” طأطأ السماوات ونزل وغمام تحت رجليه” (مز 17، 9)
لا شكّ أنّ فكرة الله عند الإنسان تبدو “فطريّة”، وملتصقة بحياته، ولا خلاف على ذلك. لكن الاختلاف عبر العصور كان حول كيف نتعرف على الله، وكيف يظهر لنا. إن الله بطبيعته غير منظور ومن خارج هذا العالم المخلوق، فكيف يتمكّن إذن هذا العالم من معرفته؟ وكيف نكتشفه؟
إنّ هناك طريقتَين نكتشف بهما الله. الطريقة الأولى هي ما نسمّيه “الكشف الطبيعيّ”، ونعني به الاستنتاج الطبيعيّ البشريّ لوجود الله ولصفاته، وذلك لأن الإنسان دون مجهود وبمجرّد المنطق يستدلّ على الله من أعماله والطبيعة المخلوقة حول الإنسان والموضوعة في خدمته. لذلك إنكار وجود الله هو استنتاج غير منطقيّ! وضمن إطار هذا الكشف وضعت الفلسفاتُ والأديانُ تعاليمَها عن الله.
لكن هناك طريقة “الكشف فوق الطبيعيّ”، والمعني بها تدخّل الله في التاريخ. وهنا نعرف الله كما يجيء هو وليس من مخلوقاته. الكتاب المقدّس اعتمد على هذه الطريقة في الكشف، بمعنى ظهور الله أكثر ممّا هو استكشاف الإنسان. وهذا الكشف فوق الطبيعيّ تمّ في الكتاب المقدّس على مراحل، بدأت بنبوءات العهد القديم وأنبيائه. إذ كانت النبوءة تشكّل غالباً خبراً يتجاوز أو يخالف المعرفة المنطقيّة الإنسانيّة لزمنها، إذ تأتي المعرفة من الكشف الإلهيّ، أي من إظهار الله لذاته، الأمر الذي بلغ ذروته في تجسّد الكلمة، الربّ يسوع.
إنّ كنيستنا الأرثوذكسيّة تعتمد في كلامها عن الله على الطريقة الواقعية والتاريخيّة. إنّ الربّ يسوع قسَم التاريخ إلى شطرين، ما قبله وما بعده. ولقد حاولت عصور النهضة والتنوير في أوروبا في القرن الثامن عشر– عبثاً- أن تطعن بهذا الكشف فوق الطبيعيّ وأن تمسخ المسيحيّة إلى مجرّد نظام (system) ديني كغيره نازعة إيّاه من إطاره التاريخيّ كحدث. بينما لكنيستنا الأرثوذكسيّة، يبقى الإيمان مبنيّاً على الأحداث وليس على الأبحاث. فنحن عاينّا “الذي كان من البدء، الذي سمعناه، الذي رأيناه بعيوننا الذي شاهدناه ولمسته أيدينا… فإنّ الحياة أُظهرتْ وقد رأينا ونشهد ونخبركم” (1 يوحنا 1، 1-2). عندما ينحصر الدين في معرفة الله على أساس الكشف الطبيعيّ، ينحسر عندها إلى نظام ديني من خلق البشر. لكن عندما تبني المسيحيّة إيمانها على الأحداث التاريخيّة تصير علماً واقعيّاً. إن إلهنا شخص دخل التاريخ لأجلنا ويشاركنا تاريخنا.
Some Christian intellectual currents in the Protestant and Catholic worlds were influenced by the ages of Western scholasticism and enlightenment. Therefore, Protestants, especially the liberal ones, tended to return to natural discovery and to rely on the role of human reason in discovering God through his works. Thus we understand how they use the art of the icon but replace the divine person with creation. They use art but to express the natural discovery about God, not to express God directly as he came. There are many examples in worship and theology resulting from this.
أما التيّارات “البروتستانتية الوجودية” فلقد استفادت من الأحداث الإلهيّة- التاريخيّة بما يفيد حياة الإنسان الداخليّة. وهكذا تعاملت مع هذه الأحداث وكأنها ميثولوجية –أسطورة مفيدة، تؤثر على حياة الإنسان الروحيّة وتعطيه العِبَر والقوّة لمتابعة حياته بما يتوافق مع التعاليم المسيحيّة. وتكون هكذا قد قبلت التاريخ كأسطورة وليس كحدث. وبذلك لا تختلف عن الأديان والفلسفات التي ترتكز على الكشف الطبيعيّ متجاهلةً تدخّل الله في تاريخ البشريّة، أي دخوله إلى تاريخنا.
We believe that God is a person. Therefore, no one can know Him unless He defines Himself. Moreover, God is of a nature other than ours and a world other than ours. Therefore, if He did not come to us, we cannot draw a correct picture of Him. How can a person know something outside his world? Unless he defines God with the attributes and limitations of his world, then he knows about Him what is in his knowledge and does not know Him as He is and as He came and defined Himself to us with what is beyond our knowledge.
Catholic Christian thought accepted the existence of two degrees of revelation: the natural and the supernatural, but viewed them as two different degrees.
Our Orthodox Church sees divine revelation as one, beginning with the manifestation of God’s works in His creation (natural revelation) and developing into supernatural divine revelation. Thus, the natural ways of knowing God represent the foundation and first degrees of God’s final revelation, with His eventual entry into the world.
لقد قلب تجسّد يسوع منهجيّات الأديان في معرفة الله. فالله هو الظاهر لنا وليس المكتَشف منّا. إله الكتاب المقدّس إله استقبلناه وليس إلهاً اخترعناه. ولهذه الحقيقة نتائج كبيرة جدّاً. وأُولاها هو أنّنا نقبل الله كما هو وليس كما نحن، فالله ليس صورة عن المثل البشريّة، تلك المثل التي تتطوّر وتتضارب وتتبدّل. والنتيجة الثانية الهامّة هي أنّ معرفة الله في طبيعتها هي “استقبال” لذلك ترتبط بأمر هامّ جدّاً وهو “القبول”. وهنا تلعب حريّة الإنسان الأهميّة ذاتها التي للرغبة الإلهيّة. فقبول الإنسان يوازي ظهور الله. ومحبّة الله وحدها لا تكفي دون حريّة الإنسان الإيجابيّة. إنّ هذا الجسر الذي سيصل بين المخلوق وغير المخلوق، وبين المدرك وغير المدرك، والمحصور وغير المحصور، لا يمكن أن يرتكز على قاعدة واحدة وهي المحبّة الإلهيّة للبشر، وإنّما يحتاج للقاعدة من الضفة الثانيّة، وهي تقبّل الإنسان الحرّ لهذا الحوار الإلهيّ الإنسانيّ الذي يبادر الله فيه ويتجاوب الإنسان معه.
هكذا يبدأ الكشف الإلهيّ كظهور، أي بكشف الله لذاته للإنسان، وهذا الكشف هو هديّة الحبّ الإلهيّ وليس ثمرة الجهد البشريّ. لكنّ هذا الكشف لا يتحقّق إلا عندما يصير “مشاركة” أي حياة مشتركة بين الله والإنسان. لذلك كشفَ الله عن ذاته للإنسان ليس كمعرفة ولكن كشركة. وهذا ما يفترضه التعارف بين الأشخاص. إذ الإنسان كما الله (وهو على صورته) شخص. فالله يقدّم ذاته والإنسان يستقبله بالعلاقة الحرّة. لهذا يهتف المرنّم “المسيح أتى من السماوات فاستقبلوه”. لذلك لا فاعليّة للمحبّة الإلهيّة عندما ترفضها الحريّة البشريّة. هكذا إنّنا لا نعرف الله من الدين بل من العِشرة والشركة في حياته. الله في منهجيّات الأديان يكاد يصير مجرّد “نظريّة”، يمكننا أن نؤمن بها دون أن تبدّل في حياتنا إلا القليل الذي يقتضيه الالتزام بمبادئها. لكنّ “إله التاريخ” الذي طأطأ السماوات ونزل هو إلهٌ عندما نعرفه نعرف ذواتنا بطريقة جديدة، نعرفه إلهنا ونعرف ذواتنا عشراءه.
Amen