الغاية من خلق الإنسان: وقال الله نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا فيتسلطون على سمك البحر وطيور السماء وعلى البهائم وكل الأرض (تك1: 26) (بحسب النص العبراني). وقال الله لنعمل الإنسان بحسب صورتنا ومثالنا (تك1: 26) (بحسب النص اليوناني للسبعينية). فخَلَقَ الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه. ذكراً وأنثى خلقهم (تك1: 27). إن اصطلاح “على صورتنا” أو “بحسب صورتنا” يوحي لأول وهلة وكأن هناك شبهاً بين الله الخالق والإنسان الذي أراد أن يخلقه وخصوصاً أنه يؤكد بكلمته كشبهنا في النص العبراني.. وجلي أن الحديث هنا ليس عن شبه خارجي لله لأن الله بسبب روحانيته المطلقة لا يمكن أن يصور أو يوجد له شبيه. إذن فمعنى “على صورتنا” لا بد أن يشير إلى البعد الروحي للإنسان أي إلى بنائه الروحي الذي يظهر ارتباطه بالله الذي نفخ في أنفه نسمة حياة، فصار آدم نفساً حية (تك2: 7).
وفي الواقع فإن بعض الآباء يجد صورة الله في الإنسان في الطبيعة الواعية والعقلانية (الذهنية للإنسان) (εις τήν νοεράν και λογικήν φύσιν باسيليوس، أثناثيوس إلخ…) أو في سلطته وحرية إراداته (εις το αυτεξούσιον، يوحنا الذهبي الفم) أو في خلود نفسه (تاتيانوس) أو في قدرته على التجدد (كليمنضس الاسكندري) بينما يجد بعضهم الآخر هذه الصورة الإلهية في الإنسان ككل نفساً وجسداً، لأنه يحوي في ذاته المقدرة على تحقيق الهدف من وجوده على الأرض.
لكن إذا تعمقنا أكثر في دراستنا للآباء لوجدنا أن هذه الاختلاف الظاهري بينهم ليس أكثر من تفاوت في التشديد على أهمية النقطة التي كان يشير إليها الآب المعين وليس نفي للنواحي الأخرى التي أشار إليها الآباء الآخرون. فهم متفقون جميعاً بأن “على صورته” هي في الشخص البشري ذاته ككل وإمكانياته ومواهبه الروحية الفريدة التي تؤهله أن يكون سيد الخليقة على صورة من هو السيد المطلق لكل الكائنات.
أما على مثاله أو “بحسب مثاله” التي وردت في الترجمة السبعينية فقد وجد فيها الآباء القديسون الكمال الإلهي الذي أراده الله للإنسان أن يسعى متقدماً باستمرار نحوه. وهكذا تصبح على “صورته” الإمكانية الكامنة المعطاة لكل إنسان لتحقيق الكمال بينما “على مثاله” هو التحقيق المتحرك باستمرار نحو الأكمل والذي يعتمد من جهة على موافقة الإنسان وجهاده، ومن جهة أخرى على نعمة الروح القدس المنيرة والمؤلهة.
وهنا لا بد أن نشير أن الكاتب عندما أورد قول الله نعمل الإنسان على صورتنا الخ… لم يكن يعني بهذا الإنسان الأول وحده بل الجنس البشري عامة كما أن دعوة آدم وحواء للوصول إلى الكمال والمشاركة في مجد الله لم تكن دعوة لهما وحدهما بل لكل ذريتهما من بعدهما.
إن الآباء القديسون يلحون بصورة خاصة على وحدة الجنس البشري ناظرين إلى الطبيعة البشرية كوحدة مستمرة وكاملة في كل واحد من المشاركين فيها. ومع أنها تظهر بالكثرة إلا أنها مع ذلك وحدة دون انقسام لا تزداد بالإضافة ولا تنقص بالأخذ. من أقوال القديس غريغوريوس النيصصي العديدة في هذا الصدد: “في خلق الإنسان الأول كل البشرية…تضمنت”. أساس هذه الوحدة هو مساهمة البشر في الصور الإلهية. وهكذا لا يوجد فرق بحسب الجوهر بين آدم الإنسان الأول وخلفائه لأن كل البشر بغض النظر عن الزمان والمكان يحملون في أنفسهم الصورة الإلهية.
كيف خلق الإنسان:
- وقال الله لتثبت الأرض عشباً (تك1: 11).
- وقال الله لتفض المياه زحافات (تك1: 20).
- وقال الله لتخرج الأرض ذوات أنفس كجنسها حية، بهائم ودبابات ووحوش أرض كأجناسها (تك1: 24).
- وقال الرب نعمل الإنسان على صورتنا (تك1: 26).
- وجبل الرب الإله آدم تراباً من الأرض ونفخ في أنفه نسمة حياة فصار آدم نفساً حية (تك2: 7).
- فأوقع الرب الإله سباتاً على آدم فنام، فأخذ واحدة من أضلاعه وملأ مكانها لحماً. وبنى الرب الإله الضلع التي أخذها من آدم امرأة وأحضرها إلى آدم فقال آدم هذه الآن عظم من عظامي ولحم من لحمي (تك2: 22-23).
يعلمنا سفر التكوين أنه بعد خلق الله لجميع المخلوقات الأخرى من نباتات وحيوانات، خلق أخرها الإنسان وهو أكملها جميعاً… ولم يخلقه كغيره بمجرد كلمة خالقة تفعل في الأرض أو في المياه بل عبر عنايته مباشرة شخصية خصه بها وحده. مع أنه الإنسان المجبول من مواد الخليقة ذاتها التي سبق أن خلقها سابقاً ودخلت في تركيب جميع الكائنات المنظورة الأخرى. ولذلك لا عجب أن يكون هناك تشابه بينه وبينها، وخاصة بينه وبين الحيوانات العليا التي سبقته في الوجود وذلك بسبب وحدة الأساس الذي عمله الخالق لنظام الحياة العضوية والذي هو قابل للنمو في كل أنواعها سواء في صورتها العليا أو الدنيا.
كما أن القول عن آدم: “أما لنفسه فلم يجد معيناً نظيره” (تك2: 20) فهذا تلميح إلى اكتشاف آدم لنقص ما في كيانه. ولهذا فخلق حواء من إحدى أضلاع آدم يشير بصورة جلية إلى وحدة الأصل بينهما وحاجة كل منهما إلى الآخر كي يكتملا: هذه الآن عظم من عظامي ولحم من لحمي… لذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكونان كلاهما جسداً واحداً (تك2: 22-24).
إلا أن العناية المباشرة التي خص بها الله الإنسان والتي عبّرت عنها صور كثيرة مثل: “نعمل الإنسان على صورتنا، جبل تراباً، نفخ في أنفه نسمة حياة، غرس جنة الخ…”. فهي تظهر بوضوح المعنى السامي للإنسان ملك الخليقة، ومكانته الفريدة في العالم كصلة وصل جامعة بين العالمين المادي والروحي. إنه الإنسان الذي حسناً وصفه الآباء بالعالم الصغير Μικρός Κόσμος. وللوقوف على كون الإنسان عالم صغير (راجع كتاب “الرؤية الأرثوذكسية للإنسان” للدكتور عدنان طرابلسي).
وبدون شك فإن ما يميز الإنسان بصورة جذرية عن الحيوان هو نفخة الله الخاصة والتي جعلته نفساً حية، أي نوعية طبيعته الخاصة والتي هي على صورة الله. التشديد هنا ليس على وجود ثنائية متضادة ما بين نفس وجسد أو ثلاثية جسد ونفس ورح كما كان يعتقد بعض فلاسفة الإغريق القدماء بل على العكس التأكيد على وحدة طبيعة الإنسان الجسدية الروحية والتي تجعل الإنسان فريداً ليس فقط بالنسبة للخلائق المنظورة بل وبالنسبة للخلائق غير المنظورة أيضاً أي الملائكة.
العناصر المكونة للطبيعة البشرية: استُعمِلت في الكتاب المقدس عدة كلمات لتدل على طبيعة الإنسان البشرية ومكوناتها إلا أن كلاً من هذه الاصطلاحات تأخذ معانٍ عديدة بحسب الموضع الذي وردت فيه. لهذا يجب الانتباه إلى اختلاف مفاهيم الكتاب المقدس عامة عن المفاهيم الفلسفية اليونانية من جهة وإلى المدلول الخاص لكل من هذه الاصطلاحات والذي يختلف من مكان غلى آخر من جهة أخرى.
فيما يلي سوف نستعرض بعض هذه الاصطلاحات وأهم المعاني التي تأخذ:
- نفس (نفش في العبراني) ψυχή
1-1: الحياة المشتركة بين جميع الكائنات الحية بما فيها الإنسان:
وها أنا مقيم ميثاقي معكم ومع نسلكم مع كل ذوات الأنفس الحية التي معكم الطيور والبهائم وكل وحوش الأرض (تك9: 10).
وجبل الرب الإله آدم تراباً من الأرض ونفخ في أنفه نسمة حياة فصار آدم نفساً حية (تك2: 7).
فرجعت نفس الولد إلى جوفه فعاش (1مل17: 22).
1-2: النفس كتعبير عن الشخص أو الذات أو الشخصية البشرية ككل:
وانضم في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف نفس (أع2: 41، 43).
فإن من أراد أن يخلص نفسه يهلكها ومن يهلك نفسه من أجلي يجدها (متى16: 25).
نفسي حزينة جداً حتى الموت (مر14: 34).
1-3: النفس كمبدأ أو كطبيعة عاقلة وروحية في الإنسان، باقية وحتى بعد الموت:
تحب الرب إلهك من كل قبلك ومن كل نفسك ومن كل فكرك (متى22: 37).
أليست النفس أفضل من الطعام والجسد أفضل من اللباس؟ (مز15″16″: 10).
لا تخافوا الذين يقتلون الجسد لكن النفس لا يستطيعون أن يقتلوها (متى10: 28).
1-4: النفس كصفة للسالكين بحسب شهواتهم وليس بحسب روح الله:
سيكون قوم مستهزئون سالكين بحسب شهوات فجورهم. هؤلاء هم المعتزلون بأنفسهم نفسانيون لا روح لهم (يه18-19).
ليست الحكمة نازلة من فوق بل هي أرضية نفسية شيطانية (يع3: 15).
لكن الإنسان النفساني لا يقبل ما لروح الله لأنه عنده جهالة (1كو2: 14). - جسد (بَسَر في العبراني σάρξ أوσώμα خامسة جسم)
2-1: ما يطلق على الكائن الحي بأكمله لجميع المخلوقات الحية:
فها أنا آتٍ بطوفان الماء على الأرض لأهلك كل جسد فيه روح حياة (تك6: 17).
كل جسد عشب وكل جماله تزهر الحقل (اش40: 16).
ها أنذا الرب إله كل ذي جسد (أر32: 17).
2-2: ما يطلق بصورة خاصة على الإنسان ككل:
من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكون الاثنان جسداً واحداً (تك2: 24).
2-3: الجسد كجزء محسوس من الطبيعة البشرية:
وبعد أن يفنى جلدي هذا وبدون جسدي أرى الله (أي19: 26).
أعرف إنساناً في المسيح قبل أربع عشرة سنة أفي الجسد أم خارج الجسد لست أعلم (2كو12: 2-4).
2-4: الجسد كتعبير عن الإنسان المجرد عن روح الله والخاضع لناموس الخطيئة:
لأنه لما كنا في الجسد كانت أهواء الخطايا التي بالناموس تعمل في أعضائنا لكي نثمر للموت (رو7: 5).
وإنما أقول اسلكوا بالروح فلا تكملوا شهوات الجسد، لأن الجسد يشتهي ضد الروح أو الروح ضد الجسد (غل5: 16). - روح (روح في العبراني πνεύμα)
3-1: الروح كحياة مشتركة بين جميع الكائنات الحية بما فيها الإنسان:
ودخلت إلى نوح إلى الفلك اثنين اثنين من كل جسد فيه روح حياة (تك7: 15).
من يعلم روح بني البشر هل هي تصعد غلى فوق وروح البهيمة هل هي تنزل إلى أسفل الأرض (جا3: 21).
فرجعت روحها وقامت في الحال (لو8: 5).
3-2: الروح كتعبير عن الشخص البشري أو الذات:
كل روح يعترف بيسوع المسيح أنه جاء في الجسد فهو من الله (1يو4: 2-3).
منحتني حياة ورحمة وحفظت عنايتك روحي (أي10: 12).
ومالك روحه خير ممن يأخذ مدينة (أم16: 12).
3-3: الروح كمبدأ أو كطبيعة عاقلة روحية في الإنسان باقية وحتى بعد الموت:
غير المتزوجة تهتم في ما للرب لتكون مقدسة جسداً وروحاً (1كو7: 34).
إذ أنتم وروحي مجتمعون مع قوة ربنا يسوع المسيح (1كو5: 4).
في يدك أستودع روحي (لو23: 46).
فيرجع التراب إلى الأرض كما كان وترجع الروح إلى الله الذي أعطاها (جا12: 7).
الذي فيه أيضاً ذهب فكرز للأرواح في السجن (1بط3: 8).
3-4: الروح كتعبير عن الإنسان الجديد المولود من فوق والمنقاد بروح الله:
المولود من الجسد جسد هو، والمولود من الروح روح (يو3: 6).
فإن الذين هم حسب الجسد فيما للجسد يهتمون ولكن الذين حسب الروح فيما للروح لأن اهتمام الجسد هو موت ولكن اهتمام الروح هو حياة وسلام (رو8: 5).
وأما أنتم فلستم في الجسد بل في الروح إن كل روح الله ساكناً فيكم (رو8: 9).
بناء على الآيات التي قدمت أعلاه واستناداً إلى المفهوم الآبائي لها يمكننا الوصول إلى النتائج التالية:
- إن ارتباط اصطلاح كل من جسد ونفس وروح مع حياة كل من الكائنات الحية ككل ومن بينها الإنسان يؤكد صلة الإنسان الوثيقة مع الحيوانات الأخرى نظراً لاشتراك الجميع في الطبيعة المخلوقة ووحدة مبدأ الحياة العضوية المشترك والذي يأتي من الله.
- إن إطلاق هذه الاصطلاحات ذاتها على المخلوقات الأخرى يؤكد أن سبب سمو الإنسان على بقية الخلائق ليس تميزه بحصوله وحده على نفس أو روح بل هو بالدرجة الأولى/ كما رأينا، العناية المباشرة التي خصه بها الله لكي يصبح، ككل تاج وسيد الخليقة المنظورة. بعبارة أخرى إن صورة الله ومثاله في الإنسان لا تتعلقان فقط بالنفس أو بالروح بل بالإنسان المدعو ككل للكمال والقداسة والخلود والاتحاد بالله.
من هنا فالجسد ليس مجرد ظل أو انعكاس للروح كما يدعي الذي يقولون بأن الإنسان هو روح فقط ولا هو سجن للنفس كما في الأفلاطونية أو المبادئ التي تأثرت بها بل هو عنصر أساسي في الطبيعة وذو أهمية فائقة تجعله مع النفس شريكي في الصالحات والسيئات: “لأنه لا أننا جميعاً نظهر أمام كرسي المسيح لينال كل واحد ما كان بالجسد بحسب ما صنع خيراً كان أم شراً” (2كو5: 10). ولهذا يمكن أن يكون الجسد إناء للنجاسة أو هيكلاً لله: “أما تعلمون أنكم هيكل لله ورح الله يسكن فيكم. إن كان أحد يفسد هيكل الله فسيفسده الله لأن هيكل الله مقدس الذي أنتم هو” (1كو3: 16-17). “أم لستم تعلمون أن جسدكم هو هيكل للروح القدس الذي لكم من الله، وأنكم لستم لأنفسكم، لأنكم قد اشتريتم بثمن فمجدوا الله في أجسادكم” (1كو6: 19-20).
الآباء عموماً يشددون كثيراً على أهمية الجسد كمثال على هذا التشديد تعطي قول القديس غريغوريوس النيصصي: “لا يكون الإنسان إنساناً حقيقياً إلا في الجسد الذي هو أساسي فيه وصالح بحسب طبيعته وليس هو شيء زائد ولا حتى سيء أو خطر بالنسبة للنفس وغير مستحق أن يقوم كما يعلم الغنوسيون، ولهذا فالجسد سوف يقوم ويشارك في الحياة الأبدية مع النفس…”.
وكما لاحظنا فاستعمال كلمة جسد أو جسداني للتعبير في بعض المواضع عن الإنسان الخاضع للخطيئة لا تشير إلى فساد طبيعة الجسد بحد ذاتها، ولا إلى صراع بين الجسد والروح بسبب اختلاف سمو طبيعتهما. بل الصراع في بين الإنسان المولود بحسب الجسد أي بحسب طبيعة الإنسان القديم الذي فسد ككل بالأهواء والخطايا لابتعاده عن الله، والإنسان الجديد المولود من فوق أي المولود بروح الله الساكن فيه بحسب طبيعة آدم الجديد أي يسوع المسيح. - إن التطابق بين المعاني الأساسية التي يدل عليها كل من اصطلاحي “نفس” و “روح” في العبارات التي وردت في الكتاب المقدس يشير بوضوح إلى أن الاصطلاحين هما غالباً اسمان لمسمى واحد.
أول دليل على ذلك هو أن رواية خلق الإنسان في الإصحاح الثاني من التكوين لا تشير سوى إلى وجود عنصرين فقط النفس والجسد (تك2: 7) كما أن الآباء عامة يتبعون هذه النظرة. ولتأكيد ذلك سوف نأخذ مثالين الأول من القديس يوحنا الدمشقي في تفسيره لهذه الرواية:
“الله خلق الإنسان من طبيعة منظورة وغير منظورة… من الأرض جبل الجسد، وبنفخته الخاصة أعطاه نفساً عاقلة ومفكرة”.
ولا شك بأن الأسبقة في خلق الجسد يجب أن لا تؤخذ هنا بمعناها الحرفي بل كتعبير عن الواقع بأن الجسد هو حامل ومسكن النفس، أساس وفرضية كل البناء الروحي للإنسان وحياته.
أما المثال الثاني فهو للقديس يوحنا الذهبي الفم الذي يقول:
“الإنسان هو حيوان مزدوج لأنه مؤلف من جوهرين: المحسوس والذي لا يدرك بالحس أي نفس وجسد وعنده اتصال بالسماء والأرض لأنه بالجوهر ما فوق المحسوس يشترك مع القوات العلوية، وبالجوهر المحسوس يتصل بما هو فوق الأرض، وهكذا فهو كائن واصل بين كل من طرفي الخليقة”.
رأي الكنيسة في النظرية الثلاثية: على الرغم مما أوردناه أعلاه، فإن تعليم الكنيسة حول العناصر المؤلفة للطبيعة البشرية عبر عنه في بعض الأوقات بما دعي بالنظرية الثلاثية والتي ترجع إلى الفيلسوف أفلاطون ومن ثم أخذها عنه الغنوسيون…
بحسب هؤلاء يتألف الإنسان من:
1- جسد.
2- النفس الحية أو المعطية الحياة.
3- النفس الروحية أو العاقلة وهو ما يعبر عنه بطريقة مختصرة: جسد، نفس، روح.
إن تعاليم أفلاطون والغنوسيين هذه تسربت إلى بعض الكتّاب الكنسيين الميالين للفلسفة في القرون الأول مثل تاتيانوس الذي تبنى النظرية الثلاثية بالكلية، وجوستينوس وكليمنضوس الاسكندري وديديموس الأعمى الذين بالرغم من ميلهم إلى النظرية الثنائية عبروا أحياناً بالنظرية الثلاثية. كما ينبغي أن نضيف بأن النظرية الثلاثية استخدمت من بعض الهراطقة مثل أبوليناريوس الذي اتخذ النظرية الثلاثية لأفلاطون جذوراً لهرطقته إذ ادعى بأن الكلمة الإلهي المتجسد اتخذ فقط جسداً إنسانياً ونفساً حية أما النفس الروحية أو العاقلة فقد حلّ محلها الكلمة الإلهي. ولذا هاجمه الآباء وحكمت عليه المجامع اعتبار من المجمع المسكوني الثاني لأنه جعل الطبيعة البشرية التي اتخذها الإله المتجسد ناقصة. وهذا يتناقض مع الخلاص الذي تممه المخلص بالنسبة لكامل الطبيعة البشرية.
وقد حاول أتباع النظرية الثلاثية أن يثبتوا نظريتهم بنصوص من الكتاب المقدس فاعتمدوا بصورة خاصة على النصيين التاليين من رسائل بولس:
1- “وإله السلام نفسه يقدسكم بالتمام ولتحفظ روحكم ونفسكم وجسدكم كاملة بلا لوم عند مجيء ربنا يسوع المسيح” (1تس5: 23).
2- “لأن كلمة الله حية وفعّالة وأمضى من كل سيف ذي حدّين وخارقة إلى مفرق النفس والروح والمفاصل والمخاخ ومميزة أفكار القلب ونياته” (عبر4: 12).
إلا أن هذه النصوص ولو أنها تبدو لأول وهلة وكأنها توافق النظرية الثلاثية، إلا أنها لا علاقة لها في الجوهر معها، لأن روح ونفس هنا لا تشيران إلى مبدأين أو طبيعتين مختلفتين في الإنسان بل إلى وظيفتين في طبيعة واحدة والتي هي الطبيعة بحسب قواها ومواهبها العليا. وأكبر دليل على ذلك هو في النص الثاني والذي يذكر به المفاصل والمخاخ والقلب… فهذه كلها أعضاء في الجسد وليس كل منها عنصراً أساسياً مكوناً للطبيعة البشرية. هكذا أيضاً فالنفس والروح ليستا سوى وجهين أو وظيفتين للعنصر واحد. وغالباً ما تشير الروح إلى النفس السامية، النفس المتحدة بروح الله والمتمتعة بكل المزايا الناتجة عن حياة الروح مثل استنارة الذهن، الحكمة والفضائل.
من هنا فتعبير “نفسانيون لا روح لهم” الواردة في رسالة يهوذا يشير خاصة غلى نفوس الذين لا تأثير للروح القدس عليهم بل يخضعون لقوى طبيعتهم الفاسدة بسبب الخطيئة، وليس عندهم ولادة جديدة.
هذا التعبير ذاته “نفساني” يرد عند القديس بولس (1كو2: 14) كوصف للإنسان العائش بحسب الجسد وغير المستنير بالذهن بواسطة الروح، لأنه لا يقبل ما لروح الله لأنه عنده جهالة. وأكبر تأكيد على هذه الفكرة الأخيرة هو قول بولس الرسول: “صار الإنسان الأول نفساً حية وصار الإنسان الثاني روحاً محيية” (1كو15: 45).
في مكان آخر من نفس الرسالة يرد هذا التعبير: “يزرع جسماً نفسانياً ويقام جسماً روحانياً” (1كو15: 44) وذلك للتمييز بين جسمنا الحالي الخاضع للفساد والموت والألم والهوان وبين الجسم الآخر الذي سيكون ممجداً وروحانياً بعد الموت أي غير قابل للفساد والألم بقوة قيامة آدم الثاني الروح المحيي، الرب من السماء.
اعتقاد بعض الهراطقة بفناء النفس بعد الموت والرد عليه: إن استعمال الكتاب المقدس لتعابير نفس وروح كحياة مشتركة بين جميع الكائنات الحية بما فيها الإنسان أو كتعبير عن الشخص البشري ككل أو عن الذات، بالإضافة إلى مفاهيم أخرى أحادية الجانب لكلمتي Άδης (جحيم، هاوية) و γέενναν (جهنم) جعلت بعض الهراطقة في القديم والحديث يتخذون من هذا الاستعمال ذريعة كي ينكروا وجود النفس وإمكانية بقائها بعد الموت.
من هؤلاء المبتدعين في عصرنا الحديث السبتيون وشهود يهوه الذين يدعون بأن نفس الإنسان غير روحية وتفنى بالموت فناء نفس البهائم. وبالطبع فهم يستفيدون أيضاً من هذا الادعاء لكي يدعموا به زعمهم بعدم جدوى صلوات الكنيسة من أجل الموتى.
تأكيداً لما ورد أعلاه بصدد بقاء النفس بعد الموت من آيات نضيف باختصار ما يلي:
- في العهد القديم:
1- هناك شعور عام بوجود حياة ما بعد الموت: “وسار اخنوخ مع الله ولم يوجد لأن الله أخذه” (تك5: 24). لجؤ شاول إلى امرأة صاحبة جان لكي تصعد له روح صموئيل (1صم28: 11-19). “وفيما هما يسيران ويتكلمان إذا مركبة من نار وخيل من نار ففصلت بينهما فصعد ايليا في العاصفة إلى السماء” (2مل2: 11). “تخرج روحه فيعود إلى ترابه” (مز146: 4). “فيرجع التراب إلى الأرض كما كان وترجع الروح إلى الله الذي أعطاها” (جا12: 7). “وبعد أن يفنى جلدي هذا وبدون جسدي أرى الله” (أي19″ 25، 26).
2- هناك وعي عام عند العبرانيين بأن موت البطاركة الأقدمين هو انضمام إلى قومهم لا فقط بالجسد: “أنا أنظم إلى قومي. ادفنوني عند آبائي في المغارة التي في حقل عفرون الحثي” (تك49: 29). “واستحلف يوسف بني إسرائيل قائلاً: الله سيفتقدكم فتصعدون عظامي من هنا” (تك50: 28). بل وأيضاً بالروح: “وأسلم إبراهيم روحه ومات بشيبة صالحة… وانضم إلى قومه” (تك25: 8). “فأسلم اسحق روحه ومات وانضم إلى قومه…” (تك35: 29). “ولما فرغ يعقوب من توصية بنيه ضم رجليه إلى السرير وأسلم الروح وانضم إلى قومه” (تك49: 33). “وَمُتْ في الجبل الذي تصعد إليه وانضم إلى قومك كما مات هرون في جبل هور وضم إلى قومه” (تثنيه 32: 5).
هذا الشعور والوعي العام سوف يُعبر عنهما بشكل واضح في الأسفار المتأخرة ولا سيما سفر الحكمة. (أنظر حك2، 3: 1-9، 4: 7، 10 إلخ…).
- في العهد الجديد:
يتأكد الإيمان بحياة النفس بعد الجسد من الدلائل التالية:
1- ظهور موسى وإيليا في تجلي يسوع: “وإذا رجلان يتكلمان معه وهما موسى وإيليا، اللذان ظهرا بمجد وتكلما عن خروجه الذي كان عتيداً أن يكمله في أورشليم” (لو9: 30، متى17: 3 إلخ…).
2- إن تعقيب يسوع على تسمية الله لنفسه بإله إبراهيم وإله اسحق وإله يعقوب بأنه ليس هو إله أموات بل إله أحياء، لأن الجميع عنده أحياء (لو20: 37) تؤكد ليس فقط على القيامة من الأموات بل وعلى وجود إبراهيم واسحق ويعقوب بطريقة ما أحياء. وأكبر دليل على ذلك هو مثل العازار والغني والذي رأى فيه الغني، بعد موته ودفنه، إبراهيم والعازار في حضنه. من الحوار الذي جرى بينهما نتأكد أنه ليس فقط إبراهيم بل كل الأموات هم في الجحيم (αεικινησία) في حالة وعي تام، الأشرار يتعذبون إنما الأبرار يتعزون (لو16: 19-31).
إلى هذا الجحيم ذهب المسيح بعد موته على الصليب فكرز للأرواح التي في السجن (1بط3: 9). بحسب تعبير القديس بطرس أو نزل إلى أقسام الأرض السفلى بحسب تعبير القديس بولس (اف4: 10). ويضيف القديس بطرس في نفس الرسالة: “فإنه لأجل هذا بشّر الموتى أيضاً لكي يدانوا حسب الناس بالجسد، ولكن ليحيوا حسب الله في الروح” (1بط4: 6).
3- بنزول المسيح إلى الجحيم إذن عاشت نفوس التائبين أو الأبرار من جديد حسب الله بالروح بنعمة المسيح الفدائية، ولذا لم يعد بالنسبة إليهم جحيماً أو سجناً بل فردوساً: “الحق أقول لك إنك اليوم تكون معي في الفردوس” (لو23: 43).
إلى هذا الفردوس اختطف بولس: “وأعرف هذا الإنسان أفي الجسد أن خارج الجسد لست أعلم”. إنه اختطف إلى الفردوس وسمع كلمات لا ينطق بها (2كو12: 4). من هنا نفهم لماذا عند بولس الموت هو ربح: “لي اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح ذاك أفضل جداً، ولكن أن أبقى في الجسد ألزم من أجلكم” (فيل1: 21-24). وهو يوضح ذلك في نفس الرسالة التي تحدث فيها عن اختطافه إلى الفردوس: “فإذاً نحن واثقون كل حين وعالمون أننا ونحن مستوطنون في الجسد فنحن متغربون عن الرب لأننا بالإيمان نسلك لا بالعيان فنثق ونسر بالأولى أن نتغرب عن الجسد ونستوطن عند الرب” (2كو5: 6…).
4- إن اختطاف بولس الذي يتضمن إعلاناً صريحاً عن حياة النفس خارج الجسد وبعد افتراقها عنه يؤيده اختطاف يوحنا الحبيب في رؤياه: “فمضي بي بالروح إلى البرية” (رؤ17: 3). “وذهب بي بالروح إلى جبل عظيم عال” (رؤ21: 10). “كنت في الروح في يوم الرب” (رؤ1: 10). لا بل يوحنا الحبيب يؤكذ أنه رأى نفوس الذين قتلوا من أجل كلمة الله… وأنه سمع صراخهم بصوت عظيم قائلين “حتى متى أيها السيد القدوس والحق لا تقضي وتنتقم لدمائنا” (رؤ6: 9…)
- إن اليقين المشترك لرجال الله في العهدين القديم والجديد عن استمرار الحياة وبعد افتراق النفس عن الجسد يظهر باستمرار في التقليد الذي استلمته الأجيال عن الرسل. من الدلائل الصريحة عن ذلك كتابات للمسيحيين الأول مثل يوستينوس اثيناغوراس، ايريناوس، كيرلس الأورشليمي والتي تظهر إيماناً ببقاء النفوس في حالة وعي بعد الموت، وبأن نفوس المؤمنين تنتظر في مكان أفضل وبأن النفس كونها خالدة تتحرك بصورة عاقلة، إذ ليست هي المائتة بل الجسد لأنه يفترق عنها. لا بل إن بعض الآباء كتبوا مؤلفات خاصة في هذا الموضوع كغريغوريوس النيصصي في مؤلفه: “حوار حول النفس والقيامة” وأوغسطينوس: “في النفس غير المائتة”. وآخرون كتبوا ضد القائلين بموت النفس أو بسجنها وما أشبه. وفيما بعد كتب غيرهم ضد الذين قالوا بحياة لها هامدة أو نائمة…
ولعل الفرق الوحيد في آراء الآباء والكتاب الكنسيين حول خلود النفس هو في التمييز إن كانت النفس بطبيعتها وجوهرها كمادة روحانية بسيطة غير مائتة وإن كانت مائتة ولكنها تصير خالدة لأن الله يريدها أن تحيا. من أصحاب الرأي الثاني جوستينوس، تاتيانوس، ايريناوس وإلى حد ما القديس الدمشقي… ومع ذلك فلا يبدو هذا الفرق جدياً إذ النفس وبحسب كلا الرأيين تبقى خالدة، ولأنه إذا قلنا بأن النفس خلقت بالطبيعة خالدة أفلا نعنى بذلك أنه بحسب نعمة وإرادة الله خلقت هكذا؟ وبأن الله إذا رفع عنايته عنها ترجع إلى عدم الوجود من جديد؟
النظريات اللاهوتية المتعلقة بتكاثر النفوس: بالنظر لغياب تعليم واضح في الإعلان الإلهي حول تكاثر نفوس الأجساد التي توالدت من آدم، فقد ظهرت نظريات لاهوتية عديدة بهذا الشأن أهمها:
- نظرية الوجود السابق للنفوس: والتي نادى بها أفلاطون، وقبلها فيلون الإسكندري وأوريجنوس وأتباعه وبعض الهرطقات كالمانيين.
بحسب هذه النظرية فقد خلقت النفوس قبل كل الدهور، ولكن بسبب سقطتها الأدبية فقد عوقبت بأن تسجن في الأجساد وتعيش بها لكي تتطهر من خطاياها. أدان هذه النظرية عدد من الآباء والمجمع المسكوني الخامس لأنهى تتعارض مع الكتاب المقدس (تك2: 7، تك3، رو5: 12 إلخ…) - نظرية خلق النفوس: مؤداها خلق الله للنفس البشرية أثناء الحبل بالطفل. تبناها البابا بيوس الثاني عشر في منشوره “Humani generis” لأنها تتفق مع عقيدة الحبل بلا دنس.
السلبيات الرئيسية لهذه النظرية أنه إذا كانت كل نفس تخلق من الله مباشرة فهذا يعني أن الله لم ينتهي من أعماله الخالقة ولم يسترح منها (تك2: 2). بالإضافة إلى أنه، وبحسب اللاهوت الغربي، يصعب تفسير كيف أن النفس التي تخلق مباشرة من الله يمكن أن تحمل دنس أو آثار الخطيئة الجدية كما يعبر عن ذلك المغبوط أوغسطين. - نظرية زرع النفوس “traducianismus”: قال بها ترتليانوس. بموجبها تأتي نفوس الأولاد من نفوس الآباء كما تأتي البذرة أو الشتلة من النبتة الأصلية.
هذه النظرية تبدو وكأنها تتلأم ليس فقط مع فكرة انتقال نتائج الخطيئة الجدية إلى الأبناء، بل ومع انتقال كثير من الخواص النفسية من الآباء إلى الأبناء.
إلا أن الانتقاد الأساسي للبعض لها هو أنها تتناقض مع بساطة طبيعة النفس التي لا يمكن أن يطبق عليها قانون التوالد كما يطبق على الجسد. - نظرية تكاثر النفوس “generatianismus”: هي الشكل المعدل للنظرية السابقة والأقرب للقبول، لأنها تفترض بأن نفوس الآباء، بناء على الأمر الخلاق لله: “اثمروا واكثروا واملأوا الأرض” (تك1: 28)، قد منحت قوة ما روحية لخلق النفوس بطريقة أن يتطابق خلق الجسد مع خلق النفس. إلى هذه النظرية يميل الآباء اثناثيوس وكليمنضس الاسكندري واغسطينوس…إلخ. وعلى الأخص القديس غريغوريوس النيصصي الذي توسع كثيراً في شرحها.
أصل الجنس البشري: لقد لاحظنا سابقاً الأهمية التي تعلقها الكنيسة بلسان آبائها على وحدة الجنس البشري، ولا شك بأن هذه الوحدة ترتبط بصورة وثيقة مع وجود رجل وامرأة فقط انحدر منهما الجنس البشري كله بناء على البركة التي أعطاهما إياها للتكاثر.
إن الاعتقاد بوحدانية أصل الجنس البشري يؤكده الكتاب المقدس بكل وضوح (تك2: 5، تك3: 20، تك2: 20 إلخ…) وترتكز عليها عقائد مهمة مثل وحدانية أصل الخطيئة بآدم الألو ووحدانية الخلاص بالمسيح، “لأنه كما في آدم يموت الجميع هكذا في المسيح يحيا الجميع” (1كو15: 22). لذا فالنظريات اللاهوتية التي تقبل بوجود أناس آخرين غير الجدين الأولين انحدر منهم الجنس البشري تتعارض مع وحدة هذا الجنس ومع المفهوم الكتابي للخلاص. وهي تستند على فهم مغلوط لبعض الآيات الكتابية أو على بعض الملاحظات الخاطئة والبعيدة عن الموضوعية العلمية مثل تنوع الأجناس البشرية، واختلاف ألوانها وأشكال جماجمها وكفاءاتها وعقلياتها إلخ….
الدراسة العلمية الصحيحة ترجع أسباب الاختلافات الظاهرية بين الأجناس البشرية إلى اختلاف أوضاع الحياة تحت ظروف بيئية متنوعة وخصوصاً في القديم حيث كانت وسائل الاتصال بين القارات البعيدة شبه معدومة.أما الوحدة الجوهرية للجنس البشري فتثبتها إمكانية الزواج والإنجاب الدائمة بين أفراد من مختلف الأجناس البشرية، وتماثل العقلية البشرية في تركيبها الأساسي. كما أن الأبحاث في مجال اللغات تنقص أكثر فأكثر عدد اللغات الأصلية التي نشأت منها اللغات الأخرى لدرجة أنه صارت مرجحة إمكانية وجود لغة أصلية واحدة. في حين أن التقاليد والاعتقادات الدينية المختلفة للشعوب تقترب أكثر فأكثر من الإيمان بإله واحد كلما كانت أقدم. كل هذه الأمور بالإضافة إلى رجحان احتمال انتشار البشر إلى كل الأرض من قارة آسيا تدعم الحقيقة المعلنة في الكتاب بشأن الجنس البشري.
نظرة الكنائس الثلاث إلى حالة الإنسان الأصلية:
تعتبر حالة الإنسان الأصلية التي خُلق فيها، المفتاح الرئيسي لفهم الهدف المعين للإنسان من وجوده، وكذلك السبب الذي أدى إلى سقوطه، وكلاهما يرتبطان ارتباطاً وثيقاً مع الخلاص الذي تممه الفادي يسوع من أجله.
لذلك يعتقد الكاثوليك والبروتستانت أن حالة الإنسان الأصلية قبل السقوط كانت كاملة كمالاً غير متطور، وإن تناقضاً فيما بينها في كيفية هذا الاعتقاد، يبتعدان كلاهما عن المفهوم الآبائي ويقصران في إدراك سمو الدعوة التي شرّف الله الإنسان بها، وبالتالي يشوهان مفهوم سقوطه وخلاصه وتألهه.
- النظرة الكاثوليكية:
خلق الله الإنسان بحالة كمال تام، ولكن هذا لم يكن وضعه الطبيعي بل ما فوق الطبيعي، إذ تمتع بمواهب تفوق الطبيعة كالقداسة والبرارة التي كان مزيناً بها من خلال مواهب السلامة الأربع التالية، والتي تفوق الطبيعة أيضاً.
- موهبة السلامة من الشهوة والتي تقوم بسيطرة الإرادة الحرة على ميل الجسم البشري الحسي والروحي.
- موهبة السلامة من الموت الجسمي.
- موهبة السلامة من الألم.
- موهبة العلم الفائق الطبيعة.
هكذا كان يستطيع الإنسان قبل سقوطه أن يوفق بين المحسوس وغير المحسوس وأن يخضع قواه السفلى للعليا وبواسطة الأخيرة لله، وأن يتغلب على الموت، ليس بواسطة إمكانياته الطبيعية بل فقط بواسطة النعمة الفائقة الطبيعة التي اختفاؤها بالخطيئة جلب عدم خضوع الجزء الأسف للأعلى وبالتالي للموت.
بتعبير آخر إن شركة الإنسان مع الله في الفردوس قد منحته البرارة والقداسة الأصلية التي نتج عنها السيادة على الطبيعة والحرية تجاه الهوى وعدم الموت ومعرفة الله وقوة الإرادة.
وهذه كلها عطايا تفوق الطبيعة وضعت كتاج أو كحلية على طبيعة الإنسان. ولذا استطاع وبواسطتها فقط أن يكون قديساً وأن يرتفع فوق طبيعته البشرية.
يعتمد اللاهوتيون الكاثوليك في تبريرهم لهذا الموقف على القول بأنه لو اعتبرنا أن البرارة الأصلية كانت تخص طبيعة الإنسان نفسها، ولم تكن عطية تفوق الطبيعة لوصلنا بالضرورة إلى قبول الحلولية أي ألوهية الإنسان بالطبيعة. واضح أن هذا التبرير ينطلق من اعتبار أن هناك كما واحد في الوجود هو كمال الطبيعة الإلهية، ولذلك لا يمكن للطبيعة المخلوقة أن يكون عندها هذا الكمال وإلا أصبحت طبيعة إلهية. إذن لكي يتجنب القول بالحلولية صار هذا التقسيم الغريب عن تعليم الكتاب المقدس والآباء، ما بين جزء طبيعي أعطي بالخلق، وآخر يفوق الطبيعة أضيف بواسطة النعمة الإلهية لكي يكمل نقص الطبيعة البشرية.
والواقع أن الآباء ميّزوا دائماً، وبشكل جذري، بين الطبيعة الإلهية غير المحدودة وغير المدركة وبين الطبيعة البشرية المخلوقة والمحدودة، وبالتالي بين كمال الأول المطلق وكمال الثانية النسبي. بناء على هذا الأساس فالطبيعة البشرية خلقت كاملة كطبيعة مخلوقة ولكنها مدعوة لأن تصبح كاملة على مثال الطبيعة الإلهية. من هنا فالكمال المدعوة إليه بمساعدة الطبيعة الإلهية هو لا نهائي وطريقها إليه هو بدون توقف وبلا حدود.
أخطر ما في النظرة الكاثوليكية إذن، أنها تفقد الإنسان هذه الدعوة الإلهية له للكمال اللانهائي، وتسحب منه دوره الشخصي في تحقيقه، والمشاركة في تقرير مصيره ووجوده، وبالإضافة إلى أنها تستدعي سلسلة من النتائج المضادة المستغربة:
- إذا كانت البرارة الأصلية تضاف على الإنسان كتاج أو حلية على الرأس، عندها فهي ترتبط خارجياً وميكانيكياً مع كيانه، وبدون أن تشكل معه وحدة منسجمة وعضوية، بينما تصبح الحياة مع الله شيئاً كمالياً وعرضياً وليس خاصاً بالطبيعة البشرية.
- إذا كانت الحالة الأصلية للإنسان كاملة وإذا كان هذا الكمال يرجع بدون استثناء للنعمة الفائقة الطبيعة عندئذ لا يفهم ما هو دور القوى الروحية الطبيعية للإنسان. لأنه إذا كانت النعمة تقوم بكل شيء. فهذه القوى، تبقى بلا عمل، ولكن إذا كانت فعالة فهي تتعاون بوعي وإرادة مع النعمة. ولذا فهي تتطور وتقوى باستمرار وهذا ما يعني بأن هذه الحالة لم تكن كاملة في البداية بل تمتد نحو الكمال. وعندها فليست البرارة الأصلية بعد ضمانة للطبيعة البشرية بل توجد في الطبيعة ذاتها التي هي في حالة غير كاملة وهذا ما يتناقض مع النظرية الكاثوليكية موضوع البحث.
- إذا كان الجد الأول بسبب البرارة الأصلية باراً وقديساً، فبالكلية يصبح سقوطه مستحيلاً وغير قابل للتفسير. وذلك لأن وظيفة البرارة الأصلية بالذات هي أن تحفظ الإنسان في حالة برّ وقداسة وانسجام تام مع نفسه ومع الله. فلماذا إذاً رفضت هذه البرارة أو عجزت عن أن تقوم بواجبها؟ وإذا كانت هذه البرارة ليست سوى هبة مضافة فهي لا تخص الإنسان وعندها ففقدانها لا يمكن أن يعتبر سقوطاً لأن الإنسان فقط ما لم يخص طبيعته.
- النظرة البروتستانتية:
تقف البروتستانتية على طرف النقيض الآخر من الكاثوليكية في نظرتها إلى الحالة الأصلية للإنسان إذ تجعل كمال هذه الحالة كله ناتجاً عن طبيعة الجد الأول المخلوق على صورة الله. وهكذا، وبفضل المشابهة مع الله، فكل ما تمتع به الإنسان في الفردوس نشأ عن تركيبه الطبيعي.
إن الوجه الإيجابي للمفهوم البروتستانتي يكمن في إرجاع البرارة الأصلية إلى طبيعة الإنسان وليس إلى شيء مضاف له. أما الوجه السلبي له، فهو اعتباره أن الإنسان كل باراً وقديساً بالخلق وبالتالي فلم تكن عنده حاجة للنعمة في الحالة الفردوسية. هنا نتساءل عن معنى عناية الله الخاصة للإنسان في الفردوس، ألا تفترض هذه العناية بأن آدم وحواء كان عندهما طريقاً طويلاً ليقطعاه باتجاه الكمال والقداسة؟. المقارنة مع الملائكة ومع آدم الجديد تدعم هذه الفكرة، لأن الملائكة لم يدخلوا مرة واحدة في حالة كمالهم الأخلاقي بل بالتدريج وبعد عبورهم التجربة. في حين أن الرب يسوع كإنسان، وبالرغم من وحدة طبيعته البشرية مع الإلهية، كان في حداثته، كما يقول الإنجيلي لوقا: “يتقدم في الحكمة والسن والنعمة عند الله والناس” (لو2: 52).
فضلاً عن هذا، فالمطابقة بين الصورة والمثال في الإنسان ورفع الحالة الطبيعية للإنسان الأول إلى الكمال كحقيقة تامة، تجعل المفهوم البروتستانتي غير قادر أن يبرر إمكانية السقوط عند الإنسان الموجود في حالة كمال. وهكذا يصبح السقوط غير قابل للتفسير لا عند البروتستانت ولا عند الكاثوليك.
- النظرة الأرثوذكسية:
بناء عليه فحالة البرارة الأصلية لم تكن كمالاً طبيعياً ناتجاً عن قوى الإنسان النفسية والجسدية كما هي الحال عند البروتستانت ولا فعل مجموعة من الهبات ما فوق الطبيعة المضافة لطبيعة الإنسان، كما عند الكاثوليك، بل هي، كما عند الآباء والمفهوم الأرثوذكسي، حالة من الكمال الذي يستطيع أن يمتد نحو الأكمل والناتجة عن المشاركة ما بين قوى الروح القدس المحيية والقوى الطبيعية للإنسان، أو هي بحسب تعابير الآباء صورة تاسعة أي المتحركة باستمرار إلى الأبد أو المنتقلة من كمال إلى كمال إلى اللانهاية بحيث يرى الإنسان من لا يرى ويشترك بمواهب وحياة من هو غير مدرك وغير محدود فيتغير هكذا إلى تلك الصورة عينها من مجد إلى مجد (2كو3: 18) فتكون له الحياة الأبدية التي لا ينطق به
هذا المفهوم الآبائي لحالة الإنسان الأصلية يرتكز بصورة أساسية على فكرة القصد الإلهي من وجود الإنسان أي دعوته للكمال والتي يؤيدها بوضوح الإعلان الإلهي وخاصة في العهد الجديد الذي نفهم على ضوئه العهد القديم. وعلى الأخص من خلال صورة آدم الجديد الذي كان ينتظر أن يصير على مثاله آدم القديم.
ففي العهد الجديد هدف وجود الإنسان النهائي هو الكمال والقداسة (كولو1: 28، 4: 12، 1تس4: 3، عبر12: 14، يع1: 4، 2كو7: 1). على مثال الله الكامل (متى5: 48، افسس5: 1، كولو3: 10، 1بط1: 15، 1يو3: 2). أي أن يتشكل على صورة المسيح (رو8: 29، 1كو2: 16، 15: 49، 2كو3: 18، غل2/ 20، 4: 19، افسس4: 13) ليس فقط أخلاقياً بل وجسدياً (فيل3: 21)، وهكذا لكي يرى الإنسان الكامل الله (2كو4: 6/ 12: 14، 1يو3: 2) لأن قداسة الإنسان هي إرادة الله (1تس4: 3، 1بط1: 15-16) ورباط الكمال هو المحبة (كولوسي3: 14).
أما بخصوص الخلود فالإنسان في حالته الأصلية لم يكن خالداً، لأنه بطبيعته غير خالد كونه مخلوقاً من العدم، لكنه كان يشترك بالحياة بحسب قوة الله غير المخلوقة الخالقة والمعتنية، ولم يكن ممكناً أن يصبح هذا الاشتراك المحيي دائماً إلا إذا تحقق كمال الإنسان الأخلاقي على صورة ومثال من هو بلا نهاية ولا حدود، لأن الكامل أخلاقياً وحده يمكنه أن يحصل على الحياة الأبدية.
على ضوء ما تقدم نستطيع أن نفهم كلمة السيد: “لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد لكنهم لا يستطيعون أن يقتلوا النفس” (متى10: 28)، لأن النفوس التي أحياه الرب باتحاده معها لا تخضع للموت أي الانفصال عن قوة الروح المحيية بل بالعكس دائماً تتجدد حسبما يؤكد بولس الرسول: “بل وإن كان إنساننا الخارج يفني فالداخل يتجدد يوماً فيوماً” (2كو4: 16).
وهكذا أيضاً نستطيع أن نؤكد أن خلق الله الكامل للإنسان في حالة قابلة للتطور ولكمالات أخرى، لا يتناقض مع كمال الله ولا مع كمال الإنسان، لأن الله بالفعل خلق الإنسان في غاية الإتقان والكمال في الحالة التي خُلق فيها: “ورأى الله كل ما عمله فإذا هو حسن جداً” (تك1: 31). هذا الكمال بحسب الرؤيا الأرثوذكسية هو بالضبط الإمكانية الكاملة للإنسان أن يتطور وأن ينمو ذاتياً ساعياً نحو الكمال اللانهائي، وهكذا يكون مسؤولاً هو عن بناء وتكوين شخصيته التي لا يمكن أن تبنى إلا بمشاركة الشخصية مع القوى الإلهية في اكتسابه بطاعة وتواضع للمحبة الكاملة نحو الله والقريب وبالتالي للحياة الأبدية.