“مغبوط الرجل الذي نصْرَتُه من عندك، مصاعد في قلبه وضع في وادي البكاء، في المكان الذي وضعه”
What spiritual ascents does the prophet speak to us about, which when a person places them in his heart, his life becomes blessed?
يقدّم عصرنا الحالي، بمنجزاته وحضاراته الماديّة وبالتقدّم العلميّ الحاصل، للإنسان إمكانات رائعة، أن يرى مثلاً العالم كلّه وهو في مكانه، أن يسمع بكلّ ما يجري ويحصل، أن يراقب كلّ “موضة” وكلّ عادة دارجة وأن يتابع أيّ حدث!
The media, the screen, newspapers, transportation and communications, provide man with contact and interaction not only with his immediate external environment, but also with the entire world far from him. When these wonderful possibilities overwhelm man today, unfortunately, they bring him results that he does not desire for himself.
هناك حالةٌ يعاني منها يعض الناس اليوم وهي الخضوع لهيمنة الحضارة الحديثة، ليس كمستفيدين وإنّما كعبيد معجَبين تابعين وليس كقادة، بالنهاية كمستخدَمين وليس كمستخدِمين. أولى هذه النتائج السلبيّة وأخطرها هي أنّ كلّ ما سبق يُخرِج الإنسانَ إلى الخارج ويجعله يحيا في وضع من “الإنفلاش” الخارجيّ يفقد فيه سيطرته على داخله. يحيا “مجروراً” وراء كلّ نبأ أو موضة أو حدث…!
هذا ما تعبّر عنه كوميديّة فرنسيّة ظريفة: وفحواها باختصار، أنّ أحد الأساتذة اعتاد كلّ صباح أن يتتبّع الأخبار العالميّة على شاشة التلفزيون الصغيرة قبل الذهاب إلى مدرسته. بينما كان ذات صباح يتتبّع أنباء العالم كلّه، ذلك العالم البعيد عنه، الذي هو غير فاعل فيه ولا مؤثّر عليه، ترامت إليه في تلك اللحظات أصوات مزعجة من الخارج، ولما اتّجه إلى النافذة ليغلقها رأى مظاهرة…! ولشدّة فضوله سأل عنها، فإذا بها مظاهرة للأساتذة يطالبون بحقوقهم. نعم، يحيا إنسان اليوم خارج ذاته، يناقش في كلّ الأمور التي، في أغلبها، لا تعنيه، وإنّما تلهيه، ويسهو حتّى عن حقوقه، وبالنهاية عن حقّ ذاته به، وحتّى أيضاً عن واجباته. الكوميديّة متطرّفة، إلاّ أنّها تعطي صورة عن التشتّت الذي يحياه إنسان اليوم، وإن كانت أيضاً بالفعل لا تقصد عدم المبالاة بالعالم الخارجيّ فإنّها تشير إلى الخروج غير الواعي عن عالمنا الداخليّ.
هذا “الإنفلاش” الخارجيّ قطَعَ صلةَ الإنسان بأخيه الإنسان. فراح كلّ فرد يشعر بذاته أنّه نقطة في بحر غير متماسك، نقطة غريبة بين نقاط أخرى. خرج الإنسانُ عن ذاته ولم يلتقِ بآخر قربه فبقي غريباً بين غرباء. “الوحشة الاجتماعيّة”حالة تحمل تناقضاً رهيباً وتخلق ردّة فعل عكسيّة. اليوم أكثر من أيّ وقت سابق، يكثر الميل والبحث عن أساليب وأوقات وطرق للغوص الداخليّ. الشيء الذي استغلّته الأديان السريّة الشرقيّة، التي تعتمد على هذه الرياضات الغريبة. تتصاعد الرغبة، عند الشباب خاصّة، بتعاطي مخدّرات أو ممارسات أو أساليب شتّى يحاولون بها أن يغوصوا إلى داخلهم الذي خرجوا منه، فتغرّبوا عن ذواتهم وارتموا في وحدة الوحشة القاسيّة في مجتمعات يحيا فيها كلّ إنسان فرداً مستهلِكاً أو مستهلَكاً بدون قريب. كلّ يوم تزداد الشركات والأعمال المشتركة التي تربطنا بالمصلحة ويسود فيها الحذر والدهاء، بينما لا يوجد فيها تعاون قلبيّ صادق يعطي للعمل وللحياة وجههما الصحيح، ألا وهو المحبّة.
إلاّ أنّ الكنيسة هي فردوس صداقات وواحة محبّة في صحارى المجتمعات المفكَّكة. في الكنيسة، يعود الواحد إلى ذاته فعلاً. والعودة إلى الذات، التي نتعلّمها ونسمع بها، تختلف بالكليّة عن الغوص الداخليّ السابق. الغوص الداخليّ هو إنطوائيّة معاكسة للإنفلاش الخارجيّ، بينما العودة إلى الذات هي الفنّ النسكيّ المسيحيّ، وهي الحلّ الحقيقيّ لأتعاب ذلك الإنفلاش الخارجيّ المعاصر. إذا كان الغوص الداخليّ ردّةَ فعلٍ ورفضاً للعالم الخارجيّ وانعزالاً عنه ولقاءً فرديّاً مع الذّات في ظلمة القلب، فإنّ العودة إلى الذّات بالممارسة المسيحيّة ليست إنطوائيّةً ولا انعزالاً ولا انفراداً بالذّات البتّة، لكنّها لقاء في القلب مع “مَن” لا تسعه السموات. العودة إلى الذّات ليست رفضاً للمحيط الخارجيّ المفكك، الذي يفشل بتقديم أيّ لقاء مع أي قريب، وليست استرجاعاً أنانيّاً للذّات التي ضاعت، وإنّما هي التحام داخليّ في القلب مع مَن هو أقرب إلينا منّا إلى أنفسنا؛ مع المسيح!
Returning to oneself and to the heart is meeting Christ in the most sincere moment of friendship. It is the true opening of oneself to those closest to oneself. Therefore, whoever reaches this close relative cannot be separated from him by the noise of knowledge, and he is able to return to himself while in the world. The secret of meeting Christ is not to reject the world, but to carry Christ in the heart in order to transmit him to the world.
والعودة إلى الذّات كما يشبّهها تقليدنا الكتابيّ ليست غوصاً وإنّما “مصاعد” أو “مراقي” أو سلّم. القلب ليس ظلمة داخليّة ولكنّه سلّم منصوبة من الحياة اليوميّة الأرضيّة إلى السماء. لهذا يقول المرنِّم طوبى للرجل، ومغبوط ذلك الإنسان الذي وضع في قلبه ليس التشتّتات الخارجيّة وإنّما المصاعد الروحيّة، مصاعدَ في وادي البكاء، وادي العودة إلى الذات وإلى القلب، وادي اللقاء بدموع مع “القريب”-“الغريب” الذي مملكته ليست من هذا العالم. العودة إلى الذّات هي إطلالة على العالم المفتوح الرّحب الواسع. إنّها دخول، وكما يقول المسيح، إلى ملكوت الله الذي فينا: “ملكوت الله في داخلكم”(33)It is a touch and a taste of true happiness, into whose world we entered on the day of baptism, but unfortunately we live outside of it in a world that distracts us from ourselves and from the One who dwells within us. Returning to the self is harvesting the fruits of baptism that were planted in us. It is an encounter with the Holy Trinity in the inner sanctuary of the heart, it is an ascent on those spiritual elevators, it is bliss, the bliss of encounter to the point of tears.
But what are those ascending steps, and what are those elevators? We do not need a long discussion today, but it is enough for us to summarize those long experiences of the men who attained that beatitude. These steps are many. And we ascend them one by one. Not in leaps but gradually, little by little.
أولى تلك المصاعد هو “الصبر”. لأنّ الصبر هو الأساس الثابت الراسخ الذي عليه سيقوم ذلك الصعود الطويل. فبالصبر نتغلّب على كلّ تردّد وكلّ صعوبة تعترضنا أثناء صعودنا. التّراخي أمام كلّ محاولة يعني فشلاً، من الانطلاقة الأولى. وهذا الصبر هو “صخرة الإيمان”. فالإيمان العميق بالربّ الذي سنلاقيه ويثبِّتنا والآتي إلينا هو الصخرة التي تقوم عليها تلك السلّم السماويّة. الصبر هو سرّ نجاح مصاعدنا وهو البداية الأساسيّة للنهاية المنشودة، المحبّة. إذن الصبر هو الشرط الأساسيّ للقاء الله المحبّة، الربّ يسوع.
يأتي “الصمت” بعد الصبر. الصمت الروحيّ الصحيح. ليس الانقطاع عن الكلام وإنّما ألاّ نقول كلاماً بطّالاً، أي الانقطاع عن المضرّ من الكلام وغير اللازم. بالصمت، يقول الآباء القدّيسون، نقطع نصف خطايانا وزلاّتنا. ألاّ نتكلّم إن لم تكن هناك حاجة. وعندما نتكلّم أن يكون كلامنا من الروح القدس بنّاءً. فليقسْ كلّ منّا كلماته وليحصِ كم منها كان البنّاء أو على الأقل لازماً، وكم منها كان مضرّاً أو فضوليّاً… لهذا يقول الكتاب: “الزلّة من السطح ولا الزلّة من اللّسان”. أَلَيس من اللسان نخرج إلى التشتّت الخارجيّ؟ التقليد النسكيّ يوضح أنّ عدم إخراج الأهواء هو نصف شفائها. فأن نغضب داخليّاً هذا طبيعي، لكن إخراج اللّعنات أو الكلمات أو التعابير هو انكسار أمام الهوى وتنمية له. بينما الصمت هو حدّ له وإضعاف، وهو نصف الشفاء. والربّ قال لنا: “من كلماتك تُدان ومن كلماتك تتبرّر”(34). مَن هو المغبوط الذي سيصل إلى درجة القدّيس سلوان الآثوسيّ؟ إلى تلك الدرجة التي لا يتكلّم فيها الإنسان إلاّ “عندما ينطق الروح فيه” ويصمت الإنسان! هذا الإنسان سيقول مع بولس الرسول “لستُ أنا أحيا بل المسيح يحيا فيَّ”. لهذا يُسمّى بولس “فم يسوع المسيح”؛ لأنّه كما قال عنه فم الذهب: “عندما يتكلّم بولس ينطق المسيح بفمه”.
وثالث تلك المصاعد هي “الصلاة”؛ الصلاة الحقيقيّة؛ الصلاة من كلّ القلب. الصلاة المتواضعة. لأنّه بالصلاة يتمّ الالتحام واللّقاء في القلب مع المسيح الربّ. واللّقاء هناك مباشر. الصلاة هي أقوى سلاح لنا في حياتنا وضدّ أعدائنا. إنّها مقياس دخولنا إلى القلب. لهذا مَن يملك الصلاة ويلاقي الربّ قد عاد إلى قلبه ولو كان وسط ضجيج كلّ العالم. الصلاة تعني أنْ نحيا مع المسيح بحيث يحيا هو فينا. أنْ نحيا ولا نفكّر إلاّ بالمسيح. أنْ نصلّي من كلّ القلب، يعني أنّنا دخلنا فعلاً إلى القلب، ويعني عودة حقيقيّة إلى الذّات. الموضوع ليس غوصاً بقدر ما هو صفاء من أجل هذا اللّقاء. التشتّت الخارجيّ المعاصر يعكّر ويصعِّب هذا اللّقاء ويشوّش كلمات الصلاة.
The world with its problems is not necessarily a distraction or a disturbance. When we face it as a Christian with responsibility, we can carry it with us to the heart to Christ. The problem is not with the world, but with the attitude of confronting it. If we carry it with the responsibility of the apostle, it will become for us, as it should be, a leader to Christ and to love. However, if we face it as weak people or go out to its distant recesses prematurely, it will break us and take us out to its noise where we will not encounter Christ and will not return with Him to ourselves, because we will live in it as if we were from it. And the blind cannot lead the blind.
أمّا الدرجة الرابعة، فهي ما يسميّه الآباء فنّ “اليقظة”، وهي السهر على الذّات، أي على الأفكار، وعلى ما يدخل إلى مخدعنا الداخليّ ويخرج منه. إنّها مراقبة تمنع دخول ضوضاء العالم والتافه منه إلى المقدس الداخليّ؛ هي حارس أمين واعٍ يطرد “شهوات العالم” التي تطرد من داخلنا “محبّة الناس”. إنّها منظّم على باب القلب يسمح فقط للأفكار الصالحة ولمشاعر التوبة والتواضع بالدخول. إنّها بكلام آخر حصن ودرع لعالمنا الداخليّ ضدّ هجمات الأهواء والميول والظروف الخارجيّة المضرّة، وضدّ “النّبال الشرّيرة المحماة الثائرة علينا بغشّ”.
Inner vigilance and watchfulness are a light directed at the heart. This vigilance is practically practiced through constant self-examination and recourse to confession and repentance. Organizing life around this sacrament is a seal of the success of our ascending journey on that heavenly ladder that we placed in our heart on the day we were baptized. Practicing this practical movement of vigilance and watchfulness is a sure guarantee of the health and safety of the return to the self, a sure path to the heart and to those divine ascents and ladders, to the Lord who stands behind the door and knocks. Blessed is the man who has placed elevators in his heart in the valley of weeping, Amen.
(32) Footnote related to the title: This psalm is recited at the Ninth Hour Prayer.
(33) Luke 17:21.
(34) Matthew 12:37.