كانت الغنوسية قد أصبحت أكثر الحركات الفلسفية الدينية انتشاراً وأوسعها ميداناً. وكانت تعاليم مدرستها السامرية قد تسرّبت إلى مصر وعشَّشت فيها. يذكر كلسوس أن هذا النوع من الغنوسية شاع في مصر في بعض ما كتب فيه. واوريجنس نفسه درس هذه الفلسفة في الاسكندرية على أحد رجالها السوريين بولس الأنطاكي.
و أثر الغنوسية ما يزال ملموساً إلى اليوم عن طريق ما وصلنا من صفحات الأدب القبطي وفي بعض أوراق البردي والأناجيل الأبوكريفية. على أعظم ما جاءت به قرائح رجال هذه المدرسة مربوط بأسماء اسكندريين ثلاثة صنفوا فيما يظهر في القرن الثاني في عصر أدريانوس الامبراطور وبعده بقليل. وهؤلاء الثلاثة هم: فالنتينوس وفاسيليذس وكربوكراتس. وقد فصّل ايريناوس القديس مذهب فالنتينوس من باب الرد عليه كما تكلم عن فاسيليذس وآرائه وعن كربوكراتس وملائكته. ومما نقله عن كربوكراتس وعن رأيه في المسيح المخلص أنه قال: أن يسوع كان ابن يوسف من صلبه وأنه تمكن بواسطة التقمص وبما اختبره في “دوره” الأول وبما أوتي من مقدرة من فوق أن يسيطر على حكام هذا العالم وأن يعود إلى الله الآب. وأضاف أنه بمقدور جميع الناس أن يفعلوا ما فعله المسيح إن هم سلكوا سلوكه وتذرعوا بأساليبه.
ولم يقتصر نشاط هذه القوة الدينية الفلسفية على سورية ومصر ولكنه انساب نحو الشمال حتى شاطئ البحر الأسود. فقام في سينوب ابن اسقف يعظ ويبشر بمسيحية غنوسية ويعمل لها بكل ما أوتي من مقدرة ونشاط. وهذا الشخص هو مركيون الذي نزع إلى الدين والفلسفة بعد أن أثرى في التجارة البحرية. وقال مركيون بعنوسية مسيحية فغضب عليه والده وقطعه من شركة الكنيسة. فخرج من سينوب وطاف آسية الصغرى مبشراً باستحالة التوفيق بين التوراة والإنجيل موجباً التخير بين محبة المسيح التي لا نهاية لها وصلاحه السامي وبين عدالة إله اسرائيل القاسية. مبيناً ان إله اليهود إله الخليقة والناموس لا يمكن أن يكون هو نفسه إله الرحمة بل دونه مرتبة. “والمخلص” في نظره كان مظهراً من مظاهر الإله الحقيقي الصالح وقد خلّص البشر بإظهاره حقيقة الإله الصالح الذي جاء من عنده وبالصليب. ولما لم يكن له أي صلة بإله الخليقة فإنه لم يكن بشراً ولم يولد ولم ينم ولكن شبه لهم في كنيس كفرناحوم أولاً في السنة الخامسة عشرة لحكم طيباريوس قيصر، ثم في سائر الجليل واليهودية والسامرة.
وقال مركيون بخلاص البعض لا الكل وأوجب الزهد الشديد في المأكل والمشرب ونهى عن الزواج وسمح بمعمودية المتزوجين بعد موافقتهم على الافتراق.
ولم يلجأ مركيون إلى النبوءات ليؤيد صحة مذهبة ولم يحاول أن يربط عقيدته بنصوص التوراة ولم يعتمد سوى عشر رسائل لبولس الرسول وإنجيل لوقا بعد أن اقتطع منه ما لا يوافق عقيدته. وقال بأن الرسل الأطهار لم يفموا الإنجيل فهماً تاماً لأنهم اعتبروا المسيح رسول الإله الخالق فاصطفى يسوع بولس ليصحح التعاليم. وقال عما جاء في رسائل بولس من إشارات إلى الإله الخالق أنها دست دساً. ومن هنا قول ترتيليانوس أن مركيون قرض الأناجيل فاستحق اللقب “جرذ البونط”. وأضاف أتباعه فيما بعد إلى إأنجيل لوقا ورسائل بولس رسالة مركيون في التناقض بين التوراة والإنجيل Antitheses فكان لهم كتاب مقدس خاص شاع استعماله في جميع كنائسهم.
واحتدم الجدل بين مركيون والقديس بوليكاريوس فاعتبره هذا “أول خلق الشيطان”. وذهب مركيون إلى رومة حوالي سنة 140 وكتم غنوسيته ونفح كنيسة رومة بهبة جليلة وعكف على “قرض” إنجيل لوقا ورسائل بولس وعلى تصنيف كتابه في التوراة والإنجيل. ولما تم له ذلك كشف عن وجهه الحقيقي ودعا إلى آرائه فالتف حوله عدد من المسيحيين فطردته الكنيسة واطرحت هبته. واغتنم القديس بوليكاريوس فرصة وجوده في ورمة سنة 154 فأنقذ من الضلال عدداً من الذين اتبعوا مركيون.
ويقال أن مركيون ندم وارتضى بما اشترطته الكنيسة عليه ولكنه توفي قبل أن يفعل. ومن المرجح أن يكون قد مات قبل سنة 160 كما يرى العلامة الألماني هرنك.
إن تحدي مركيون أجبر الكنيسة، وفقاً لرأي بعض البحاثة، على وضع لائحة بالكتب المقدسة المقبولة لديها والتي يمكن اعتبارها مرجعاً لحياتها وتعاليمها. و السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: هل كان وضع قانون العهد الجديد لولا الضغط الخارجي؟ سؤال مثيل يمكن أيضاً طرحه حول عقيدة الثالوث التي جاءت كرد على الأريوسيين. من المؤكد أنه لم يكن هناك دور للتأثير الخارجي في تحديد قانونية سفر من الأسفار. والتزمت الكنيسة بكتبها التي كانت قد قبلتها دائماً. وبعملها هذا حددت الكنيسة الأساس الذي بموجبه تحدد قانونية أسفار الكتاب المقدس. وكما أجابت الكنيسة عن السؤال حول هوية يسوع، كذلك عبرت عن إيمانها في عقيدة الثالوث. وأنها لم تبتدع إيماناً جديداً بل أعطت صيغة وتعبيراً ذاتياً عما كانت تعتقد به نتيجة الإعلان الإلهي.
إن السلطة الرسولية المنوطة بالأناجيل سبقت قانونيته، إذ أن الكنيسة لم تعط الأناجيل سلطة بل اعترفت فقط بسلطتها الذاتية. عوامل عدة ساهمت في تكوين العهد الجديد، ولكن العامل الأكثر أهمية هو إلهام الروح القدس. والروح الذي ألهم الإنجيليين في كتابة أناجيلهم هو نفسه الذي ألهم الكنيسة في قبول هذه الأسفار. لم يستطع مركيون، وهو يعارض تقليد الكنيسة، أن يميز بين الأسفار الملهمة والأسفار غير الملهمة. والملهم (theopneustos) هو “الموصى به من الله” (2تيمو3: 16) الذي لا يرتكز على إدراك بشري بل على عمل الله. فسلطة الأناجيل وأي جزء من العهد الجديد، ليست في الكتب نفسه، ولا ترتكز على سلطة الكنيسة التي فيها وجدت، بل تأتي من المسيح الذي تشهد له الأناجيل الملهمة من الروح وتعلنه في حياة الكنيسة.
لم تقبل الكنيسة قانون مركيون ليس فقط لأنه ناقص بل لأن جامعه هو غنوسي سعى إلى تحوير النص لكي يعكس الصورة التي يرغبها هو عن يسوع. واعتمدت الكنيسة في حربها ضد مركيون الأناجيل الأربعة كي تظل صورة يسوع غير مشوهة.