Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

تظهر خصائص الروحانية الأرثوذكسية في كتاب التريودي {وقد أعادت منشورات النور بالاشتراك مع معهد القديس يوحنا الدمشقي في البلمند طبع هذا الكتاب الأساسي في سنة 1983 (الناشر)} أكثر مما تظهر في الكتب الطقسية الأخرى التي تستخدمها الكنيسة الشرقية. ولا غرابة في ذلك طالما أنه يحتوي على صلوات الصوم الكبير السابق للفصح.

ويعرف المؤمنون هذا الكتاب أكثر من سواه، لكنه كالإعلان الإلهي يعرفنا أكثر مما نعرفه. والعكوف عليه سحابة الصوم هو في الأساس تأمل في الطريق الأحد الذي بإمكانه أن يقود الأرثوذكسي إلى باب الحياة الضيّق، أي إلى استقامة الرأي وحسن العبادة، أي إلى الأرثوذكسية.

الكتاب:

يعود أصل هذا الكتاب إلى التشذيب الكبير الذي عرفته الصلوات في أديرة فلسطين والقسطنطينية، ذاك التشذيب الذي عقب استنباط القديس يوحنا الدمشقي للقوانين في القرن الثامن. إلا أن جذوره في تقليد الكنيسة الشرقية أعمق من القرن الثامن حسبما يُظهر انتقاء الموضوعات وورود نص (المديح الذي لا يٌجلس فيه). ولكتاب التريودي امتداد أيضاً بعد القرن الرابع عشر مع خدمة القديس غريغوريوس بالاماس والتسابيح الثلاثة لسحرية السبت العظيم.

وهو اليوم، بعد قرون من الحياة الليتورجية اشتهرت بها البلدان الأرثوذكسية، كالهيكل ذي الأقسام الثلاثة: الرواق فيه وتؤلفه مرحلة تهيئة تغطي أربعة آحاد، يليها الصوم الأربعيني المخصص للتقشف والتوبة. إلا أن هذه الفترة ذات الأربعين يوماً تُقَوِّيها نماذج تاريخية نلقاها كل أحد. وما هذه النماذج التي تسبق أحد السجود للصليب، في منتصف الصوم، وتليه إلاّ أعمدة تقود إلى قدس الأقداس الذي يسبقه القانون الكبير والمديح الذي لا يُجلس فيه {كانت تقام خدمتا القانون الكبير والمديح أصلاً في الأسبوع الخامس من الصوم (الناشر)} وهما يحوزان على كل غنى الأيقونسطاس. وفي النهاية يشبه أسبوع الآلام قدس الأقداس الذي بابه أحد الشعانين ومذبحه خدمة الآلام. ولم يثبت هذا الهيكل المنتشر عبر الزمان في كتاب التريودي إلاّ ليتحقق فينا، فيمدنا طيلة الصيام بالمعنى العميق للصلاة ويدعو إلى هذا الدنو من الملكوت الصائر في الحياة المسيحية على هذه الأرض. فليكن لنا (التريودي) مضرب الشهادة في هذه الحياة الدنيا إذا ما تأملنا خطوطه الكبرى.

فترة التهيئة:

تدوم فترة التهيئة شهراً وتتميّز بأربعة أفكار، اثنتان منها تطال النفس: خطيئة الإنسان ومحبة الله، والباقيتان تاريخيتان: المجيء الثاني وسقوط آدم. إنها أقطاب الصوم بل أقطاب تاريخ الخلاص.

* خصّصت الكنيسة المقدسة الأحد الأول لمَثَلْ الفريسي والعشار، لأنه يجب أن يكون التواضع والتوبة وانسحاق الفكر خطوتنا الأولى في تقرّبنا من ملكوت الله. وليست الصلاة تمجيداً للإنسان بل تمجيد لله من خلال الإنسان الذي لا يستطيع سوى أن يطلب من الله الرأفة والغفران. (لا نصلّينَّ يا إخوة فرّيسياً لأن من يرفع ذاته يتضع. فلنتذلل أمام الله متضعين وبواسطة الصيام نهتف هتافاً عشّارياً قائلين: اللهم اغفر لنا نحن الخطأة).

* هذه هي قاعدة الصلاة: يتحقق فينا ملكوت الله إذا اتضعنا وتبنا. والتعليم نفسه يَرِدُ الأحدَ التالي في مَثَل الابن الشاطر ولكن التشديد هنا هو على محبة الله اللامتناهية، تلك المحبة التي تقبلنا إذا أتيناها من غور بعدنا السحيق لأن الله هو أبونا ويحبنا. (سبيلنا يا إخوة أن نعلم قوّة هذا السر، إن الابن الشاطر لما فرّ من الخطيئة مسارعاً وانتصب في الحضرة الأبوية كيف الأب الكامل صلاحه استقبله مصافحاً بل ومنحه أيضاً علامات مجده).

* لقد أعطانا التريودي منذ استهلاله مفاتيح تاريخ الخلاص بواسطة مَثَلَينْ ليطرح فيما بعد سؤالي الإنسانية الهامين وأولهما: إلى أين نذهب ؟ إن السبت والأحد التاليين مخصصان لتذكر نفوس المائتين منذ بدء العالم، والمجيء الثاني. والموت يعيد الإنسان إلى تراب الأرض ولكنه، بنعمة المسيح، عتبة الملكوت. (كل شيء يذبل كالزهر ويجوز كالمنام وأيضاً إذا هتف البوق فجميع الراقدين يقومون أيضاً كفي زلزلة إلى استقبالك أيها المسيح الإله). أمّا مجيء المسيح الثاني فيهدف إليه التاريخ وفيه تتم الدينونة ساعة الانقضاء، تلك الدينونة التي يضعُها أمامنا الأحد الثالث من مرحلة التهيئة كالباب الرهيب الذي سنعبر فيه كلنا. (إنني أتصوّر ذلك اليوم وتلك الساعة إذ نحن عتيدون أن نقف عراة لدى الحاكم المسقط كمشجوبين، حينئذ يصوت البوق وتهتز كل أساسات الأرض… وخفايا الجميع تنتصب أمامك ظاهرة).

* تجيب خِدم الأسبوع التالي الذي يسبق بدء الصوم عن السؤال الثاني: من أين نأتي وكيف نسير؟ لا يمكننا أن نلج ملكوت الله إلاّ بالتوبة والصيام والحياة الجديدة على مثال النسّاك الذين كانوا بركة الله على الأرض ودعوة لنا لاقتفاء أثرهم. (هلمّ بنا يا جميع المؤمنين لنمدح مصاف الآباء والأبرار أنطونيوس الهامة الموقرة وأفتيموس اللامع وكلاً منهم وجميعهم سويةً جائزين عقلياً تصرفاتهم كفردوس نعيم آخر). لأننا نأتي من الفردوس وقد طُردنا منه فسقوط آدم فيّ، في كل إنسان، ولذا تتصف الحياة على الأرض بالضلال والغربة واللعنة والابتعاد عن قلب الله.

(إن الرب جابلي أخذ تراباً من الأرض وبنفخته المحيية منحني نفساً وأحياني وأكرمني وأقامني في الأرض رئيساً على جميع المنظورات عائشاً كالملائكة. فالشيطان الغاش استعمل الحيّة آلة، فخدعني بالأكل وفصلني من مجد الله وسلّمني بالمنون السفلي إلى الأرض).

ولكن الإنسان يعود إلى الفردوس بالصوم وقوة الإنجيل. (فلنحرص إذاً كافة على اقتبال الصيام طائعين التقليدات الإنجيلية لكي نكون بها مرضيين المسيح ونفوز بسكنى الفردوس أيضاً). فالصوم الأربعيني يعد بالنور منذ ابتدائه.

الصوم الأربعيني:

وتذكِّر الأيام الأربعون التي تمتد حتى أحد الشعانين بالأيام التي قضاها المسيح في البرِّية، والغرض الأساسي منها هو الصوم الذي يجب أن نجوزه كمرحلة أو قل كمحيط. إنه اجتياز نتذكره في بدء كل أسبوع ويقودنا إلى مرفأ.

(ها أوان التوبة فلنطرح أعمال الظلمة ونتدجج بأسلحة النور لكيما نجوز لجة الصيام العظيمة ونبلغ إلى قيامة ربنا). والصوم فِعلٌ أولاً، إنه شبع الروح التي تستخدم المادة.

(إن الصيام يقدم لنا مائدة سريّة مستدعياً إيانا أن نستنزف منها باتراع، فلنأكل مواهب الروح الدائمة البقاء).

وليس الصوم قهراً للنفس لكنه (بهجة) و (فرح) و (حلّة مبهجة). وهو يتخطى كونه إمساكاً سلبياً عن المأكل إلى كونه صراعاً ضد كل مَيْل شرير. (إذا صمنا يا إخوة جسدياً فلنصم أيضاً روحياً ونحل جميع وثاقات الظلم ونفك عقد المعاملات الاقتسارية ونمزق الصكوك الجائرة ونمنح الجياع خبزاً ونولج مساكين لا سقف لهم على منازلنا). ويحمل قوة الشفاء: (إن الصوم المميت للأهواء قد ينذر بالشفاء للمضرورين من الخطيئة). وأخيراً الصوم، كالتوبة، طريق إلى ملكوت الله، إلى الحياة الأبدية طالما أن المحبة تُمارس فيه: (إن الأوان أوان التوبة وجهاد الصيام يسبب لنا حياة أبدية إن بسطنا أيادينا إلى الإحسان لأن ليس شيء ينقذ النفس كمواساة المحتاجين).

تغلب فكرة الإمساك على الصوم وكأنها قوة مخلّصة. ولكن في كلٍ من الآحاد الخمسة التي تسبق الشعانين نمرّ بأوجه تذكّر بالهدف ودنو الفصح، فالتدرج ملحوظ من التاريخي إلى النفسي، من العقيدة إلى الإعلان، من الأيقونة إلى الشخص. وتوجّه مجرى الصيام رؤية سامية. إنه يقسم، كفترة التهيئة، إلى مرحلتين يتوسّطهما الصليب الذي نكرمه في الأحد الثالث. تهيئنا المرحلة الأولى (أحد الأرثوذكسية وأحد القديس غريغوريوس بالاماس) حتى نرى الصليب في نور الله وتعلّمنا الثانية (أحد الأب يوحنا السلّمي والأم مريم المصرية) حمل الصليب في هذه الحياة حتى التجلّي.

يُخصَّص السبت من الأسبوع الأول من الصوم لحدث عجائبي يرمز إلى الجهاد الصيامي كله: استبدل وثني طعام جماعة صائمة من المسيحيين بأطعمة الأصنام إلاّ أن القديس الشهيد ثيودوروس نبّه الكاهن في الحلم فرفضت الجماعة المؤمنة ما لطّخ صورة الله فيها. تمهد هذه الذكرى لفكرة الأحد الأول.

* الأحد الأول: يرتكز على فكرة انتصار الأرثوذكسية يوم أعادت الإمبراطورة تيودورا تكريم الأيقونات في نهاية الألف الأول من التاريخ المسيحي. إن صورة الله على الأرض في السيد المسيح والقديسين وفي كل إنسان والسعي الصيامي يمر بادئ ذي بدء بهذا التأكيد على الأيقونة. (إن نعمة الحق قد أشرقت والتي سبق رسمها قديماً ظلياً قد كملت الآن بغاية الإيضاح لأن ها الكنيسة تسربلت صورة المسيح المتجسمة كزينة فائقة الجمال حسب فائق رسم مضرب الشهادة مالكة الإيمان المستقيم الرأي).

* الأحد الثاني: في الأحد التالي، الثاني من الصوم، وبعد إثبات حقيقة الأيقونة اللاهوتية، ذاك الإثبات الذي كلل صراع استقامة الرأي في الألف الأول من التاريخ المسيحي، تظهر حقيقة ثانية هي بمثابة قلب الشهادة الأرثوذكسية في العصور الحديثة. وما هذه الحقيقة إلاّ إمكان وجود فعلي للنور غير المخلوق فينا.

ولقد خُصَّص هذا الأحد للقديس غريغوريوس بالاماس رئيس أساقفة تسالونيكيا الذي أسهم في صون الأرثوذكسية بدفاعه عن (الهادئين) ضد الذين أرادوا إدخال طريقة في التفكير وإيمان جديدين لم نعهدهما عند آباء الكنيسة. إنه بتعاليمه رسّخ استقامة الرأي كما رسخها قرار تكريم الأيقونات. (بمنجل أقوالك الطاهرة وبمصنفاتك الشريفة حسمت أشواك الهرطقات ونبات الزوان النفل وأنميت زرع استقامة الرأي الحسن العبادة يا رئيس الكهنة غريغوريوس).

* الأحد الثالث: وها نحن في الأحد الثالث، أحد السجود للصليب المكرَّم. رفع الصليب في وسط الصيام علامة فرح لا حزن، ظفر لا خذلان، حياة لا موت.

(إن الكنيسة قد ظهرت الآن فردوساً آخر كالأول إذ حوت صليبك عوداً حامل الحياة الذي بملامستنا إياه نساهم عدم الفساد). فالشعب مدعو ليكرِّم الصليب ويسجد له ويقبِّله ويمجِّد القيامة:

(لصليبك يا سيّدنا نسجد ولقيامتك المقدسة نمجِّد). إن روحانية الصوم وهدفه كامنان كالبذار في هذا التكريم لأنه يجب على الشعب الذي أُعطيت له علامات الاستقامة والأرثوذكسية أن يعي وحدته أمام الصليب وتبعيته للسيّد: (خلِّص يا رب شعبك وبارك ميراثك).

* الأحد الرابع: نعيّد في الأحد الرابع من الصيام لأب قاد الرهبان في سيناء إلى شجرة الحياة، شجرة الصليب وتوصّل إلى الكمال السماوي بعد تدرجه على سلمه {راجع (السلّم إلى الله)، سلسلة (آباء الكنيسة)، رقم 3، منشورات النور (الناشر)} الذي وصف الحياة الصوفية. نذكر هذا الأب بعد تكريم للصليب هيمن على الأسبوع الرابع كله مادحين فضيلة النسك، لأنه لا يكفي أن نكرّم الصليب في نور القيامة بل يجب أن ننقله إلى حياتنا هذه لنيل الخلاص. لقد كان القديس يوحنا السلّمي (ملاكاً على الأرض) و (في السماء إنسان الله)، ولذا تقدِّمه الكنيسة لنا نموذجاً نتمثله في سلوكنا درب الخلاص. تقدِّمه لنا هو الذي (اتخذ صليبه واتبع المراقب الكل، وبقوة الروح الإلهي عبّد الجسد العسير الانقياد للعقل برياضات نسكية)، لأن تحنّن الله جواب على المجهود النسكي.

فالإنسان يظهر في أوديات هذا الأحد الرابع والأسبوع الخامس التالي جريحاً، عارياً، منهوك القوى، كالمسافر في مَثَل السامري الشفوق، تتبعه الأهواء والتجارب وترميه على حافة الطريق ولا ينجّيه أحد، فينتظر تدخل المسيح.

* الأسبوع الخامس: بالأسبوع الخامس العظيم الغني نبتدئ في توديع الصيام، (إذ قد جاوزنا نصف الصيام)، (فإن الأوان الكلي البهاء قد حضر). وإذ يدنو الصيام من نهايته تتكثف الصلوات وتبلغ الخدم أوجها في سحريتي الخميس والسبت وذلك في إطارين طقسيين:

قانون القديس أندراوس الاقريطشي والمديح الذي لا يجلس فيه {جرت العادة في الكرسي الأنطاكي وبعض الكنائس الأرثوذكسية الأخرى أن يتلى قانون القديس أندراوس في صلاة النوم الكبرى للأسبوع الأول من الصوم، أمّا صلاة المديح فتقام مساء أيام الجمعة في الأسابيع الخمسة الأولى من الصوم (الناشر)}. ويذكِّر النص الأول بالتوبة والتقشف والثاني بالخلاص والبهجة، وهكذا ترانا أمام أفكار الصوم الرئيسية.

أمّا الأوديات التسع التي للقانون الكبير فتذكّرنا برجال التاريخ المقدس وحوادثه والتطابق القائم بينهم وبين حياة النفس فتغدو كل صُوَرْ العهد القديم حياة لنا ومنبهاً وعنصراً يقود إلى التواضع وبناء النفس. هذا ما نستفيد منه ساعة نذكر سقوط آدم، جريمة قايين، نيران سادوم، الطوفان، حياة الآباء، الخروج، الدخول إلى أرض الميعاد، حياة القضاة والملوك والأنبياء، ميلاد المسيح وتعليمه وعجائبه. ينبض قلب التريودي كله في هذا النصح الذي يدعو الإنسان إلى ترك إنسانه العتيق والعالم وحمل الصليب والتجديد.

وكنتيجة مجيدة للصوم والتوبة يعظّم (المديح الذي لا يُجلس فيه) الخليقة المتجلّية في العذراء. (فيسلّم)، على التوالي، على التي أعطت العالم المسيح، ملاكُ البشارة ثم أليصابات ثم الرعاة ثم المجوس ثم الذين تخلّصوا من عبادة الأصنام ثم المؤمنون كلهم، إنهم يغبّطون التي (حملت ضابط الكل)، التي هي (عروس كل الأجيال)، (عامود ناريّ مرشد الذين في الظلام)، (مفتاح ملكوت المسيح)، (باب الخلاص)، (شعاع الشمس العقلية) و (برج للكنيسة لا يتزعزع). يتجلّى الكون كله والتاريخ في هذا النشيد ولذا نقول إن كل قوة الإنجيل كامنة فيه. لقد توسّط السجود للصليب الصيام الذي التقى فيه الصلب والقيامة. وفي (المديح الذي لا يُجلس فيه) يتجلّى نور هذا الإعلان للعالم.

* الأحد الخامس: ويأتينا الأحد الخامس بوجه يجمع كل تعاليم الصوم، لأنه، وإن كان علينا أن نسلك درب التقشف والزهد للخلاص (كما علّمنا القديس يوحنا السلمي)، إلاّ أن الخلاص مجاني أيضاً، يتعلق بنعمة الله التي بإمكانها أن تظهر فيما نحن متوغّلون في خطايانا. الخلاص باب مفتوح للجميع ومن يَنَلْ نعمةً يتّحِدْ بالمسيح السيّد ويتأله.

وتُعتبر سيرة القديسة مريم المصرية خير ملخّص للتاريخ، المقدس، في المنظار الأرثوذكسي. لقد ضلّ الإنسان خارج الفردوس واستوقفه صليب المسيح، وإذا تاب يحظَى، وهو على هذه الأرض، على التجلّي وبواكير الملكوت.

(… لقد قطنت البرية فمحَوْت من نفسك صورة أهوائك ورسمت فيها الصورة الإلهية للفضائل، وبهذا المقدار تلألأت مشرقة حتى أنك عبرت على المياه بخفة، أيتها المغبوطة، وبصلواتك نحو الله ارتفعتِ عن الأرض). إن صورة مريم المصرية هذه هي كالباب الضيّق الذي يقود إلى تذكّر آلام السيّد المسيح التاريخية.

* نذكر طيلة الأسبوع السادس دخول السيّد إلى أورشليم: (هلّم أيها المؤمنون لنبتدئ بنشاط في الأسبوع السادس من الصيام المكرّم ولننشد تسابيح تقدمة عيد الشعانين للرب الآتي بمجد إلى أورشليم ليميت الموت باقتدار لاهوته).

ويسود هذا الأسبوع مَثَل الغني الغبي ولعازر كفكرة رئيسة. فهو بمثابة إجابة على مَثَل الفريسي والعشار وينهي هكذا التربية التي ينقلها التريودي. وكما أنه ليس باستطاعة الإنسان أن يحصل على النعمة إلاّ إذا كان متواضعاً، كذلك لا يخلص إلاّ إذا صار فقيراً وصبوراً أمام الله والناس. (لنفرّ هرباً من مضارعة الغني المحكوم عليه بالسعير الذي لا يُطفأ، ونصبُ إلى تجلّد لعازر في الشدائد).

ثم نحتفل بالحدث الإنجيلي متذكرين المسيح موافياً إلى بيت عنيا بعد أن مات فيها لعازر: (اليوم لعازر له يومان ميتاً ومريم ومرتا أختاه تذرفان عليه عبرات الحزن مشاهدتين حجر القبر. إلا أن الخالق سيحضر مع تلاميذه ليسبي الموت ويمنح الحياة).

وفي نهاية أيام الصوم الأربعيني نعيّد لقيامة لعازر، هي صورة من الفصح العظيم، وتمجيد لقوة الله في العالم: (أيها المسيح لقد أقمت صديقك ذا الأربعة أيام وكففت انتحاب مريم ومرتا موضحاً للكل أنك أنت هو المالئ الكل بقدرة إلهية وبإرادة ذات سلطة ذاتية).

* الأحد السادس: وها نحن في أحد الشعانين يوم نعيّد لدخول المسيح المتواضع إلى مدينة أورشليم. (إن الابن كلمة الآب المساوي له في الأزلية وعدم الابتداء قد وافى اليوم إلى مدينة أورشليم جالساً على جحش). وسيكمل هذا الدخول قصة الخلاص ويعلن للملأ سر التجسّد الإلهي: (… ومبادراً لتوافي إلى الآلام لكيما تكمل الناموس والأنبياء).

الأسبوع العظيم:

أمّا الأسبوع السابع (العظيم المقدس)، فيكمّل أسابيع الصيام الستة. هو كاليوم السابع الذي تصب فيه أيام الخليقة الستة الباقية.

وينهي هذا الأسبوع التعمّق في المعنى الصوفي للفداء وذلك بواسطة سلسلة من الموضوعات: (الخَتَنْ)، يوسف، العشر عذارى، الزانية. وفيما نلج أواخر الصيام نذكر حوادث الإنجيل التي بها صار المسيح فصح الإنسانية.

* تذكرنا الأيام الثلاثة الأولى من الأسبوع العظيم بهدف الصوم الذي هو انتظار عرس النفس مع السيّد: (ها هو الختن يأتي في نصف الليل… فانظري يا نفسي لئلا تغرقي في النوم). ولكن لا يمكن لهذا الانتظار إلاّ أن يكون متّصفاً بروح التواضع والاتكال على الله: (إنني أشاهد خدرك مزيّناً يا مخلّصي ولست أمتلك لباساً للدخول إليه، فأبهج حلّة نفسي، يا مانح النور وخلّصني). وفي تطلّعنا إلى القيامة تعوزنا، بعد الإمساك والتوبة، فضيلتان إنسانيتان هما الأمانة واليقظة. فصلوات الاثنين العظيم تعود بنا إلى قصة يوسف في مصر الذي (غادر الثوب وفَرَّ من الخطيئة).

وتدعونا خدمة الثلاثاء العظيم إلى التشبّه بالعذارى العاقلات: (لنَودَّ الختن يا إخوة ونحبّه ونهيئ مصابيحنا لامعين بالفضائل والإيمان المستقيم، لكي مثل عذارى الرب العاقلات نلج، مستعدين، معه إلى العرس…). ويستمر سير المسيح إلى آلامه في تلك الخِدم بحسب النصوص الإنجيلية، فيطلب منّا أن نتبعه كما حدث للرسل، أن نكون معاصري الصلب: (فهلمّ إذاً يا أخوة نصحبه…).

تردد الأناشيد كلمات المسيح التي وجهها إلى تلاميذه فيما يماشيهم إلى أورشليم، كما أنها تذكِّر بتأنيب ابني زبدي، وانتهار التينة العديمة الثمر، وحوار يهوذا مع كهنة اليهود، وتظهر بنوع خاص تصرّف الزانية المحب مقابل خيانة اليهود:

(إن الخاطئة لما كانت تقدم الطيب كان التلميذ يشارط مخالفي الناموس. أمّا تلك فكانت تفرح بسكبها الطيب الجزيل الثمن، وأمّا ذاك فأسرع ليبيع من لا ثمن له، هذه عرفت السيّد وذاك انفصل عن الرب…).

* وأخيراً نصل إلى تذكّر العشاء السرّي: (إن السيّد أوضح للتلاميذ رسم التواضع، والمسربل السماء بالغيوم أتزر بمنديل وأحنى ركبته ليرحض أقدام العبيد…)، وأعلن عن سر الشكر:

(وبما أنك الفصح قدَّمت ذاتك إلى الذين كنت عتيداً أن تموت لأجلهم، هاتفاً: كلوا جسدي…)، وصرّح بالخيانة: (إن فيكم رجلاً جاهلاً مسلّماً لا يدرك ما يصنع وهو غبي لا يفهم…).

وتوضح لنا خِدَم الخميس العظيم سر الإثم الذي قاد المسيح إلى الصليب بواسطة يهوذا والكهنة اليهود.

* وفيما تُتلى الأناجيل الاثنا عشر التي تروي حوادث الآلام، تعود دائماً فكرة تسمير المسيح المؤلمة وكأنه، له المجد، يتّجه من قلب التاريخ إلى شعبه: (يا شعبي ماذا فعلت بك وبماذا كافأتني ؟ عوض المنّ مرارة، بدل الماء خلاً، عوض أن تحبني على الصليب سمّرتني…). فالمسيح هو خالق الكون ولا يمكننا إلاّ أن نسجد أمام مظاهر تواضعه الطوعية كلها. (اليوم عُلِّق على خشبة الذي عَلَّق الأرض على المياه. إكليل من شوك وُضع على هامة ملك الملائكة. برفيراً كاذباً تسربل الذي وشّح السماء بالغيوم. قَبِل لطمة الذي أعتق آدم في الأردن. خَتن البيعة سُمِّر بالمسامير وابن العذراء طُعن بحربة: نسجد لآلامك أيها المسيح…).

* تضعنا الساعات الملوكية في يوم الجمعة العظيم أمام صليب المسيح وتدعونا إلى تأمل الحدث وتمجيد محبة الله اللامتناهية. لقد ألقي القبض على المسيح ولكنه صبر (ليكمّل ما قد أعلنه بأنبيائه من الغامضات والمكتومات). فحُكم عليه بالموت وأنكره بطرس وشتمه (لأنك لبست إكليل الافتراء يا من زخْرَفْت الأرض بالأزهار، ولبست خلعة الهزء، يا من وشحت الجلد بالغيوم…)، ومدَّ يدَيْه على الصليب و (عُلِّق على خشبة).

* وفي مساء الجمعة العظيم نتذكر الإنزال عن الصليب والدفن في القبر. (لقد دُفن حياة الكل) والنصر لازَمَ الدفن، إذ إن موت المسيح قد (راع الجحيم) لأنه بقي بطبيعة لاهوته غير محصور ولا محدود وإن أغلق عليه في القبر جسدياً. وقد ظهرت على الأرض علامات ذلك: (… لمّا شاهدَتْه الشمس على الصليب معلّقاً التحفت بالقتام والأرض تموّجَت خوفاً وحجاب الهيكل تمزّق…).

* تقودنا سَحَرِيّة السبت العظيم إلى القبر. فالتسابيح الثلاث تذكّرنا بظروف موت المسيح وقبره وتتغنّى بالسرّ.

(حجر منحوت يستر الحجر المزاوي وإنسان مائت يحجب في القبر الإله كمائت فاجزعي يا أرض). ولكن النسوة حاملات الطيب (لقبرك قد أتين يدفقن الطيب سَحَراً)، (أتَيْنَ للقائه)، لأن نور القيامة لقريب. وبعد الكلام عن موت المسيح غير المفهوم يرد التفسير اللاهوتي في هذا الإعلان: (أيها الكلمة لقد قُتلت لكنك لم تنفصل من الجسد الذي ساهمت به، لأنه ولو انحل هيكلك في حين الآلام، إلا أن أقنوم لاهوتك وناسوتك واحد فقط، وفي كليهما لم تزل الابن، كلمة الله إلهاً وإنساناً). إنه أبطل مُلك الجحيم (لأنك أيها المقتدر، لما وُضعت في قبر، طَحَنْت أقفال الموت وأكرزت بكفّك عنصر الحياة للجالسين هناك منذ الدهر).

وهكذا نرى أن دفن المسيح، راحته في القبر، هو بمثابة سبت جديد للخليقة:

(إن موسى العظيم قد سبق فرسم هذا اليوم سريّاً بقوله، وبارك الله اليوم السابع لأن هذا هو يوم السبت المبارك، هذا هو يوم السكون والراحة الذي استراح فيه ابن الله الوحيد من كل أعماله، لما سبت بالجسد بواسطة سر التدبير الصائر بالموت، وعاد أيضاً بواسطة القيامة إلى ما كان ومنحنا حياة أبدية…).

تتنهد الجحيم صارخة مساء السبت العظيم في سكون راحة الرب: (قد ابتُلع اقتداري لأني اقتبلت ميتاً كأحد الأموات إلاّ أني لم أستطع أن أضبطه بالكليّة، بل فقدت معه الذين كانوا تحت سلطتي…).

ثم تُقرأ سلسلة النبوءات التي تحوي إشارات في العهد القديم لقيامة المسيح، حتى نصل إلى الفتيان الثلاثة في أتون النار: فمن خلالهم تُسبّح الخليقة كلها الرب.

وأخيراً ينتهي كتاب التريودي ببروكيمنن الإنجيل التالي: (قُمْ يا الله واحكم في الأرض لأنك ترث جميع الأمم). وها نحن على عتبة القيامة بعد هذا النداء الأخير.

الاستفادة من التريودي:

من البديهي أنه ليس باستطاعة الإنسان الاستفادة من غنى كتاب التريودي ما لم يشارك قدر المستطاع الكنيسة كلها مشاركة طقسية في هذا الاستعداد للفصح. فلقد ضمّ الكتاب بذور الإنجيل كلها وفيه تتفتق ألف زهرة وتُقدَّم لحياتنا حتى تتحوّل فينا إلى ثمار النعمة والخلاص. وليس ما ورد في هذا المقال سوى تعليمات تُمكِّن من الوقوف على الخط العام الذي شدّدت عليه فترة الصيام كلها. القصائد التي تؤلف التريودي تتحلّى بغنى وكثافة كتابيين وتعكس لنا تاريخ العالم الذي تبطنه طقوس الكنيسة. إنها أعجوبة لا يستوعبها العقل.

جَاك تورَاي (*)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) جاك توراي فرنسي المولد اهتدى في سن الرشد للإيمان الأرثوذكسي وقضى سنوات عديدة في أديرة جزيرة باطمس في اليونان ثم عاد إلى فرنسا حيث يعيش الآن. نقل إلى الفرنسية كل الكتب الطقسية بالإضافة إلى العديد من النصوص الروحية الأساسية من بينها (نسكيات) اسحق السرياني وبعض أجزاء الترجمة الفرنسية للفيلوكاليا التي تصدر على يد (الأخوية الأرثوذكسية في أوروبا الغربية). أمّا المقال الذي ننشره هنا فقد نُشر أولاً بالفرنسية في مجلة (كونتاكت) الباريسية.

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF

معلومات حول الصفحة

عناوين الصفحة

محتويات القسم

الوسوم

arArabic
انتقل إلى أعلى