اشتهر آباء الكنيسة بالحرص على إتمام مسئوليتهم الرعوية بتوصيل رسالة الخلاص إلى أفراد رعيتهم بكل الوسائل الممكنة. وضمن هذه الوسائل الفعالة ما عثر عليه لكثير منهم من رسائل رعوية بالغة الأهمية.
وبالإضافة إلى التراث اللاهوتي الثمين الذي خلفه القديس أثناسيوس(2) بطريرك الإسكندرية ال 20 فقد عثر له على مجموعتين من الرسائل الرعوية كان لاكتشافهما أثر عميق في الأوساط العلمية والدينية في العالم.
والمجموعة الأولى من رسائله هي رسائل أعياد القيامة Paschal Letters والمجموعة الثانية عبارة عن عشرين رسالة شخصية Personal Letters بعضها مرسل إلى جماعات من الرهبان، والبعض إلى كنائس وإيبارشيات معينة، ومعظمها مرسل إلى أساقفة وكهنة حول أسئلة ومشاكل رعوية. وضمن كتاباته المختلفة توجد إشارات إلى رسائل أخرى. ولكن للأسف لم يعثر على تلك الرسائل بعد.
رسائل القيامة Festal Letters
يعتبر عيد القيامة من أقدم وأهم أعياد الكنيسة، فقد بدأ الاحتفال به من القرن الأول. لذلك اعتاد بطاركة الإسكندرية انتهاز هذه المناسبة الغنية بدروسها وذكرياتها الروحية لكتابة الرسائل الرعوية إلى شعبهم.
واتخذت هذه الرسائل في الأول، شكل مواعظ روحية عن أهمية العيد وعمل الفداء العظيم، مستحثة المسيحيين على إتباع تعاليم المخلص ومنهضة بالتذكرة نفوسهم ليثبتوا في الحق.
ولكي تعم فائدتها كتبت فيما بعد في شكل رسائل(3) تبعث مع رسل مخصوصين إلى سائر أساقفة الأقاليم.
ولما ثار الخلاف بين كنائس الشرق والغرب عن موعد عيد القيامة(4) أصدر مجمع نيقية المسكوني الأول سنة 325 قرارًا إجماعيًا بضرورة اتفاق كل الكنائس على الاحتفال بعيد القيامة في يوم واحد.(5)
ولما كان تحديد هذا الميعاد سنويًا يحتاج إلى دراية فلكية واسعة وعمليات حسابية دقيقة فقد أسند المجمع هذا العمل إلى أساقفة الإسكندرية نظرًا لشهرتهم الفلكية والعملية، ليقوموا بتحديد موعد العيد وتبليغه إلى الكنائس الأخرى في أنحاء المسكونة.(6)
ومن ذلك الحين أصبح لرسائل القيامة التي حررها أساقفة الإسكندرية أهمية تاريخية ممتازة.
العثور على رسائل أثناسيوس
لم يعثر علماء الغرب على رسائل القيامة لأثناسيوس إلا في القرن التاسع عشر. إذ لم يكن معروفًا عنها قبل ذلك إلا إشارات وردت في كتابات القديس جيروم(7) وآخرين، وقصاصات ضمن كتابات قزماس(8).
وفي سنة 1842م نقل هنري تتام(9) H. Tattam إلى إنجلترا من دير والدة الإله بالإسقيط المشهور بدير السريان كمية كبيرة من المخطوطات السريانية. ولما أودعت بالمتحف البريطاني اكتشف W. Cureton أنها تحوي مجموعة من رسائل القيامة للقديس أثناسيوس. فترجمها من السريانية إلى الإنجليزية ونشرها في لندن سنة 1848. كما ترجمها Larsaw إلى الألمانية ونشرها في برلين سنة 1852م.
عدد رسائل القيامة لأثناسيوس
كتب القديس أثناسيوس 45 رسالة لأعياد القيامة ال 45 التي جلس فيها على كرسي الإسكندرية من عيد القيامة سنة 329 إلى سنة 373. ولم يكتب رسالة لسنة 328 التي سيم فيها بطريركًا لأنه سيم يوم 8 يونيو 328 أي بعد عيد القيامة الذي كان يوم 14 أبريل 328م. ولأن سلفه الأنبا الكسندروس كان قد كتب رسالة القيامة قبل نياحته في 17 أبريل 328.
وللأسف لم يعثر منها إلا على 27 رسالة فقط. وبعضها غير كامل. وما زالت 18 رسالة مفقودة وهي رسائل السنوات التالية: 336- 337- 343- 344- 349- 351- 353- 354- 358- 359- 360- 361- 362- 363- 364- 365- 366- 369م. كما أن الأصل اليوناني (وهي اللغة الدولية التي كتب بها أثناسيوس) ما زال مفقودًا.
وقد عثر على مخطوطة سريانية أخرى بها فهرست ومختصر ال 45 رسالة التي لأثناسيوس وبمطابقة الفهرست مع ما وجد من الرسائل ثبت عددها وصحة تسلسلها وتاريخها.
أسلوبه
يتفق أسلوب هذه الرسائل مع كتابات أثناسيوس الأخرى. إذ تمتاز بنفس الغيرة الروحية، وحرارة دوافع المحبة نحو شعبه، وبساطة العبارة. كما تدل على خبرة عميقة ودراسة واسعة لأسفار الكتاب المقدس بعهديه. فكل نصائحه وإرشاداته وتعابيره من الكتاب المقدس. لدرجة أن أسلوبه إصطبغ بلغة الكتاب وروحه. ولا عجب فإنه من فضلة القلب يتكلم الفم.
وأخيراً سنحاول بمشيئة الرب ترجمة هذه الرسائل عن الإنجليزية عن مجموعة
“Nicience & Post – Nicience Fathers” مجلد 4، مع تبويبها ووضع بعض العناوين الجانبية، وحذف بعض العبارات منعًا للتكرار أو الإطالة.
(1) هذه المقدمة وحاشيتها أخذت عن ميمر القيامة سنة 1957 لدير السيدة العذراء (السريان).
(2) ولد أثناسيوس سنة 298م في الثلاثين، وتنيح 373م. اشتهر بالرسولي [يوازي هذا الاسم في الكنيسة الأرثوذكسية “المعادل للرسل”… (الشبكة)]، وحامي الإيمان، وبطل مجمع نيقية، وواضع قانون الإيمان. وهو غني عن التعريف، تحتاج ترجمة حياته إلى كتاب كامل. فهو الراعي الصالح الذي جال بلاد الكرازة المرقسية إلى أقصى الصعيد مرارًا لافتقاد شعبه. كما أسس الكنيسة الأثيوبية بسيامة فرمنتيوس Frumentios أول أسقف لاكسوم، وقد نُفي خمس مرات لتشملنا بركاته آمين.
(3) وأقدم إشارة إلى رسائل القيامة عرفت لأساقفة الإسكندرية ترجع إلى القرن الثالث الميلادي. راجع ما ذكره أوسابيوس “أبو التاريخ الكنسي” عن رسائل ديوناسيوس الإسكندري البابا (14) (Eusabius. H. E. 7-20)
(4) اتبع مسيحيو آسيا الصغرى التقويم العبري فكانوا يعيدون الفصح (صلب المسيح) في 14 نيسان الذي قد يقع في أي يوم من أيام الأسبوع. وأطلق عليهم Quartadecimanians. أما كنائس الإسكندرية وروما والغرب فكانت تصر على أن يكون الاحتفال بصليب المسيح في يوم “جمعة” وبالتالي يكون الاحتفال بالقيامة في يوم “أحد”. [للمزيد راجع تاريخ الكنيسة، الحقبة الثانية… (الشبكة)]
(5) قرر مجمع نيقية أنه لا يناسب أن نعيد القيامة مع اليهود، بل يجب أن يكون العيد في يوم الأحد ألأول بعد البدر الكامل الذي يلي الاعتدال الربيعي. على أن يكون ذلك أيضًا بعد الفصح اليهودي. وإذا وقع البدر الكامل يوم أحد فيكون عيد القيامة الأحد التالي وبهذا = القرار انتهت الخلافات حول يوم العيد. إلا أن بعض الكنائس عادت تختلف على طريقة حساب ميعاد “البدر الكامل” ويوم “الاعتدال الربيعي” وباتباع الغرب للتقويم الغريغوري في سنة 1583، نشأ فرق آخر بلغ الآن 13 يومًا عن التقويم اليولياني الذي تتبعه كنائس الشرق.
(6) ورد في قاموس Dictionary of Christian Antiquities الآثار المسيحية صفحة 1592 بعض الشك حول رسمية تفويض كنيسة الإسكندرية بهذا العمل إلا أن Robertson يصرح في كتابه Writings of Athanasius صفحة 500 بأن ما ذكره الأنبا كيرلس بابا الإسكندرية في كتاباته عن القيامة “Prologus Paschalis” يؤكد هذه الحقيقة بوضوح. ويرى روبرتسن أن مجال ذلك الشك لا يدور حول هذه الحقيقة التاريخية نفسها بل حول المرجع الخاص بها.
[ليس كما يقول المقال في الأعلى “ولما كان تحديد هذا الميعاد سنويًا يحتاج إلى دراية فلكية واسعة وعمليات حسابية دقيقة فقد أسند المجمع هذا العمل إلى أساقفة الإسكندرية نظرًا لشهرتهم الفلكية والعملية”، بل لأن الإسكندرية كمدينة يونانية أسسها الإسكندر الأكبر اشتهرت بعلم الفلك. ولا شأن للأساقفة بهذا العلم…. (الشبكة)]
(7) St. Jerome أكبر متحمس لنشر الرهبنة في روما. ويعتبر “قنطرة” الثقافة الدينية بين الشرق والغرب إذ قضى زمانه متنقلاً بين بلادهما ناقلاً ومترجمًا ومؤلفًا (331-430م).
(8) وهو مشهور “بالبحار الهندي” Cosmas Indicopleustes وهو تاجر مصري من الإسكندرية اشتهر في منتصف القرن السادس م. جاب البحار: المتوسط وألحمر والخليج الفارسي وزار الهند وسيلان. وأهم مؤلفاته “الوبوغرافيا المسيحية” مكون من 12 جزء كتبه حوالي سنة 547م.
(9) تمكن تتام من الحصول على 6 كتب في 14 يناير 1838 ثم على 43 كتابًا في 9 فبراير 1938 ثم عاد بعد أربع سنوات 1842 وحصل على كمية أخرى ولكن الرهبان استطاعوا إنقاذ بعضها.