابع شرحه لها .
تعتبر رسالة القديس أغناطيوس إلى بوليكاربوس (فصل5) أحدى نماذج العظات البسيطة والطبيعية. وكذلك بعض رسائل إيرينوس .
هناك نماذج عظات يرد في الأدب الرسولي مثل “تعليم عن الطريقتين ” في تعليم الرسل الأثني عشر (1-6) ورسالة برنابا (18-20) ورسالة أقليمس الثانية إلى رومية.
ما نلاحظه هنا انحسار أشكال النبوءات والمواهب وانحصار الوعظ في الاكليروس، وذلك بعد ظهور المعلمين الكذبة وبدايات الهرطقات.
4. في القرن الثالث :
أهم مرحلة في تطوير الوعظ جاءت مع ظهور المدرسة اللاهوتية الإسكندرية. حيث أن أباء ورجال هذه المدرسة امتلكوا معرفة علمية وأدبية عالمية إلى جانب معرفتهم اللاهوتية. واستخدموا بشكل واضح المناهج والأساليب والخطابة مشددين على ضرورة تلبيس العظة رداء جميلاً من اللغة والخطابة والفنون الأدبية.
يعتبر أوريجنس أب الوعظ الكنسي، الذي أثّر بشكل ملحوظ على بنية الوعظ بعده. يعتقد أنه كان يعظ على الأقل كل أحد وأربعاء وجمعة بالإضافة إلى الأعياد، ولربما كل يوم. لدينا ما يقارب 500 عظة سَلُمَتْ باللغة اليونانية واللاتينية. دارت عظاته بشكل أساسي حول شرح الكتاب المقدس (بشكل تفسيري تحليلي) متدرجة على كلمات النص، ومن ثم على المواضيع الأخلاقية والروحية والليتورجيا.
أدخل أوريجنس فكرته عن المستويات الثلاثة في فهم الكتاب المقدس (الجسداني-النفساني-الروحي). هدف الوعظ هو ترتيب حياة المؤمنين بحسب الكتاب. ولا تخلو عظاته مرات عديدة من الدفاع عن الإيمان والتهجّم على الهراطقة في سبيل الحفاظ على عقيدة الإيمان عند مستمعيه.
مال أوريجنس إلى البساطة والعفوية وأعتبر التصنع في الوعظ نوعاً من الفريسية. فالواعظ عليه أن يفهم “غنى الروح وقوته” (1كور 4:2) وميز في عظاته بين التعليم التفسيري والتعليم الأخلاقي وبرأيه يجب أن يجتمع الاثنان. يلعب الواعظ دوراً أساسياً في العظة.
اتبع أوريجنس المدرسة التأويلية في التفسير، وهذا ما أعطاه قدرة رهيبة على بناء تعاليم أخلاقية رائعة وكثيرة فوق أيات الكتاب المقدس وبنيته التفسيري (راجع عظته في الميلاد -عند الرعاة).
اتبع أوريجنس تلامذتُه غريغوريوس العجائبي وديونيسيوس الاسكندري وميثوديوس الصيداوي، لكنهم استخدموا فنون الخطابة أكثر منه.
وفي الغرب لمع هيبوليتوس أسقف روما وكبريانوس وترتليان الذين أمتازت عظاتهم بالبلاغة والغيرة والعذوبة وشكلوا بداية تقليد في العالم الغربي .
التطور الذي تم في هذا القرن تّركز على محاولة تطوير المنهجية في الوعظ بعد عهود العفوية والمواهبية. وأيضاً ظهر ارتفاع مميز في المستوى الثقافي والأدبي فرضتها الظروف الجديدة الداخلية في الكنيسة (تشكل المدارس اللاهوتية) والظروف الخارجية (الهرطقات).
5. العصر الذهبي: القرن الرابع والخامس
مع تنصير الإمبراطورية وظهور قادة روحانيين مميزين وتوجه الكنيسة إلى سائر طبقات الناس ومنها أعلى الطبقات العلمية والاجتماعية والسياسية، كان لا بد أن تعرف هذه الظروف الجديدة مستوى مميزاً أيضاً في الوعظ. أضفْ إلى ذلك بناء الكنائس الكبير وتحديد أعياد جديدة والطابع الاحتفالي الكبير بها. كما تميزت هذه الفترة بارتفاع المستوى العلمي للاكليروس .
من جهة ثانية إن دخول جميع الطبقات دون تمييز في الكنيسة وتهديدها بالعلمنة جعل الوعظ أمراً ضرورياً جداً وحاجة ماسة. حيث كان لا بد من شرح الارتباط بين الحياة والأيمان، بعد شرح الإيمان عينه لجمهور لم يتعلم كفاية عند دخوله الإيمان الجديد.
آباء المرحلة درسوا في مدارس وثنية وامتلكوا الآداب العالمية السائدة في مدارس أنطاكية والإسكندرية خاصة .
هذه العوامل رفعت من مستوى الوعظ من الناحية الأدبية والمنهجية ووسعت آفاقه ومواضيعه من الناحية التفسيرية لأسباب رعوية. ولم تغب اللحظات والعظات التي غلب عليها الطابع الخطابي والأدبي بسبب الظروف الجديدة. لكن ظهور بعض الآباء الكبار الذين سخّروا الخطابة والأدب في خدمة الفحوى والتفسير والإرشاد أعاد التوازن إلى مسيرة الوعظ الكنسي وتجاوز تلك المخاطر. وقد ساعدهم بذلك وبشكل خاص التصاقهم بالكتاب المقدس وبناء عظاتهم على قراءاته وآياته .
توسع في هذه المرحلة الوعظ التفسيري والتحليلي بشكل خاص لذلك لم تأتِ عظاتهم غالباً بموضوع واحد، إلا إذا كان النص يساعد على ذلك. وتميّز وعظ هذه المرحلة باعتداله تجاه المنهجية التأويلية في التفسير، وأيضاً بطابعه الرعوي وملامسته لحياة الناس مباشرة أكثر. حتى العظات العقائدية منها تحمل طابعاً دفاعياً وليس تأليفي، أي رعوياً.
والشكل الثاني للوعظ (الكلمة) غلب عليه الاستناد على النص الكتابي وحين تحرر منه لم تغبْ منه الآيات العديدة في مجراه. وتناولت هذه العظات بشكل خاص المناسبات كالشرطونيات ورثاء الشهداء و افتتاح الكنائس.
وأضف إلى ذلك أن نشوء التعليم للموعوظين قبل المعمودية كوّنت أدباً كاملاً في الوعظ تميّز بالمنهجية والمواضيع الثابتة.
إن الأصوام الأساسية والطويلة التي تحدّدت في هذه المرحلة، فتحت مجالاً واسعاً للوعظ إن كان من جهة المواضيع وغناه ومن جهة المناسبات والأوقات الأوسع التي تسنح الأصوام للوعظ فيها. هكذا نجد عظات تشرح كتب بكاملها كالتكوين مثلا وسواه… تمّت خلال أيام الصوم بشكل متسلسل ومنهجي.
ما نعرفه أن الواعظ كان بالأساس الأسقف والكاهن وأيضا الشماس وكان يتطلب منهم معرفة لاهوتية وكتابية. القانون (58) الرسولي يهددّ بالحرمان الكهنة الذين يهملون التعليم.
أما في الغرب، فلم تظهر بعد مدارس لاهوتية كبيرة ولا فلسفية. لذلك تشير الدلائل أن الوعظ لم يزدهر كثيراً آنذاك هناك. واستمر على طابعه الرعوي البسيط المتمحور حول النصوص الكتابية.
6. من القرن السادس إلى القرن الخامس عشر
تعتبر هذه المرحلة مرحلة الانحطاط، ما فيه جيد هو إعادة للعظات القديمة لذلك لا يسلم لدينا مادة واسعة في الوعظ من هذه الحقبة. وهذا ما يريد أن يصححه القانون (19) من المجمع الخامس-السادس في ترولو (692) حين يوعز إلى المتقدمين في الكنائس أن يعظوا ويعلموا عدا الآحاد أيضاً في الأعياد. ويتابع القانون مشدداً أن تكون العظة مبنية على التقليد الآبائي وألا تحمل الآراء الشخصية وينصح القانون بمطالعة العظات والتفاسير الآبائية. هذا التشديد يؤكد أن هذه المرحلة كانت تنوء تحت ضعف تواتر الوعظ وتحت دخول تفاسير غير علمية وشخصية كما يمنع هذا المجمع في قانون 74 الوعظ من العلمانيين.
في هذه الفترة ظهرت بعض المجموعات “مختارات” من العظات في سلاسل ومجلدات تضم أهم العظات الآبائية في أهم المناسبات. والمميز في هذه المرحلة ظهور “عظات الآحاد”، أي مجموعة عظات على المقاطع الكتابية التي تقرأ أيام الآحاد.
ازدهرت في هذه المرحلة العظات الاحتفالية، ورثاء الشهداء. فتميزت بطابع البلاغة والفصاحة والتقريظ، وحملت عناصر كثيرة من السنكسارات والأدب الأبوكريفي.
من أهم وعاظ هده المرحلة نورد صفرونيوس بطريرك أورشليم، أندراوس الكريتي، يوحنا الدمشقي، جرمانوس بطريرك القسطنطينية، ثيودوروس الستوذيتي، أيضاً فوتيوس الكبير، ليون الحكيم، سمعان المترجم، سمعان اللاهوتي الحديث، ثيوفِلاكتوس أسقف بلغاريا وفيلوثيوس كوكينوس بطريرك القسطنطينية، ثم غريغوريوس بالاماس ونيقولاوس كاباسيلاس.
في الغرب، كان الوضع مشابهاً لما جرى في الشرق، أي التقليد لعظات المرحلة السابقة والتأثر الكبير بأوغسطين وبغريغوريوس الكبير، حيث عظاتهم لم تكن تشكل مرجع للتقليد وحسب وإنما تقرأ كما هي من المنابر في الكنائس. ومن أيام كارلوس الكبير بدأ جمع هذه العظات في سلاسل ومجلدات سُمّيت (Homilaria) (قرن 11).
يلاحظ أنه من القرن الثاني عشر يبدأ الوعظ يترك الطريقة التفسيرية التحليلية ليتجه إلى الطريقة التفسيرية التركيبية، ويأخذ موضوعا محدداً.
وما تميزت به هذه المرحلة في الغرب هي عظات السخولاستيك (السكولاستيك)، التي يمثلها توما الأكويني، التي أخذت طابعا منهجياً يتناول فقط المنطق والعقل ويستنتج نتائج هي مسائل فكرية للمعالجة وليست للحياة.
على العكس ظهرت أيضاً حركة ميستيكية في الأديار شددت على الطابع الشخصي والحياتي والخبرات الروحية ويمثلهم برنارد دو كليرفو. وشكّل فرنسيس الأسيزي تياراً جديداً ألتزمت به رهبانيّة الفرنسيسكان عبر العصور، ويميل هذا التيار للتشديد على تفسير الكتاب وبشكل شعبي. بينما الدومينيكان مالوا إلى الوعظ العقائدي.
7. من القرن السادس عشر إلى القرن الثامن عشر:
في الشرق، كانت الكنيسة الأرثوذكسية تحت الحكم التركي. كان للوعظ دور هام جداً في حفظ الإيمان في تلك الظروف. ولكن تدهور الأحوال العامة أثَّر كثيراً على عدد ومستوى الإكليروس. بينما القليل من الإكليروس المثقف كان يستمدّ مصادره وعلمه من الغرب.
ظهرت عدة مجموعات في الوعظ أهمها مجموعة “الكنز” لدمسكينوس ستوذيتس عام 1528 و”المجموعة الرسولية” ليوحنا الذي من لندن عام 1875. ومن أهم الوعاظ كان نيكيفوروس ثيوطوكيس (1731-1800) وأشهر مؤلفاته هي “عظات الآحاد” التي أثرت كثيراً على هذه المرحلة.
في الغرب، شاهدت المرحلة تبدلات كنسية وإضطرابات عديدة. فلقد حولت البروتستانتية مركز الحياة المسيحية من العبادة والليتورجية إلى الوعظ والكلمة. وهذا ما دفع بفن الوعظ إلى الأمام. المصلحون الكبار أمثال لوثر وكالفين ظهروا كوعاظ مصلحين. وأخذ الوعظ منحى التمحور حول المسيح والكتاب المقدس. ونشأت أصول محددة وعلوم في الوعظ، ولكنها بنيت على الموروث القديم من علوم الخطابة.
في الكنيسة الكاثوليكية وأمام التحدي البروتستانتي كان لا بد من إعطاء أهمية خاصة للوعظ، مما جعله يشهد مرحلة نمو وازدهار وخاصة من قبل الرهبنات الغربية. وأشتهر بينهم كبار الوعاظ الفرنسيون مثل Bourdalue، BossuetوMassilon.
8.من القرن التاسع عشر إلى اليوم
إن تيارات كالعقلانية (Rationalism) والتحرر أثرت على الوعظ، بالوقت ذاته كان التراث الآبائي الغني والطويل مصدراً هاماً له.
C. صفات العظة والوعظ:
1. غاية العظة
من الواضح عندما نتكلم عن العظة وهي أداة البشارة والتعليم المسيحي لا بد أن نعني بها صفات أساسية تحقق هاتين الغايتين. وهذا ما يميز العظة المسيحية عن أي خطاب سياسي وتربوي وسواه، ما هي إذن هذه الفرادات التي على أي عظة أن تتحلى بها.
2. صفات العظة
أ. كتابية
من حيث أن الكتاب هو نبع الكشف الإلهي ومصدره. وهو الطريق التي تسير بنا إلى حفظ الوصية الإلهية وعيشها. هكذا يشكل الكتاب بالوقت ذاته أداة” للوعظ ولكن أيضاً غاية من غاياته. فتفسير الكتاب بحد ذاته يعني إيصال الكشف الإلهي للناس.
من ناحية أحرى يمتلك الكتاب المقدس عصمة في قلوب الناس تعطي الوعظ مصداقيته ووحيه الإلهي. لذا كلما استوحت العظة واحتوت من الآيات الكتابية كلما حملت روحاً وامتلكت ثقة المستمعين. إن العظة تستخدم الآيات الكتابة لبينتها ولكن بالوقت ذاته تفسر هذه الآيات. من أجمل ما في عظات القديسين هو كيفية ربطهم لأحداث الكتاب في المواضيع المطروحة.
من هنا علينا استخدام الآيات الكتابية في معناها الدقيق في نصها وليس كجزء مقتطع من النص لخدمة سياق العظة (مثال: الريح – الروح تهب حيث تشاء…).
بالنهاية إن الخطر المطروح بين الكتاب والوعظ ليس هو انفصال العظة عن الآيات الكتابية – وهذا نادراً ما يحصل، ولكن بالعكس إفساد العظة للآيات الكتابية. مثال حيّ عن ذلك هو التجربة على الجبل، حيث كان الشيطان يستخدم الآيات الكتابية ويستشهد بها تجاه المسيح، وكان المسيح يردّ عليه مفسراً هذه الآيات بعكس ما يعنيه الشيطان وبآيات كتابية أيضاً (راجع متى 4). هذه كانت محنة الكنيسة مع الهرطقات كلها.
دراسة تفسير الكتاب المقدس دراسة وافية هي شرط أساسي للواعظ. واستخدام آيات يجب أن يكون أميناً للمعاني.
ب. محورية المسيح
أنه الطريق والحق والحياة. الإنجيل كرواية عن حياة المسيح ووصاياه وعمله وأقواله هو أداتنا لكشف الحق. وهذا الحق حين نكتشفه يجعلنا “نحيا به” فيصير هو الحياة. فالمسيح بالإنجيل هو أداة الواعظ والمسيح من الإنجيل هو غاية الواعظ.
يجب ألا يقع الوعظ في فخ التعليم الأخلاقي فيقلب المسيحية إلى علم اجتماع. بولس الرسول يعرف إنجيله (بشارته) بكلمات محددة أن “الرب يسوع مات وقام”. إذا كان دور الواعظ هو إيضاح الكشف الإلهي، فبحسب ما قال يسوع لأندراوس: “من رآني فقد رأى الأب”، يكون عمل الواعظ هو إظهار الابن في محبته ومصالحتنا به مع الآب. المسيح هو المعلم وهو الواعظ بفم الواعظ وهو الموعوظ به. هو ملء الزمان “وإكمال الناموس وهو يملأ قلوبنا فرحاً. المسيح كلمة الله وتعبير إرادته،فهو الكلمة المشروحة والكلمة المدلول عليها. المسيح هو “الكل في الكل” (1كور 28:15).
ج. آبائية
يشكل التفسير الآبائي تفسيراً حياً للإنجيل. التقليد والإرث الآبائي هو الإنجيل في التاريخ مفسراً ومعاشاً. بالروح القدس قرأ الآباء الكتاب وبهذا الروح فسّروه وبهذا الروح عينه كتبوا وأجابوا على مشاكل وأسئلة زمنهم.
لا يشرح الكتاب إلا الكنيسة، والمتمثلة بآبائها القديسين، فكما أن مصدر الوحي في الكنيسة هو الروح ومادة الوحي هي الكتاب فإن مصدر التفسير هم الآباء.
يقدم لنا الأدب الآبائي أمرَين، أولاً التفسير الصحيح، أي كيف تقرأ الكنيسة الإنجيل والكتاب عموم، وثانياً نماذج في الرعاية والوعظ مثالية تؤمن لنا مصدراً ومرجعاً للوعظ غنياً جداً.
قراءة الآباء لا تعني “اجترار” الآباء ولا “نسخ” الآباء. فالأب في زمنه لم ينسخ من قبله، بل حمل الروح ذاته الذي نطق فيه أجوبة على أسئلة سامعيه. في عودتنا إلى المصادر الآبائية ننهل إلى جانب التفسير “طريقة” معالجة الحاجات والمسؤوليات الرعائية والتاريخية التي سلكها الآباء. إنهم “أفواه الكلمة”، وقراءة الأدب الآبائي تجعلنا مثلهم “أفواهاً للكلمة”.
لا نغني العظة بمجرد نسخ أقوال آبائية، وإشباع العظة بأقوال لهم. وأيضاً لا يكفي استخدام أسماء آبائية كبيرة وحسب لإعطاء الأنطباعات وإمتلاك عصمة الكلام. ولكن ما يجب أن تحمله العظة هو “التعليم الآبائي” وأن تمتاز بالروح الكنسية الآبائية.
د. ليتورجية
بالأساس الليتورجية هي الإطار الأساسي للوعظ، زمناً ومكاناً. وتحتوي الليتورجيا على أهم أسس العقيدة والتفسير الكتابي. الليتورجية هي بالنهاية “عمل الجماعة الكنسية” التي تسمع الكلمة وتتأمل بها. فالكلمة تقود إلى الليتورجية والليتورجية تُحي الكلمة. لذلك غاية الوعظ ليست تفسير الكلمة وحسب، وإنما استخدام هذا التفسير لتقود المؤمن إلى الليتورجيا. الوعظ يهيّئ إلى المشاركة في الليتورجيا. فالوعظ يهيّئ للمعمودية، والوعظ يهيّئ لسر الشكر الإلهي. والوعظ سيجعل المؤمنين يمارسون كل الأسرار الكنسية بوعي ومعرفة روحية. لأن الأسرار دون ممارسة واعية تنقلب إلى لون من ألوان السحر.
كما أن الأسرار تقدم للوعظ مواضيع هامة وعديدة ومادة غنية قريبة من حياة الناس وعبادتهم. وتعتبر طقوس الأسرار الإلهية هي المناسبات الأفضل زمناً ومكاناً وموضوعاً لممارسة التعليم والوعظ. بقدر ما تترافق الأسرار مع التعليم والوعظ بقدر ما تصبح فعلاً “عبادة ناطقة” والعكس بالعكس.
ه. عملانية
من حيث أن المسيحية علم تطبيقي وليس دينا نظري، فأن ممارسة الوعظ يجب أن تمس حياة الناس في حاجاتها ومشاكلها ورجائها. والخطر في العظات هو أن تبتغي العملانية ولكن أحياناً تصل إلى حد التدخل في كل حياة المؤمنين الأخلاقية الصغيرة. الأمر الذي يسيء إلى شعور المستمع ويدل على عدم ثقة الواعظ بسامعيه. ويدني من جهة ثانية مستوى التعليم. وأن تتطرف العظة إلى التنظير والإسهاب في مسائل فلسفية وإيمانية ليست هي مشاغل الناس اليوم ولا تجيب على حاجاتهم الروحية.
يجب أن يميز الواعظ بين ما “يجب أن يعرفه” وما “يجب أن يقوله”. وهذا الأمر طبيعي في كل مجالات العلوم. فما يعرفه الواعظ هو بالأساس أدوات له وليست المادة التي يجب أن تعطى لسامعيه. يجب أن يمتلك الواعظ معرفة واسعة نظرية وفلسفية متعددة وعميقة، لكنها هذه هي المواد الخام وليست المادة والغذاء المحضر الذي يجب أن يقدم للسامعين. من كل تلك المعرفة على الواعظ تهيئة موضوع ومضمون له يغذي سامعيه ويجعلهم ينهلون من كلماته نعمةً وروحاً.
من الجيد أن تعالج العظة أمثلة حياتية واضحة، ولكن دون أن تمس بكرامة سامعيه. وعلى العظة أن تدين الأخطاء وتقدم الحلول وألا تميل إلى التهكم والتهجم بسبب من العملانية. وأن يكون دائماً الحكم في الأمور هو ضوء الإنجيل وتعاليمه. يجب ألا تنقلب العملانية إلى علمنة. وألا ينقلب الوعظ من الباب الملوكي إلى دردشة صالونات. يمكن للواعظ أن يعالج أدنى الأمور قيمة وكرامة ولكن بشكل كريم ورفيع، وهذا طبيعي فقط عندما يلتزم بالتعليم الإنجيلي كحل وتعليم.
يساعد في جعل العظة عملانية استخدامُ “الأمثلة” اليومية، ولكن السامي منها بالحياة. ويفضل أن نلجأ بالأول إلى القصص الكتابية منها والمعروفة. وأن نعود إلى التاريخ الكنسي ونستنبط منه أمثلة، ومن ثم أمثلة الحياة اليومية، وأمثلة الخبرات البشرية العامة والسامية والإنسانية.
لا يستحسن خلق قصص وهمية لإنشاء عظة عليها. فهذا يجعل العظة تبدو وكأنها غير واقعية. نستطيع غالباً أن نجد أمثلة حقيقية تجري في الحياة اليومية ولها واقعيته، ونستخدمها من الخبرة الإنسانية من أجل توضيح فكرة العظة وجعل المستمعين يشاركون بالشعور بها. هذا ما أستخدمه الرب في أمثاله، التي كانت حقيقية من الحياة اليومية وواقعية (ما يجري تماماً مع الزارع وتماماً مع الغني ولعازر وما يشعره الراعي فعلاً وهو يبحث عن الخروف الضال ويجده…).
و.الوضوح والتحديد
لعل أدق مسألة يجب على الواعظ استيعابها والانتباه إليه، هي أن غنى العظة لا يقوم على امتدادها وإنما على عمقها. والمقصود أن تعدد المواضيع ووعظ كل شيء عن كل أمر هو بالنهاية عظة لا “شيء”. ويلاحظ تماماً كيف يبدأ البعض عظتهم بموضوع ويخرجون إلى آخر ثم آخر فيثقلون العظة بالمعاني وتكون ثمرتها ضعيفة جداً. فأدق مسألة هي تحديد الفكرة من العظة ومن ثم التعاليم التي سوف توضحها هي حصراً.
كل التفاصيل والجوانب في العظة عليها أن تنصب في سبيل إيضاح الفكرة الأساسية وإلا لجعلتها تضيع من ذهن السامع. والأفكار والتعاليم التفصيلية يجب ألا تكون أقوى من الفكرة الأساسية وإلا لجعلت العظة غير واضحة. أي نقص من مميزات العظة يوصلها ناقصة. فضعف اللغة ينقص منها وغياب نص كتابي وآيات يقلّل من الثقة بها مثلاً… ولكن عدم وضوحها يلغي كل قيمتها. فإنه من الأفضل أن ننطق بكلمات خمس بوعي وفهم لكي نعلّم الآخرين من أن ننطق الكثير ومن اللسان فقط، كما يقول الرسول بولس. لذلك لا بد للواعظ قبل أن يحدّد لنفسه ما هي الأفكار المحددة التي يريد أن يوضحها لسامعيه، وأن يحدد ترتيبها وكيف سوف يشرحها. يساعد على وضوح الفكرة الابتعاد عن الإسهاب في الصفات والبلاغات المصطنعة، فهذه كلها تقطع الفكرة في ذهن المستمع. والعظة يكون نجاحها أسهل كلما تناولت مواضيع أقل، حتى الموضوع الواحد والواضح. أي موضوع آخر يجب أن يكون مساعداً وليس ثانياً.
ز. كلمة تعزية
الكلمة اللاهوتية هي التي تصل الإنسان بالله. والعظة الحقيقية هي التي تنقل الإنسان إلى الله وتنقل نعمة الله إليه. الواعظ وسيط سلام بين الموعوظ وإله السلام “إله كل تعزية” (روم 15،5 و2كور 3،1). ويفترض أن يكون استخدام للكلمة الإلهية بالواقع صحيحاً ومعزياً. لأن هذه هي أداة الله المعبر عنها بالكلمة “أن جميع الناس يخلصون”.
لهذا يفضل أن يبتعد الوعظ عن لغة التهديد والتأنيب، وأن يلتزم لغة التهذيب والوداعة. إن قوة العظة وفاعليتها ودعوتها للتوبة تكمن في قوة الكلمة الإلهية وليس في قساوة التعبير. ويجب ألا يخلط الواعظ بين تأنيب الخطيئة وتأنيب الخاطئ.
غاية العظة هي رفع قدرة المستمعين على التزام الحياة المسيحية، وأن تسكب في قلوبهم النعمة التي تقودهم إلى التوبة والرجاء. الواعظ ليس حاكماً بل هو “المعزي”.
من الجيد أن نتذكر دائماً أن الشعب الحاضر في الكنيسة جاء إليها ينتظر تعزية ولا يطلب شيئاً أخر. والعظة جانب أساسي من الطقس الليتورجي يمكنها أن تقدم الكثير من خلال شرح الكلمة والأسرار الإلهية.
ح. متزامنة
قد تبدو كلمة “تزامن” و”معاصر” للبعض معاكسة لما هو تقليدي و “تقليد”. وأنها تعني تغييرات وتبديلات تعاكس الأصول المتبعة والإيمان والمبادئ الأساسية. وهي ليست كذلك. وإنما هي وضع هذه المبادئ الأساسية بلغة سامعيها أي في عصرهم ومسائل زمنهم. العصرنة غير الدهرية. فالدهرية هي عكس الأبدية، والمقصود بها الأسس التي لا تعنى بأمور الحياة الأبدية. وهي بالتالي ضد التقليد الذي يعني الاهتمام بمسائل ملكوت الله. ولكن العصرنة تعني تماماً التقليد، التقليد الذي لم يكن يوماً نسخاً للماضي، فالتقليد هو واحد، وهو أن يعمل الروح القدس فينا. هذا الروح عمل في القديسين والآباء. والتقليد هو أن تستمر هذه الطريقة في أن نجعل ذواتنا قيثارات للروح تعزف عليها الكلمة الإلهية في زمنها.
لذلك التزامن والعصرنة لا تعني رفض التقليد والتعليم الكنسي وإنما وضعه في مواجهة اليوم وإخراجه بلغة اليوم. “المسيح هو هو أمس واليوم وإلى الأبد” (عب 8،13) وكلمته هي هي “باقية إلى الأبد” (ا بط 25:1). ولكن كلمة الله بالأساس هي جواب على سؤال العطش البشري، وبالتالي حين تجيب على السؤال الإنساني يجب أن تصل إليه بلغته وطريقته.
يجب أن يحافظ الوعظ على الكلمة الإلهية واللغة الإنسانية. فهناك ثوابت وهناك متحولات. فتحريك الثوابت سوء كتثبيت المتحركات. فالعصرنة أساس ضروري كالتقليد تمام، على أن تحددّ الثوابت وكذلك المتحولات. عدا ذلك تفقد العظة دورها الروحي. فإمّا تصير معلمنة (عند تحريك الثوابت) و خطابة فارغة (حين نثبت المتحركات). الكلمة الإلهية ليست من هذا العالم ولكنها إليه وفيه. إذا دهرنت الكلمة الإلهية وإذا عزلت عن الدهر فقدت دورها.
أن عصرنة العظة لا تعني أبداً وحصراً تبنّي كل ما هو جديد واللغة والتقنيات “الدارجة”. عصرنة العظة تنبع بالأساس ليس من معرفة الأساليب الحديثة والأمور الدارجة فقط، هذه قد تساعد. إنَ عصرنة العظة تنبع من قلب الراعي الحقيقي الذي يعيش مع رعيته كما هي اليوم ويشارك في مسائلهم ويشعر بحاجاتهم ويعرف ألامهم ويفهم لغتهم ويفهمون ثم لغته. الرعاية الحقيقية تضمن عصرنة العظة.
يجب أن يكون الراعي والواعظ متجدداً مع أجيال رعيته، وإلاّ لصار جموده لغة صماء لا تفهمها رعيته. لذلك خبرة الراعي الروحية والرعوية هي الأساس لتزامن وعظه مع زمن سامعيه. إن خبرة الواعظ ذاتها هي العلم الأساسي الذي يشرح له كيف يزامن عظته. إن غياب الخبرة الشخصية للواعظ حول المواضيع التي يعالجها في وعظه لا بد ستجعله من الُمنظّرين الذين يسأم الناس سماعهم بسرعة. يجب أن يكون الواعظ ذاته ابن زمنه ودنياه فيمتلك هو خبرة شعبه، وما يميّزه عنهم ليس عزلته عنهم ولكن خبرته الخاصة الإضافية مع الله.